كان عمر سليمان يوم ملك عشرين سنة، وحاول أدونيا أن يأخذ الملك منه، فجامله سليمان أولا وعفا عنه، ولما لم ينكف عن مطامعه أرسل فقتله؛ كيلا يواصل إقلاقه الراحة العامة، وعزل أبياتار الحبر عن كهانة الرب؛ لأنه كان محازبا لأدونيا وقتل يواب لذلك؛ ولأنه كان قد قتل إبنير وعماسا واستتب الملك لسليمان ومات كبار محالفيه، وشاء أن يكون في مأمن من سطو الخارجين، فحالف فرعون ملك مصر وتزوج بابنته وصعد فرعون إلى جازر (تل جازر قريبة من عمواص شرقا وخلده جنوبا)، فأخذها وأحرقها وقتل الكنعانيين المقيمين بها ووهبها مهرا لابنته، وفاق سليمان أباه وجميع ملوك أمته بحكمته، وتعظيم سطوته وغناه وكثرة آثاره وفخامتها، وجدد محالفة أبيه مع حيرام الثاني ملك صور والفونيقيين، وتزوج بابنته وعاونه حيرام على بناء الهيكل بقطعه أخشاب الأرز من لبنان، ونقلها إلى جبيل ثم جعلها أطوافا في البحر إلى يافا، وبإرساله له عملة لبناء الهيكل وزخرفه، وقد كان إنشاؤه لهذا الهيكل في السنة الرابعة لملكه، وهي السنة الأربعمائة والثمانون لخروج بني إسرائيل من مصر، وهي سنة 1011 أو سنة 1020ق.م على قولين هما أظهر من باقي الأقوال، وأما عظمة بناء الهيكل، وفخامة أثاثه وزخرفته وهيئته، فقد ذكرها الكتاب في سفر الملوك الثالث ف6 فطالعه.
وقد أنشأ سليمان أبنية أخرى في أورشليم وغيرها: ففي أورشليم بنى قصورا أشهرها القصر المسمى غابة لبنان لكثرة ما فيه من أخشاب أرز لبنان، وكان مائة ذراع طولا وخمسين ذراعا عرضا وثلاثين سمكا، وأنشأ بجانبه أروقة وبنى قصرا آخر لسكناه، ولا جرم أنه كان فسيحا لكثرة نسائه وحاشيته، وأنشأ دارا أخرى خصها بامرأته بنت فرعون، وأجرى إلى أورشليم الماء من المحل المعروف ببرك سليمان بقرب منابع البرك المذكورة، وكان يسقي منها خمائل هناك ويجر باقي الماء إلى أورشليم والقناة من برك سليمان إلى أورشليم ما برحت محفوظة، وإن غير صالحة لجلب الماء إليها، وقد أنشأ سليمان أيضا جنات وفراديس، كما قال في سفر الجامعة (فصل 2 عدد 4)، والأظهر أن جنات سليمان هذه كانت في وادي إرطاس، ولم يكتف بجر الماء إلى أورشليم بل أحاطها بأسوار منيعة، وكان أبوه داود قد حصن مدينته، فسور ابنه المدينة كلها، والحجار الضخمة التي في الجنوب الغربي من الحرم هي من بقايا أسوار سليمان.
قد حصن سليمان خارجا عن أورشليم المدن حاصور (فوق بحيرة الحولة)، ومجدو وهي المسماة الآن لجون وجازر (تل جازر) التي وهبها فرعون لابنته زوجة سليمان وغيرها، وجاء في سفر الملوك الثالث (فصل 8 عدد 18)، وبنى سليمان بعلة وتدمر في البرية، أما تدمر فمعلوم موقعها ورأى سليمان بناءها لازما لتأمين طريق الفرات من سطو البدو على المارة والتجار، وإنشاؤه لها من أعظم آيات حكمته، وأما بعلة فذهب بعض المفسرين والجوابين أن المراد بها بعلبك وذهب غيرهم أن المراد بها مدينة غير بعلبك في فلسطين ... فبعلة اسم لمدن كثيرة فيها، وقد ورد اسم بعلبك في الآثار المصرية قبل سليمان مسمات ببقعات، والذي نراه أن بعلبك إذا لم يكن سليمان بناها، فقد حصنها وجعلها محطة للتجارة متوسطة بين تدمر وفلسطين، وبنى سليمان أيضا مدنا للخزن ومخافر يقيم بها الجنود جنوبا، ورجمت بالحجارة السوداء كل السبل المؤدية إلى أورشليم.
إن أبنية سليمان هذه كانت تستلزم نفقات وافرة لا تفي بها المكوس والضرائب والهدايا والجزيات، فحذا حذو ملك صور بالاتجار فوضع مكوسا على سلع التجارة الواردة على مملكته، بل أخذ يزاحم التجار بنقل البضائع إليها من بلاد العرب ومصر وما بين النهرين، وكان يشتري من مصر المركبات والخيل لملوك الحثيين والآراميين، واشترك مع حيرام ملك صور في عمل سفن على البحر الأحمر لنقل سلع بلاد العرب والهند وغيرهما ... وكانت هذه السفن تصل إلى أوفير، وهو على الأظهر محل في الهند كانت تنقل منه الذهب والقردة والطاووس وخشب الصندل، وكان لسليمان من هذه التجارة أرباح عظيمة، فعمل خمسمائة مجنب من الذهب، وجعل جميع آنية شربه وآنية بيت غابة لبنان من ذهب خالص، وعبر الكتاب عن الفضة في أورشليم أنها كانت في أيامه مثل الحجارة.
وأتت ملكة سبأ إلى سليمان لتسمع حكمته التي اشتهرت، والأظهر أنها كانت ملكة سبأ في جنوبي بلاد العرب، وربما امتدت سلطتها إلى بعض الحبشة، وأتت هذه الملكة لسليمان بهدايا ثمينة وعظيمة وأمه غيرها من الملوك، وتسامى سليمان على ملوك الأرض بحكمته وغناه، وكان راتعا وشعبه في بحبوحة الرغد والسلم والترف، فأدى به ذلك إلى الانغماس بالملاذ؛ لأنه أحب نساء غريبات كثيرات مع ابنة فرعون من الموآبيين والعمونيين والأدوميين والفونيقيين والحثيين، وغيرهم من الأمم التي نهى الرب بني إسرائيل عن الاختلاط معهم، فأزاغت نساؤه قلبه ووهن عزمه في المحافظة على سنة الله، وحملته نساؤه على عبادة معبوداتهن، وأقام لها معابد في أورشليم، فتجلى له الرب مرتين مؤنبا له وأثار عليه هدد الأدومي، فكان يسطو على مملكة سليمان ويقلق راحة ساكنيها، ثم رزون بن اليداع الذي كان قائدا في جيش هدد ملك صوبة، ثم ملك دمشق وكان يسطو على مملكة سليمان أيضا وسلط عليه فاتنا من بني إسرائيل، وهو ياربعام بن ناباط من سبط أفرائم، ولما أمر سليمان بقتله فر إلى مصر إلى ملكها شيشاق، الذي كان يتوق إلى الاستيلاء على فلسطين، فرحب بياربعام وعظم مثواه وأمسكه عنده ليستعين به على افتتاح فلسطين، فبقي عنده إلى وفاة سليمان ومن بعدها رجع إلى اليهودية، وشق مملكة إسرائيل؛ لأن الرب لم يشأ أن يشقها في أيام سليمان إجلالا لداود أبيه.
قال الكتاب (ملوك 3 فصل 11): «وكانت أيام ملك سليمان على كل إسرائيل أربعين سنة، وتوفاه الله وعمره ستون سنة.» وقال الكتاب أيضا (ملوك ثالث فصل 4 عدد 32): «وقال سليمان ثلاثة آلاف مثل، وكانت أناشيده ألفا وخمسة أناشيد، وتكلم في الشجر من الأرز على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط، وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك.» ولكن لم يبق مما كتبه سليمان إلا سفر الأمثال، وسفر الجامعة المفتتح بقوله: «كلام الجامعة بن داود ملك أورشليم.» وحسب بعضهم أن سليمان كتب هذا السفر بعد اقترافه الإثم توبة إلى الله، وكان لهم ذلك من الأدلة على خلاصه، وأجمع القدماء على أن سفر نشيد الأنشاد هو لسليمان أيضا وتردد المتأخرون في متابعتهم على ذلك، وعزا بعض القدماء سفر الحكمة أيضا إلى سليمان، ولا يمكن تحقيق هذه النسبة إليه، والمبحث في خلاصه أو هلاكه معضلة لم تحل إلى اليوم، فالأولى ترك الحكم فيها لله. (16) في قسمة مملكة بني إسرائيل
بعد وفاة سليمان ملك ابنه رحبعام، ولم يكن يشبه أباه بشيء من حكمته، وكان الشعب يئنون من الضرائب والأثقال التي فرضها سليمان، وقد مر أن ياربعام بن ناباط كان قد ثار على سليمان، وفر من وجهه إلى مصر، فبعد وفاته استدعى ياربعام ذووه، فأسرع إلى نابلس وحمل الشعب على أن يستدعوا رحبعام إلى هناك ليملكوه باحتفاء، فأرسل خصومه إليه وفدا رئيسه ياربعام يشكون إليه الأحمال، التي أثقلهم أبوه بها، ويلتمسون تخفيفها، فشاور رحبعام الفتيان الذين نشئوا معه، وأجاب الوفد أنه سيزيد على نير أبيه، فانفضوا من أمامه مغضبين، وبدلا من أن يرسل إليهم من يحبهم ليسترضيهم أرسل إليهم أدورام، وكان يثقل عليهم فرجموه بالحجارة فمات، وأسرع الملك بالعود إلى أورشليم وتمرد عليه الأسباط العشرة، وأقاموا ياربعام بن ناباط ملكا عليهم، ولم يبق لرحبعام إلا سبطه بنو يهوذا وسبط بنيامين، فانشقت مملكة بني إسرائيل إلى مملكتين: مملكة يهوذا وبنيامين وعاصمتها أورشليم، ومملكة إسرائيل كما سموها وعاصمتها نابلس. (17) في ملوك يهوذا (1)
رحبعام بن سليمان: أضيف إلى مملكته اللاويون؛ لأنهم لم يشئوا أن يكهنوا على المذابح التي أقامها ياربعام للأوثان، وحصن بيت لحم والخليل وغيرها، وحمل عليه شيشاق ملك مصر فأخذ في طريقه المدن المحصنة، وزحف إلى أورشليم، فانتهب ما في خزائن بيت الرب وخزائن دار الملك ومجان الذهب التي عملها سليمان، لكنه لم يقرض المملكة بل أقر رحبعام على عرشه، وتوفي رحبعام بعد أن ملك 17 سنة. (2)
أبيا: خلف أباه رحبعام في الملك في أورشليم وانتشبت الحرب بينه وبين ياربعام ملك إسرائيل، فحشد أبيا عسكرا كثيفا، وحشد ياربعام أكثر منه فكان النصر لأبيا وقتل في عسكر ياربعام أكثر من نصفه، وأخذ بعض المدن من مملكته فعز بنو يهوذا وذل مملكة إسرائيل، إلا أن أبيا لم يملك إلا ثلاث سنين ومات ودفن في مدينة داود. (3)
وخلفه ابنه آسا فأحسن المسعى، ونفى جميع أقذار الأصنام وحصن مدنا كثيرة في مملكته، وبحكمته رتعت رعيته في رياض الأمن والسلم، وخرج عليه زارح الكوشي بألف ألف مقاتل وثلاثمائة مركبة، فنصر الرب آسا على الكوشيين، فشتت شملهم وما انفك يطاردهم إلى جنوبي غزة، وفي زارح، هذه أقوال أظهرها قولان: الأول للانرمان: أنه أزرح ملك الحبشة الذي اجتاح مصر، وعمد إلى أن يجتاح فلسطين، والثاني لشمبوليون وسميت: أن زارح هو أوزركن ملك مصر من الدولة الثانية والعشرين، وخرج بعشا ملك إسرائيل على آسا، فأخذ آسا ذهبا وفضة من خزائن بيت الرب ودار الملك، وأرسل ذلك إلى ابن هدد ملك دمشق ورغب إليه أن يخرج على أملاك بعشا؛ لينكف عن أملاكه فلبى ابن هدد دعوته، وأرسل جيشا فاستحوذ على بعض أملاك بعشا، فاضطر أن يرجع للذب عن ملكه، وأرسل الرب حناني الرآي مؤنبا آسا لاستعانته بملك دمشق على بعشا، فغضب آسا على الرآي وسجنه، واعتل آسا ومات في السنة الحادية والأربعين لملكه، ودفن في مقبرة حفرها لنفسه. (4)
Page inconnue