في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثامن عشر
في الأحداث التي كانت بسورية في هذا القرن (1) في ما كان بسورية في أيام السلطان أحمد خان الثالث
انقضت ولاية السلطان مصطفى خان الثاني بخلعه وإقامة أخيه السلطان أحمد خان الثالث سنة 1703، ومما كان في أيامه بسورية أن الأمير بشير شهاب الذي خلف الأمير أحمد معن سنة 1697، ولاه أرسلان باشا والي صيدا كل الأعمال من صفد إلى المعاملتين بكسروان، وجعل ابن أخيه الأمير منصورا واليا بصفد، ثم توجه بنفسه لجباية المال السلطاني، فتوفي بصفد سنة 1707 وحملت جثته إلى صيدا فدفنت في مدفن المعنيين ، واجتمع أكابر البلاد وقر رأيهم على تولية الأمير حيدر ابن الأمير موسى شهاب، وعرضوا الأمر لأرسلان باشا فأجابهم إليه، فأتوا به إلى دير القمر وكان عمره حينئذ إحدى وعشرين سنة.
ثم عزل أرسلان باشا عن ولاية صيدا وتولاها أخوه بشير باشا، فولى المشايخ بني علي الصغير المتاولة على بلاد البشارة، وأخذوا يسطون على أطراف بلاد الأمير حيدر وانضم إليهم بنو منكر وبنو صعب ولاة إقليمي الشومر والتفاح وبلاد الشقيف، فنهض الأمير حيدر لكبتهم وبلغ إلى النبطية فالتقاه المتاولة، فكانت وقعة دارت بها الدوائر على المتاولة، وقتل منهم خلق كثير وتحصن بعضهم في القرية فأغارت عليهم فرسان الأمير، فأهلكوهم عن آخرهم ونصب الأمير حيدر الشيخ محمود أبا هرموش نائبا عنه في حكومة بلاد البشارة، فثقل ذلك على بشير باشا فأرسل يقوي الأمراء بني علم الدين وغيرهم من اليمنية على الأمير حيدر وهو قيسي.
ففي سنة 1709 عظم حزب اليمنية بالشوف، وأظهر الأمراء بنو علم الدين المجافاة للأمير حيدر ومالأهم على ذلك الأمير يوسف أرسلان حاكم الشويفات، وكان محمود أبو هرموش الذي نصبه الأمير حيدر عاملا ببلاد بشارة قد جار واعتسف، فطلبه الأمير إليه فلجأ إلى بشير باشا ليحميه من غضب الأمير، فالتمس له من السلطان لقب باشا، ونصب الأمير يوسف علم الدين اليمني على ولاية الأمير حيدر، وأرسله مصحوبا بعسكر وبمحمود باشا المذكور لطرد الأمير حيدر من دير القمر، فنهض الأمير إلى غزير ومعه بعض أعيان البلاد، فأرسل الأمير يوسف علم الدين عسكرا في أثره، فكانت وقعة بغزير بين القيسية واليمنية تقهقر بها عسكر اليمنية إلى البحر ... على أن الأمير حيدر لم يثق بظفره فيما بعد، فآثر الاختفاء على الحرب وسار ببعض ذويه إلى الهرمل واختفى هناك بمغارة تعرف بمغارة عزرائيل، ولما تحقق اليمنية خروج عسكر القيسية من غزير دهموها، فنهبوها وأحرقوها وقفلوا إلى دير القمر، وأرخ بعض الشعراء هذه الوقعة بقوله: ندمت غزير أي: سنة 1711، وروى الأمير حيدر شملال الشهابي صاحب التاريخ هذه الحادثة بوجه آخر، وهو خلاف وقع بين آل خازن وآل حبيش، فأرسل الأمير يوسف علم الدين فرسانا إلى غزير فمنعهم آل حبيش، وقتلوا منهم ثلاثة رجال، فركب الأمير يوسف بعسكر إلى غزير فانهزم الحبشيون إلى أطرابلس، فأحرق غزير ونهبها.
أما محمود باشا أبو هرموش مدبر الأمير يوسف علم الدين، فجار في البلاد بعد فرار الأمير حيدر، وتزوج بنتا من بنات الأمراء آل علم الدين فزاد ذلك ثقلا على القيسية، وراسلوا الأمير حيدر بأن يعود إليهم، فسار من مغارة الهرمل وحل في قرية رأس المتن عند المقدم حسين اللمعي، وأنفذ الأعلام للقيسية بالشوف وغيرها فاجتمعوا إليه، وعرف بذلك محمد أبو هرموش، فخاف ودعى اليمنية في الغرب والمتن والجرد، وكتب إلى بشير باشا والي صيدا وإلى نصوح باشا والي دمشق يستنجدهما، فنهض بشير باشا بعسكره إلى حرش بيروت، ونصوح باشا بعسكره إلى قب إلياس وكتب محمود باشا إلى بشير باشا أن يقوم بعسكره إلى بيت مري، وإلى نصوح باشا أن يقوم بعسكره إلى المغيتي فوق حمانا، ونهض هو بعسكر البلاد إلى عين دارا، وعزموا جميعا أن يدهموا بيوم واحد الأمير حيدر، فاستشار الأمير حيدر أصحابه القيسيين، فكان رأي المقدم مراد اللمعي أن يقوم من وجه العساكر إلى كسروان، وصوب الباقون أن ينهضوا ليلا إلى عين دارا، فيدهموا محمود باشا وعسكره، وساروا للحال ... وقسموا عسكرهم ثلاثة أقسام فبلغوا عين دارا غلسا، ودخلها أولا المقدم عبد الله والمقدم حسين اللمعيان، ثم دخل عسكر الأمير حيدر عنوة إلى القرية، وأبدى القيسية آيات البسالة وهلك من الفريقين خلق كثير، وقتل من الأمراء آل علم الدين ثلاثة وأسر أربعة، وقبضوا على محمود باشا أبي هرموش وضربت أيدي الشتات اليمنية، ولما علم والي صيدا ووالي دمشق بما كان عاد كل إلى مقر ولايته، ودخل بعد انقضاء القتال رجل على المقدم حسين اللمعي، ولقبه بالمقدم على عادته، فانتضى سيفه، وقتله قائلا: «أقتل ثلاثة أمراء وتناديني بالمقدم.» يريد أن يسمى أميرا، ثم توجه الأمير حيدر من عين دارا إلى الباروك، ومعه الأمراء اليمنية المأسورين، فأمر بقطع روسهم وانقرضت بهم سلالة آل علم الدين، ثم أمر بقطع لسان محمود باشا أبي هرموش، ولم يقتله حرمة للدولة؛ لأنه باشا، وعاد إلى دير القمر ظافرا، وسمى المقدمين اللمعيين أمراء، وتزوج هو ببنت الأمير حسين اللمعي، وزوج ابنته للأمير عساف ابنه وأقطعه قاطع بيت شباب وبكفيا، ثم تزوج بأم الأمير مراد اللمعي وأقطعه نصف المتن، وزوج أخته بالأمير عبد الله اللمعي، وأحبه لما شاهده من بسالته يوم عين دارا، ثم أقطع الشيخ قبلان القاضي إقليم جزين والشيخ علي النكدي الناعمة وما يليها، وسلخ عمل الغرب الأعلى عن ولاية الأمير يوسف أرسلان، وسلمه إلى محمد تلحوق وأخيه بشير، وأقطع الشيخ جنبلاط عبد الملك عمل الجراد، ورفع مقام هؤلاء المشايخ وكتب لهم الأخ عبد العزيز، وخص بنفسه خمس قرى وهي بتقلين ونيحا، وعين ماطور وبتلون وعين دارا.
وفي سنة 1715 توفي الشيخ قبلان القاضي حاكم إقليم جزين، وأوصى بنصف ماله للأمير حيدر وبالنصف الآخر للشيخ علي جنبلاط، فلم يأخذ الأمير من تركته إلا خمسة وعشرين ألف قرش، وخص بنفسه من إقطاعه مرج بسرى ومزرعة بحنين، وكان الشيخ علي جنبلاط متزوجا بابنة الشيخ قبلان القاضي، فارتأى ذووه بعد وفاته أن يليهم الشيخ علي، وأتوا به إلى الأمير حيدر فسلمه إقليم جزين، وفي سنة 1717 توفي الأمير عبد الله اللمعي زوج غضية أخت الأمير حيدر الوالي، ولم يكن للأمير عبد الله ولد فأخذت غضية نصيبها من تركته بستان أبي كعكة بالبوشرية، وجزيرة ابن معن عند منبع نهر بيروت.
وفي سنة 1732 توفي الأمير حيدر، وكان عادلا حليما كريما، وتزوج بأربع نساء حسب السنة وثلاث سراري ورزق تسعة بنين، وهم الأميران ملحم وأحمد من أم، والأمراء منصور ويونس وعلي ومعن وحسين من أم أخرى، وهي أخت الأولى وكلتاهما من بنات عمه من حاصبيا، ثم الأمير عمر من أم الأمير مراد اللمعي، والأمير بشير من بنت الأمير حسين اللمعي، وفي أيامه ذل الحزب اليمني واستفحل أمر الحزب القيسي. (2) في ما كان بسورية في أيام السلطان محمود الأول
بعد اعتزال السلطان أحمد الثالث عن السلطان أقيم ابن أخيه السلطان محمود خان الأول سنة 1730، ومما كان في سورية في أيامه أنه بعد وفاة الأمير حيدر شهاب سنة 1732، اجتمع أعيان البلاد، وأرادوا أن يقيموا مكانه ابنيه الأمير ملحما والأمير أحمد، فأبى الأمير ملحم أن يشارك أخاه في الحكم، وسار إلى صيدا طالبا من أسعد باشا العظم واليها حينئذ أن يوليه مكان أبيه، فولاه وضم الأمير ملحم إخوته إليه وزوج ابنته إلى الأمير فارس اللمعي صاحب الشبانية، وبلغه أن بني علي الصغير أصحاب بلاد بشارة شمتوا بموت والده، وخضبوا أذناب خيولهم بالحناء، فالتمس من أسعد باشا أن يوليه على بلاد بشارة، فولاه ونهض إليها ومال إليه سلمان الصعبي صاحب بلاد الشقيف، فأمنه وأبقاه على ولايته ودهم بني علي الصغير، والتقى بهم في قرية يارون فكسر جمعهم وأهلك منهم خلقا كثيرا، وقبض على مقدمهم نصار وفر إخوته فتتبع آثارهم إلى القنيطرة، فقتل بعضهم ونهب تلك الديار وعاد ومعه نصار المذكور مقيدا، ثم حضر إخوته مستسلمين إليه وقدموا له فدية عن أخيهم، فخلى سبيله وأعادهم إلى ولاية بلادهم من قبله، فهابه الناس واعتز به أهل ولايته وأخذوا يسطون على من جاورهم من أهل البقاع، فحنق سليمان باشا العظم والي دمشق وسار بعسكر إلى البقاع قاصدا كبت اللبنانيين، ورأى الأمير ملحم ما يكون من غوائل القتال، فاعتذر للوالي عن أهل بلاده وتعهد بأن يدفع له خمسين ألف قرش، ورهن أخاه الأمير حسينا عنده إلى أن دفع له المبلغ.
وفي سنة 1734 انتقل أسعد باشا العظم من إيالة صيدا إلى إيالة دمشق، وخلفه بصيدا أخوه سعد الدين باشا الذي كان واليا بأطرابلس، وتولى سلطان باشا العظم أطرابلس وعظمت سطوة بني العظم في سورية، وفي سنة 1741 ادعى أسعد باشا العظم والي دمشق على الأمير ملحم دعاوى لم تكن صحيحة، وجهز عسكرا سار به إلى البقاع فحشد الأمير عسكرا والتقاه لهناك ورأى الوزير أن عسكره لا طاقة له على قتال الأمير، فعاد إلى دمشق وتعقبه الأمير إلى قربها، ثم عاد فأحرق بعض قرى البقاع.
Page inconnue