إهداء
مقدمة
مقدمة «أوطيفرون»
أوطيفرون
مقدمة «الدفاع»
دفاع سقراط
مقدمة «أقريطون»
أقريطون أو واجب المواطن
مقدمة «فيدون»
فيدون أو خلود الروح
إهداء
مقدمة
مقدمة «أوطيفرون»
أوطيفرون
مقدمة «الدفاع»
دفاع سقراط
مقدمة «أقريطون»
أقريطون أو واجب المواطن
مقدمة «فيدون»
فيدون أو خلود الروح
محاورات أفلاطون
محاورات أفلاطون
أوطيفرون - الدفاع - أقريطون - فيدون
تأليف
أفلاطون
جمع
بنيامين جويت
ترجمة
زكي نجيب محمود
إهداء
إلى الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات، أهدي هذا الكتاب؛ فهو صدى «رسالته»، وثمرة دعوته.
زكي نجيب محمود
أفلاطون.
مقدمة
نقل «بنيامين جويت
Benjamin Jowett » محاورات أفلاطون إلى اللغة الإنجليزية - كما نقلها كثيرون غيره - ولكنه اختص هذه المحاورات الأربع، التي نقدمها اليوم إلى قراء العربية، بكتاب مستقل؛ لأنها تصور حياة سقراط تصويرا دقيقا، أو لعل أفلاطون قد أضاف إليها من فنه ما خلع على تلك الحياة ثوبا من الكمال؛ فنحن لا ندري أهو يسوق في المحاورات الثلاثة أقوال سقراط بنصها التاريخي، أم ينسج فيها بخياله صورة تمثل شخصية أستاذه تمثيلا صحيحا، كما يفعل الروائي بأبطاله. ومهما يكن من أمر، فلا ريب في أنه وفق وأجاد في ذلك التصوير، فجاء سقراط كما كان في حياته التي أثبتتها الرواية التاريخية: كثير السؤال، قليل الجواب، حاضر البديهة، لاذع السخرية، يحاور محدثه ويداوره، آخذا بزمامه إلى غاية خلقية قصد إليها ودبر لها الحديث. ولكنك ستلمس في «فيدون»، وهو رابع المحاورات في هذا الكتاب، جانبا آخر من الفيلسوف، ففيه صورة من سقراط في نزعته المثالية وفلسفته الروحية التي بدأت عنده وبلغت أوجها في تلميذه أفلاطون. وها نحن أولاء نستعرض في هذه المقدمة أهم ما تحويه هذه المحاورات، لعلها تعين القارئ على حسن الفهم وجودة الإساغة والتقدير.
ففي «أوطيفرون» - وهو الحوار الأول - يقدم لنا أفلاطون أستاذه سقراط في ثوب المعلم الذي يحاول بما أوتي من قوة الجدل أن يوقظ الناس من سباتهم، فلا يسلمون تسليما أعمى بما ورثوه من آراء لم توضع على محك البحث والاختبار، وهو يحاول ما استطاع أن يثير فيهم حب البحث في معاني الأحكام التي يرسلونها إرسالا عن إيمان ساذج غرير في مسائل الأخلاق؛ فتراه يلمس مع محدثه تعريفا للتقوى لكي ينتهي بمحاوره إلى العقيدة بضعف الأساس الخلقي الذي يقيم عليه دعاة تعدد الآلهة مذهبهم؛ فهو يرى بعد البحث أن الفعل لا يكون صالحا إلا إذا صادف قبولا من الآلهة جميعا؛ ومن ثم ينشأ إشكال آخر وهو: هل يكون الفعل صالحا لأنه يرضي الآلهة، أم أن الآلهة يرضون عنه لأنه صالح؟ فإذا صح الفرض الأخير كان تعريف التقوى هو أنها جزء من العدالة؛ ولكن العدل بصفة عامة يتعلق بما نلتزم به نحو الناس من واجبات، ولا شأن له فيما بيننا وبين الآلهة من صلة. وهنا يغوص القارئ في بحث تحليلي للموضوع: فهل تقتضي خدمتنا للآلهة واجبات خاصة غير ما نقوم به من واجب اجتماعي؟ ... ثم يختتم الحوار بنتيجة تبدو سلبية في ظاهرها، وهي أن التقوى تنحصر في فعل ما يرضي الآلهة، وهو نفس التعريف الذي قرر المتحاوران رفضه بادئ ذي بدء باعتباره ناقصا لا يفي بالغرض، ولكن القارئ المدقق لن يخطئ ما انتهى إليه البحث من أن التقوى ليست جزءا من الأخلاق، ولكنها مظهرها الديني فحسب.
أما في «الدفاع»، وهو الحوار الثاني الذي ساق لنا أفلاطون فيه دفاعا، لسنا ندري أهو نص صحيح لما نطق به سقراط أمام قضاته، أم أن أفلاطون قد أنشأه إنشاء ليصور به دفاع سقراط، أو ما كان يجب أن يقوله سقراط في دفاعه؛ ففي هذه المحاورة ترى سقراط يبسط لقضاته طبيعة الرسالة التي كلفته الآلهة بأدائها، فكأنما أرسل ليوقظ الأثينيين من رقادهم واستسلامهم للآراء التقليدية الموروثة، وليحملهم على التأمل في معنى حياتهم والغرض منها؛ إذ هم يعيشون في جهالة يزيد في ظلامها وخطورتها ما يتوهمونه في أنفسهم من علم ومعرفة؛ لأنهم بسبب هذا الوهم يرون أنفسهم أهلا لأن يصدروا أحكاما في مسائل الأخلاق كلها.
لم يكد يصدق سقراط ما قالت به راعية دلفي من أنه أحكم الناس لأنه يوقن أنه لا يعلم شيئا، فانطلق يحاور الناس ويجادلهم ليرى مبلغ ما يعلمون لعله يقيم الدليل على كذب الراعية فيما زعمت له من مكانة ممتازة في الحكمة، ولم يختر من الناس إلا من عرفت عنهم المقدرة والكفاءة من أعلام الساسة والجند وغيرهم، فراعه أن يجدهم جاهلين فيما يدعون العلم به، بل إن الشعراء أنفسهم الذين ينطقون بالقول الجزل والحكمة الرائعة لم يستطيعوا أن يجيبوا بشيء ذي غناء حين استفسرهم سقراط عما يقولون من شعر؛ مما دل سقراط على أنهم ينشدون الشعر عن وحي لا عن معرفة، أما أصحاب الحرف فقد ألفاهم يعلمون بعض العلم عما يدور حول حرفهم التي يزاولونها؛ فهم يعلمون أغراضهم التي يقصدون إليها، ويعرفون الوسائل الصحيحة التي تؤدي بهم إلى تلك الأغراض، غير أنهم حين سئلوا: ما الغرض من حياتهم، وكيف تحققون هذا الغرض؟ كانوا أشد من غيرهم جهالة.
ويسلم سقراط في حوار الدفاع بأن هنالك غرضا خلقيا واحدا من أجله ينبغي أن يحيا الناس أجمعون إذا ما عرفوا حقيقة طبيعته؛ فكل الناس ينشدون الخير، وأما المال والشرف والمنزلة الرفيعة بين الناس وما إلى هذه الأشياء فليست تستحب إلا لأنها وسائل للخير. ولقد ألقى سقراط على الحياة نظرة بما عرف فيه من إدراك سليم مستقيم عملي، فرأى أنه خير للمرء أن يموت من أن ينزل عن أداء واجبه. نعم إن الموت بلاء فادح، ولكن سقراط نظر إليه بعينين صافيتين، فرأى أنه لا ينبغي أن يخشى جانبه؛ لأنه إما أن يكون حالة من اللاشعور فلا بأس فيه، أو أننا سنحيا بعد الموت في عالم آخر نلتقي فيه بخير الرجال وأعلامهم الذين عاشوا فيما مضى، وكلتا الحالتين لا تبعثان على الخوف.
وأما الحوار الثالث «أقريطون»، فيمثل منظرا آخر من حياة سقراط؛ فهو في السجن يرقب منيته، وأقريطون صديقه الحميم إلى جانبه يستحثه لينتهز الفرصة السانحة للهروب قبل أن ينفذ فيه الحكم بالموت، ولكن سقراط لا يستجيب لدعوته، ويأخذ في تحليل الموقف كما هو شأنه دائما ... فإذا كان من المقطوع بصحته أن الغاية التي يجب أن ينشدها كل إنسان ليست هي مجرد الحياة، ولكنها «الحياة الطيبة»؛ أعني أن واجب الإنسان أن يملأ حياته بالأعمال الصحيحة القويمة. نقول إذا كانت تلك هي الغاية من الحياة؛ فما أكمل صورة للحياة؟ يقول سقراط: إنه قد تعاقد مع الدولة على ألا يقترف في حياته ما من شأنه أن يضعف سلطانها، أويجوز له إذن أن يحنث بعهده ذاك لكي يربح سنوات قليلة من حياة لا غناء فيها؟ أويحق له أن يفر من موقفه خشية الموت؟
لم يرد أفلاطون بهذا الحوار أن ينبئ القارئ برفض سقراط للهرب من السجن فرارا من الموت وكفى، بل قصد كذلك أن يبرئه مما قد يتهم به من أنه مواطن سيئ يؤذي أمته أكثر مما ينفعها؛ فلقد أعلن سقراط في حوار «الدفاع» أنه سيؤدي رسالته الفلسفية مهما كلفته من عناء، ومهما أوذي في سبيلها من ذوي السلطة والنفوذ؛ إذ هو بأدائه لتلك الرسالة إنما يطيع أمر الله، وطاعة الله عنده خير من طاعة الإنسان. ولقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن سقراط بذلك إنما يتحدى قانون دولته ويخرج عليه؛ فأراد أفلاطون بهذا الحوار أن يصحح هذا الخطأ، وأن يبين أن ذلك التحدي من سقراط لا يتنافى مع ولائه للدولة وقوانينها، فها هو ذا يقبل على الموت حتى لا يحنث في عهده للدولة أن يكون خاضعا لقانونها.
أما الحوار الأخير «فيدون»، فيسمو بنا إلى عالم جديد تجلت فيه عظمة سقراط حين دنا من الموت، وتستطيع في هذا الحوار أن تتبع الفلسفة السقراطية في تدرجها حتى بلغت إلى مرتبة المثالية الأفلاطونية في تمامها وكمالها.
فهذا حوار يدور بين سقراط وأصدقائه الذين التفوا حوله لينفقوا معه ساعاته الأخيرة، فدار البحث بين الأستاذ وتلاميذه حول خلود الروح. ولقد أقام سقراط على ذلك براهين عدة بناها على بقاء الأشياء ومقدرة النفس على إدراك ذلك البقاء؛ فما دام العقل في تفكيره لا يقف عند المظاهر الحسية المتغيرة بل ينفذ إلى قوانينها الخالدة الكامنة وراءها، فلا بد أن تكون طبيعته شبيهة بطبيعة هذه الأشياء؛ أي إن له وجودا لا يخضع للتغير ولا للفناء. والأولى أن يعتبر الموت خلاصا للعقل من ضعف الجسد الذي كان يحول بينه وبين رؤية حقائق العالم المثالي - أي العالم العقلي - في وضوح وجلاء. وهنا قدم له تلاميذه اعتراضا بأن الروح تعتمد في أداء عملها على حياة الجسم، فيرد عليهم اعتراضهم ثم ينتقل بعد ذلك إلى المقارنة بين نظرية المثل وبين المذاهب الطبيعية التي ذهب إليها أسلافه من الفلاسفة والتي لم تحاول أن تبين أن الخير هو الغاية من الكون. ثم استطرد فأخذ يبسط النظرية المثالية، فينتقل من فكرة إلى فكرة أعم منها فأعم. وهكذا حتى وصل إلى مبدأ شامل سام، هو مبدأ المعرفة كلها وأصل الوجود. وأخيرا يختتم سقراط حواره بصورة خيالية للحياة الأخرى بما فيها من ألوان الثواب والعقاب، معترفا بأنه لا يريد بتلك الصورة أنها الحقيقة الحرفية لما سيكون، ولكنها تدل على اتجاه الحقيقة لا أكثر ولا أقل.
ليس ما في هذا الحوار من آراء ينتمي إلى سقراط؛ فهو أقرب إلى مأساة نثرية سطرها أفلاطون ليصور بها خاتمة سقراط، ففيها مميزات شخصية سقراط واضحة بارزة، فترى تحمسه وحريته الفكرية وهدوءه وتجرده عن الهوى في بحثه عن الحقيقة. هذا ومن الجائز أن تكون بعض التفصيلات التي وردت في المحاورة عن موته صحيحة، غير أننا نلاحظ أن العبارة التي ذكرت في النهاية على أنها آخر ما نطق به سقراط - أي حين يطلب إلى أقريطون أن يضحي من أجله ديكا إلى أسكلبيوس شكرا على شفائه من مرض الحياة الممض الطويل - نقول إن هذه العبارة لا تدل على عقيدة سقراط، ولكنها سيقت لتشف عن روح الفكاهة التي عرف بها الفيلسوف.
مقدمة «أوطيفرون»
هذا حوار يمثل سقراط قبل محاكمته بتهمة الفجور التي اتهمه بها نفر من الأثينيين. وقد أراد أفلاطون أن يبين للناس مدى جهلهم بحقيقة الفجور الذي رموا به سقراط؛ فاتخذ حادثة قد تكون وقعت بالفعل في أسرة أوطيفرون موضوعا لمحاورته. وبطل الحادث رجل من أهل أثينا، علا كعبه في شئون العلم والدين، ألا وهو «أوطيفرون».
يقدم لنا أفلاطون هذا الرجل وقد التقى بسقراط في دهليز كبير القضاة؛ إذ كان لكل منهما عند القاضي مسألة قصد إلى إنجازها، أما سقراط فقد جاء في شأن قضيته التي اتهم فيها بالإلحاد والتي أقامها عليه «مليتس»، وأما «أوطيفرون» فجاء مدعيا في قضية قتل أقامها على أبيه. وتفصيل هذه القضية الأخيرة أن رجلا فقيرا من أتباع أسرة أوطيفرون قتل عبدا من عبيدها في «ناكسوس»؛ فأمر أبو «أوطيفرون» بالقاتل، فشد وثاقه وألقي في خندق ريثما يستفتي علماء الدين في أثينا عما ينبغي أن ينزل بهذا المجرم من صنوف العقاب، ولكن المنية لم تمهل الجاني حتى يعود الرسول من أثينا يحمل الفتوى، فقضى نحبه لما أصابه من جوع وبرد، فلم يتردد «أوطيفرون» في أن يتهم أباه بجريمة القتل.
لم يكد سقراط يصغي إلى رواية الرجل في اتهام أبيه حتى أيقن أنه لا بد عالم أدق العلم بطبيعة الخير والشر والتقوى والفجور، وإلا لما اجترأ أن يقدم على هذا الاتهام الخطير، وما دام سقراط نفسه على وشك أن يتقدم إلى المحاكمة متهما بالفجور، فخير ما يصنعه أن يتلقى عن «أوطيفرون» العلم بحقيقة التقوى والفجور لعله يفيد به شيئا أثناء محاكمته، ويكفيه أن يحتج للقضاة برأي هذا الرجل، ولن يسع القضاة إلا التسليم والقبول ... فما التقوى إذن؟
ألقى سقراط هذا السؤال؛ فأجابه أوطيفرون أن التقوى هي أن يصنع كما صنع هو؛ أعني أن يتهم أباه - إن كان مخطئا - بجريمة القتل، وهو إن فعل ذلك فإنما يقتفي أثر الآلهة أنفسهم، فذلك ما صنعه «زيوس» ل «كرونوس» وما صنعه «كرونوس» ل «أورانوس».
فلم يكد سقراط يسمع هذه القصة عن الآلهة حتى أعلن مقته لهذه الأساطير، وأخذ يستوثق من أوطيفرون صدقها، فيجيب هذا بأنها حق صريح، ويبدي استعداده أن يقص على سقراط مزيدا منها، ولكن سقراط يرده في رفق ويعود به إلى سؤاله الأول عن التقوى، ما هي؛ فأما أن يجيبه بأنها فعل ما فعله هو من اتهام المرء لأبيه إن كان أبوه ذا خطيئة، فإنه بذلك لا يزيد على أن يسوق مثلا من أمثلة التقوى؛ إذ لا يمكن أن يكون هذا القول تعريفا جامعا لها.
هنا يجيب أوطيفرون بأن «التقوى هي ما هو عزيز لدى الآلهة، والفجور ما ليس بعزيز لديهم»، ولكن سقراط لا يطمئن إلى هذا الجواب؛ أفلا يجوز أن يختلف الآلهة في الرأي كما يختلف الناس سواء بسواء؟ إن ذلك جائز ولا ريب، وبخاصة فيما يتعلق بالخير والشر؛ إذ لا يقوم الخير والشر على قاعدة ثابتة. ولعل هذا الضرب من أوجه الاختلاف هو الذي يثير الخصومة والقتال؛ وإذن فالفعل الذي يكون عزيزا لدى إله قد لا يكون عزيزا لدى غيره من الآلهة، فيكون الفعل الواحد على هذا الحساب تقيا وفاجرا في وقت واحد. خذ مثلا لذلك اتهام أوطيفرون لأبيه؛ فقد يصادف هذا الفعل رضى في نفس «زيوس» (لأن زيوس أقدم على نفس الفعل نحو أبيه)، ولكنه قد يغضب «كرونوس» أو «أورانوس» (لأنها لقيا من ولديهما مثل هذا العقوق).
هنا يجيب أوطيفرون أن الآلهة والناس أجمعين لا يختلفون في وجوب عقاب القاتل، فيوافق سقراط على ذلك، ولكنه يشترط لهذا الإجماع على إنزال العقوبة بالقاتل أن يثبت أنه قاتل حقا، وألا يقوم الاتهام على مجرد الظن؛ فهل إذا نظرنا إلى قضية أوطيفرون على أبيه وتقصينا بالنظر كل ما يحيط بها من ظروف، نستطيع أن نقيم الدليل على أن الوالد قد اقترف جريمة القتل، حتى نقطع بأن الآلهة مجمعة على عقابه راضية عن فعلة أوطيفرون؟ ويستطرد سقراط فيقترح تعديلا في تعريف التقوى والفجور بحيث تكون صيغته: «إن ما تجمع الآلهة على حبه فهو تقي، وما تجمع على كراهيته فهو فاجر»، فيوافقه أوطيفرون على هذا التعديل.
عندئذ يأخذ سقراط في تحليل الصيغة الجديدة، فيقول إن في بعض الحالات يسبق الفعل الحالة؛ أعني مثلا أن الفعل الذي يتم لك به أن تكون محمولا أو محبوبا يسبق حالة كونك محمولا أو محبوبا؛ وبناء على ذلك يكون العزيز لدى الآلهة عزيزا لأنهم أحبوه أولا، والعكس غير صحيح؛ أي إنهم لم يحبوه لأنه عزيز لديهم . أما الفعل التقي فيحبه الآلهة بسبب تقواه، وهذا مساو لقولك إنهم يحبونه لأنه عزيز لديهم. وهنا يبدو لنا شيئا من التناقض غير الواضح؛ إذ تبين لنا منذ برهة قصيرة أن الفعل يسبق الحالة، فيكون الشيء محبوبا أولا وعزيزا ثانيا. ولكن هذا التعريف الجديد معناه كما رأينا أن الشيء يكون عزيزا لدى الآلهة أولا ومحبوبا من أجل ذلك ... وهنا يحس أوطيفرون أنه قد تورط فيما لا قبل له به، ويعترف لسقراط أن ما قدمه من أقوال وشروح مضطرب لا يثبت ولا يستقر، بل إنه ليحس أن سبيل البرهان قد التوى عليه، وأن براهينه تفلت من يده وتدور في دائرة كما تفعل أشباح «ديدالس» التي تروى عنها الأساطير. ولا عجب أن يثير سقراط في أقوال محاوره هذا الاضطراب وهذا الدوران؛ إذ هو خلف تحدر من سلالة «ديدالس» فيظهر أنه قد ورث عن جده الأكبر هذا الفن.
ولكن سقراط لا يأبه لهذا الضجر من صاحبه ويلقي السؤال في صورة أخرى، فيقول: «هل كل تقي عادل؟» فيجيب أوطيفرون أن نعم، فيتبع ذلك بسؤال ثان: «وهل كل عادل تقي؟» فيجيب محاوره بالنفي، فيلقي سقراط سؤالا ثالثا: «إذن فأي أجزاء العدل تكون التقوى؟» فيجيب أوطيفرون بأن التقوى هي جانب العدل الذي نخدم به الآلهة، كما أن للعدل جانبا آخر نخدم به الناس، ولكن ماذا نريد «بخدمة» الآلهة؟ إننا إذا أطلقنا لفظة «الخدمة» فيما نقدمه من العناية إلى الكلاب والجياد والناس، إنما نريد أننا ننفع هؤلاء بما نؤديه لهم من «خدمات»، فإذا كانت أفعال التقوى عبارة عن «خدمة» للآلهة؛ فهل نريد بذلك أننا ننفع الآلهة بخدمتنا إياهم؟ ... فيوضح أوطيفرون ما أشكل من الأمر على سقراط بأنه يريد بشعائر التقوى تلك الأفعال التي نؤديها في عبادتنا للآلهة، فيستأنف سقراط اعتراضه بأن «الخدمات» التي يؤديها الزارع والطبيب والبناء لها غرض ترمي إليه؛ فأي غرض نقصد بخدمتنا للآلهة، وماذا تجدي عليهم خدماتنا؟ فيعتذر أوطيفرون بأن الوقت قصير، ولا يستطيع أن يجيب على مثل هذه الأسئلة بغير تدبر وتفكير، ولكنه على كل حال يمكنه أن يقول في يقين إن التقوى هي أن نعلم كيف نرضي الآلهة بالقول والعمل؛ أعني بالصلاة وتقديم القرابين، فيفسر لنا سقراط هذا القول بأن التقوى إذن هي «علم الأخذ والعطاء»، فنطلب من الآلهة ما نريده، ونرد إليهم في مقابله ما يريدون؛ أعني أنها بعبارة: موجزة لون من التبادل التجاري بين الآلهة والناس، ولكنه تبادل مجحف بالآلهة لأنهم يعطوننا كل خير، أما نحن فماذا نقدمه لهم من الخير في مقابل عطائهم؟ فيعترض عليه أوطيفرون بأننا إذا لم نعط الآلهة خيرا، فحسبنا أننا نتخلق إزاءهم بأخلاق الشرف، فيقول سقراط جوابا على ذلك: إذن فنحن لا نعطيهم شيئا ينفعهم، ولكننا نفعل ما يسرهم، وما يكون عزيزا لديهم، وذلك ما أقمنا البرهان على فساده فيما سبق.
وهكذا لا يبرح سقراط ملحا في سؤاله رغم ما يحاوله محاوره من المراوغة والهروب؛ لأنه لا يشك في أن أوطيفرون لا بد عالم بحقيقة التقوى، وإلا لما حدثته نفسه قط أن يتهم أباه وهو الشيخ المسن؛ فهو إذن يرجو أوطيفرون ويلح في رجائه ألا يبخل عليه بعلمه الغزير وأن يتفضل بتعليمه حقيقة التقوى، فيعتذر أوطيفرون أن وقته قصير لا يسمح له بإطالة الوقوف؛ فيخيب أمل سقراط في أن يعرف من هذا العالم شيئا قد ينفعه فيما هو مقبل عليه من المحاكمة. •••
لا ريب في أن أفلاطون قد قصد بهذا الحوار أن يقارن معنى التقوى والفجور كما يفهمها عامة الناس بمعناهما على حقيقته وكما يجب أن يفهم، ولكننا نرى سقراط يفند الرأي الشائع عن التقوى والفجور دون أن يعقب على ذلك بتعريف لهما كما يراهما؛ فهو يمهد الطريق ليظفر من محدثه بجواب عن سؤاله الذي ألقاه في أول الحوار، ثم يرفض أن يدلي آخر الأمر برأيه في الموضوع كما هو منهجه في المحاورة.
ومما ينبغي ملاحظته أن أوطيفرون رجل من رجال الدين كان له ما للسفسطائيين من الغرور الكاذب والاعتداد بالنفس، فلم يداخله الشك أول الأمر في أنه على حق حين تقدم إلى القضاة باتهام أبيه ، في حين أنه كغيره من السفسطائيين يعجز أن يصوغ تعريفا جامعا لما يظن أنه على أتم العلم به، بل يعجز عن أن يتابع إقامة البرهان على سلامة ما يقول. ولقد أفلح أفلاطون في تصوير شخصيته تصويرا يمثل كل أفراد طائفته بما عرف عنهم من خطأ الرأي وضيق الفكر والثقة الكاذبة بالنفس.
وإنه لجدير بنا أيضا أن نشير إلى ما في هذا الحوار من موازنة رائعة بين العقيدة الدينية الجامدة حين تتمسك باللفظ فيضيق أفقها، وتصدر على الجهل والغرور، والعقيدة الدينية السامية المستنيرة التي حاول سقراط عبثا أن يستخرجها من محاوره ... «التقوى هي فعل ما أنا فاعل»؛ ذلك هو معنى الدين كما يفهمه الرجل الساذج الذي لا يتسع صدره لما قد يكون لدى غيره من الناس، أو لدى أمم غير أمته، من صنوف العبادة.
ولقد أراد أفلاطون في جملة ما أراد بهذا الحوار أن يجيب عن هذا السؤال: «لماذا حكم على سقراط بالموت؟» فأنطق سقراط بأن استنكاره للأساطير الخرافية قد يكون سببا أثار عليه الخصوم، كما أجرى على لسانه سببا آخر حين قال: «إن الأثينيين لا يحفلون بالرجل إذا ظنت فيه الحكمة، أما إذا أخذ يبث في الناس حكمته فإنهم عندئذ ينتحلون سببا لغضبهم عليه.» ولعل هذه العبارة صادقة في كل قوم وفي كل بلد؛ فالناس متسامحون ما دمت تقصر علمك على نفسك، أما إذا علمتهم إياه وكان مخالفا لما درجوا عليه من علم فإنهم لا يدخرون وسعا في المقاومة والمعارضة. •••
ويرمي أفلاطون بهذه المحاورة القصيرة إلى أغراض ثلاثة: (1)
فهو أولا يتناول فكرة التقوى بالدراسة. (2)
وثانيا يقابل بين الديانة الصحيحة والديانة الزائفة. (3)
وثالثا يدافع عن سقراط في تهمته؛ لأنه إذا لم تكن التقوى والفجور واضحي المعالم والحدود، فكيف نرمي سقراط بهذا الاتهام؟
وهذا الحوار مثل قوي لأسلوب أفلاطون، فترى فيه عمق النظر والمقدرة العظيمة في تصوير الأشخاص، كما نلمس في كل سطوره تهكما لاذعا بارعا.
أوطيفرون
أشخاص الحوار:
سقراط، أوطيفرون.
المنظر:
دهليز كبير القضاة.
أوطيفرون :
فيم تركك اللوقيون
Lyceum
1
يا سقراط؟ وماذا تصنع في دهليز كبير القضاة؟ يقينا إنك لم تجئ مثلي في شأن قضية أمام القاضي.
سقراط :
لست بصدد قضية يا أوطيفرون! إنما هو اتهام كما يسميه الأثينيون.
أوطيفرون :
ماذا؟ أحسب أن أحدا قد رماك باتهام؛ لأنني لا أصدق أن تقف أنت من غيرك موقف المتهم.
سقراط :
كلا ولا ريب.
أوطيفرون :
إذن؛ فقد آخذك امرؤ باتهام؟
سقراط :
نعم.
سقراط.
أوطيفرون :
ومن هو ذا؟
سقراط :
شاب نكرة يا أوطيفرون، لا أكاد أعرفه، اسمه مليتس وهو من أهل مدينة بتثيس
، ولعلك ذاكر صورته؛ فله منقار، وشعر طويل مستقيم، ولحية شعثاء.
أوطيفرون :
كلا، لست أذكره يا سقراط، ولكن بأية تهمة رماك؟
سقراط :
بأية تهمة؟ إنها اتهام خطير يدل على أنه ذو خلق عظيم، ولا ينبغي بلا ريب أن يزدرى من أجله؛ فهو يقول إنه يعلم كيف يفسد الشباب، ومن هم المفسدون.
ويخيل إلي أنه لا بد أن يكون رجلا حكيما، فلما رآني نقيض الرجل الحكيم أشار عني، وهو معتزم أن يتهمني بإفساد أصدقائه من الشبان. وستكون الدولة - وهي أمنا - حكما في هذا. إنه الوحيد بين ساستنا الذي أراه قد بدأ بدءا صحيحا في غرس الفضيلة في الشباب. فهو كالزارع القدير، يعنى بالنبات الصغير أول ما يعنى، فيباعد بيننا وبينه؛ لأننا متلفوه، وما تلك إلا خطوة أولى إذا ما أتمها توجه بعنايته إلى الغصون المكتهلة، ولو استمر كما بدأ لأصبح للشعب مصلحا جد عظيم.
أوطيفرون :
أرجو له أن يستطيع، ولكني كم أخشى يا سقراط أن يكون العكس هو الصحيح، فرأيي أنه بمهاجمته إياك إنما يصوب ضربة إلى الدولة في أساسها، ولكن كيف تفسد الشباب في زعمه؟
سقراط :
إنه يوجه إلي اتهاما عجيبا يثير الدهشة فور سماعه؛ فهو يقول إني شاعر أو مبتدع للآلهة؛ فأختلق آلهة جديدة وأنكر وجود الآلهة القديمة، هذا هو أساس دعواه.
أوطيفرون :
أفهم ما تقول يا سقراط؛ فهو يريد أن يتهمك بالعلامة المعهودة التي تأتيك من حين إلى حين كما تقول. وسيقدمك إلى المحكمة لأنه يظن أنك ذو بدعة في الدين، ولعله يعلم ما أعلمه علم اليقين من أن مثل هذه التهمة سهلة القبول لدى الناس؛ فأنا حين أتحدث في الجماعة عن أشياء مقدسة وأتنبأ لهم بالمستقبل يهزءون مني ويظنون أني مجنون، ومع ذلك فكل كلمة مما أقوله حق، ولكنهم يغارون منا جميعا، فيجب علينا أن نستبسل ونهاجمهم.
سقراط :
ليس ضحكهم يا عزيزي أوطيفرون بذي خطر؛ فقد يقال عن رجل إنه حكيم، ولكن الأثينيين فيما أحسب لا يكلفون أنفسهم عناء بشأنه إلا إذا أخذ يبث في الناس حكمته، عندئذ يأخذهم الغضب لسبب ما، وقد يكون لغيرة فيهم، كما تقول أنت.
أوطيفرون :
لا ينتظر أن أختبر خلقهم على هذا النحو.
سقراط :
أظن أنك لن تفعل؛ لأنك متحفظ في سلوكك، ويندر أن تبث حكمتك. أما أنا فقد تعودت محسنا أن أفرغ ما بنفسي لكل إنسان، بل إني لأود أن أؤجر المستمع، وإني لأخشى أن يظن الأثينيون أني كثير الثرثرة، فلو حدث - كما سبق لي القول - أن اكتفوا بسخريتهم مني، كما زعمت أنهم فعلوا معك؛ إذن لأنفقنا الوقت في المحكمة في مرح شديد. ولكن قد يأخذهم الجد، وعندئذ لا يستطيع أن ينبئ بالخاتمة إلا أنتم معشر المنجمين.
أوطيفرون :
أظن يا سقراط أن الأمر سينتهي بلا شيء، وأنك رابح قضيتك كما أظنني كاسبا لقضيتي.
سقراط :
وما قضيتك يا أوطيفرون، أأنت المتهم أم المتهم؟
أوطيفرون :
أنا المتهم.
سقراط :
ومن تتهم؟
أوطيفرون :
ستظنني مجنونا حين أنبئك.
سقراط :
لماذا؟ أللهارب أجنحة؟
2
أوطيفرون :
لا! إنه لا يمتاز بحضور البديهة في سنه هذه.
سقراط :
ومن هو ذا؟
أوطيفرون :
إنه أبي.
سقراط :
أبوك يا رفيقي العزيز؟!
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
وبماذا اتهمته؟
أوطيفرون :
بالقتل يا سقراط.
سقراط :
يا للآلهة يا أوطيفرون! ما أقل ما يعلم غمار الناس عن الحق والصواب، إنه لا بد للإنسان أن يكون ممتازا وأن يكون قد خطا في الحكمة خطوات فسيحة، حتى يستطيع أن يتلمس سبيله إلى مثل هذه الدعوى.
أوطيفرون :
حقا يا سقراط، لا بد أن يكون كذلك.
سقراط :
أحسب أن الرجل الذي قتله أبوك كان أحد أقربائك ، ولا شبهة في هذا؛ لأنه لو كان غريبا لما فكرت قط في اتهامه.
أوطيفرون :
يدهشني يا سقراط أن أراك تفرق بين القريب والغريب؛ إذ لا شك أن جرمك هو هو في كلتا الحالتين، إذا أنت ظاهرت القاتل عن عمد؛ حيث ينبغي عليك أن تبرئ نفسك وتبرئه بإقامة الدعوى عليه. فالسؤال الصحيح هو هل قتل القتيل عدلا؟ فإن كان قد قتل عدلا، فواجبك أن تدع الأمر جانبا، أما إذا كان ظلما فلا بد أن تشكو القاتل، حتى لو كان يساكنك تحت سقف واحد، ويطعم معك على مائدة واحدة. وقتيلنا هذا كان رجلا فقيرا يعتمد على معونتي، وكان يشتغل فلاحا في حقلنا في ناكسوس
Naxos .
3
وذات يوم أخذته نشوة الخمر فاعترك مع خادم بالمنزل وقتله، فكبله أبي يدا وقدما وقذف به في خندق، ثم أرسل إلى أثينا ليستفتي كاهنا عما يجب أن يفعل به. وكان في ذلك الحين لا يأبه له ولا يعنى به لأنه اعتبره قاتلا، وظن أن لن يقع ضرر جسيم حتى ولو أصابه الموت، وذلك بعينه ما حدث؛ فقد أثر فيه البرد والجوع والأغلال التي تكبله تأثيرا أدى إلى موته قبل عودة الرسول من لدن الكاهن، وأبي وأسرتي غاضبان مني لنيابتي عن القاتل في اتهام أبي زاعمين أنه لم يقتله، وأنه حتى لو فعل ذلك فما الميت إلا قاتل، وما ينبغي لي أن أأبه له؛ لأن ابنا يتهم أباه فهو فاجر؛ ذلك يدل يا سقراط على مبلغ علمهم الضئيل برأي الآلهة في التقوى والفجور.
سقراط :
يا لله يا أوطيفرون! وهل بلغ علمك بالدين وبالتقوى وبالفجور مبلغ الدقة العظيمة بحيث لو سلمنا أن الظروف كانت كما تروى، فلا تخشى أنك أنت كذلك قد ترتكب شيئا من الفجور في إقامة الدعوى على أبيك؟
أوطيفرون :
إن أفضل ما في أوطيفرون، وهو ما يميزه يا سقراط من سائر الناس، هو دقة علمه بمثل هذه المسائل جميعا، وهل تراني أصلح لشيء لو سلبتني ذلك العلم؟
سقراط :
أيها الصديق النادر! أحسب أن خير ما أصنعه أن أكون تلميذا لك؛ وإذن فسأتحدى مليتس قبل أن تحين المحاكمة معه، وسأقول له: إنني ما فتئت عظيم الشغف بالمسائل الدينية؛ فما دام يتهمني بطيش الخيال والإبداع في الدين؛ فقد أصبحت تلميذا لك. إنك يا مليتس - هكذا سأسوق إليه القول - تعترف بأن أوطيفرون لاهوتي عظيم، وبأنه سديد الرأي، فإذا اعترفت به وجب أن تعترف بي، وألا تدعوني للمحكمة. أما إذا أنكرته فقد وجب عليك أن تبدأ باتهامه لأنه معلمي، ولأنه سيكون فسادا، لا للشبان، بل للشيوخ؛ أعني فسادا لي لأنه يعلمني، وفسادا لأبيه إذ ينذره ويعاقبه. فإذا أبى مليتس أن يصغي إلي، ومضى في سبيله دون أن ينقل الدعوى مني إليك، فخير ما أصنعه أن أكرر هذا التحدي في المحكمة.
أوطيفرون :
نعم ولا ريب يا سقراط، فإذا ما حاول أن يتهمني؛ فأنا المخطئ إن لم أجد له مغمزا فتوجه إليه المحكمة من القول أكثر جدا مما توجهه إلي.
سقراط :
ولما كنت يا صديقي العزيز أعلم عنك هذا؛ فأنا راغب في أن أكون تلميذا لك؛ إذ يلوح لي أنك لست ملحوظا من أحد، فلم يلحظك حتى مليتس هذا، ولكن عينيه الحادتين قد استكشفتاني على الفور فاتهمني بالفجور؛ وعلى ذلك فأنا أتوسل إليك أن تنبئني حقيقة التقوى والفجور التي قلت إنك تعلمها جيد العلم، كما تنبئني بطبيعة القتل وسائر ضروب الاعتداء على الآلهة، ما هي؟ أليست التقوى في كل فعل هي هي دائما؟ وكذلك الفجور، أليس دائما نقيض التقوى؟ ثم أليس هو هو دائما، فله تعريف واحد يشمل كل ما هو فاجر؟
أوطيفرون :
كن على يقين من ذلك يا سقراط.
سقراط :
وما التقوى وما الفجور؟
أوطيفرون :
التقوى هي أن تفعل كما أنا فاعل؛ أعني أن تقيم الدعوى على من يقترف جريمة القتل أو الزندقة أو ما إلى ذلك من الجرائم، سواء كان أباك أم أمك أم كائنا من كان، فذلك لا يبدل من الأمر شيئا. وأما الفجور فهو ألا تقيم على هؤلاء الدعوى. وأرجو أن ترى يا سقراط الدليل الساطع الذي أقيمه لك على صدق ما أقول، وهو دليل سقته بالفعل إلى سائر الناس؛ برهانا على مبدأ أن الفاجر لا ينبغي أن ينجو من العقاب كائنا من يكون. ألا ترى إلى الناس كيف يعدون «زيوس» أفضل الآلهة وأقدمهم مع اعترافهم بأنه كبل سلفه «كرونوس
Cronos » لأنه مزق أبناءه تمزيقا مروعا، بل إنهم ليقرون أنه أنزل العقاب بأبيه نفسه «أورانوس
Uranus » لسبب شبيه بهذا، عقابا يفوق الوصف، ثم يغضبون مني إذا أنا أقمت الدعوى على أبي، وهكذا ترى الناس يتناقضون في موقفهم إزاء الآلهة وإزائي.
سقراط :
ألا يجوز يا أوطيفرون أن أكون قد رميت بالفجور لأني أمقت هذه الأقاصيص التي تروى عن الآلهة؟ وإذن فأحسب أن الناس قد أخطئوا فهمي، ولكن ما دمت أنت تسلم بها وأنت الخبير بها، فخير ما أصنعه هو أن أستسلم لحكمتك العليا. ماذا أقول غير هذا، وأنا معترف بأنني لا أعلم عنها شيئا نشدتك حب «زيوس» إلا أنبأتني هل تعتقد حقا في صدقها؟
أوطيفرون :
نعم يا سقراط، بل وهنالك من الأشياء ما هو أشد عجبا والناس عنها غافلون.
سقراط :
وهل تعتقد حقا أن الآلهة كان يحارب بعضها بعضا، وأن قد نشبت بينها معارك ومواقع حامية، كما يقول الشعراء، وما تستطيع أن تراه مبسوطا في تآليف الأعلام من رجال الفن؟ إن المعابد ملأى بها، وإنك لترى بخاصة ثوب
Athene - الذي يقدم إلى الأكروبوليس عند
4
العظيمة موشى بها. أكل هذه القصص عن الآلهة حق يا أوطيفرون؟
أوطيفرون :
نعم يا سقراط، وأعود فأقول إنني أستطيع أن أنبئك بأشياء كثيرة أخرى عن الآلهة تثير منك أبلغ الدهشة إذا أنت أصغيت إليها.
سقراط :
أود هذا، ولكن أحب أن تنبئنيها في ساعة أخرى من فراغي، أما الآن فأوثر أن أسمع منك جوابا دقيقا لم تعطنيه حتى الآن يا صديقي عن سؤالي: ما التقوى؟ إذ إنك لم تجب حين سألتك إلا بقولك: إنها فعل ما أنت فاعل؛ أي اتهام أبيك بالقتل.
أوطيفرون :
وما قلته لك يا سقراط حق.
سقراط :
لست أشك في ذلك يا أوطيفرون، ولكني أحسبك مسلما بأن هنالك في التقوى أفعالا كثيرة أخرى.
أوطيفرون :
نعم هنالك.
سقراط :
تذكر أني لم أطلب إليك أن تضرب لي للتقوى مثلين أو ثلاثة، بل أن تشرح الفكرة العامة التي من أجلها تكون الأشياء التقية كلها تقية. ألا تذكر أن ثمة فكرة واحدة من أجلها كان الفاجر فاجرا والتقي تقيا؟
أوطيفرون :
أذكر ذلك.
سقراط :
أنبئني ما حقيقة هذه الفكرة، حتى يكون لدي معيار أنظر إليه، وأقيس به الأفعال، سواء في ذلك أفعالك أم أفعال سواك، وحينئذ أستطيع أن أقول إن هذا العمل المعين تقي وإن ذلك فاجر.
أوطيفرون :
سأنبئك إن أردت.
سقراط :
لشد ما أريد.
أوطيفرون :
إذن فالتقوى هي ما هو عزيز لدى الآلهة، والفجور هو ما ليس بعزيز لديهم.
سقراط :
جد جميل يا أوطيفرون، لقد أدليت لي الآن بالجواب الذي أردت، لكني لا أستطيع حتى الآن أن أقرر إن كان كل ما تقوله حقا أم لا، ولو أنني لا أشك في أنك ستقيم الدليل على صدق عبارتك.
أوطيفرون :
بالطبع.
سقراط :
إذن فتعال معي نختبر ما نقول، إن هذا الشيء أو هذا الشخص عزيز لدى الآلهة فهو تقي، وذلك الشيء أو ذاك الشخص ممقوت من الآلهة فهو فاجر. فكأن التقوى والفجور طرفان يناقض كل واحد منهما الآخر، ألم نقل هذا!
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
ألم نحس التعبير عنه؟
أوطيفرون :
نعم يا سقراط، إني أعتقد ذلك، لقد قلنا ذلك من غير شك.
سقراط :
وماذا يحدث لو اختلف الآلهة في الرأي، هذا فضلا عما سلمنا به يا أوطيفرون من أن للآلهة ما يعادونه وما يمقتونه، ومن أن بينهم شيئا من أوجه الخلاف.
أوطيفرون :
نعم، لقد قلنا ذلك أيضا.
سقراط :
وأي ضرب من الخلاف يولد العداوة والغضب؟ افرض مثلا يا صديقي العزيز أنك اختلفت وإياي على عدد، هل هذا النوع من الخلاف يعادي بيننا ويفرق أحدنا عن الآخر؟ ألسنا نلجأ من فورنا إلى الحساب ونفض ما بيننا من خلاف بعملية حسابية؟
أوطيفرون :
هذا حق.
سقراط :
أو هبنا اختلفنا على أطوال، ألسنا نسارع إلى القياس لنفض الخلاف ؟
أوطيفرون :
جد صحيح.
سقراط :
كما نمحو ما بيننا من تضاد حول الثقيل والخفيف بأن نلجأ إلى آلة وازنة؟
أوطيفرون :
لا ريب في هذا.
سقراط :
ولكن أي أنواع الخلاف لا يمكن تسويتها على هذا النحو، وأيها إذن يثير فينا الغضب ويقفنا موقف العداوة أحدنا من الآخر؟ أظن أن الجواب لا يحضرك الآن؛ وعلى ذلك فأنا أبسط رأيي بأن هذه العداوة إنما تنشأ حينما يكون موضوع الخلاف هو العادل والظالم والخير والشرير، والشريف والوضيع. أليست هذه نقط الخلاف بين الناس والتي نشتجر بسببها؛ إذ نشتجر أنا وأنت وكلنا جميعا حينما نعجز عن تسوية أوجه الخلاف تسوية مرضية؟
أوطيفرون :
نعم يا سقراط، إن أوجه الخلاف التي نشتجر حولها هي في حقيقتها كما تصف.
سقراط :
أي أوطيفرون النبيل! أوليس التشاجر بين الآلهة حينما وقع هو شيء كهذا في طبيعته؟
أوطيفرون :
لا شك في أنه كذلك؟
سقراط :
إن بينهم خلافا في الرأي كما تقول عن الخير والشرير والعادل والجائر والشريف والوضيع، فلو لم يكن بينهم هذا الخلاف لما كان بينهم اشتجار، أليس كذلك؟
أوطيفرون :
إنك جد مصيب.
سقراط :
ألا ترى أن كل إنسان يحب ما يراه نبيلا وعادلا وخيرا، ويمقت نقيض هؤلاء؟
أوطيفرون :
جد صحيح.
سقراط :
ولكن الناس كما تقول يرون أشياء بعينها، فيعدها بعضهم عادلة، ويعدها بعضهم جائرة، وهم يتنازعون حولها، فتنشأ لهذا بينهم الحروب والمعارك.
أوطيفرون :
جد صحيح.
سقراط :
إذن فأشياء بعينها يكرهها الآلهة ويحبها الآلهة، وهي ممقوتة منهم وعزيزة لديهم في وقت معا؟
أوطيفرون :
صحيح.
سقراط :
وعلى هذا الأساس تكون أشياء بعينها يا أوطيفرون تقية وفاجرة معا؟
أوطيفرون :
أظن ذلك.
سقراط :
إذن فيدهشني يا صديقي العزيز أن أراك لا تجيب السؤال الذي سألتكه، فلا ريب أني لم أطلب إليك أن تذكر لي الفعل الذي يكون تقيا وفاجرا معا، ولكن ها قد بدا لي أن الآلهة يحبون ما يكرهون؛ وعلى ذلك يا أوطيفرون فقد يرجح أن تكون في عقابك لأبيك فاعلا ما يرضي «زيوس»، وما يغضب «كرونوس» أو «أورانوس» وما يقبله «هفسيتوس
Hephaestus »
5
وما يرفضه «هري
here »، وقد يكون هنالك من الآلهة الآخرين من يكون بينهم خلاف في الرأي شبيه بهذا.
أوطيفرون :
ولكني أعتقد يا سقراط أن الآلهة جميعا سيتفقون على وجوب عقاب القاتل، فلن يكون ثمة من خلاف في الرأي حول هذا.
سقراط :
حسنا، فلنتحدث عن البشر يا أوطيفرون. فهل سمعت قط أحدا يقيم الحجة على أنه ينبغي أن يطلق سراح القاتل أو فاعل الشر أيا كان؟
أوطيفرون :
إني لأقرر أن هذه هي المشاكل التي لا ينفك الناس يجادلون فيها، ولا سيما في ساحات القانون. إنهم يقترفون كل ضروب الجرائم، ثم لا يحجمون عن قول أو فعل دفاعا عن أنفسهم.
سقراط :
ولكن هل يعترفون بجرمهم يا أوطيفرون، ثم يزعمون ألا ينبغي أن ينزل بهم عقاب؟
أوطيفرون :
لا، إنهم لا يفعلون.
سقراط :
إذن فهنالك من الأشياء ما لا يستطيعون لها قولا ولا فعلا؛ لأنهم لا يجرءون أن يقيموا الدليل على وجوب إفلات المذنبين من العقاب، بل يعمدون إلى إنكار جرمهم. أليس كذلك؟
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
إذن فهم لا يزعمون أن فاعل الشر لا يجوز أن يعاقب، ولكنهم يجادلون في من هو فاعل الشر، وماذا فعل ومتى!
أوطيفرون :
صحيح.
سقراط :
وهذا نفسه هو موقف الآلهة إن كانوا كما تقول أنت يختلفون في العادل والجائر. وإن كان بعضهم يثبت أن الظلم قد يحدث بينهم بينا ينكر ذلك آخرون. فلا ريب في أن الله والإنسان كليهما لا يجرؤان قط أن يقولا إن مرتكب الظلم لا ينبغي أن يعاقب.
أوطيفرون :
هذا حق في أساسه يا سقراط.
سقراط :
ولكنهم يختلفون في التفصيلات، سواء في ذلك الآلهة والناس. فإذا كان ثمة بينهم من نزاع فإنما يتنازعون على فعل معين يكون موضوع البحث، فيقرر بعضهم أنه عادل ويثبت الآخرون أنه جائر. أليس ذلك صحيحا؟
أوطيفرون :
إنه جد صحيح.
سقراط :
إذن فأنبئني - أي عزيزي أوطيفرون - فذلك أقوم لتعليمي وإرشادي، أي برهان تقيم على أن بين آراء الآلهة كلهم إجماعا على أن خادما جريمته القتل فكبله بالأغلال سيد القتيل، فمات بفعل الأغلال قبل أن يعلم مكبله من رسل الله ماذا ينبغي أن يفعل به، يكون قد مات ظلما؟ وأي برهان تقيم على أن ابنا ينبغي أن يقيم على أبيه الدعوى نيابة عن مثل ذلك الخادم، متهما إياه بالقتل؟ كيف تبرهن على أن الآلهة جميعا تتفق اتفاقا تاما على قبول فعله؟ أقم لي الدليل على أنهم يفعلون ذلك أمدح لك فعلتك ما حييت.
أوطيفرون :
إنه عمل مضن، ولكني أستطيع أن أوضح لك الأمر وضوحا تاما.
سقراط :
أفهم ما تقول؛ فأنت تريد أني لست سريع الفهم كالقضاة؛ إذ حتم عليك أن تبرهن لهم على أن الفعل جائر ومكروه من الآلهة.
أوطيفرون :
نعم يا سقراط، لا شك في هذا، ولا سيما إن أنصتوا لما أقول.
سقراط :
إنهم لا بد منصتون إن رأوا أنك متكلم قدير. لقد اختلجت في نفسي فكرة إذ كنت تتحدث. قلت لنفسي ماذا عسى أن أفيد إن أقام لي أوطيفرون الدليل على أن الآلهة جميعا يعدون موت العبد ظلما؟ كيف يزيدني ذلك علما عن حقيقة التقوى والفجور؟ إذ لو سلمنا أن هذا الفعل قد يكون مكروها من الآلهة؛ فليس هذا التحديد تعريفا دقيقا للتقوى والفجور، فلقد رأينا أن ما تكرهه الآلهة هو في نفس الوقت سار لهم وعزيز لديهم؛ وعلى ذلك فلا أطلب إليك يا أوطيفرون أن تقيم على هذا دليلا، وسأفرض - إن أردت - أن الآلهة جميعا تنكر مثل هذا الفعل وتمقته، ولكني سأعدل التعريف بحيث يكون أن ما يجمع الآلهة على كرهه فهو فاجر، وأن ما يحبونه تقي مقدس، وأن ما يحبه بعضهم ويكرهه بعضهم الآخر فهو تقي وفاجر معا، أو لا هو هذا ولا ذاك؛ فهل توافق على هذا التعريف للتقوى والفجور؟
أوطيفرون :
لم لا أوافق يا سقراط؟
سقراط :
لم لا توافق! يقيني يا أوطيفرون أن ليس ثمة ما يبرر - فيما أعلم - ألا يكون التعريف هكذا. أما هل يفيدك قبول هذا التعريف فائدة عظيمة في تعليمي الذي وعدتني به، فذلك أمر موكول لك النظر فيه.
أوطيفرون :
نعم، ينبغي أن أقول إن ما تجمع الآلهة على حبه تقي مقدس، وإن نقيضه الذي يجمعون على كرهه فاجر.
سقراط :
هل يجب علينا أن نبحث في صحة هذا يا أوطيفرون، أم نسلم بالعبارة تسليما، متخذين من أنفسنا ومن سوانا حجة نعتمد عليها؟ ماذا ترى؟
أوطيفرون :
يجب أن نبحثها، وأعتقد أن العبارة ستصمد لتجربة البحث.
سقراط :
أي صديقي العزيز! لن تمضي برهة قصيرة، حتى نزداد علما، غير أني أود أن أعلم قبل كل شيء إذا كان التقي أو المقدس محببا لدى الآلهة لأنه مقدس، أم أنه مقدس لأنه محبب لديهم.
أوطيفرون :
لا أفهم ما تريد يا سقراط.
سقراط :
سأحاول الشرح: إننا نفرق في حديثنا بين أن تحمل وأن تحمل، وبين أن تقود وأن تقاد، وبين أن ترى وأن ترى، وإنك لتعلم أن ثمة اختلافا في هذه الحالات جميعا، كما تعلم كذلك مواضع هذا الخلاف؟
أوطيفرون :
أحسبني أفهم ما تقول.
سقراط :
ثم أليس المحبوب متميزا من المحب؟
أوطيفرون :
يقينا.
سقراط :
هذا جميل، إذن فحدثني أيكون الشيء المحمول في حالة الحمل لأنه محمول أم لسبب آخر؟
أوطيفرون :
كلا، بل لهذا السبب.
سقراط :
وهل هذا صحيح بالنسبة لما يقاد وما يرى؟
أوطيفرون :
حقا.
سقراط :
ولا يكون الشيء مرئيا لأن في الإمكان رؤيته، بل على العكس هو ممكن الرؤية لأنه مرئي، كما لا يكون الشيء منقادا لأنه في حالة الانقياد، أو محمولا لأنه في حالة الحمل، بل العكس هو الصحيح. أظن يا أوطيفرون أن ما أقصده أصبح يسير الفهم. وإنما أقصد أن أية حالة من حالات الفعل أو العاطفة تتضمن فعلا أو عاطفة سابقة لها؛ فالشيء لا يتحول لأنه متحول ولكنه في حالة التحول لأنه يتحول، كما أن الشيء لا يتألم لأنه في حالة الألم، ولكنه في حالة الألم لأنه يتألم، ألا توافق؟
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
ألا يكون الشيء المحبوب في حالة من حالات التحول أو الألم؟
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
وما مر بنا في الأمثلة السابقة صحيح هنا، فحالة كون الشيء محبوبا تتبع فعل كونه محبوبا، ولكن لا يتبع الفعل الحالة .
أوطيفرون :
يقينا.
سقراط :
وماذا تقول عن التقوى يا أوطيفرون؟ أليست التقوى بناء على تعريفك محبوبة لدى الآلهة جميعا؟
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
لأنها تقية أو مقدسة أم لسبب آخر؟
أوطيفرون :
لا، بل لهذا السبب.
سقراط :
إنها محبوبة لأنها مقدسة وليست مقدسة لأنها محبوبة؟
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
وما هو عزيز لدى الآلهة يكون محبوبا لديهم، وهو في هذه الحالة من حب الآلهة له لأنه محبوب لديهم؟
أوطيفرون :
يقينا.
سقراط :
إذن فما هو عزيز لدى الآلهة، أي أوطيفرون، ليس مقدسا، ولا ما هو مقدس محبوب لدى الله، كما تقرر أنت، ولكنهما شيئان مختلفان.
أوطيفرون :
ماذا تريد يا سقراط؟
سقراط :
أريد أننا قد سلمنا بأن المقدس محبوب لدى الله لأنه مقدس، وليس هو مقدسا لأنه محبوب.
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
أما ما هو عزيز لدى الآلهة فهو عزيز لأنه محبوب، وليس هو محبوبا لأنه عزيز.
أوطيفرون :
حقا.
سقراط :
ولكن يا صديقي أوطيفرون إذا كان ما هو مقدس نفس ما هو عزيز لدى الله، وكان محبوبا لأنه مقدس، لكان ما هو عزيز لدى الله محبوبا لأنه عزيز لدى الله. أما إذا كان ما هو عزيز لدى الله عزيزا لأنه محبوب لديه، لكان ما هو مقدس مقدسا لأنه محبوب لديه. ولكنك ترى أن الأمر على عكس ذلك، وأنهما مختلفان أشد الخلاف أحدهما عن الآخر؛ فأولهما من نوع يحب لأنه محبوب، وأما الثاني فمحبوب لأنه من نوع يحب. وهكذا يلوح لي يا أفلاطون، حين أسألك عن جوهر القداسة، أنك تجيبني بالعرض فقط لا بالجوهر؛ أعني عرض كونها محبوبة لدى الآلهة جميعا، ثم إنك لتأبى مع ذلك أن تشرح لي حقيقة القداسة، ولهذا أتوسل إليك أن تتفضل علي، فلا تخف كنزك عني، وأن تنبئني مرة أخرى ما حقيقة القداسة أو التقوى؟ هل هي عزيزة لدى الآلهة أم لا (فذلك أمر لن نشتجر فيه) ثم ما الفجور؟
أوطيفرون :
حقا يا سقراط، لست أدري كيف أعبر عما أريد؛ إذ يلوح أن براهيننا تدور ثم تفلت منا، على نحو لا أدريه، أيا كان الأساس الذي نقيمها عليه.
سقراط :
ألا إن ألفاظك يا أوطيفرون لشبيهة بنسج سلفي ديدالوس
Deadalus ،
6
ولو كنت أنا قائلها أو موحيها لجاز لك أن تقول إن براهيني تفر ولا تستقر حيث وضعت لأنني من سلالة ديدالوس. أما والآراء آراؤك أنت فينبغي أن تلتمس سخرية أخرى، فآراؤك بغير شك مضطربة كما اعترفت بنفسك.
أوطيفرون :
لا يا سقراط؛ فما أزال أزعم أنك أنت ديدالوس الذي يحدث في البراهين الاضطراب، فلست أنا، ولا ريب، الذي يقلقها، ولكنك أنت الذي تضطرها أن تتحرك أو تدور. ولو كان أمرها بيدي وحدي لما أصابها اضطراب قط.
سقراط :
إذن فلا بد أن أكون أعظم من ديدالوس؛ إذ بينا هو لم يستطع أن يحرك إلا ما صنعت يداه، تراني أحرك صنائع سواي. ولكن الجميل في الأمر هو أنني لا أود أن أفعل ذلك، بل إني لأستغني عن حكمة ديدالوس وثروة تانتالوس
Tantalus
7
إن أتيح لي أن أمسكها (أي الصنائع) وأقوي دعائمها. ولكن دع هذا فسأحاول بنفسي أن أدلك كيف تعلمني حقيقة التقوى؛ لأني أراك كسولا. وأرجو ألا تتذمر من العمل. حدثني إذن، هل العدل والتقوى شيء واحد أم التقوى جزء من العدل؟ أليس ما هو تقي عادلا بالضرورة؟
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
ثم أليس كل ما هو عادل تقيا؟ أو أليس ما هو تقي عادلا كله، أما ما هو عادل فتقي بعضه فقط لا كله؟
أوطيفرون :
لست أفهمك يا سقراط.
سقراط :
ومع ذلك فأنا أعلم أنك أحكم مني بقدر ما أنت أصغر مني، ولكني أعود فأقول، أي صديقي المحترم، إن غزارة حكمتك ولدت فيك الكسل. أرجو أن تجهد نفسك؛ فالحق أن ليس فهم قولي عسيرا، وأستطيع أن أشرح لك ما أريد بمثل مما لا أريد؛ فقد أنشد الشاعر «ستاسينوس»
Stasinus
8
قائلا:
إنك لن تروي شيئا عن زيوس، مبدع
هذه الأشياء كلها وخالقها؛ إذ حيث
يكون الخوف يكون التقديس إلى جانبه
أما أنا فلست أوافق هذا الشاعر. أأنبئك في أي شيء أخالفه؟
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
لست أرى أنه حيث يكون الخوف يكون إلى جانبه التقديس لأنني على يقين أن كثيرا من الناس يخشى الفقر والمرض وسائر هذه الشرور، ولكني لا أراهم يقدسون ما يخشون.
أوطيفرون :
جد صحيح.
سقراط :
ولكن حيث يكون التقديس يكون الخوف لأن من يحس شعور التقديس والعار من ارتكاب فعل ما، يخاف ويخشى سوء الأحدوثة.
أوطيفرون :
لا شك.
سقراط :
إذن فنحن مخطئون في قولنا إنه حيث يكون الخوف يكون التقديس أيضا. ويجب أن نقول إنه حيث يكون التقديس يوجد الخوف كذلك. ولكنك لا ترى التقديس دائما حيث ترى الخوف؛ لأن الخوف فكرة أوسع والتقديس جزء من الخوف، كما أن الفردي جزء من العدد والعدد فكرة أوسع من الفردي. أظن أنك تدري الآن ما أقول؟
أوطيفرون :
أدركه تمام الإدراك.
سقراط :
ذلك هو نوع السؤال الذي أردت أن أثيره حين سألتك هل العادل تقي دائما، أم التقي دائما عادل. وهل من الجائز ألا تكون عدالة حيث لا تكون التقوى؛ لأن العدالة فكرة أوسع، وليست التقوى إلا جزءا منها. أأنت مخالفي في هذا؟
أوطيفرون :
لا، أظن أنك على حق تام.
سقراط :
إذن، فإذا كانت التقوى جزءا من العدالة؛ فأحسب أن واجبنا أن نبحث أي جزء هو؟ إذا أنت تابعت البحث في الأحوال السالفة، فسألتني مثلا ما العدد الزوجي، وأي جزء من العدد ترى يكون الزوجي، لما ألفيت عسرا في الجواب بأنه العدد الذي يمثل رقما له جانبان متساويان. ألست توافق؟
أوطيفرون :
نعم، إني موافقك تماما.
سقراط :
وعلى مثل هذا النحو، أريد أن تنبئني أي جزء من العدالة ترى تكون التقوى أو القداسة؛ لكي أستطيع أن أطلب إلى مليتس ألا يأخذني بالظلم أو يتهمني بالفجور ما دمت الآن قد تزودت منك بعلم صحيح عن طبيعة التقوى أو القداسة ونقيضها!
أوطيفرون :
يلوح لي أن التقوى أو القداسة يا سقراط هي ذلك الجزء من العدالة الذي نخدم به الله، وأما الجزء الآخر من العدالة فنخدم به صالح الناس.
سقراط :
هذا حسن يا أوطيفرون، ولكن لا تزال عندي مسألة يسيرة أريد أن أستزيد بها علما. ما معنى «الخدمة»؟ إذ من العسير أن تطلق لفظ الخدمة، حين تتحدث عن الآلهة، بنفس المعنى الذي تطلقه به حين تتحدث عن سائر الأشياء. فيقال مثلا إن الجياد بحاجة إلى الخدمة، وليس كل إنسان قادرا أن يخدمها، إنما يستطيع ذلك الشخص الماهر في سياسة الجياد دون غيره. أليس كذلك؟
أوطيفرون :
يقينا.
سقراط :
وأنا أظن أن فن سياسة الجياد هو فن خدمتها؟
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
كذلك ليس كل إنسان قادرا على خدمة الكلاب، إنما الكفء لذلك هو الصائد وحده؟
أوطيفرون :
صحيح.
سقراط :
وأرى أيضا أن فن الصائد هو فن خدمة الكلاب؟
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
كما أن فن راعي الأبقار هو فن خدمتها؟
أوطيفرون :
جد صحيح.
سقراط :
وهل على هذا النحو نفسه تكون القداسة أو التقوى هي فن خدمة الآلهة؟ أذلك ما قصدت إليه يا أوطيفرون؟
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
وهلا يقصد دائما بالخدمة أن تكون لخير أو لنفع المخدوم؟ فكما رأيت في حالة الجياد أنها حين وجهت إليها خدمة السائس، أفادت وتحسنت، أليس كذلك؟
أوطيفرون :
صحيح.
سقراط :
كما تستفيد الكلام من فن الصائد، والثيران من فن راعيها، وسائر الأشياء جميعا تتجه أو توجه لخيرها لا لأذاها؟
أوطيفرون :
يقينا إنها لن تتجه لأذاها.
سقراط :
ولكن لخيرها؟
أوطيفرون :
بالطبع.
سقراط :
وهل التقوى أو القداسة التي عرفناها بأنها فن خدمة الآلهة، تنفعها أو تقومها؟ هل تزعم أنك حين تؤدي شعيرة تصلح شأن واحد من الآلهة؟
أوطيفرون :
لا، لا. يقينا لم يكن ذلك ما قصدت إليه.
سقراط :
وأنا يا أوطيفرون لم أفرض قط أنك قصدت إلى ذلك، لقد وجهت إليك سؤالي عن طبيعة الخدمة لأنني كنت أظن أنك لم تقصد إلى مثل هذا.
أوطيفرون :
لقد أنصفتني يا سقراط، ليس هذا هو نوع الخدمة التي أريد.
سقراط :
جميل، ولكن ينبغي لي أن أعود فأسألك ما تلك الخدمة للآلهة التي تسمى بالتقوى؟
أوطيفرون :
إنه يا سقراط ذلك النوع من الخدمة الذي يؤديه الخدمة لسادتهم.
سقراط :
أفهم ما تريد. نوع من الخدمة للآلهة.
أوطيفرون :
هو كذلك.
سقراط :
والطب أيضا ضرب من الخدمة التي يقصد منها الوصول إلى غرض معين - إلى الصحة - أليس كذلك؟
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
كذلك هنالك فن يخدم صانع السفن يقصد به الوصول إلى نتيجة معينة.
أوطيفرون :
نعم يا سقراط، يقصد به بناء السفينة.
سقراط :
كما أن هنالك فنا يخدم البناء، وهو يرمي إلى تشييد الدور.
أوطيفرون :
نعم.
سقراط :
والآن حدثني يا صديقي العزيز عن الفن الذي يخدم الآلهة، أي غرض يعمل ذلك الفن على أدائه، فلا ريب في أنك بذلك عليم، إذا كنت بين الأحياء من الرجال أكثرهم علما بالدين كما تقول.
أوطيفرون :
وإنما أقول الحق يا سقراط.
سقراط :
حدثني إذن، نعم حدثني ما هو العمل الجميل الذي تؤديه الآلهة بفضل خدماتنا لهم؟
أوطيفرون :
إنهم يعملون يا سقراط أعمالا كثيرة وجميلة.
سقراط :
وكذلك القائد يا صديقي، فإنه يعمل أعمالا كثيرة وجميلة، ولكن من اليسير أن نذكر أهم أعمال القائد، ألست ترى أن النصر في الحرب هو أهم أعماله؟
أوطيفرون :
يقينا.
سقراط :
وكذلك أعمال الزارع كثيرة وجميلة، إذا لم أكن مخطئا، ولكن عمله الرئيسي هو إنتاج الطعام من الأرض.
أوطيفرون :
هو كذلك.
سقراط :
ومن الأشياء الكثيرة الجميلة التي يؤديها الآلهة، أيها الرئيسي الهام؟
أوطيفرون :
لقد أنبأتك فيما سلف يا سقراط أن الإحاطة بكل هذه الأشياء على وجه الدقة جد مضنية، ولأقل لك في بساطة إن التقوى أو القداسة هي أن تعلم كيف تسر الآلهة في القول والعمل بالصلاة والضحايا، وفي مثل هذه التقوى خلاص الأسرات والدول، كما أن دمارها وخرابها هما في العمل الفاجر الذي يغضب الآلهة.
سقراط :
أظنك كنت تستطيع أن تجيب في عبارة أوجز بكثير من هذه - لو أردت - عن السؤال الرئيسي الذي وجهته إليك يا أوطيفرون، ولكني أرى في وضوح أنك لا تريد أن تعلمني، فذلك جلي، وإلا فلماذا درت بالحديث إذ بلغنا بيت القصيد، فلو أنك أجبتني إذن لعلمت بحق طبيعة التقوى، ولما كنت باعتباري سائلا متعمدا بالضرورة على المجيب فلا بد أن أتبعه إلى حيث يقودني. فلا يسعني إلا أن أعيد السؤال: ما التقي وما التقوى؟ أتريد أن تقول إنهما ضرب من علم الصلاة والتضحية؟
أوطيفرون :
نعم، إني أريد ذلك.
سقراط :
والتضحية هي قربان للآلهة، والصلاة طلب منهم.
أوطيفرون :
نعم يا سقراط.
سقراط :
وعلى هذا الأساس إذن تكون التقوى هي علم الأخذ والعطاء؟
أوطيفرون :
إنك تفهمني الآن يا سقراط فهما جيدا.
سقراط :
نعم يا صديقي، وعلة ذلك أنني تلميذ متحمس لعلمك؛ فأنا ألقي بالي إليه؛ وعلى ذلك فلن يفلت مني شيء مما تقول. تفضل إذن فنبئني ما طبيعة هذه الخدمة للآلهة؟ أهي في رأيك تقدمنا إليهم بالرجاء وتقديمنا لهم العطايا؟
أوطيفرون :
نعم هذا ما أعني.
سقراط :
أليست الوسيلة الصحيحة لرجائهم هي أن نطلب منهم ما نريد.
أوطيفرون :
يقينا.
سقراط :
والوسيلة الصحيحة للعطاء هي أن نعطيهم في المقابل ما يريدونه منا، فلا خير في فن يعطي لأي أحد ما لا يريد.
أوطيفرون :
جد صحيح يا سقراط.
سقراط :
إذن فالتقوى يا أوطيفرون هي فن لدى الآلهة والناس، يتصلون به فريق بفريق.
أوطيفرون :
نستطيع أن نستخدم هذا التعبير - إن أردت.
سقراط :
ولكني لست حريصا على حب شيء غير الحق، ومع ذلك فأحب أن تدلني أي نفع تجنيه الآلهة من عطايانا؟ فليس من شك في نفع ما يعطوننا إياه؛ إذ ليس ثمة من خير لا يهبوننا إياه. أما كيف نستطيع نحن أن نعطي لهم خيرا في مقابل ما أعطونا فأبعد ما يكون عن هذه الدرجة من الوضوح. فإذا كانوا يعطوننا كل شيء ولا نعطيهم شيئا فذلك مبادلة لنا فيها الصفقة من دونهم.
أوطيفرون :
وهل يخيل إليك يا سقراط أن الآلهة تجني من عطايانا نفعا ما؟
سقراط :
فإن كانوا لا يجنون شيئا يا أوطيفرون؛ فأي معنى لما نقدم لهم من العطايا؟
أوطيفرون :
ليس ذلك إلا جزية الشرف، وهو كما أسلفت لك القول يسر الآلهة.
سقراط :
التقوى إذن تسر الآلهة، ولكنها ليست بنافعة لهم أو عزيزة لديهم؟
أوطيفرون :
إني أرى أنه ليس ثمة ما هو أعز لدى الآلهة منها.
سقراط :
وإذن فأنت تعيد القول مرة أخرى بأن التقوى عزيزة لدى الآلهة.
أوطيفرون :
يقينا.
سقراط :
أوتعجب وأنت تقول هذا إذ ترى عبارتك لا تثبت بل تعمد إلى الهروب؟ أتتهمني بأني «ديدالوس» الذي يؤدي بها إلى الهروب، ولا تدرك أن ثمة فنانا آخر أعظم جدا في فنه من ديدالوس؟ فهو يجعلها تدور في دائرة، وذلك الفنان هو أنت؛ لأن البحث كما ترى يدور إلى حيث بدأ. ألم نقل إن المقدس أو التقي ليس هو بنفسه ما تحبه الآلهة؟ أنسيت؟
أوطيفرون :
أذكر جيدا.
سقراط :
ثم ألا تقول الآن إن ما تحبه الآلهة مقدس؟ ثم أليس ذلك نفسه ما هو عزيز لديهم؟ هل ترى؟
أوطيفرون :
صحيح.
سقراط :
إذا فقد أخطأنا فيما قررناه سالفا، وإلا فإن كنا قد أصبنا فنحن مخطئون الآن.
أوطيفرون :
أحد الاثنين صحيح بغير شك.
سقراط :
فإذن فلنبدأ من جديد ونتساءل: ما التقوى؟ ذلك بحث لن أمل قط من متابعته ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وأتوسل إليك ألا تهزأ مني بل أن تشحذ ذهنك وتنبئني بالحقيقة لأنه إن كان بين الناس من يعلم فهو أنت؛ وعلى ذلك فلا بد أن أحتجزك مثل «بروتيوس
»
9
حتى تخبرني؛ فلست أشك أنك لو لم تكن تعلم علم اليقين طبيعة التقوى والفجور لما اتهمت قط أباك الشيخ نيابة عن العبد بتهمة القتل. إنك لو لم تكن تعلم ذلك لما استهدفت لمثل هذا الخطر؛ أعني ارتكاب الخطأ عن مرأى من الآلهة، ولاحترمت آراء الناس احتراما عظيما. لذلك فأنا على يقين أنك عليم بطبيعة التقوى والفجور. أبد علمك إذن يا صديقي أوطيفرون ولا تخفه.
أوطيفرون :
في وقت آخر يا سقراط؛ لأنني عجلان ولا بد أن أذهب الآن.
سقراط :
وا أسفاه يا رفيقي. وهل تخلفني في يأس؟ لقد كنت أؤمل أنك ستعلمني طبيعة التقوى والفجور. وعندئذ أستطيع أن أبرئ نفسي من مليتس ومن دعواه. كنت سأقول له: إنني استنرت بأوطيفرون ونبذت بدعي وتأملاتي الطائشة التي انغمست فيها بسبب الجهل. وإنني أوشك الآن أن أحيا حياة أفضل.
مقدمة «الدفاع»
لسنا نستطيع أن نقطع برأي في مقدار صحة هذا الدفاع صحة تاريخية، فلا ندري أأراد أفلاطون أن يسجل فيه أقوال سقراط في دفاعه عن نفسه أمام قضاته، أم أراد أن يكتب ما كان يجب أن يقوله سقراط في ذلك الدفاع. أعني بعبارة أخرى أنه أراد أن يدافع عن سقراط أمام الأجيال المقبلة؟ ولكن أرجح الظن أن يكون أفلاطون قد صور سقراط، وعني بإخراج الصورة كاملة من حيث الفن، دون أن يلتزم النقل الحرفي لما قاله سقراط. والحق أنه استطاع أن يصور سقراط في دقة بالغة وجمال رائع، حتى ليحس القارئ شخصية سقراط في كل جزء من أجزاء الحوار؛ فهذا التحدي للقضاة سقراطي بغير شك، وهذا الأسلوب المفكك هو أسلوب سقراط الذي كان يستخدمه في نقاشه مع الأثينيين في الطرقات والأسواق، وهذه السخرية المرة وذلك الجأش الرابط والخلق القوي المتين والاستخفاف بالموت، كلها نواح سقراطية وفق أفلاطون في إخراجها وتصويرها أكمل ما يكون توفيق الفنان البارع. ولقد تعمد أفلاطون أن يسرد كثيرا من الحقائق التاريخية في حياة سقراط. وأجراها في الحديث مجرى المصادفة كأنها جاءت عفوا وبغير تدبير سابق ليسجل على صفحة الدهر تاريخ أستاذه إلى جانب صورة شخصيته.
ومع ذلك فقد يكون سقراط تحدث فعلا بما رواه أفلاطون في هذا «الدفاع»، بل قد يكون استخدم كثيرا من العبارات التي أوردها أفلاطون بنصها، ولكنا رغم ذلك ينبغي أن نذكر أن أفلاطون قد أعمل فيها قلمه وفنه قبل كل شيء؛ لأنه لم يكن مؤرخا حرفيا للحقائق، فلم يرد قط أن يكون حوار «الدفاع» سجلا يردد فيه عبارة سقراط بنصها، ولكنها إنشاء محض وتأليف خالص، شأنها في ذلك شأن كل محاوراته. ولكنا نعود فنقول إن ذلك لا يمنع أن تكون بعض عبارات سقراط قد رسخت في ذهن أفلاطون - وقد كان أفلاطون يشهد المحاكمة - فرددها دون قصد منه، ومن يدري؟ فلعل دفاع سقراط عن نفسه كان أمتن وأروع من هذا الدفاع الأفلاطوني؛ وإذن فنحن نريد بذلك أن نخلص إلى نتيجة، وهي أن محاورة «الدفاع» تصوير صادق لشخصية سقراط، ولكننا لا نستطيع أن نقطع في الرأي بأن هذه العبارة أو تلك قد نطق بها سقراط كما هي، أو أن هذه الحادثة أو تلك قد وقعت فعلا بغير تحوير أو تحريف.
وينقسم «الدفاع» إلى ثلاثة أقسام:
الأول:
الاتهام وإنكار التهمة.
الثاني:
خطاب قصير يطلب فيه تخفيف العقوبة.
الثالث:
عتاب وتقريع.
ويبدأ الجزء الأول بطلب المعذرة من القضاة عن أسلوبه العامي الذي لا زخرف فيه ولا طلاء؛ إذ كان دائما عدوا للبلاغة ولا يعرف بلاغة غير الحق؛ وإذن فلن يستر شخصيته بشيء من الزيف والخداع بما ينمق من عبارة الخطاب ... ثم يبدأ الدفاع فيقسم متهميه طائفتين: أولاهما متهم لا اسم له - أعني الرأي العام - فقد سمع الناس جميعا خلال السنوات الأخيرة أنه يفسد الشباب بتعاليمه، كما شهدوا كيف مثله أرستوفان في رواية «السحاب» تمثيلا شائنا. وأما الطائفة الثانية من المتهمين فرجال نابهون أرادوا باتهامهم إياه أن يعبروا عما يختلج في صدور سائر الناس ... وأما التهم التي وجهها الفريقان فيمكن تلخيصها فيما يلي:
يقول الفريق الأول: «إن سقراط فاعل للشر، وهو رجل طلعة يبحث فيما تحت الأرض وما فوق السماء، ويلبس الباطل ثوب الحق، ثم هو يعلم هذا كله للناس.» وأما الفريق الثاني فيقول: «إن سقراط فاعل للشر ويفسد الشباب، وهو لا يعترف بالآلهة التي اعترفت بها الدولة، ويستبدل بها معبودات جديدة.» ويظهر أن هذه العبارة الأخيرة كانت نص الدعوى التي توجه بها المتهمون إلى القضاة.
ويبدأ سقراط في الإجابة عن هذه التهم بتوضيح بعض الجوانب الغامضة؛ فقد فرض الشعراء الهازلون وظن غمار الشعب أنه يذهب في الرأي مذهب الفلاسفة الطبيعيين والسفسطائيين، ولكن ذلك خطأ كله؛ فهو مع احترامه لكلتا الطائفتين احتراما أعلنه صراحة أمام المحكمة (مع أنه في سائر المحاورات يسخر منهما) إلا أنه ليس واحدا من هؤلاء ولا أولئك؛ فهو من ناحية لا يدري شيئا عن الفلسفة الطبيعية، لا احتقارا لأبحاثها، ولكن الواقع أنه يجهلها فبدهي أنه لم يقل كلمة فيها، ومن ناحية أخرى لم يكن من السفسطائيين لأنه لم يؤجر على تعليمه؛ وذلك لأنه في الحقيقة لم يعلم شيئا حتى يعلمه. وهنا يمتدح أحد السفسطائيين (أفينوس
Evenus ) لأنه يعلم الفضيلة بأجر معقول، فلا يتقاضى أكثر من خمسة دراهم. وفي ذلك ترى سخرية سقراط التي لم ينسها حتى وهو في موقف المحاكمة وأمام جمع غفير من السوقة.
ويستطرد سقراط في شرح السبب الذي دعا الناس أن يقذفوه بهذه التهمة المرذولة، فيقول إن علة ذلك هي رسالته التي أخذ على نفسه أن يؤديها على أكمل وجوه الأداء؛ فلقد ذهب «شريفون» إلى دلفي وسأل الراعية إن كان بين الناس من هو أحكم من سقراط فكان جوابها أن ليس فيهم من ترجح حكمته على حكمة هذا الرجل، فليت شعري ماذا تريد الراعية بقولها؟ كيف تعلن الراعية أن الرجل الذي لا يدري شيئا والذي يدري تمام الدراية أنه لا يدري شيئا هو أحكم الناس؟ فكر سقراط فيما يمكن أن يعنيه جواب الراعية فصمم أن يقيم البرهان على خطئه بأن يلتمس في الناس من هو أحكم منه فيبطل بذلك قول الراعية بطلانا حاسما، فقصد أول ما قصد إلى الساسة ثم إلى الشعراء ثم إلى أرباب الصناعة، ولكن لشد ما أدهشه أن يجد هؤلاء جميعا لا يعلمون شيئا، أو لا يكادون يعلمون شيئا أكثر مما يعلم هو، فإن امتازوا بعلمهم أحيانا أذهب الغرور حسنة امتيازهم. إنه لا يعلم شيئا ولكنه يعلم عن نفسه ذلك الجهل، أما هم فإن علموا فلا يعلمون إلا أقل العلم وأضأله، ومع ذلك يتوهمون أنهم أحاطوا بعلمهم كل شيء. لهذا كان حقيقا بسقراط أن ينفق حياته كلها يؤدي رسالته، وهي أن يكشف عن حقيقة ما يزعم الناس لأنفسهم من حكمة. وهذه المحاولة قد استنفدت كل ما وسعه من جهد حتى اضطر اضطرارا ألا ينغمس في أمور الدولة العامة بل أن يهمل شئون حياته الخاصة نفسها. ولقد حلا لأثرياء الشبان أن يقلدوه؛ فأخذوا يزجون فراغهم الطويل في امتحان أدعياء الحكمة واختبارهم؛ مما كان يدعو إلى العجب حقا، فنشأت من أجل ذلك عداوة مرة في نفوس العلماء لسقراط؛ إذ صور لهم ظنهم أنه يحرض هؤلاء الشبان ويدفعهم إلى ما يصنعون دفعا؛ فأرادوا أن يثأروا لأنفسهم فأطلقوا عليه هذا الاسم الخبيث؛ أعني مفسد الشباب، ثم زادوا في النكاية فأخذوا يوهمون الناس أنه القائل بالآراء الطبيعية القديمة، وأنه مادي ملحد وأنه سفسطائي المذهب، وذلك لعمري هو الاتهام بعينه الذي ما يفتأ الناس في كل عهد يرمون به الفلاسفة لكي يسيئوا إليهم عند عامة الناس.
أما التهمة الثانية، فيبدأ ردها بأن يلقي سؤالا عن «مليتس» «إذا كنت أنا المفسد فمن ذا يصلح أبناء الوطن؟» فيرد «مليتس» بأن كل الناس مصلحون، ولكن أي قول أكثر تناقضا من هذه العبارة؛ فهل يعقل عاقل أن يسيء سقراط إلى أبناء الوطن مع أنه يعيش بين ظهرانيهم؟ اللهم إنه إذا أساء فإساءة غير مقصودة ولا متعمدة، وإن كانت كذلك فما كان أحرى «مليتس» أن يرشده إلى طريق الهدى بدل أن يسارع فيقدمه إلى المحاكمة.
ولكن متهميه لم يقتصروا على اتهامه بإفساد الشباب، بل زعموا أنه يحث الناس على أن يكفروا بآلهة المدينة وأن يعبدوا آلهة جديدة ابتدعها هو ابتداعا، بل إنهم ليذهبون إلى أنه أنكر الآلهة إنكارا تاما، وحتى الشمس والقمر ظن فيهما أنهما من صخور وتراب، فيعجب لذلك سقراط ويبين لقضاته أن ذلك خلط واضح بين آرائه وبين ما كان يقوله «أناكسجوراس» من قبله، فلا يمكن أن يكون الشعب الأثيني من الجهالة بحيث تجوز عليه هذه المغالطة فينسب إلى سقراط ما قاله سواه.
ثم يختم سقراط استجوابه لمليتس، ويوجه عنايته إلى التهمة الأساسية. فقد يسأل سائل: لماذا يصر سقراط على أداء رسالته إذا كانت تلك الرسالة تؤدي به إلى الموت؟ فيجيب سقراط بأن ذلك واجب حتم عليه؛ فما ينبغي أن يتخلى عن مكانه الذي اختاره له الله، كما لم يجز لنفسه أثناء الحروب أن يزول عن موقفه الذي اختاره له القواد، هذا فضلا عن أنه لم يبلغ من الحكمة مبلغا يمكنه من العلم إن كان الموت خيرا أم شرا، في حين أن تركه لواجبه شر محقق، فكيف يقدم على شر لا شك فيه خلاصا من الموت الذي لا يدري إن كان خيرا أم شرا. كلا! إن ذلك لا يجوز، فلن ينثني عن أداء واجبه، وسيؤثر لنفسه طاعة الله على طاعة الإنسان. وسيظل يعلم الناس جميعا في مختلف أسنانهم وجوب الفضيلة وضرورة الإصلاح، فإن أعرضوا عنه وأبوا أن يعيروه آذانا مصغية فسيعمد إلى تأنيبهم ولومهم. ذلك هو إفساده للشباب الذي لن يتردد في فعله صدوعا بأمر الله، وإن تهدده في هذا السبيل ألف موت لا موت واحد.
إن سقراط حين يرغب إلى المحكمة أن تنجيه من عقوبة الموت لا يفعل ذلك من أجل نفسه ولكن من أجل قومه؛ لأنه صديقهم الذي قيضته السماء لإصلاحهم. ومن يدري؟ لعلهم إن أماتوه لا يوفقون إلى خلف له يقوم لهم بما كان يقوم به. وهنا قد يعترض معترض قائلا إن كان سقراط بحق يسعى إلى صالح قومه فلماذا لم يحاول قط أن يساهم في الشئون العامة بنصيب؟ فيجيب سقراط بأنه إن فعل ذلك وحارب من أجل الحق لما قدر له أن يمتد أجله فيفعل ما فعل من خير. هذا إلى أنه قد خاطر فعلا بحياته مرتين بأن اشترك في شئون الدولة من أجل العدالة: الأولى في محاكمة القواد، والثانية في مقاومة استبداد حكومة الطغاة الثلاثين.
ولكنه إن لم يقم بقسط وافر من شئون الدولة فقد أنفق أيامه في تعليم مواطنيه تعليما لم يؤجر عليه ... تلك كانت رسالته، فسواء انقلب تلاميذه أخيارا أم أشرارا فليس من العدل في شيء أن يتهم بجريرتهم؛ لأنه لم يعدهم قط بأن يعلمهم شيئا؛ فكان لهم أن يقبلوا عليه إن شاءوا وأن ينفضوا من حوله إن أرادوا، ولكنهم شاءوا لأنفسهم أن يلتفوا حوله لأنهم أحسوا لذة عظيمة في الاستماع إلى أدعياء الحكمة يمتحنون فيفتضح أمرهم. فلو كان سقراط قد أفسد هؤلاء الشبان لقضى الواجب على ذويهم من الشيوخ - إن لم يكن واجبهم هم - أن يتقدموا إلى المحكمة بالشهادة ضده. وهنا يقول سقراط في شيء من التحدي إن الفرصة لا تزال سانحة لكائن من كان منهم أن يتقدم إلى القضاة بشهادته، ولكن العجب أن آباء أولئك الشبان وأقرباءهم جاءوا إلى المحكمة ليبرئوا ساحة سقراط من تهمة الإفساد. وإذن فهؤلاء جميعا ألسنة ناطقة بأن سقراط إنما يقول الحق؛ إذن مليتس مفتر كذاب.
ذلك كل ما أراد أن يقوله سقراط تقريبا، وهو بعد هذا الخطاب يأبى أن يسترحم القضاة ليخلوا سبيله، كما يرفض قطعا أن يأتي بأطفاله باكين معولين ليؤثروا في قلوب القضاة ببكائهم، فتلك كانت عادة الأثينيين إذا حكم على أحدهم، بل إن سقراط ليزعم أن القضاة أنفسهم لم يكونوا يتعففون عن مثل هذا في ظرف كظرفه ذاك، ولكنه يقرر أنه على ثقة بأن القضاة لن يحنقوا أن لم يلجأ سقراط إلى ما تواضع الأثينيون أن يلجئوا إليه فرارا من العقاب؛ لأنه على يقين أن ذلك السلوك مجلبة للعار لأثينا بأسرها. ويضيف سقراط إلى هذا أن القضاة قد أقسموا ألا يتهاونوا في تطبيق العدالة، فكيف إذن يبيح لنفسه أن يسترحمهم لكي يحملهم على الحنث في أيمانهم، إنه لو فعل لعد ذلك فجورا منه في الوقت الذي يقف متهما بالفجور.
معبد دلفي حيث أجابت الراعية بأن سقراط أحكم الأثينيين.
وصدر الحكم بإدانته كما توقع، فترى سقراط بعد هذه الإدانة لا يرق ولا يضعف ولا يلين، بل إنه على النقيض ليسمو وتأخذه نزعة قوية من الكبرياء ... إن «أنيتس» قد اقترح أن تنزل بالجاني عقوبة الإعدام؛ فماذا يقترح سقراط من جانبه؟ (إذ كانت هذه عادة الأثينيين في محاكمتهم). يجيب سقراط بأنه قد كان محسنا للشعب الأثيني؛ فأنفق حياته كلها في تقديم الخير له؛ ولذا فهو يرى نفسه جديرا على الأقل بمثل ما يجزى به الظافرون في الألعاب الأوليمبية؛ أعني أن يعيش على حساب الدولة؛ فليس من الحكمة أن يقترح لنفسه عقوبة أخرى؛ لأنه لا يدري إن كان الموت الذي اقترحه «أنيتس» خيرا أم شرا، وماذا عساه يقترح؟ أيقترح السجن أو النفي، وكلاهما شر محقق؟ نعم قد لا تكون خسارة المال شرا، ولو كان يملك من المال شيئا لاقترح أن يقضى عليه بغرامة مالية، وهنا يتعهد أصدقاؤه أن يدفعوا له الغرم إن قضي به ...
يصدر الحكم بالإعدام.
يقول سقراط لقضاته بعد أن أجروا فيه حكم الإعدام، إنه قد اكتهل، وإن الأثينيين لن يفيدوا شيئا حين يسلبوه السنوات القلائل الباقية له من حياته، ولكنهم سيجلبون على أنفسهم العار بقتله. وقد كان يستطيع أن يلجأ إلى الفرار من أثينا، ولكن فيم الفرار وهو لا يرجو إطالة الحياة؟ بل إنه ليؤثر أن يموت كما يشتهي، فذلك خير من أن يعيش كما يريد له الناس أن يعيش. نعم إنه قضي عليه بالموت، ولكن هذا القضاء بغير شك دنس قضاته بخطيئة الزيغ والفجور، وإنهم في ذلك لأفدح منه مصابا؛ لأن الفجور أسرع لحاقا بصاحبه من الموت، فإن كان هو سيلقى عقوبته بعد حين؛ فقد لقي متهموه عقابهم بالفعل.
أما وهو الآن على وشك الموت، فإنه يتنبأ لهم بنبوءة، إنهم يحكمون عليه بالموت ليتخلصوا ممن ينغص عليهم العيش، ولكن موته سيكون نواة تنتج عددا وفيرا من الأتباع الذين قد يكونون في محاسبتهم أشد منه عنفا وقسوة؛ لأنهم أصغر منه سنا، وأكثر جرأة.
وما دامت أمامه فسحة من الوقت، فإنه يود أن يقول كلمة قصيرة لهؤلاء الذين حاولوا أن يبرئوه؛ فهو ينبئهم أن شارته الإلهية لم تعترضه قط في دفاعه. ولعل معنى ذلك أن الموت الذي يقبل عليه خير لا شر فيه؛ وذلك لأن الموت إما أن يكون نوما طويلا، وبذلك يكون أحلى ضروب النعاس، وإما أن يكون سياحة إلى العالم الآخر حيث تحتشد أرواح الموتى في صعيد واحد؛ وعندئذ تسنح له الفرصة الجميلة بأن يلتقي بفحول الأبطال الذين تولوا قبله، ومما يحبب في تلك الحياة أنها خالدة، فلن يكون ثمة موت يجزع منه الناس فيكتمون آراءهم في نفوسهم.
إنه يستحيل أن يصيب الرجل الطيب شر لا في حياته ولا بعد مماته، ولقد رضيت الآلهة لسقراط أن يرحل؛ فهو إذن يعفو عن قضاته لأنهم لم يؤذوه بقضائهم فيه، بل هم على عكس ذلك ساقوه إلى الخير، وإن يكن خيرا لم يقصدوا إليه قط.
ويعقب سقراط على هذا القول بطلب أخير: فهو يرجو الناس أن يرهقوا أبناءه من بعده، كما أرهقهم هو (أي أرهق الناس)، وذلك إن بدا منهم أنهم يؤثرون المال على الفضيلة، أو ظنوا في أنفسهم العلم وهم جاهلون.
دفاع سقراط
لست أدري أيها الأثينيون كيف أثر متهمي في نفوسكم، أما أنا فقد أحسست لكلماتهم الخلابة أثرا قويا أنسيت معه نفسي، وإنهم لم يقولوا من الحق شيئا، ولشد ما دهشت إذ ساقوا في غمر باطلهم نذيرا لكم أن تكونوا على حذر، فلا تخدعكم قوة فصاحتي، إني إذا نبست ببنت شفة نهضت لكم دليلا على عي لساني وافتضح أمرهم، وإنهم بذلك عالمون، ولكنهم يمارون ولا يخجلون، أم تراهم يطلقون الفصاحة على قوة الحق؟ إذن لأشهدت أني مصقع بليغ ... ألا ما أبعد الفرق بيني وبينهم! فهم كما أنبأتكم لم ينطقوا كلمة صدق، أما أنا فخذوا الحق مني صراحا، ولن أصوغها عبارة خطابية منمقة كما فعلوا، لا والله، بل سأسوق الحديث والأدلة إليكم عفو ساعتها؛ لأني على يقين من عدالة قضيتي، فلن أقف يوما بينكم أيها الأثينيون موقف الخطيب الصبياني ما دمت حيا، فلا يرجون الآن أحد مني خطابا، ولعلي أظفر منكم بهذا الفضل إذا دافعت عن نفسي بأسلوبي المعهود؛ فجاءت في دفاعي كلمات قلتها من قبل، وسمعها بعضكم في الطريق أو عند موائد الصيارفة أو في أي مكان آخر، فلا تدهشوا ولا تقاطعوا الحديث؛ لأني أقف - وقد نيفت على السبعين عاما - للمرة الأولى في ساحة القانون، فلم آلف لغة هذا المكان، فانظروا إلي نظركم إلى الغريب تلتمس له المعذرة لو جرى لسانه بلغة قومه ولهجة وطنه. وما أحسبني بذلك أطلب شططا، فدعكم من عبارتي التي قد تكون حسنة وقد لا تكون، وانظروا في صدق العبارة وحده، وإذا حكم منكم قاض فليحكم بالعدل، وإذا نطق متكلم فلينطق بالحق.
ولأبدأ أولا برد التهم القديمة والطائفة الأولى من المدعين،
1
ثم أستطرد إلى دعوى الفريق الثاني؛ فلقد اتهمني من قبل نفر كثير، ولبثت دعواهم الباطلة تتردد أعواما طوالا، وإني لأخشاهم أكثر من هذا الرجل (أنيتس) وعصبته، وإن كيدهم لعظيم، ولكن أولئك الذين نهضوا إذ كنتم أطفالا فملكوا ألبابكم بأباطيلهم لأشد من هؤلاء خطرا؛ فهم يحدثونكم عمن يسمى سقراط أنه حكيم يسبح بفكره في السماء، ثم يهوي به إلى الغبراء، وأنه يخلع على الباطل رداء الحق. أولئك هم من أخشى من الأعداء؛ فقد أذاعوا في الناس هذا الحديث، وما أسرع ما يظن الدهماء أن هذا الضرب من المفكرين كافر بالآلهة. كثيرون هم أولئك المدعون، ودعواهم قديمة العهد، نشروها حين كنتم في سن الطفولة أو الشباب ألين انطباعا، ولم يكادوا ينطقون بالدعوى حتى انطلقت تحمل عني في ذيلها السوء دون أن تجد لها مفندا. وأهول من ذلك كله أن لبثت أسماؤهم مجهولة لا أعلمها لولا ذلك الشاعر الهازل
2
الذي ساقته الظروف. وإنه لمن العسير أن أتحدث إلى أشخاص هؤلاء الهجائين الذين نفذوا إلى نفوسكم بما يحملون من ضغينة وحقد، صدر فيها بعضهم عن عقيدة، ثم ألقوا بذورها في قلوب الآخرين؛ فلا أستطيع أن أدعوهم إلى هذا المكان لأستجيبهم؛ فأنا إن دافعت الآن فإنما أدافع أشباحا، وأستجيب حيث لا مجيب. وإني لأرجو أن تقبلوا ما فرضته لكم من قبل بأن الأعداء صنفان؛ فطائفة حديثة العهد وأخرى قديمته، وأحسبكم ترون صواب رأيي في أن أبدأ بالرد على هذه الطائفة الأخيرة، فدعواها أقدم عهدا وأكثر ترددا.
وبعد، فهاكم دفاعي، ولعلي أستطيع في هذه البرهة القصيرة التي تفضلتم بها علي أن أمحو شائعة السوء التي قرت عني في أذهانكم طوال هذا الزمن، وعسى أن أصيب توفيقا إن كان في التوفيق خير لي ولكم؛ إذ كان في الأرجح ينفعني في قضيتي؛ فأنا عليم أني مقدم على أمر عسير، وإني لأقدر مهمتي حق قدرها، فليقض الله بما يريد، وها أنا ذا أبدأ دفاعي طوعا للقانون.
وأستهل الحديث بهذا السؤال: أي ذنب جنيت حتى حامت حولي الشبهات، فاجترأ مليتس أن يرفع أمري للقضاء؟ ماذا يقول عني دعاة السوء؟ إنهم بمثابة المدعين، وهاكم خلاصة ما يدعون: «قد أساء سقراط صنعا، وهو طلعة يصعد البصر إلى السماء وما تحتوي، ثم ينفذ به تحت أطباق الثرى، وهو يلبس الباطل ثوب الحق، ثم إنه يبث تعاليمه هذه في الناس». تلك هي جريرتي، وقد شهدتم بأنفسكم في ملهاة أرستوفان كيف اصطنع شخصا أسماه سقراط، جعله يجول قائلا إنه يستطيع أن يسير في الهواء، وأخذ يلغو في موضوعات لا أزعم أني أعرف عنها كثيرا ولا قليلا - لست أقصد بهذا أن أسيء إلى أحد من طلاب الفلسفة الطبيعية - فلشد ما يسوءني أن يتهمني مليتس بمثل هذا الاتهام الخطير. أيها الأثينيون! الحق الصراح أني لا أتصل بتلك الدارسة الطبيعية بسبب من الأسباب، ويشهد بصدق قولي كثير من الحضور، فإليهم أحتكم. انطقوا إذن يا من سمعتم حديثي وأنبئوا عني جيرانكم، هل تحدثت في مثل هذه الأبحاث كثيرا أو قليلا؟ أنصتوا إلى جوابهم لتقطعوا في سائر الاتهام بصدقي مما يقررون في هذا الجزء.
أما القول بأني معلم أتقاضى عن التعليم أجرا فباطل ليس فيه من الحق أكثر مما في سابقه، على أنني أمجد المعلم المأجور إن كان معلما قديرا على تعليم البشر، فهؤلاء جورجياس الليونتي
Gorgias of Leontium
وبروديكوس الكيوسي
وهبياس الأليزي
Hippias of Elis
يطوفون بالمدن يحملون الشباب على ترك بني وطنهم الذين يعلمونهم ابتغاء وجه الله ليسعوا إليهم، فلا يأجرونهم وكفى، بل يحمدون لهم ذلك الفضل العظيم. ولقد أتاني نبأ فيلسوف من بارا يقيم في أثينا، حدثني عن رجل صادفته. قد بذل للسفسطائيين مالا طائلا، هو كالياس بن هبونيكوس. ولما أنبأني أن له ابنين سألته: لو كان ابناك يا كلياس جوادين أو بقرتين لما شق عليك أن تجد لهما مدربا؛ فما أهون أن تستخدم مدرب الخيول أو فلاحا يقومهما ويبلغ بهما حد الكمال في حدود ما يعدانه فضلا ونبوغا، ولكنهما إنسانان من البشر، فمن ذا فكرت أن يكون لهما مؤدبا؟ أثمة من يدرك فضيلة الإنسان وسياسة البشر. حدثني، فلا بد أن تكون قد تدبرت الأمر ما دمت والدا. فأجاب: «نعم وجدت ». فسألته: من هو ذا؟ وأين موطنه؟ وكم يؤجر؟ فأجاب: «هو أفينس الباري، وأجره خمسة دراهم.» فقلت في نفسي: «أنعم بك يا أفينس إن كنت تملك هذه الحكمة حقا، وتعلمها بمثل هذا الأجر الضئيل، فلو كانت لدي لزهيت وأخذني الغرور، ولكني بحق لا أعلم من تلك الحكمة شيئا.»
أيها الأثينيون! رب سائل منكم يقول: «وكيف شاعت عنك تلك التهمة يا سقراط إن لم تكن قد أتيت أمرا إدا. فلو كنت كسائر الناس لما ذاع لك صوت ولا دار عنك حديث. أنبئنا بعلة هذا إذ يؤلمنا أن نسارع بالحكم في قضيتك»، وإني لأحسب هذا تحديا رقيقا، وسأحاول أن أوضح لكم لم دعيت بالحكيم، ومن أين جاءتني الأحدوثة السيئة؛ فأرجو أن تنصتوا لقولي، ولو أن بعضكم سيظن بي الهزل، ولكني أعترف أنني لن أقول إلا الحق خالصا. أيها الأثينيون! إن لدي ضربا معينا من ضروب الحكمة كان مصدر ما شاع من أمري، فإن سألتموني عن هذه الحكمة ما هي؟ أجبت أنها في مقدور البشر، وإلى هذا الحد؛ فأنا حكيم. أما أولئك الذين كنت أتحدث عنهم فحكمتهم معجزة فوق مستوى البشر، لا أستطيع أن أصفها لأنني لا أملكها، ومن ظن أنها لدي قد ظن باطلا، وكان أشد ما يكون بعدا عن حقيقتي. أيها الأثينيون! أرجو ألا تقاطعوني ولو بالغت في القول فلست قائل هذا الذي أرويه لكم، ولكني سأنيب عني شاهدا جديرا بالثقة، ليحدثكم عن حكمتي؛ فسينبئكم هل أملك من الحكمة شيئا؟ وإن كنت أملك فما نوعها؛ وأعني بذلك الشاهد إله دلفي. إنكم ولا ريب تعرفون «شريفون» فهو صديقي منذ عهد الصبا، هو صديقكم مذ ظاهركم على نفي من نفيتم ثم عاد أدراجه معكم. كان شريفون كما تعلمون صادق الشعور في كل ما يعمل؛ فقد ذهب إلى معبد دلفي وسأل الراعية في جرأة لتنبئه - وأعود فأرجو ألا تقاطعوني - سأل الراعية لتنبئه إن كان هناك من هو أحكم مني؛ فأجابت النبية أن ليس بين الرجال من يفضلني بحكمته. لقد مات شريفون، ولكن أخاه، وهو في المحكمة بيننا، يؤيد صدق ما أروي.
وفيم أسوق إليكم هذا الخبر؟ ذلك لأنني أريد أن أتقصى لكم علة ما ذاع عني من سوء الذكر. لما أتاني جواب الراعية قلت في نفسي: ماذا يعني الإله بهذا؟ إنه لغز لم أفهم له معنى، أنا عليم أن ليس لدي من الحكمة كثير ولا قليل؛ فماذا عساه يقصد بقوله إنني أحكم الناس؟ ومع ذلك فهو إله يستحيل عليه الكذب؛ لأن الكذب لا يستقيم مع طبيعته. ففكرت وأمعنت في التفكير، حتى انتهيت آخر الأمر إلى طريقة أحقق بها القول، اعتزمت أن أبحث عمن يكون أحكم مني، فإن صادفته، أخذت سمتي نحو الإله لأرد عليه ما زعم؛ فأقول له: «هاك رجلا أكبر مني حكمة، وقد زعمت أني أحكم الناس.» لهذا قصدت إلى رجل من الساسة - ولا حاجة بي إلى ذكر اسمه - فقد عرف بحكمته، وامتحنته فانتهيت إلى النتيجة الآتية: لم أكد أبدأ معه الحديث حتى قرت في نفسي عقيدة بأنه لم يكن حكيما حقا، على الرغم من شهادة الكثيرين له بالحكمة، وعلى الرغم مما ظنه هو نفسه في حكمته، وقد جاوز به الغرور شهادة الشاهدين فحاولت أن أقنعه بأنه وإن يكن قد ظن في نفسه الحكمة إلا أنه لم يكن بالحكيم الحق؛ فأدى به ذلك إلى الغضب مني، وشاطره في غضبه كثيرون ممن شهدوا الحوار وسمعوا الحديث، فغادرته قائلا في نفسي: إني وإن كنت أعلم أن كلينا لا يدري شيئا عن الخير والجمال، فإنني أفضل منه حالا؛ لأنه يدعي العلم وهو لا يعلم شيئا، وأما أنا فلا أدري ولا أزعم أنني أدري. ولعلي بهذا أفضله قليلا. ثم قصدت إلى آخر، وكان أعرض من سابقه دعوى في الفلسفة، فانتهيت معه إلى النتيجة نفسها، وعاداني هو الآخر، وأيده في موقفه عدد كبير.
أخذت ألتمس الناس رجلا فرجلا وأنا عالم بما أثيره في الناس من غضب كنت آسف له وأخشاه، ولكنها ضرورة لم يكن من المضي فيها محيص. إنها كملة الله، ويجب أن أحلها من اعتباري المكان الأسمى، فقلت لنفسي: لا بد أن أحاور أدعياء العلم جميعا لعلي أفهم ما قصدت إليه الراعية. وأقسم لكم أيها الأثينيون أغلظ القسم
3 - فواجب أن أقول الحق - إنني قد انتهيت من البحث إلى ما رويت؛ إذ وجدت أن أشهر الناس أكثرهم غباء، وقد صادفت فيمن هم دون هؤلاء مقاما رجالا بلغوا من الحكمة ما لم يبلغه هؤلاء. وسأقص عليكم حديث تجوالي وما عانيت خلاله لتحقيق ما قالته الراعية. تركت رجال السياسة وقصدت إلى الشعراء، سواء في ذلك شعراء المأساة أو الأغاني الحماسية أو ما شئتم من صنوف الشعر، وقلت في نفسي: إن الأمر لا ريب مكشوف لدى الشعراء فسأجدني بإزائهم أشد جهلا. ثم جمعت طائفة مختارة من أروع ما سطرت أقلامهم، وحملتها إليهم أستفسرهم إياها لعلي أفيد عندهم شيئا، أفأنتم مصدقون ما أقول؟ وا خجلتاه! أكاد أستحي من القول لولا أني مضطر إليه؛ فليس بينكم من لا يستطيع أن يقول في شعرهم أكثر مما قالوا هم وهم ناظموه. عندئذ أدركت على الفور أن الشعراء لا يصدرون في الشعر عن حكمة، ولكنه ضرب من النبوغ والإلهام. إنهم كالقديسين أو المتنبئين الذين ينطقون بالآيات الرائعات وهم لا يفقهون معناها. هكذا رأيت الشعراء، ورأيت فوق ذلك أنهم يعتقدون في أنفسهم الحكمة فيما لا يملكون فيه من الحكمة شيئا استنادا إلى شاعريتهم القوية. فخلفت الشعراء وقد علمت أني أرفع منهم مقاما، فقد فضلني عليهم ما فضلني على رجال السياسة.
وأخيرا قصدت إلى الصناع، وكنت أظنني جاهلا بما يتصل بالصناعة من علم، وكنت أحسب أن لدى هؤلاء الصناع مجموعة طريفة من المعارف، وقد ألفيتني مصيبا فيما ظننت؛ إذ كانوا يعلمون كثيرا مما كنت أجهله، فكانوا في ذلك أحكم مني بلا ريب. ولكني رأيت حتى مهرة الصناع قد تردوا فيما تردى فيه الشعراء من خطأ، فتوهموا أنهم ما داموا أكفاء في صناعتهم فلا بد أن يكونوا ملمين بكل ضروب المعرفة السامية، فذهبت سيئة الغرور بحسنة الحكمة. لهذا ساءت نفسي بالنيابة عن الراعية: أكنت أحب أن أظل كما أنا، لا أملك ما يملكون من علم، ولا أكبو فيما كبوا فيه من خطأ، أم كنت أحب أن أكون شبيههم في العلم والجهل على السواء؟ فأجبت نفسي، وأجبت الراعية: إنني خير منهم حالا.
وهذا الذي انتهيت إليه قد حرك العداوة في قلوب نفر من أشد الناس سوءا وخطرا، كما نسج حولي طائفة من الدعاوى الباطلة. ولقد جرى الناس على تسميتي بالحكيم؛ إذ خيل إليهم أنني ما فتئت أحمل الحكمة التي كانت تعوزهم، ولكن الله - أيها الأثينيون - هو الحكيم الأوحد، ولعل الله أراد بجوابه أن الحكمة في البشر ضئيلة أو معدومة. إنه لم يتحدث قصدا عن سقراط، إنما ضرب باسمي مثلا، كأنما أراد أن يقول إن من يدرك كما أدرك سقراط أن حكمته في حقيقة الأمر لا تساوي شيئا يكون أحكم الناس. فأنا كما ترونني أسير وفقا لما يرسمه لي الله، أفتش عن الحكمة في كل من يدعيها، لا أبالي أكان من أبناء الوطن أو غريبا، فإن لم أجده كما ادعى، صارحته بجهله كما أمرتني الراعية. ولقد انصرفت إلى هذا الواجب انصرافا لم يبق لي معه من الوقت ما أبذله فيما يشغل بال العامة، أو أنفقه في شئوني الخاصة. وهكذا كرست حياتي لله فعشت فقيرا معدما.
أما أن الشبان الأثرياء الذين لا تضنيهم شواغل الحياة كثيرا قد التفوا حولي؛ فهم قد جاءوا يسعون من تلقاء أنفسهم ليشهدوا امتحان الأدعياء. وكثيرا ما انطلقوا بدورهم يلتمسون أدعياء الحكمة ليجروا عليه التجربة نفسها. وما أكثر ما صادفوا رجالا ظنوا في أنفسهم العلم، فإذا بهم لا يعلمون إلا قليلا، أو هم لا يعلمون شيئا. فلا يلبث هؤلاء الذين امتحنهم الشبان أن يصبوا علي جام غضبهم، وأنفسهم أحق بهذا الغضب، ويستنزلون اللعنة على سقراط لأنه أفسد الشبان. فإن سألهم سائل فيم هذه اللعنة، وأي جريرة أتى، وأي رذيلة علم، لما حاروا جوابا لأنهم لا يعرفون لغضبهم سببا. ولكي يستروا علائم الحيرة تراهم يعيدون التهم المعروفة التي قذف بها الفلاسفة جميعا، من أنهم يعلمون ما يتصل بالسحاب، وما هو دفين تحت الثرى، وأنهم كافرون بالآلهة، وأنهم يلبسون الباطل صورة الحق - والحقيقة أنهم جاهلون ويأبون الاعتراف بجهلهم المكشوف. ولما كانت تلك الفئة كثيرة طامعة نشيطة، وقد تصدوا جميعا للنزال بما لهم من ألسنة حداد تلعب بالنفوس؛ فقد ملئوا أسماعكم بهذا الاتهام الباطل. وكان أن ناصبني العداء هؤلاء المدعون الثلاثة: مليتس، وأنيتس، وليقون. فقد ناهضني مليتس ليمثل جماعة الشعراء، وأنيتس ليمثل طبقة الصناع والسياسيين، وليقون ليمثل الخطباء. وإنني كما قدمت لا آمل في أن أمحو في لحظة كل ما علق بي من تهم باطلة. أيها الأثينيون! لقد رويت لكم الحق كل الحق، لم أخف شيئا، ولم أشوه شيئا، ومع هذا فأنا أعلم أن صراحتي في الحديث ستصدكم عني، وما هذا الصد إلا برهان على أني أقول الحق. تلك هي دعواهم وذاك منشؤها، ولن تسفر هذه المحاكمة ولا أية محاكمة مقبلة عن غير هذا.
حسبي هذا دفاعا للفريق الأول من المدعين. وها أنا ذا أتوجه الآن بالحديث نحو الطائفة الأخرى وعلى رأسهم مليتس، ذلك الرجل الطيب، الوطني، كما يقول عن نفسه. وسأحاول أن أدفع عن نفسي ما اتهمني به هذا الفريق الجديد. وجدير بنا أن نبدأ بتلخيص دعواهم؛ فماذا يزعمون؟ إنهم يقولون: إن سقراط فاعل للرذيلة، مفسد للشباب، كافر بآلهة الدولة، وله معبودات اصطنعها لنفسه خاصة. تلك هي دعواهم، وسبيلنا الآن أن نناقشها تفصيلا.
أما الزعم بأني فاعل للرذيلة مفسد للشباب؛ فأنا أقرر أيها الأثينيون عن هذا الرجل مليتس، أنه هو صاحب رذيلة، ورذيلته أنه يتفكه حيث يحب الجد، وهو لا يرى غضاضة في أن يسوق الناس إلى ساحة القضاء متسترا وراء الحماسة المصطنعة والاهتمام المتكلف بأمور لا تعنيه في شيء، وسأقيم لكم الدليل على صدق هذا.
اقترب مني يا مليتس لألقى عليك سؤالا. هل تفكر طويلا في إصلاح الشباب؟ - نعم، إني أفعل. - إذن فقل للقضاة من هو مصلح الشبان؛ فأنت لا بد عالم به ما دمت قد عانيت آلاما في اكتشاف مفسدهم، فها أنت ذا قد سقتني إلى القضاء متهما. تكلم إذن وقل للقضاة من هو مصلح الشبان. ما لي أراك يا مليتس لا تحير جوابا؟! أفليس هذا دليلا قاطعا، مزريا بك، يؤيد ما ذكرته من أن أمر الشبان لا يعنيك في شيء. تكلم يا صديقي وحدثنا عن مقوم الشباب! - هي القوانين. - ولكن ليست القوانين هي ما عنيت يا سيدي، إنما أردت أن أعرف ذلك الشخص الذي يحفظ القوانين قبل كل شيء. - هم من ترى في المحكمة من قضاة يا سقراط. - ماذا تريد أن تقول يا مليتس. أتعني أن القضاة قادرون على تعليم الشبان وإصلاحهم؟ - لست أشك في أنهم كذلك. - أكلهم كذلك، أم بعضهم دون بعض؟ - القضاة جميعا. - قسما بالآلهة
4
إن هذا لخبر سار. إذن فهناك طائفة من المصلحين، وماذا تقول في النظارة؟ أهم يصلحون الشبان؟ - نعم هم يفعلون. - وأعضاء الشورى كذلك؟ - نعم، إنهم كذلك يصلحون. - ولكن قد يكون رجال الدين لهم مفسدين؟ أم هم كذلك يقومون الشباب؟ - إنهم كذلك من المصلحين. - إذن فكل الأثينيين يصلحون الشباب، ويرفعون من قدرهم، ما عداي؛ فأنا وحدي الذي أفسدت الشباب. أهذا ما أردت أن تقول؟ - وذلك ما أؤيده بكل قوتي. - يا لبؤسي إذن إن صح ما تقول! ولكني أريد أن أسألك سؤالا: أيصح هذا القول كذلك على الجياد؟ أيمكن أن يقدم لها الأذى فرد واحد، بينا يقدم لها الخير العالم أجمع؟ ألست ترى أن العكس هو الصحيح؟ فرجل واحد يستطيع أن يعمل لها الخير، أو قل هي فئة قليلة، وأعني أن مروض الجياد هو الذي يقدم لها الخير، أما بقية الناس الذين يستخدمونها في عملهم فهم مسيئون. أليس هذا صحيحا يا مليتس بالنسبة إلى الجياد وكل أنواع الحيوان؟ نعم ولا ريب، سواء رضيت أنت وأنيتس أم لم ترضيا، فذلك لا يعنينا. اللهم أنعم بحياة الشبان لو كان عليهم مفسد واحد فحسب، وكان بقية العالم لهم مصلحين. وأنت يا مليتس، لقد أقمت لنا الدليل ناصعا على أنك لم تفكر في الشبان، فإهمالك إياهم واضح حتى فيما ذكرت في صحيفة الدعوى.
والآن يا مليتس، لا بد أن أسألك سؤالا آخر: أيهما خير، أن يكون أبناء وطنك الذين تعيش بينهم فاسدين أم صالحين؟ أجب يا صاح، فذاك سؤال ميسور الجواب! ألا يقدم الصالحون الخير لجيرانهم بينا يسيء إليهم الفاسدون؟ - نعم ولا ريب. - وهل هناك إنسان يفضل أن يساء إليه على أن يحسن إليه ممن يعيش بينهم؟ أجب يا صديقي، فالقانون يتطلب منك الجواب. أيحب أحد أن يصيبه الضر؟ - كلا، ولا ريب. - وأنت حين تتهمني بإفساد الشبان والحط من شأنهم، أتزعم أني أتعمد ذلك الإفساد أم يجيء عني عفوا. - أنا أزعم أنه إفساد مقصود. - لكنك اعترفت الآن أن الرجل الصالح يقدم الخير لجيرانه، وأن الفاسد يقدم لهم الشر، أفتظن أن هذه الحقيقة قد أدركتها حكمتك البالغة وأنت لا تزال من الحياة في هذه السن الباكرة. وأنا، وقد بلغت من الكبر عتيا، ما زلت أخبط في ظلام الجهل فلا أعلم أني أفسدت أولئك الذين أعيش بينهم فيغلب أن يصيبني منهم ضرر؟ أفأكون عالما بهذا ومع ذلك أفسدهم، وأفسدهم متعمدا؟ هذا ما تقوله أنت، فلا أحسبك مقنعني به، ولا مقنعا به كائنا من كان. إحدى اثنتين: إما أنني لا أفسد الشبان، أو أفسدهم عن غير عمد. وسواء أصحت هذا أم تلك فأنت كاذب في كلتا الحالتين.
5
فإن كانت جريمتي بغير عمد فلا يحاسب عليها القانون، وكان خليقا بك أن تسدي لي النصح خالصا، محذرا ومؤنبا في رفق ولين، فإن انتصحت بك، أقلعت ولا ريب عما كنت آتيه بغير قصد. ولكنك أبيت لي نصحا وتعليما، وآثرت أن تجيء بي متهما في ساحة القضاء، وهي محل العقاب لا مكان التعليم.
لقد تبين لكم أيها الأثينيون أنه لا يعنيه أمر الشبان في كثير ولا قليل، ولكني ما زلت أود يا مليتس أن أعرف منك فيم كان إصراري على إفساد الشباب؟ لعلك تعني كما يبدو من اتهامك أني حملتهم على إنكار الآلهة التي اعترفت بها الدولة، ليقدسوا في مكانها معبودات جديدة أو قوى روحانية. أليست هذه هي الدروس التي زعمت أني أفسدت بها الشباب ؟ - نعم، هذا ما أقوله وأؤكده. - إذن فقل لي يا مليتس، وقل للمحكمة في عبارة واضحة، أي آلهة أردت في دعواك؛ لأنني حتى الساعة لا أفهم ما تأخذه علي. أكنت أعلم الناس الإيمان بآلهة معينة؟ وإن كان هذا فهم مؤمنون بآلهة ما، ولم أكن إذن كافرا تمام الكفران. إنك لم تشر إلى ذلك في الدعوى واكتفيت بالقول إنها ليست نفس الآلهة التي تعترف بها المدينة، ما تهمتي؟ أهي الدعوة إلى آلهة مخالفة أم تزعم أني ملحد ومعلم للإلحاد؟ - أردت الأخيرة؛ فأنت ملحد غاية الإلحاد. - هذا قول عجيب لم نعهده يا مليتس، ماذا تعني به؟ ألست أومن بإلهي الشمس والقمر، وهي عقيدة سائدة بين الناس جميعا! - إني أؤكد لكم أيها القضاة أنه لا يؤمن بهما؛ فهو يقول إن الشمس كتلة من الحجر، وإن القمر مصنوع من تراب! - لعلك يا صديقي مليتس تريد أناكسجوراس
6
بهذا الاتهام. ويظهر أنك تسيء الظن بالقضاة، فتحسبهم بلغوا من الجهالة حدا لا يعرفون معه أن تلك آراء مسطورة في كتب أناكسجوراس الكلازوميني، وهي مليئة بمثلها، وتلك التعاليم هي التي يقال إن سقراط قد أوحى بها إلى الشبان، والواقع أنهم عرفوها من المسرح الذي كثيرا ما يعرضها، وأجر المسرح لا يزيد على دراخمة واحدة، ففي مقدور الناس جميعا أن يشهدوها بهذا الأجر الزهيد، ثم يهزءون من سقراط كلما نسب إلى نفسه تلك الأعاجيب. ولكن حدثني يا مليتس، أفتظن حقا أني لا أومن بإله ما؟ - أقسم بزيوس أنك لا تؤمن بكائن من كان. - أنت كاذب يا مليتس، ولا تستطيع أنت نفسك أن تصدق هذا القول، ولست أشك أيها الأثينيون في أن مليتس هذا مستهتر وقح، كتب هذه الدعوى بروح من الحقد والطيش والغرور. ألم يبتكر هذه الألعوبة ابتكارا ليقدمني بها إلى المحاكمة؟ كأنما قال لنفسه: سأرى هل يستطيع هذا الحكيم سقراط أن يكشف عني هذا التناقض المحبوك، أم أني خادعه كما سأخدع بقية الناس؟ فهو كما أرى يناقض نفسه بنفسه في الدعوى، فكأنه يقول: قد أجرم سقراط لأنه كافر بالآلهة ، ولأنه مؤمن بهم، وتلك مهزلة ولا ريب.
أيها الأثينيون! إنه متناقض لا تستقيم روايته، وأحب أن نتعاون جميعا على تحقيقها، وعليك يا مليتس أن تجيب - وأعيد الرجاء ألا تقاطعوني إذا تكلمت بأسلوبي المعهود.
يا مليتس! هل جاز لإنسان مرة أن يعتقد بوجود ما يتصل بالبشر من أشياء، دون أن يعتقد بوجود البشر أنفسهم؟ إني أحب منه - أيها الأثينيون - أن يجيب، وألا يعمد دائما إلى المقاطعة. هل اعتقد إنسان مرة بوجود صفات الجياد دون الجياد نفسها؟ أو وجود نغمات القيثارة دون العازف عليها؟ إن كنت تأبى أن تجيب بنفسك يا صديقي، فسأجيب لك وللمحكمة.
كلا! لم يفعل ذلك إنسان. والآن، هل لك أن تجيب عن هذا السؤال الثاني: أيستطيع إنسان أن يؤمن برسول روحي إلهي، ولا يؤمن بالأرواح نفسها أو بأشياء الآلهة؟ - إنه لا يستطيع. - يسرني أن أحصل منك بعون المحكمة على هذا الجواب، ولكنك قد أقسمت في دعواك أنني أثق وأعتقد في رسل روحية إلهية، وسواء أكانت تلك الرسل قديمة أم محدثة؛ فأنا على أية حال أومن بها كما قلت وأقسمت في صحيفة الدعوى. ولكن إذا كنت أعتقد بموجودات إلهية، أفلا يلزم أن أعتقد بالأرواح وأشياء الآلهة التي بعثتها؟ أليس هذا حقا؟ مالي أراك صامتا؟ إن الصمت معناه الرضا؛ فما هذه الأرواح وأشباه الآلهة؟ إنها إما أن تكون آلهة، أو أبناء آلهة، أليس كذلك؟ - نعم هو كذلك. - وإذن فهذا موضع التناقض المحبوك الذي أشرت إليه. فأشباه الآلهة أو الأرواح هي آلهة، وقد زعمت عني أول الأمر أني كافر بالآلهة، ثم ها أنت ذا تضيف أني مؤمن بها؛ لأني مؤمن بأشباهها. ولا يضيرنا أن تكون هذه الأشباه أبناء للآلهة غير شرعيين، فسواء أعقبتها الآلهة من الشياطين أو من أمهات أخريات كما يظن، فوجودها يتضمن بالضرورة - كما ترون جميعا - وجود آبائها، وإلا كنت كمن يثبت وجود البغال وينكر وجود الجياد والحمير، لا يمكن أن يكون هذا الهراء يا مليتس إلا تدبيرا منك لتبلوني به، ولقد سقته في دعواك لأنك لم تجد حقا تتهمني به. ولكن لن يجوز على من يملك ذرة من فهم، قولك هذا بأن رجلا يعتقد في أشياء إلهية، هي فوق مستوى البشر، ولا يؤمن في الوقت نفسه بأن هناك آلهة وأشباه آلهة وأبطالا.
حسبي ما قلته ردا لدعوى مليتس، فلا حاجة بي إلى دفاع قوي بعد هذا، ولكني كما ذكرت من قبل لا بد أن يكون لي أعداء كثيرون، وسيكون ذلك إلى الموت لو قضي علي به، لست أشك في هذا؛ فليس الأمر قاصرا على مليتس وأنيتس، ولكنه الحقد الذي يأكل القلوب، ويغري الناس بتشويه السمعة، فكثيرا ما أدى ذلك برجال إلى الموت، وكثيرا ما سيقضى بالموت على رجال، فلست بحمد الله آخر هؤلاء.
سيقول أحدكم: ألا تخجل يا سقراط من حياة يغلب أن تؤدي بك إلى موت مباغت؛ وعلى ذلك أجيب في رفق: أنت مخطئ يا هذا، فإن كان الرجل خيرا في ناحية منه، فلا ينبغي أن يتدبر أمر حياته أو موته، ولا يجوز أن يهتم إلا بأمر واحد، وذلك أن يرى هل هو فيما يعمل مخطئ أم مصيب، وهل يقدم في حياته خيرا أم شرا. أترى إذن أن الأبطال الذين سقطوا في طروادة لم يحسنوا صنعا. فذلك ابن ثيتس الذي استصغر الخطر وازدراه حينما قرنه بما يثلم الشرف. ولما قالت له أمه الإلهة، وهو يتحفز لقتل هكتور بأنه لو قتله انتقاما لصاحبه باتروكلس، فسيدركه هو نفسه الموت، ثم قالت: «إن القدر يترصدك بعد هكتور.» فلما سمع هذا، احتقر الخطر والموت احتقارا، ولم يخشهما كما خشي أن يحيا حياة يدنسها العار دون أن ينتقم لصديقه. فأجاب: «ذريني أمت بعد موته؛ فأنتقم من عدوي، فذلك خير من الحياة فوق هذه السفن؛ فأظل عارا على جبين الدهر تنوء بحمله الأرض.» هل فكر أخيل في الموت أو الخطر؟ فمهما يكن موقف الرجل، سواء اختار لنفسه ذلك الموضع أم أقامه فيه قائده، فلا بد أن يلزمه ساعة الخطر، ولا يجوز أن يفكر في الموت أو في شيء آخر غير دنس العار، إن هذا أيها الأثينيون لقول حق.
بني أثينا! كم كان سلوكي عجيبا، لو أنني عصيت الله فيما يأمرني به - كما أعتقد - بأن أؤدي رسالة الفلسفة بدراسة نفسي ودراسة الناس، وفررت مما كلفني به خشية الموت أو ما شئت من هول، وأنا الذي حين أمرني القواد الذين اخترتموهم للقيادة في بوتيديا، وأمفيبلوس ودليوم، لزمت موضعي، كأي رجل آخر، أواجه الموت. ما كان أعجب ذلك، وما كان أحقني بأن أساق إلى المحكمة بتهمة الكفر بالآلهة، وكم كنت عندئذ أكون بعيدا عن المحكمة، مدعيا إياها خاطئا، لو أنني عصيت الراعية خوفا من الموت؟ فليست خشية الموت من الحكمة الصحيحة في شيء، بل هي في الواقع ادعاء لها؛ لأنها تظاهر بمعرفة ما تستحيل معرفته؛ فما يدريك ألا يكون الموت خيرا عظيما، ذلك الذي يلقاه الناس بالجزع كأنه أعظم الشرور؟ أليس ذلك توهما بالعلم، وهو ضرب من الجهل الشائن؟ وهنا أراني أسمى مقاما من مستوى البشر، وربما ظننت أني في هذا الأمر أحكم الناس جميعا. فما دمت لا أعلم عن هذه الحياة إلا قليلا، فلا أفرض في نفسي العلم، وإنما أعلم علم اليقين أن من ظلم من هو أرفع منه أو عصاه، سواء كان ذلك إنسانا أم إلها؛ فقد ارتكب إثما وعارا، ويستحيل علي أن أتحاشى ما يجوز أن يكون فيه الخير وأخشاه، لأقدم على شر مؤكد. ولهذا فلو أنكم أطلقتم الآن سراحي، ورفضتم نصح أنيتس، الذي قال بوجوب إعدامي بعد إذ وجه إلي الاتهام؛ لأني لو أفلت فسيصيب الفساد والدمار أبناءكم باستماعهم لما أقول. لو قلتم لي يا سقراط، إننا سنطلق سراحك هذه المرة ولن نأبه لأنيتس، على شرط واحد، وذلك أن تقف البحث والتفكير، فلا تعود إليهما مرة أخرى، ولو شاهدناك تفعل ذلك أنزلنا بك الموت، إن كان هذا شرط إخلاء سبيلي أجبت بما يأتي: أيها الأثينيون! أنا أحبكم وأمجدكم، ولكني لا بد أن أطيع الله أكثر مما أطيعكم، فلن أمسك عن اتخاذ الفلسفة وتعليمها ما دمت حيا قويا، أسائل بطريقتي أيا صادفت بأسلوبي ، وأهيب به قائلا: ما لي أراك يا صاح تعنى ما وسعتك العناية بجمع المال، وصيانة الشرف، وذيوع الصوت، ولا تنشد من الحكمة والحق وتهذيب النفس إلا أقلها، فهي لا تصادف من عنايتك قليلا ولا تزن عندك فتيلا، وأنت ابن أثينا، مدينة العظمة والقوة والحكمة؟ ألا يخجلك ذلك؟ فإن أجاب محدثي قائلا: بل ولكني معني بها، فلن أخلي سبيله ليمضي من فوره، بل أسائله وأناقشه وأعيد معه النقاش، فإن رأيته خلوا من الفضيلة، وأنه يقف منها عند حد القول والادعاء، أخذت في تأنيبه؛ لأنه يحقر ما هو جليل، ويسمو بما هو دنيء وضيع. سأقول ذلك لكل من أصادفه، سواء كان شابا أم شيخا، غريبا أم من أبناء الوطن، لكني سأخص بعنايتي بني وطني؛ لأنهم إخواني. تلك كلمة الله فاعلموها، ولا أحسب الدولة قد ظفرت من الخير بأكثر مما قمت به ابتغاء مرضاة الله، وما فعلت إلا أن أهبت بكم جميعا، شيبا وشبانا، أن انصرفوا إلى أنفسكم وما تملكون، وبادروا أولا بتهذيب نفوسكم تهذيبا كاملا، وها أنا ذا أعلمكم أن الفضيلة لا تشترى بالمال، ولكنها هي المعين الذي يتدفق منه المال ويفيض بالخير جميعا، سواء في ذلك خير الفرد وخير المجموع. ذلك مذهبي، فإن كان مفسدا للشبان؛ فاللهم إني مود بالشباب إلى الدمار. أما إن زعم أحدكم أن ليس مذهبي هو ذاك؛ فهو إنما يزعم باطلا. أيها الأثينيون! سواء لدي أصدعتم بما يأمركم به أنيتس أم فعلتم بغير ما يشير، وسواء أأصبت عندكم البراءة أم لم أصبها، فاعلموا أني لن أبدل من أمري شيئا، ولو قضيتم علي بالموت مرارا.
أيها الأثينيون! لا تقاطعوني واصغوا إلى قولي؛ فقد وعدتموني أن تسمعوا الحديث حتى ختامه، وإن لكم فيه لخيرا. أحب أن أفضي لكم بما عندي، فإن بعثكم على البكاء فأرجو ألا تفعلوا. أريد أن أصارحكم أن لو قضيتم علي بالموت فيصيبكم من الضر أكثر مما يصيبني. إن مليتس وأنيتس لن يؤذياني؛ لأنهما لا يستطيعان؛ فليس من طبائع الأشياء أن يؤذي الرجل الخبيث من هو أصلح منه. نعم، ربما استطاع له موتا أو نفيا أو تجريدا من حقوقه المدنية، وقد يبدو له كما يبدو للناس جميعا، أنه يكون بذلك قد أنزل به أفدح البلاء، ولكني لا أرى ذلك الرأي، فأهول به مصابا هذا الشر الذي يقدم عليه أنيتس، بأن يقضي على حياة إنسان بغير حق. لست أكلمكم الآن - أيها الأثينيون - من أجل نفسي كما قد تظنون، ولكن من أجلكم، حتى لا تسيئوا إلى الله، أو تكفروا بنعمته بحكمكم علي؛ فليس يسيرا أن تجدوا لي ضريبا إذا قضيتم علي بالموت، وإن جاز أن أسوق إليكم هذا التشبيه المضحك، لقلت إني ضرب من الذباب الخبيث، أنزله الله على الأمة، التي هي بمثابة جواد لنبيل عظيم ثقيل الحركة لضخامته، ولا بد له في حياته من حافز. أنا تلك الذبابة الخبيثة التي أرسلها الله إلى الأمة، فلا شاغل لي متى كنت وأنى كنت، إلا أن أثير نفوسكم بالإقناع والتأنيب. ولما كان من العسير أن تجدوا لي ضريبا فنصيحتي لكم أن تدخروا حياتي. نعم، قد أكون مزعجكم كلما باغتكم فأيقظتكم من نعاسكم العميق، ولكم أن تأملوا، إذا ما صفعتموني صفعة الموت، كما ينصح أنيتس - وما أهون ذلك عليكم - أن يهدأ لكم الرقاد بقية حياتكم، ما لم يبعث لكم الله ذبابة أخرى إشفاقا عليكم. أما إنني جئتكم من عند الله فهذي آيته: لو كنت نكرة من الناس لما رضيت مطمئنا، بإهمال شئون عيشي إهمالا طوال تلك السنين؛ لأخصص نفسي لكم؛ فقد جئتكم واحدا فواحدا، شأن الوالد أو الأخ الأكبر؛ فأحملكم على الفضيلة حملا، وليس ذلك، ما عهدناه في طبيعة البشر، ولو كنت قد أفدت من ذلك أجرا أو جزاء لكان لذلك مدلول آخر، ولكن هل تجرؤ حتى وقاحة المدعين أن تدعي أني أخذت أجرا أو سعيت إليه؟ إنهم لن يفعلوا؛ لأنهم لن يجدوا لذلك دليلا. أما أنا فعندي ما يؤيد صحة ما أقول وحسبي بالفقر دليلا.
قد يعجب بعضكم لماذا أطوف بالناس آحادا؛ فأسدي إليهم النصح وأشتغل بأمورهم، ولا أجرؤ أن أتقدم بالنصح إلى الدولة بصفة عامة؟ وإليكم سبب هذا: كثيرا ما سمعتموني أتحدث عن راعية أو وحي يأتيني، وهي معبودتي التي يهزأ بها مليتس في دعواه، ولقد لازمني ذلك الوحي منذ طفولتي، وهو عبارة عن صوت يطوف بي فينهاني عن أداء ما أكون قد اعتزمت أداءه، ولكنه لا يأمرني بعمل إيجابي فذلك ما حال دون اشتغالي بالسياسة، وإخال ذلك آمن الطرق؛ فلست أشك - أيها الأثينيون - في أني لو كنت ساهمت في السياسة للاقيت منيتي منذ أمد بعيد، ولما قدمت خيرا لكم أو لنفسي. وأرجو ألا يؤلمكم الحق إن أنبأتكم به؛ فالحق أنه يستحيل علي من يرافقكم إلى الحرب أو أي اجتماع آخر ويقاوم فساد الأخلاق وأخطاء الدولة أن ينجو بحياته. فإن من يحارب مخلصا في سبيل الحق لن يمتد به الأجل إلى حين، ألا إن كان مشتغلا بالأعمال الخاصة دون العامة، وإن أردتم لذلك برهانا ما سقت إليكم كلاما فحسب، بل ذكرت لكم حوادث بعينها، وهي أقوى حجة من الألفاظ، فاسمحوا لي أن أقص عليكم طرفا من حياتي الخاصة، ينهض دليلا على أنني لم أخضع قط لظلم خشية الموت، حتى لو وثقت بأن العصيان سيعقب من فوره موتا محققا. سأقص عليكم قصة قد تشوقكم أو لا تشوقكم، ولكنها مع ذلك حق. إنني لم أشغل منصبا إلا مرة عضوا في مجلس الدولة، وكانت رياسة المجلس عند محاكمة القواد الذين لم ينقذوا جثث القتلى بعد موقعة أرجنيس، لقبيلة أنيتوخس - وهي قبيلتي - فرأيتم أن تحاكموهم جميعا، وكان ذلك منافيا للقانون كما أدركتم ذلك جميعا فيما بعد، ولكني كنت إذ ذاك وحدي بين أهل بريتان أعارض الافتئات على القانون، وأعلنت رأيي مخالفا لكم. ولما تهددني الخطباء بالحبس والطرد، وصحتم جميعا في وجهي، آثرت أن أتعرض للخطر مدافعا عن القانون والعدل على أن أساهم في الظلم خشية السجن أو الموت. حدث ذلك في عهد الديمقراطية، فلما تولى زمام الأمر الطغاة الثلاثون، أرسلوا إلي وإلى أربعة معي، وكنا تحت السقيفة؛ فأمرونا أن نسوق إليهم ليون السلامي من بلدة سلامس لينزلوا به الموت - وذلك مثل لأوامرهم التي اعتادوا أن يلقوها لكي يشركوا معهم في جرائمهم أكبر عدد ممكن من الناس، فبرهنت لهم قولا وعملا، أني لا أعبأ بالموت، وأنه لا يزن عندي قشة، إن صح هذا التعبير، وأن كل ما أخشاه هو أن أسلك سلوكا معوجا شائنا، فلم أرهب طغيان تلك العصبة الظالمة، ولم تضطرني إلى ركوب الخطأ. فلما أخرجنا من السقيفة حيث كنا، ذهب الأربعة الآخرون إلى سلامس في طلب ليون، أما أنا فقد أخذت سمتي نحو الدار في هدوء صامت، وكنت أتوقع أن أفقد حياتي لقاء ذلك العصيان لولا أن دالت دولة الثلاثين بعد ذلك بقليل، وما أكثر من يشهدون بصدق ما أقول.
وهل تظنون أنه قد كان يمتد بي الأجل إلى هذه السن، لو قد ضربت في الحياة العامة بنصيب، على فرض أني - كما ينبغي للرجل الصالح - لزمت جانب الحق، وأحللت العدالة من نفسي ما هي جديرة بي من مكان رفيع؟ كلا ثم كلا! فلو قد عولت، أو عول كائن من كان، على ذلك لما أتيح لي - بني أثينا! - البقاء، ولكني لم أحد فيما فعلت - عاما كان أم خاصا - عما رسمت لنفسي من جادة، فلم أنغمس فيما انغمس فيه هؤلاء الذين أشيع بين الناس أنهم تلاميذي، أو من عداهم، فلم يكن لي في حقيقة الأمر تلاميذ دائمون؛ إذ أبحت الحضور لكل من أراد حضورا واستماعا. إني كنت مؤديا رسالتي، لا فرق عندي بين شيخ وشاب، لم أتخذ شرطا، ولم ألتمس أجرا، فكان الحوار مشاعا لمن أنقد ومن ينقد، فلمن شاء أن يوجه إلي سؤالا، أو يجيب لي عن سؤال، أو يصغي إلى ما أقول من حديث، أما أن ينقلب أحد أولئك بعد ذلك خيرا أو شريرا؛ فليس عدلا أن أحمل تهمته؛ لأنني لم أعلمه شيئا. وإن زعم امرؤ أني ربما علمته أو أسمعته شيئا في خلوة خاصة خفيت على الناس جميعا، فاعلموا أنه إنما يزعم لكم باطلا.
فإذا سئلت: لماذا يصادف الناس من حوارك المتصل لذة ومتاعا؟ أجبت أيها الأثينيون بالحقيقة التي أنبأتكم بها، وهي أنهم يستمتعون بشهادة أدعياء الحكمة في امتحانهم، فلهم في ذلك لذة، وذاك واجب أمرني به الله، كما علمت يقينا من الرسل والرؤى، وكل طريقة أخرى يمكن لإرادة القوى الإلهية أن تفصح بها عن نفسها لكائن من كان. أيها الأثينيون! ذلك حق، فإن كان افتراء فما أهون أن تكذبوه، ولو كنت أفسد الشبان حقا، وكنت قد أفسدت بعضهم فعلا، لوجب أن يتصدى منهم للانتقام أولئك الذين تقدمت بهم السن؛ فأدركوا ما نفثت لهم في نصحي من سوء أيام الشباب، فإن لم يفعلوا ذلك بأنفسهم وجب أن ينهض ذوو قرباهم أو آباؤهم أو إخوتهم، أو من إلى هؤلاء، فيقتضيني ما أنزلت بأبنائهم من سوء، ها قد حان حينهم، وإني لأرى منهم في المحكمة كثيرا. ها هو ذا أقريطون وهو يعدلني سنا، وها أنا ذا أرى ابنه كريتوبوليس، وذاك ليسانيس السفيطي أبو أشينس ألمحه بين الحضور، وذاك أنتيفون السفيسي أبو أبجينوس، وهؤلاء إخوة كثير ممن التفوا حولي، فهناك نيكوستراتوس بن تيوسدوتيد وأخو تيودوتس (وقد اختار الله تيودونس إلى جواره؛ فهو على أية حال لن يستطيع لي معارضة)، وذلك بارالوس بن ديمودوكس، وقد كان له أخ يدعى تياجس، وأديمانتوس بن أرستون الذي أرى أخاه أفلاطون بين الحاضرين، وكذلك أرى بينكم آنتودورس، وهو أخو أبولودورس. ويمكنني أن أذكر غير هؤلاء كثيرين ممن كان لزاما على مليتس أن يقدم منهم للشهادة من يشاء في سياق دعواه، ومع ذلك فأدعوه الآن يستشهدهم إن كان قد فاته ذلك أولا، وسأفسح له الطريق. سلوه هل بين هؤلاء من يشهد له فيقدمه؟ كلا أيها الأثينيون، فنقيض ذلك هو الصحيح؛ إذ هؤلاء لا يأبون أن يؤيدوا بالقول ذلك المتلاف الذي أفسد ذويهم كما يسميني مليتس وأنيتس. إني لا أستشهد الشبان الذين أفسدتهم فحسب؛ فقد يكون عند هؤلاء ما يحيد بهم عن الحق، ولكني أستشهد ذويهم، وهم بعيدون عن إفسادي، ويكبرون أولئك سنا، فلماذا يظاهرونني بشهادتهم، إلا أن يكون ذلك تأييدا للحق والعدل؟ فهل يعلمون أني أقول الصدق. أما مليتس فمفتر كذاب.
أيها الأثينيون! هذا وما إليه هو كل دفاعي الذي وددت أن ألقيه، ولكني أرجو أن أضيف إليه كلمة أخرى، قد يكون بينكم من يصب علي نقمته إذا ما ذكرت كيف أستجدي الشفاعة والرحمة بعينين باكيتين في مثل هذا الموقف أو ما هو دونه خطرا، وكيف ساق أبناءه إلى المحكمة في جمع من أصدقائه وأقربائه لعله يحرك بذلك الرحمة في النفوس، ثم ينظر فلا يراني أهم بمثل ذلك، على ما يتهدد حياتي من الخطر. قد يطوف بذهنه هذا فيقف مني موقف العداوة، ثم يصوت وهو في سورة من الغضب لأن موقفي لا يرضيه، فإن كان ذلك الرجل بينكم، ولا أحسبه كذلك، فإليه أسوق الحديث رفيقا: أي صديقي! إنني رجل ككل الناس خلقت من لحم ودم لا من خشب وحجارة، كما يقول هومر، ولي أسرة ولي أبناء، عدادهم - أيها الأثينيون - ثلاثة، بلغ أحدهم الصبا وما يزال الآخران طفلين، ومع ذلك فلن أسوق إليكم منهم أحدا يستجديكم براءتي. ولم لا؟ لست أصدر في ذلك عن اعتداد بنفسي أو ازدراء لكم، وسواء خشيت الموت أم لم أخشه فذلك شأن آخر لن أتحدث عنه الآن، وإنما دفعني إلى ذلك عقيدة أن ذلك تصرف يضع من قدري ويحط من شأنكم ويصم الدولة بأسرها وصمة العار، فلا يجوز لرجل قضى من العمر ما قضيت، وذاع صوته في الحكمة بحق أو بغير حق، أن يحقر من نفسه. فمهما يكن من أمر؛ فقد استقر رأي الناس أجمعين على أن سقراط يفضل من عداه في إحدى نواحيه، فإن كان أولئك الذين يقال عنهم إنهم يفضلونني حكمة وشجاعة وما شئت من فضيلة، يمتهنون أنفسهم بمثل ذاك السلوك، فوا خجلتاه مما يفعلون! فقد شهدت ناسا من ذوي الصوت الذائع يفعلون ساعة الحكم عليهم عجبا عجابا، فبدوا كأنما خيل إليهم أنهم ذاهبون. إذا قضيتم عليهم بالموت، إلى حيث الرعب والجزع، كأنهم حسبوا أن لو خليتم بينهم وبين الحياة السبيل فسيكونون من الخالدين ، إنما هؤلاء في حسابي وصمة عار في جبين الدولة، ولو أبصرهم وافد غريب لانقلب إلى أهله يروي عن أثينا أن أعلام رجالها الذين يرفعهم الأثينيون فوق الهام ويسلمونهم زمام الأمر، لا يفضلون الناس في شيء. ولا يجوز في اعتباري أن يكون ذلك من هؤلاء الذين بلغوا بيننا شأوا عظيما، فإن وقع فلا تدعوه حادثا يمضي، ولا تأخذكم بهم، هوادة وخذوا بالشدة كل من يقف منكم هذا الموقف المتوجع؛ لأنه بذلك يعرض المدينة للسخرية، ولا كذلك الصابر الوديع.
ودعوكم من العار، فيلوح لي أن في استرحام القاضي واستجدائه العفو في مكان إقناعه وإنبائه بالنبأ الصحيح خطلا؛ فليس واجب القاضي أن يمنح العدالة منحا، بل عليه أن يحكم حكما عادلا، وقد أقسم أن يحكم وفق القانون، دون أن يميل مع الهوى، ولا يجوز له ولا لنا أن نتعود الحلف باطلا، فلا أحسب في ذلك شيئا من الورع والتقوى. فلا تريدوني إذن على أن أفعل ما أعده فجورا وشينا وخطلا، ولا سيما وأنتم تحاكمونني فيما ادعاه مليتس عني من فجور، فلو استطعت أيها الأثينيون أن أحيد بكم الإغراء والرجاء عن قسمكم لكنت بذلك معلمكم الكفر بالآلهة، ولانقلب دفاعي علي اتهاما بالزيغ عن الإيمان، ولكن الواقع غير هذا، فعقيدتي في الآلهة قائمة على شعور أسمى جدا مما تقوم عليه عقيدة أي مدع من المدعين. فأنا أضع قضيتي أمامكم وأمام الله لتحكموا فيها بما هو خير لي ولكم.
وهنا حكم على سقراط بالموت. •••
أيها الأثينيون! لقد قضيتم بإدانتي، فلم يثر شجني هذا القضاء، وعندي لذلك أسباب كثيرة، فقد كنت أتوقع ذاك. ولشد ما أدهشني أن كادت تتعادل الأصوات؛ فقد ظننت أن فريق الأعداء لا بد أن يكون أوفر من ذلك عددا، وإذا بكفة البراءة لو زاد مؤيدها ثلاثين صوتا لرجحت، أفلم أظفر بهذا على مليتس؟ بل إني لأذهب إلى أبعد من الظفر فأرغم أنه لولا أن ظاهره أنيتس وليقون لما ظفر بخمس الأصوات الذي يحتمه القانون، ولاضطر تبعا لذلك إلى دفع غرامة قدرها ألف دراخمة كما ترون.
ولذلك يقترح أن يكون الموت جزائي؛ فماذا أقترح بدوري أيها الأثينيون؟
7
بالطبع ما أراني جديرا به. فماذا ينبغي أن أبذل من غرم أو أنال من غنم! ماذا أنتم صانعون برجل لم يوفقه الله أبدا ليصطنع البلادة طوال أيام حياته، وأهمل ما عنيت به كثرة الناس - أعني الثروة ومصالح الأسرة والمناصب الحربية - ولم يقل في جمعية الشعب قولا ولم يشترك في مجالس الحكام، ولم يساهم في الدسائس والأحزاب بنصيب؟ كلما فكرت أني كنت رجلا بلغ من الشرف حدا بعيدا، فسلكت من سبل الحياة ما سلكت، لم أقصد إلى حيث لا أستطيع أن أعمل خيرا لكم ولنفسي، بل التمست طريقا أمكنتني أن أقدم لكل منكم على حدته خيرا عظيما، وحاولت أن أحمل كل رجل بينكم على وجوب النظر إلى نفسه لينشد الفضيلة والحكمة قبل أن ينظر إلى مصالحه الخاصة، وأن يضع الدولة في اعتباره فوق مصالحها، فيكون ذلك دستورا لأعماله جميعا. ماذا أنتم صانعون بمثل هذا الرجل أيها الأثينيون! لا إخالكم إلا مجازيه خيرا إن كان لا بد من الجزاء، ويجدر بإحسانكم أن يجيء ملائما لحالته؛ فماذا يحسن برجل فقير أحسن إليكم الصنيع، ويرغب في الفراغ لتمكن من تعليمكم، سوى أن يظل أبدا في مجلس الدولة. وإنه أيها الأثينيون لأجدر بهذا الجزاء ممن كوفئ أوليمبيا في سباق الخيل أو سباق العجلات، سواء أكان يشد عجلته جوادان أو أكثر؛ لأنني فقير محتاج، وذاك غني عنده ما يسد منه العوز، على أنه لا يعطيكم إلا سعادة ظاهرية، أما أنا فأدلكم على الحقيقة. فإذا كان لي أن أقدر لنفسي عقوبة عادلة ما قلت بغير البقاء في مجلس الدولة جزاء أوفى.
قد يذهب بكم الظن أني إنما أتحداكم بهذا كما فعلت حينما حدثتكم عن الضراعة والبكاء؛ فليس الأمر كذلك، إنما أقول هذا لأنني أعتقد أنني لم أسئ إلى أحد عامدا، ولا أظنني قادرا على إقناعكم بذلك في هذا الحوار القصير، فلو كان في أثينا قانون - كما هي الحال في سائر المدن - لا يبيح حكم الإعدام في يوم واحد، لاستطعت فيما أعتقد أن أقنكم، أما الآن فالفترة وجيزة، ولا يمكنني أن أدحض في لحظة هؤلاء المدعين الفحول، وإن كنت كما ظننت لم أسئ إلى أحد فلن أتقدم بالإساءة إلى نفسي قطعا؛ وإذن فلن أعترف بنفسي بأني حقيق بالسوء، ولن أقترح عقوبة ما. ولماذا أفعل؟ أخوفا من الموت الذي يقترحه مليتس؟ على حين أني لا أعلم إن كان الموت خيرا أم شرا! لماذا أقترح عقابا فيكون شرا مؤكدا لا مفر منه؟ أأقترح السجن؟ ولماذا أزج في غيابه فأكون عبدا لحكام هذا العام - أعني الأحد عشر؟ أم أقترح أن أعاقب بالتغريم، وأن أسجن حتى تدفع الغرامة؟ فالاعتراض بنفسه قائم؛ لأنني لا بد أن ألبث في السجن؛ لأنني لا أملك مالا ولا أستطيع دفعا. وإن قلت النفي (وربما قر رأيكم على هذه العقوبة) وجب أن يكون حب الحياة قد أعمى بصيرتي؛ لأنكم وأنتم بنو وطني لا تطيقون رؤيتي ولا تسيغون كلامي؛ لأنه في رأيكم خطر ذميم، فوددتم لو نجوتم من شري عسى أن يطيقه سواكم؛ فما حياتي في هذه السن ضاربا من مدينة إلى مدينة مشردا أبدا، طريدا دائما، يلفظني البلد في إثر البلد؛ فما أرتاب في التفاف الشبان حولي أينما حللت كما فعلوا هنا، فلو نفضتهم رغبوا إلى أوليائهم في طردي فاستجابوا لرجائهم، ولو تركتهم يسعون إلي طردني آباؤهم وأصدقاؤهم صونا لأنفسهم.
رب قائل يقول: نعم يا سقراط، ولكن ألا تستطيع أن تمسك لسانك حتى إذا ارتحلت إلى مدينة أخرى ما اشتبك إنسان معك؟ وعسير جدا أن أفهمكم جوابي عن هذا السؤال، فلو أنبأتكم أني لو فعلت ذلك لكان عصيانا مني لأمر الله، ولذلك لا أملك حبسا للساني، لما صدقتم أن يكون جدا ما أقول، ولو قلت بعد ذلك إن أعظم ما يأتيه الإنسان من خير هو أن يحاور كل يوم في الفضيلة وما يتصل بما سمعتموني أسائل فيه نفسي وأسائل الناس، وإن الحياة التي تخلو من امتحان النفس ليست جديرة بالبقاء، كنتم لهذا أشد تكذيبا، ولكني لا أقول إلا حقا وإن عز علي إقناعكم بصدقه. إني لم أعهد نفسي جارمة تستأهل العقاب، ومع ذلك فلو كان لدي مال لاقترحت أن أعطيكم ما أملك، ولم يكن ذلك ليضيرني في شيء، ولكنكم ترون أني لا أملك مالا، لا بل أظنني قادرا على دفع مينة واحدة (المينة تساوي مائة درهمة) ولذا أقترح هذه العقوبة. إن أصدقائي: أفلاطون، وأقريطون، وكريتوبوليس، وأبولودورس، وهم بين الحاضرين، يرجون مني أن أقول ثلاثين مينة، يضمنون هم دفعها. حسنا، إذن فاحكموا بثلاثين مينة، ولتكن هي عقوبتي، وأحسب هؤلاء كفلاء بدفعها. •••
أيها الأثينيون! لن تفيدوا بقتلي إلا أمدا قصيرا، وستدفعون له ثمنا ما تنطلق به ألسنة السوء تذيع عن المدينة العار، ستقول عنكم إنكم قتلتم سقراط الحكيم، فسيدعونني وقتئذ بالحكيم، وإن لم أكن حكيما، تقريعا لكم، ولو صبرتم قليلا لظفرتم بما تبتغون بطريق طبيعية، فلقد طعنت في السن كما ترون، ودنوت من أجلي. إنما أسوق هذا الحديث إلى هؤلاء الذين حكموا علي بالموت. وأحب أن أضيف إليهم كلمة أخرى: قد تحسبون أن اتهامي جاء نتيجة لعي لساني، فلو قد آثرت أن أفعل كل شيء وأن أقول كل شيء، لجاز لي أن أظفر بعفوكم، ولكني لم أفعل ذلك، فليس عيا في لساني ما أدى إلى إدانتي، ولكنه ترفعي عن القحة والصفاقة، وصدوفي عن مخاطبتكم بما كنتم تحبونني أن أخاطبكم به: بالعويل والبكاء والرثاء، وأن أقول وأفعل كثيرا مما تعودتم استماعه من الناس، وهو لا يجمل بي كما ذكرت؛ فقد رأيت واجبي ألا أتبذل في العمل، أو آسف في ساعة الخطر، ولست آسف على ما سلكت من طريق للدفاع، فإني لأوثر خطتي التي رسمتها ولو أدت بي إلى الموت، على أن أصطنع خطتكم احتفاظا بالحياة، فلا يجوز لإنسان في ساحة الوغى أو أمام القانون أن يلتمس أي سبيل فرارا من الموت. فلو ألقى المحارب بسلاحه في المعمعة، وجثا على ركبتيه أمام مطارديه لظفر غالبا بالنجاة من الموت، ولكل ضرب من ضروب الخطر طرق للنجاة من الهلاك، إذا لم يتعفف المرء عن كل قول وكل فعل مهما يكن شائنا؛ فليس عسيرا أيها الأصدقاء أن نفر من وجه الموت، ولكن العسر كل العسر في تجنب الأخلاق الفاسدة؛ فالفساد والموت يعدوان في أعقابنا، ولكن الفساد أسرع من الموت عدوا. فأنا الذي اكتهلت، إنما أسير سيرا وئيدا، فيكاد يدركني أبطأ العاديين. أما المدعون فسراع متحمسون، وسيلحق بهم أسرعهما؛ أعني الفساد. وبعد، فسأترك موقفي هذا، وقد جرى علي قضاؤكم بالموت، وكذلك هم سينطلقون كل إلى سبيله، وقد قال فيهم الحق كلمته، بأن يعانوا ما هم فيه من ضعة، ولا بد لي أن أخضع لما حكم علي به، وعليهم كذلك أن يرضوا بما كتب لهم. أحسب أن قد جرى القدر بهذا جميعا، فعسى أن يكون خيرا، ولا أحسبه إلا كذلك.
وبعد، هؤلاء الذين أجروا علي قضاءهم، هاكم نبوءتي التي أحب أن أبلغكم إياها؛ لأني مشف على الموت، وتلك ساعة يوهب فيها المرء مقدرة على التنبؤ. أتنبأ لكم يا قاتلي بأنه لن يكاد ينفذ حكم الموت حتى ينزل بكم ما هو أشد من ذلك هولا. لقد حكمتم بموتي؛ لأنكم أردتم أن تفلتوا من ذاك الذي يتهمكم، ولكيلا تحاسبوا على ما قدمت أيديكم، ولكن لن يكون لكم ما ترجون، بل نقيضه. فسيكون متهموكم أوفر عددا منهم اليوم؛ إذ سيهب في وجوهكم من كنت مسكتهم حتى الآن، وسيكون أولئك أشد قسوة عليكم لأنهم دونكم سنا، وسيذيقونكم من العذاب أكثر مما تذوقون اليوم، فإن حسبتم أنكم خالصون من متهمكم بقتله، كي لا ينغص عليكم عيشكم؛ فأنتم مخطئون؛ إذ ليست تلك سبيلا مؤدية إلى الفرار، ولا هي مما يشرفكم، وأيسر من ذلك وأشرف ألا تهاجموا الناس، بل تبادروا بإصلاح أنفسكم. تلك هي نبوءتي التي أبلغها إلى القضاة الذين حكموا علي قبل رحيلي.
وأنتم أيها الأصدقاء الذين سعوا إلى براءتي، أحب كذلك أن أتحدث إليكم عما وقع، عندما يشغل الرؤساء، وقبل أن أذهب إلى مكان موتي؛ فالبثوا قليلا؛ لأننا نستطيع أن يتحدث بعضنا إلى بعض ما دامت هناك فسحة من الوقت. أنتم أصدقائي وأحب أن أدلكم على معنى هذا الذي وقع. يا قضاتي - فأنا أدعوكم قضاة بحق - أحب أن أحدثكم بأمر عجيب، لقد كانت مشيرتي حتى الآن، تلك المشيرة التي عهدتها في دخيلتي، لا تفتأ تردني في توافه الأمور، إن كنت مقدما على زلل أو خطأ في أي شيء، والآن - كما ترون - قد داهمني ما يحسبه إجماع الناس أقصى الشرور وأقساها، ولم تلوح لي مشيرتي بعلامة المعارضة حينما تركت داري في الصباح، ولا حين كنت أصعد إلى هذه المحكمة، ولا حين ألقيت كل ما اعتزمت أن أقوله، ومع أني عورضت كثيرا أثناء الحديث، إلا أن المشيرة لم تعارضني في كل ما قلت أو فعلت مما يتصل بهذا الأمر، فبم أعلل هذا، وكيف أفهمه؟ سأخبركم: إني أعد هذا دليلا على أن ما حدث لي هو الخير، ويخطئ من يظن منا أن الموت شر. هذا دليل ناهض على ما أقول؛ لأن الإشارة التي عهدتها لم تكن لتتردد في معارضتي لو كنت مقبلا على الشر دون الخير.
لنقلب النظر في الأمر، وسنرى أن ثمة بارقة قوية من الأمل تبشر بأن الموت خير. فإحدى اثنتين، إما أن يكون الموت عدما وغيبوبة تامة، وإما أن يكون كما يروي عنه الناس تغيرا وانتقالا للنفس من هذا العالم إلى عالم آخر. فلو فرضتم فيه انعدام الشعور، وأنه كرقدة النائم الذي لا تزعجه حتى أشباح الرءوس، ففي الموت نفع لا نزاع فيه؛ لأنه لو أتيح لإنسان أن يقضي ليلة لا يزعج نعاسه فيها شيء، حتى ولا أحلامه، ثم قارنها بما سلف في حياته من ليال وأيام، وسئل بعد ذلك: كم يوما وليلة قضاها بين أعوامه وكانت أبهج من تلك الليلة وأسعد؟ فلا أحسب أحدا - ولا أختص بالقول أحدا - بل لن يجد حتى أعظم الملوك بين أيامه ولياليه كثيرا من أشباهها. فإذا كان الموت كهذا فأنعم به، وليس الخلود إذن إلا ليلة واحدة! أما إن كان الموت ارتحالا إلى مكان آخر، حيث يستقر الموتى جميعا كما يقال؛ فأي خير يمكن أن يكون أعظم من هذا أيها الأصدقاء والقضاة! وإذا كان حقا أنه إذا بلغ الرجل ذلك العالم الأدنى، خلص من أساطين العدل في هذا العالم، وألفى قضاة بمعنى الكلمة الصحيح، إذ يقال إن القضاء هناك في أيدي مينوس، ورادامفتوس، وإيكوس، وتربتوليموس وسائر أبناء الله الذين عمروا حياتهم بأقوم الأخلاق؛ فما أحب إلى النفس ذاك الارتحال، وهل يضن الرجل بشيء إذا أتيح له أن يتكلم مع أورفيوس، وموسيوس، وهزيود، وهوميروس؟ كلا، لو كان هذا حقا فذروني أمت مرة ومرة، فسأصادف متاعا رائعا في مكان أستطيع فيه أن أتحدث إلى بالاميدس، وأجاكس بن تلامون، وغيرهم من الأبطال القدامى الذين تجرعوا المنون بسبب قضاء ظالم، ولا أظنني حين أقارن الآن آلامي بآلامهم إلا مغتبطا مسرورا. وفوق كل هذا فسأتمكن من استئناف بحثي في المعرفة الحق، والمعرفة الزائفة، وكما فعلت هنا سأفعل في العالم الثاني، وسأكشف عن الحكم الصحيح، وعمن يدعي الحكمة باطلا. بماذا يضن الرجل أيها القضاة إذا أتيح له أن يمتحن قائد الحملة الطروادية الكبرى أو أوذيس، أو سسفوس وغير هؤلاء ممن لا يقعون تحت الحصر رجالا ونساء؟ ألا ما أعظمها غبطة لا تحد تلك التي أجدها في نقاشهم ومحاورتهم؛ لأنهم في ذلك العالم لن يقضوا على أحد بالموت من أجل هذا. كلا ولا ريب، هذا فضلا عما يصادفه الناس في ذلك العالم من سعادة عزت على هذه الدنيا، فإن صح ما يقال فهم ثمة خالدون.
فابتسموا إذن للموت أيها القضاة واعلموا علم اليقين أنه يستحيل على الرجل الصالح أن يصاب بسوء، لا في حياته ولا بعد موته، فلن تهمله الآلهة، ولن تهمل ما يتصل به. كلا، وليست ساعتي الآزفة قد جاءت بها المصادفة العمياء؛ فلست أرتاب في أن الموت مع الحرية خير لي، ولذلك لم تشر مشيرتي بشيء.
ولست لهذا غاضبا من المدعين، أو ممن حكموا علي؛ فما نالتني منهم إساءة، ولو أن أحدا منهم لم يقصد إلى أن يعمل معي خيرا، وقد أعاتبهم لهذا عتابا رقيقا.
وإن لي عندهم لرجاء؛ فأنا ألتمس أيها الأصدقاء، إذا ما شب أبنائي، أن تنزلوا بهم العقاب. وأحب أن تؤذوهم كما آذيتكم، وذلك إن بدا منهم اهتمام بالثروة، أو بأي شيء أكثر مما يهتمون بالفضيلة، أو إذا هم ادعوا أنهم شيء، وكانوا في حقيقة الأمر لا شيء. إذن فأنحوا عليهم باللائمة كما فعلت معكم، لإهمالي ما ينبغي أن يبذلوا فيه عنايتهم، ولظنهم أنهم شيء على حين أنهم في الواقع لا شيء. فإذا فعلتم هذا، أكون قد نالني ونال أبنائي العدل على أيديكم.
لقد أزفت ساعة الرحيل، وسينصرف كل منا إلى سبيله؛ فأنا إلى الموت وأنتم إلى الحياة، والله وحده عليم بأيهما خير.
مقدمة «أقريطون»
لا يعلم على وجه الدقة إن كان هذا الحوار قد وقع بهذا النص الذي أثبته أفلاطون أم اخترعه اختراعا، ومهما يكن من أمر فقد صور أفلاطون سقراط في هذا الحوار، لا في رداء الفيلسوف الذي يؤدي في حياته رسالة إلهية، ولكن في صورة ابن الوطن الصالح الذي يقبل على الموت رضا النفس مطمئن الضمير، تنفيذا لقوانين الدولة، التي يرى وجوب احترامها حتى ولو كانت في قضائها جائرة كما هي الحال في قضيته.
ها هو ذا أجل سقراط يدنو من ختامه، فلقد أنبأه «أقريطون»، صديقه الشيخ حين زاره في سجنه قبيل بزوغ الفجر، أن السفينة التي بوصولها ينفذ حكم الإعدام، قد شوهدت وهي تقلع من «صنيوم». هذا وإن سقراط نفسه قد رأى في نومه أنه سيفارق الحياة في اليوم الثالث ... إذن قد أزف الموت فالوقت ثمين، ولهذا جاء أقريطون مبكرا لكي يحمل الفيلسوف على الفرار الذي هيأ له الأسباب، وما كان تدبير فراره عسيرا على أصدقائه الذين لن يصادفوا في تخليصه خطرا يعدل ما سيصيبهم من العار لو تركوه بين يدي الموت ... نعم جاء أقريطون قبيل بزوغ الفجر يغري الفيلسوف أن يعمد إلى الفرار، فواجبه أن يفكر في أبنائه، وألا يذر نفسه لعبة أعدائه، وإنه لمستعد أن يمده بالمال، حتى إذا ما ارتحل عن أثينا لم يجد عسرا في أن يجد له كثيرا من الأصدقاء الأوفياء. فيرد سقراط بأنه يخشى أن يكون أقريطون قد تأثر برأي الكثرة من أن سقراط لم يكن يعنى في ترجيح الرأي بكثرة قائليه، بل كان يستمع إلى ما يمليه العقل، وإلى الرجل الواحد الذي يكون حكيما حتى ولو عارض رأي الكثرة الغالبة. ألم يسلم أقريطون نفسه فيما سبق من الأيام بصحة هذا الرأي، فلا ينبغي لأحد أن ينساق لرأي الناس إن كان مخالفا للعقل؛ إذ لا خير في الحياة إلا إذا كانت خيرة عادلة، فلا عبرة إذن بما يقوله أقريطون مما قد يلحقهم من سوء الأحدوثة، أو مما قد يلحق أبناء سقراط من أذى وإهمال، فلا سوء الأحدوثة ولا أذى الأبناء بمبررين كافيين للفرار، إنما السؤال الذي يجب أن يلقى هو هذا: هل من الصواب أن يحاول الهرب؟ وأقريطون خير من يجيب على هذا السؤال لأنه سيبحثه بحث المحايد الذي لا يتأثر بموت مقبل كما كان سقراط حينئذ. إنه حدث قبل محاكمة سقراط أنه ناقش أصدقاءه ومنهم أقريطون فأجمعوا عندئذ على أنه لا يجوز لأحد أن يقترف الشر أو أن يرد الشر بالشر؛ فهل من الحكمة أن ينكص سقراط على عقبيه وينقض ما كان قرره، لا لشيء إلا لأن ظروفه قد تغيرت؟ فلا يسع أقريطون أن يسلم بأن المبادئ الصحيحة يجب اتباعها، فيسأله سقراط: وهل يتفق الفرار مع تلك المبادئ التي أقروها معا؟ فلا يستطيع أقريطون أن يجيب، أو قل إنه لم يرد أن يجيب.
فيمضي سقراط قائلا: هب قوانين أثينا جاءته فحاسبته لماذا يحاول أن يثور عليها؛ فماذا هو قائل؟ أيقول لأنها أساءت إليه، وعندئذ تجيبه القوانين بأن ذلك يخالف ما بينها وبينه من اتفاق وعهد، فإنه قد جاء إلى العالم في ظلها، ونشأ وترعرع في كنفها، فإذا لم تكن توافقه فلماذا لم يخلف أثينا ويقصد إلى حيث يشاء من بلاد الأرض حيث تطيب له القوانين؟ ولكنه على عكس ذلك عاش في أثينا سبعين عاما متصلة، وهو أمد طويل لم يتوفر لأحد غيره من أبناء المدينة ... هكذا بين سقراط لصديقه أقريطون أن بينه وبين قوانين المدينة عهدا لا يقوى على نكثه دون أن يتعرض هو للعار، ودون أن يتعرض أصدقاؤه للخطر. إنه كان يستطيع أثناء محاكمته أن يقترح على القضاة عقوبة النفي. لكنه أعلن حينئذ أنه يؤثر الموت على النفي، وهبه هاجر أثينا فأين يذهب؟ إنه إذا قصد إلى دولة منظمة القوانين عدته قوانينها عدوا لها؛ وإذن فلن يستطيع أن يرتحل إلا حيث الفوضى كتساليا مثلا، ثم افرض أنه قصد إلى بلد لا قانون فيه مثل تساليا هذه؛ فماذا عساه صانع فيها؟ أيمضي في إلقائه دروس الفضيلة على الناس؟ إن ذلك يكون قحة منه لا تحتمل. ثم ماذا يفيد أبناؤه إن هو استصحبهم إلى تساليا فأضاع عليهم شرف الانتماء إلى أثينا؟ فإن قلنا يخلفهم وراءه في أثينا تحت رعاية أصدقائه؛ فماذا يمنع رعاية الأصدقاء لأبنائه بعد موته، أم الأصدقاء الأوفياء يخلصون له العهد ما دام حيا. فإن تولى ذهب وفاؤهم؟
كلا إنه ينبغي أن ينظر إلى العدالة أولا، ثم إلى الحياة والأبناء ثانيا، فليرحل في براءة وسلام دون أن يلوث نفسه بفعل الشر، هذا هو صوت وحيه فليصدع بما يأمر الوحي. •••
أراد أفلاطون بهذا الحوار أن يرد التهمة التي طالما ترددت في سقراط من أنه لم يكن مواطنا صالحا لمدينته، ويظهر أن أفلاطون لم يكن يقصد بهذا الدفاع عن أستاذه إلى أهل أثينا في ذلك الحين، بل هو يتوجه به إلى الأجيال المقبلة كلها ليريهم كيف كان سقراط على أتم الولاء للقوانين، وأنه لم يكن قط ثائرا عليها ناقضا لها.
ونحن لا نستطيع أن نجزم برأي في صحة زيارة أقريطون لسقراط في السجن، واقتراحه عليه الفرار وتزيينه له وإغرائه به، وليس من العسير على أفلاطون أن ينتحل هذا الحادث انتحالا ليؤلف عليه الحوار، وشاء فن أفلاطون أن يختار أقريطون دون سائر الأصدقاء ليعرض على سقراط خطة الفرار؛ لأنه كان كهلا رزينا، صديقا وفيا لسقراط. فكان بهذه الصفات أنسب من يتقدم لسقراط بمثل هذا الاقتراح على فرض حدوثه.
وإن فقهاء القانون ليختلفون في هل يحق للرجل أن يفلت هاربا إذا قضت عليه قوانين دولته بحكم جائر، فلا تعدم بينهم من يقول إن سقراط كان يجب عليه أن يهرب ليعيش مؤثرا عمل الخير على موت مجيد، ولكن أفلاطون لم يتعرض في الحوار لمثل هذه الاعتراضات، واكتفى بأن يعرض المثل الأعلى للفضيلة التي تأبى أن ترتكب أهون الشر لكي تتخلص من أعظمه، وإنه ليصور أستاذه متمسكا قرب موته بالآراء التي اعترف بها في حياته، فلقد لبث سقراط حتى النهاية متشبثا بالمبدأ القائل ألا نأبه لما يقوله الناس بل العبرة بما يقوله «الفرد الحكيم»، فلا ينبغي أن ننقاد إلا للعقل وحده حتى ولو انتهى بنا إلى الموت.
إن هذا الحوار الصغير مثل رائع للجدل الصحيح؛ إذ ترى فيه كيف إذا سلمت بالمقدمة فلا مهرب من نتائجها.
أقريطون أو واجب المواطن
أشخاص الحوار:
سقراط، أقريطون.
مكان الحوار:
سجن، سقراط.
سقراط :
ما الذي أتى بك الساعة يا أقريطون؟ إنها الآن جد باكرة.
أقريطون :
بلى إنها لكذلك.
سقراط :
كم هي على التحديد؟
أقريطون :
الفجر في البزوغ.
سقراط :
عجيب أن يأذن لك حارس السجن بالدخول!
أقريطون :
إنه يعرفني يا سقراط لأنني جئت مرارا، ولأنني فوق ذلك ذو فضل عليه.
سقراط :
أجئت الآن توا؟
أقريطون :
كلا، بل جئت منذ حين.
سقراط :
إذا فما الذي أجلسك صامتا، وكان أخلق بك أن توقظني على الفور؟
سجن سقراط وفيه اجتمع تلاميذ سقراط حول أستاذهم يحاورونه في مسائل الحياة والموت والخلود.
أقريطون :
حقا يا سقراط، إني لم أكن لأرضى لنفسي كل هذا الغم والأرق، ولكني أخذت بالعجب أن رأيتك في نعاس هادئ، فلم أرد لهذا أن أوقظك، وآثرت لك أن تظل بعيدا عن الأسى. لقد عرفتك دائما سعيدا بما لك من مزاج هادئ، ولكني لم أر الدهر ضريبا لك في احتمالك لهذا المصاب مستخفا باسما!
سقراط :
إن الإنسان يا أقريطون إذا عمر ما عمرت فلا ينبغي له أن يجزع من شبح الموت.
أقريطون :
ولكن سواك من الكهول، إذا ما نزلت بهم أشباه هذه الكوارث لا يمنعهم الهرم من الجزع.
سقراط :
قد يكون ذاك، ولكن هلا حدثتني عما أتى بك في هذه الساعة الباكرة؟
أقريطون :
أتيت أحمل نبأ مؤلما يبعث على الشجن، لا بالنسبة إليك فيما أظن، بل بالنسبة لنا جميعا - نحن أصدقاءك - وهو عندي أبلغ ما يكون إيلاما.
سقراط :
ماذا؟ أحسب أن قد عادت السفينة من ديلوس
1
ووصولها نذير بموتي؟
أقريطون :
كلا، لم تبلغنا السفينة بعد، ولكنها ربما وصلت اليوم؛ فقد أنبأني أناس جاءوا من صونيوم أنهم خلفوها هناك؛ وإذن فآخر يوم من حياتك يا سقراط هو الغد.
سقراط :
مرحى يا أقريطون، إن كانت هذه إرادة الله فمرحبا بها، ولكني أعتقد أن سيؤجل الأمر يوما آخر.
أقريطون :
ومن أنبأك هذا؟
سقراط :
هاك الخبر. إني بالغ أجلي في اليوم التالي لوصول السفينة.
أقريطون :
نعم، وهذا ما يرويه أولو الأمر.
سقراط :
ولكني لا أظن السفينة بالغتنا إلا غدا. عرفت ذلك من رؤيا رأيتها ليلة أمس، بل كنت أراها الآن توا، حين تركتني - لحسن حظي - نائما.
أقريطون :
وكيف كانت رؤياك تلك؟
سقراط :
جاءتني شبيهة امرأة جميلة وسيمة، تدثرت بثوب أبيض، وصاحت بي قائلة: يا سقراط! إنك ذاهب إلى أخراك في اليوم الثالث منذ الآن.
أقريطون :
ما أعجبه من حلم يا سقراط!
سقراط :
معناه ظاهر يا أقريطون، وليس فيه مجال للريب.
أقريطون :
نعم، إنه جلي غاية الجلاء، ولكن، أواه! يا عزيزي سقراط، دعني أتوسل إليك مرة أخرى، أن تأخذ بنصحي فتعمد إلى الهروب؛ لأنك إذا مت فلن أفقد فيك صديقا فريدا وكفى، ولكن ثمة فوق ذلك شرا؛ سيزعم من لا يعرفك ولا يعرفني من الناس أني كنت أستطيع لك النجاة لو أنني رغبت في بذل المال، ولكني لم أعبأ بك، أفيمكن أن يكون بعد هذا العار عار؛ أن يقال إني آثرت المال على حياة صديق؟ وهيهات أن يقتنع الدهماء بأني أردتك على الفرار فرفضت.
سقراط :
وفيم العناية بحديث الدهماء يا عزيزي أقريطون، سترى الفئة الصالحة في ذلك رأيا صوابا يطابق ما وقع ، وهي وحدها جديرة بالاعتبار.
2
أقريطون :
ولكنك ترى يا سقراط أن رأي الدهماء لا بد من اعتباره، وذلك ظاهر في قضيتك أنت، ففي مقدورهم أن ينزلوا أفدح المحن بمن لم يظفر عندهم بالرضا كائنا من كان.
سقراط :
ليتهم يستطيعون ذلك يا أقريطون، فذلك كل ما أرجوه؛ إذ لو استطاعوا لكان كذلك في وسعهم أن يفعلوا أعظم الخير، فيكون ذلك منهم جميلا. ولكنهم في حقيقة الأمر عاجزون عن فعل الخير والشر على السواء، وليس في مقدورهم أن يصيروا الرجل حكيما أو فدما، وكل أفعالهم وليدة المصادفة.
أقريطون :
نعم ولست منازعك في ذاك، ولكن هلا تفضلت فأنبأتني يا سقراط - إن كنت لا تغض النظر عني وعن سائر أصدقائك فيما تصرف من الأمر - ألست تخشى أنك إن فررت من هذا المكان فقد يصيبنا النمامون بالضر بسبب اختطافك، وأنا قد نفقد أملاكنا كلها أو جلها، أو قد ينزل بنا من الشر ما هو أشد من ذلك هولا؟ فليطمئن قلبك إن كان ذلك ما تخشاه. فواجب حتم علينا أن نخاطر بهذا، وبما هو أعظم من هذا في سبيل نجاتك، فاقتنع إذن بما أقول، وافعل بما أشير.
سقراط :
نعم يا أقريطون، وليس هذا الذي ذكرته كل ما أخشى، وإن يكن جانبا منه.
أقريطون :
لا تخف. إن هناك نفرا يود لو ينجيك فينتزعك من غيابة السجن، ولن يكلفهم ذلك شططا، أما النمامون فهم كما ترى لا يشتطون في الطلب، ويقنعهم من المال قليله. إن مالي بأسره رهن إشارتك، وهو كاف فيما أعتقد، فإن أشفقت أن ينفد كله، فها هم أولاء نفر من الغرباء يمدونك بما يملكون، وهذا أحدهم سمياس الطيبي قد أحضر معه لهذا الغرض نفسه مبلغا من المال. وذلك سيبيس وغيره كثيرون، يتمنون أن يبذلوا في سبيلك أموالهم؛ إذن فلا تحسب لذلك حسابا، ولا تتردد في تنفيذ القرار. ولا تقل كما قلت في المحكمة إنك لا تدري ماذا عساك أن تفعل بنفسك إن فررت فأنى حللت نزلت من الناس منزلا كريما، وليس ذلك قاصرا على أثينا، فثمة في تساليا ستجد من أصدقائي حماية وتقديرا إن أحببت الذهاب إليهم، ولن تصادف بين بني تساليا جميعا فردا يصيبك بالأذى، ولست أرى بعد هذا كله ما يبرر لك يا سقراط أن تفرط في حياتك، والنجاة ميسورة مستطاعة. إنك لتلعب بنفسك في أيدي أعدائك وقاتليك، بل إني لأزعم فوق هذا أنك إنما تسيء إلى أبنائك؛ لأنك آثرت أن ترتحل تاركهم لما قسمت لهم حظوظهم، وكان في وسعك أن تقوم بنفسك على تنشيئهم وتربيتهم، فإن لم يصبهم ما يصيب اليتامى عادة من قضاء، ما استحققت عندهم من الشكر إلا قليلا؛ فليس لإنسان أن يقذف في العالم بأطفال لا يحب أن يستميت حتى النهاية في إطعامهم وتربيتهم، ولكنك تختار أيسر الأمرين فيما أظن، لا أحسن الأمرين وألصقهما بالرجولة. وكان ذلك أجدر برجل مثلك يبشر بالفضيلة في أفعاله جميعا. حقا إني لأستحيي منك، بل من أنفسنا، نحن أصدقاءك، كلما دار بخلدي أن قصتك هذه جميعا ستنسب إلى نقص في بسالتنا؛ فما كان ينبغي أن تكون المحاكمة، أو كان يجب أن تختم بغير ما ختمت به، وهذه النهاية التي أراها أسوأ العبث، ستبدو للناس كأنما صادفت منك ارتياحا، ولما أبديناه من ضعة وخور، نحن الذين كان بوسعنا أن ننجو بك، كما كان بوسعك أن تنجو بنفسك، لو كنا نملك لأي شيء نفعا (إذ لم يكن الفرار أمرا عسيرا)، وسيظن يا سقراط أنا لم نقدر أن ذلك كله سينقلب علينا وعليك بؤسا وعارا، ففكر إذن في الأمر إن لم تكن قد اعتزمت بعد شيئا، فقد انقضت فرصة التفكير ولم يعد لديك إلا أمر واحد يجب إنجازه هذا المساء، لو كنت تريد له إنجازا، فإن أرجأت أمرك تعذر واستحال؛ وعلى ذلك فأنا أتوسل إليك يا سقراط أن تسلس لي القياد وأن تفعل بما به أشير.
سقراط :
أي عزيزي أقريطون! ما أعز حماسك وما أنفسه، لو كان في جانب الحق، أما إن كان للباطل فكلما ازداد الحماس اشتعالا ازداد الأمر سوءا. فلننظر إذن إن كانت هذه الأعمال واجبة الأداء أم ليست كذلك؛ فقد كنت دائما، وما أزال، من تلك الطبائع التي تلتزم دليل العقل، كائنا ما كان رأيه، ما دام يبدو عند التفكير أنه الرأي الأمثل. أما وقد أصابتني هذه المحنة فلا يسعني أن أهمل الآن ما ارتأيته قبلا؛ فما زالت مبادئي التي طالما أجللتها وقدستها، تنزل عندي منازل الإحلال والتقديس.
3
فثق أني لن أظاهرك في الرأي، اللهم إلا إذا اهتدينا الآن إلى مبدأ يكون خيرا منها. نعم، لن أصغي إليك حتى ولو زادني الدهماء حبسا ومصادرة وموتا، ملقين في نفوسنا من أراجيف الشياطين المفزعة ما نفزع به الأطفال؟ فأي سبل التفكير أهدى إلى بحث هذا الموضوع؟ أعودا إلى رأيك الذي سقته من قبل عما يقول الناس عنا، وبعضه يستحق الاعتبار دون بعض كما سبق لنا القول؟ أكنا نصيب لو أننا أخذنا برأيك (وهو أن يقام وزن لما يقول الناس) قبل الحكم بالإدانة؟ أم هل ينقلب الرأي الذي كان صائبا حينا ما، كلاما لمجرد الكلام، ويتبين أنه لم يكن في الواقع إلا عبثا اتخذ سبيلا للتسلية واللهو؟ ابحث معي هذا يا أقريطون، أترى أن لم يعد منطقي الذي اتخذته أولا يلائم على أية حال ما يكتنفني الآن من ظروف، أم لست ترى الأمر كذلك؟ ثم هل هو حقيق عندي بالرفض أم بالقبول؟ إن كثيرا ممن يزعمون لأنفسهم رجاحة الرأي يذهبون فيما أعتقد إلى هذا الذي أشرت إليه من قبل، وهو أن من الناس بعضا يجدر بآرائهم الاعتبار، وأما بعضهم الآخر فلا يصح أن يؤبه له. وأنك يا أقريطون لست مقبلا غدا على موت، أوليس هناك احتمال بشري بهذا على الأقل؛ فأنت إذن حكم صالح، لا يؤثر فيك الهوى ولا تميل بك ظروفك وموقفك عن جادة الحق. حدثني إذن: ألست مصيبا فيما أزعم، بألا نقدر من آراء الناس إلى بعضها فقط؟ لقد أخذت بهذا الرأي، وأنا أسائلك هلا تراني قد أصبت فيما ارتأيت؟
أقريطون :
ليس في ذلك ريب.
سقراط :
ألا يجب أن نحفل بما يقوله أبرار الناس دون شرارهم ؟
أقريطون :
بلى.
سقراط :
وما يرى الحكماء فهو خير، وما يرى غير الحكماء فهو شر؟
أقريطون :
لا شك في ذلك.
سقراط :
لننظر ما قيل في غير هذا الموضوع، هل يطلب إلى طالب التمرينات البدنية أن يصغي إلى القدح والثناء، وإلى رأي كل إنسان فيه، أم يجب أن يستمع إلى رأي رجل واحد فقط، هو طبيبه أو مدربه كائنا من كان؟
أقريطون :
إنه يستمع إلى رأي رجل واحد فحسب.
سقراط :
أينبغي أن يخاف اللوم وأن يرحب بالثناء يوجهه ذلك الرجل وحده، ولا يأبه للوم الناس ومدحهم؟
أقريطون :
بدهي ما تقول.
سقراط :
ويجب أن يعيش ويدرب، وأن يأكل ويشرب، على نحو ما يبدو صالحا لذلك المعلم الأوحد، وهو عليم بأمره، فذلك أجدى من السير تبعا لما يراه سوى معلمه من الناس ولو كانوا أجمعين؟
أقريطون :
هذا حق.
سقراط :
وأنه لو عصى هذا الرجل وحده وغض البصر عن آرائه ومدائحه واضعا في اعتباره رأي الكثرة التي لا تفقه من الأمر شيئا، فلا يعاني شرودا؟
أقريطون :
إنه بغير شك يعانيها.
سقراط :
وماذا عساها تكون تلك الشرور؟ إلام تنحو؟ وأي شيء تصيب من الشخص المتمرد؟
أقريطون :
لا ريب في أنها ستصيب منه الجسد، فذلك ما تقوى على هدمه الشرور.
سقراط :
ذلك جد جميل، أليس ذلك حقا يا أقريطون بالنسبة إلى الأشياء الأخرى، ولا حاجة بنا إلى ذكرها تفصيلا؟ أينبغي أن نتبع رأي الجمهرة، ونخشاها في موضوعات العدل والظلم، والجميل والقبيح، والخير والشر، وهي ما نحن الآن بصدد بحثه، أم نتبع في ذلك رأي الرجل الواحد الذي يفهمها، والذي يجب أن يكون له منا هيبة وإجلال أكثر مما يكون لسائر الناس أجمعين، والذي إن نبذنا قوله فإنما نهدم في أنفسنا جانبا كان يرجى له أن يقوم بالعدل وأن يسوء بالظلم، أليس فينا ذلك الجانب؟
أقريطون :
إنه موجود يا سقراط، ولا شك في وجوده.
سقراط :
خذ مثلا شبيها بهذا. هبنا انتصحنا بما ينصح به هؤلاء الذين لا يفقهون فأفسدنا من أنفسنا جانبا، تصلحه الصحة ويتلفه المرض؛ أفتكون الحياة جديرة بالبقاء، إذا ما فسد ذاك؟ وإنما أعني به الجسد.
أقريطون :
نعم.
سقراط :
أفي وسعنا أن نعيش وأجسامنا مصابة بالشر والفساد؟
أقريطون :
كلا ولا ريب.
سقراط :
وهل تساوي الحياة شيئا إذا ما فسد من الإنسان جزؤه الأسمى، ذلك الذي تقومه العدالة ويفسده الجور، أفيمكن أن يكون ذلك العنصر الذي يرتبط أمره بالعدل والجور - مهما يكن شأنه في الإنسان - أدنى منزلة من الجسد؟
أقريطون :
كلا ولا شك.
سقراط :
هو إذن أرفع مقاما.
سقراط :
هو إذن أرفع مقاما إلى حد بعيد.
سقراط :
إذن فلا ينبغي يا صاح أن نأبه لما تقوله الجمهرة عنا، إنما يجب أن نصغي لحكم الحقيقة، كما نستمع إلى رأي ذلك الواحد الذي يفهم كنه العدل والظلم؛ فأنت إذن قد وقعت في الخطأ حين ارتأيت وجوب العناية بما يقوله الدهماء في الظلم والعدل، والخير والشر، والزائن والشائن، سيقول أحد: «ولكن الدهماء في مقدورها إعدامنا.»
أقريطون :
نعم يا سقراط، سيكون ذلك بغير شك رد ما تقول.
سقراط :
هذا حق، ولكن مع ذلك يدهشني أن أرى الحجة القديمة لا تزال فيما أحسب قائمة قوية كما كانت، وأحب أن أعرف إن كنت أستطيع أن أقول هذا القول في قضية أخرى، وهي أن ليست الحياة حقيقة بالتقدير ما لم تكن قبل كل شيء حياة خيرة.
أقريطون :
نعم، بقي لنا أن نبحث هذه أيضا.
سقراط :
والحياة الخيرة تعادل الحياة العادلة الشريفة، أليس هذا كذلك صحيحا؟
أقريطون :
نعم إنه صحيح.
سقراط :
سأنتقل من هذه المقدمات إلى البحث عما إذا كان واجبا علي أن أحاول الفرار بغير موافقة الأثينيين، أم أن ذلك لا يجوز؛ فإن كنت على حق صريح في الفرار، حاولته، وإن لم أكن، امتنعت. أما سائر الاعتبارات التي ذكرتها عن المال وضيعة الأخلاق وواجب تربية الأطفال، فهي كما بلغني ليست إلا تعاليم الدهماء الذين لو استطاعوا لما أبوا أن يبعثوا إلى الحياة أناسا، كما أنهم لا يتعففون عن أن يوردوا الحتف أناسا، وتكفيهم في كلتا الحالتين أوهن الأسباب. أما وقد وصلنا بالجدل إلى هذا الحد؛ فقد بقيت لنا مشكلة واحدة جديرة بالبحث، وهي: هل نكون على حق في الهروب بأنفسنا، أو في تحميل سوانا عناء عوننا في الفرار، لقاء نقدهم جزاء وشكورا، أم لا نكون، فإن كانت الأخيرة فلا ينبغي أن يحسب حسابا لموت أو لما شئت من الكوارث التي قد تنجم عن بقائي هنا.
أقريطون :
أحسبك مصيبا يا سقراط، فكيف سبيلنا إذن إلى البحث؟
سقراط :
لننظر معا في الأمر، فإن استطعت لما أقول تفنيدا فافعل، وسأقنع بك، وإلا فأمسك يا صديقي العزيز، ولا تقل ثانية بأنه يجب علي أن ألوذ بالفرار برغم إرادة الأثينيين وليتني أجد منك إقناعا، ولشد ما أرغب في هذا على ألا يكون ذلك مخالفا لما أراه حكما سديدا، وتفضل الآن فانظر في موقفي الأول، وحاول ما استطعت أن تجيب عما أقول.
أقريطون :
سأبذل في ذلك وسعي.
سقراط :
أفيجوز لنا القول بأنه لا ينبغي لنا قطعا أن نتعمد الخطأ، أم أن فعل الخطأ مقبول حينا مرذول حينا آخر، أم أن فعله أبدا شر ووصمة عار كما سبق لي القول الآن وسلمنا بصحته معا؟ أفننبذ الآن كل ما سمحنا لأنفسنا به منذ أيام قلائل؟ أم أننا قضينا هذا العمر الطويل، يحاور بعضنا بعضا في حماسة وإخلاص لكي نوقن ونحن في هذه السن بأنا لا نفضل الأطفال في شيء؟ أم نثق ثقة قاطعة بصحة ما قيل من قبل، من أن الجور دائما شر وعار على الجائر. برغم ما يرى الدهماء، وبرغم ما ينجم عن ذلك من نتائج، حسنة كانت أم سيئة؟ هل نؤيد هذا؟
أقريطون :
نعم.
سقراط :
إذن يجب ألا نفعل الخطأ.
أقريطون :
يقينا يجب ألا نفعله.
سقراط :
وإذا أصابنا الضرر فلا نرده بضرر مثله، كما تتخيل كثرة الناس؛ لأنه يجب ألا نصيب أحدا بضر.
أقريطون :
واضح أن ذلك لا يجوز.
سقراط :
ثم هل يجوز لنا أن نفعل الشر يا أقريطون؟
أقريطون :
لا يجوز قطعا يا سقراط.
سقراط :
وما رأيك في رد الشر بالشر، وهي أخلاق الدهماء، أذلك عدل أم ليس بالعدل ؟
أقريطون :
ليس بالعدل.
سقراط :
فلأن تصيب أحدا بشر كأن تصيبه بضر.
أقريطون :
صحيح جدا.
سقراط :
إذن لا ينبغي لنا أن نأخذ بالثأر، ولا أن نرد الشر بالشر لأحد ما، كائنا ما كان الشر الذي ابتلانا به، وأحب أن تنظر في الأمر يا أقريطون؛ لترى هل كنت حقا تعني ما تقول؛ ذلك لأنه لم يأخذ بهذا الرأي يوما، ولن يأخذ به إلى آخر الدهر فريق من الناس كبير. ولا سبيل إلى اتفاق بين من يقرون هذا الرأي ومن لا يقرونه؛ فما بد من أن يزدري بعضهم بعضا، عندما يرون كم بينهم من شقة الخلاف. حدثني إذن، أأنت متفق معي ومؤيدي في مبدئي ذاك، وهو أن ليس من الحق إيقاع الضر، ولا الأخذ بالثأر، ولا رد الشر بالشر؟ أمسلم أنت بهذا مقدمة لحديثنا، أم أنت منكر له راغب عنه؟ لقد كان ذلك مذهبي منذ عهد بعيد، وما يزال كذلك؛ فإن كنت ترى غير ذلك رأيا، فهات ما عندك. أما إن كنت بعد هذا كله لا تزال عند رأيك الأول، انتقلت معك في الحديث خطوة أخرى.
أقريطون :
إنني ثابت عند رأيي، فتستطيع أن تسير في الحديث.
سقراط :
سأنتقل إذن إلى الخطوة الثانية التي يمكن أن توضع في صيغة هذا السؤال، أينبغي للإنسان أن يفعل ما يراه حقا، أم ينبغي له أن ينقض الحق.
أقريطون :
إنه يجب على الإنسان أن يفعل ما يظنه حقا.
سقراط :
ولكن ما تطبيق هذا إن صح؟ ألست أسيء إلى أحد إن تركت السجن برغم إرادة الأثينيين؟ أو على الأصح، ألست أخطئ في حق أولئك الذين ينبغي أن يكونوا من أبعد الناس عن الإساءة؟ ألا يكون ذلك تطليقا لمبادئي التي سلمنا معا بعدلها؟ ماذا تقول في هذا؟
أقريطون :
لست أدري يا سقراط، فلا أستطيع أن أقول شيئا.
سقراط :
إذن فانظر إلى الأمر على هذا الوجه: هبني هممت بالأبوق (أو إن شئت فسم هذا العمل بما أردت من أسماء) فجاءت إلي القوانين والحكومة تساءلني: «حدثنا يا سقراط، ماذا أنت فاعل؟ أتريد بفعلة منك أن تهز كياننا؛ أعني القوانين والدولة بأسرها بمقدار ما هي في شخصك ماثلة؟ هل تتصور دولة ليس لأحكام قانونها قوة، ولا تجد من الأفراد إلا نبذا واطراحا، أن تقوم قائمتها، فلا تندك من أساسها؟» فماذا نجيب يا أقريطون عن هذه العبارة وأشباهها؟ وسيكون جمال القول واسعا لكل إنسان! وللخطيب البليغ بنوع خاص، يهاجمون هذا الشر الذي ينجم عن إطراح القانون الذي لا بد لحكمه من النفاذ. وربما أجبنا نحن: «نعم، ولكن الدولة قد آذتنا، وجارت علينا في قضائها»، هبني قلت هذا.
أقريطون :
جميل جدا يا سقراط.
سقراط :
سيجيب القانون: «أفكان ذلك ما قطعته معناه من عهد، أم كان لزاما عليك أن تصدع لما حكمت به الدولة؟» فإن بدت على من قولهم هذا علائم الدهشة، فربما أضاف القانون قوله: «أجب يا سقراط بدل أن تفتح لنا عينيك، وقد عهدنا مسائلا ومجيبا. حدثنا، ما شكاتك منا، تلك التي تسوغ لك محاولة هدمنا وهدم الدولة معا؟ فوق كل شيء، ألم نأت بك إلى الوجود؟ ألم يتزوج أبوك من أمك بعوننا فأعقباك؟ قل إن كان لديك ما تعترض به على أولئك الذين ينظمون الزواج منا؟» وهنا لا بد من إجابتي أن لا، «أو على أولئك الذين منا ينظمون طرائق التغذية والتربية للأطفال، وفي ظلها نشأت أنت؟ ألم تكن القوانين التي نهضت بهذا على حق في أن طلبت إلى أبيك أن يدربك في الموسيقى ورياضة البدن؟» وهنا يلزم أن أجيب أن قد كانت على حق: «حسنا، فإن كنا قد أتينا بك إلى العالم، ثم أطعمناك فأنشأناك، أفأنت جاحد أنك قبل كل شيء ابننا وعبدنا كما كان آباؤك من قبل؟ فإن صح هذا فلسنا وإياك سواسية، فلا تظن أن من حقك أن تفعل بنا ما نحن بك فاعلون، وهل يكون لك أدنى حق في أن تنال أباك أو سيدك، إن كان لك أب أو سيد، بالضرب أو بالشتم أو بغير ذلك من السوء، إذا وقع عليك منه ضرب أو شتم، أو أصابك منه غير ذلك من الشر؟ - لا نخالك قائلا بهذا. وإذا كنا قد رأينا أن من الصواب إعدامك، أفتظن أن من حقك أن تجازينا إعداما بإعدام؟ وأن تجازي وطنك بمقدار ما هو ماثل فيك؟ وهل تظن يا أستاذ الفضيلة أن يكون لك في ذلك ما يبررك. أيعجز فيلسوف مثلك أن يرى بأن وطننا أخلق بالتقدير، وأنه أسمى جدا وأقدس من أم أو أب أو من شئت من سلف، وهو أجدر بالاعتبار في نظر الآلهة وأهل الفطنة من الناس، وأنه إن غضب وجد أن نهدئ من سورته، وأن نلاقيه لقاء وديعا خاشعا أكثر مما نفعل حتى مع الوالد، فإن تعذر إقناعه وجبت طاعته! فإذا نالنا منه العقاب بالسجن أو بالجلد، وجب أن نحتمل جزاءه في صمت، وإن ساقنا إلى حومة الوغى حيث الجراح والموت، كان لزاما أن ننصاع له باعتباره مصيبا، دون أن يسلم أحد منا أو يتقهقر أو يترك منصبه، وواجب حتم على الإنسان أن يصدع بما يأمره به الوطن، سواء أكان في ساحة الحرب أم في ساحة القانون، إلا إذا غير من وجهة نظره في ماهية العدل، وإن كان لا يجوز له أن يقسو على أبيه أو أمه؛ فما أوجب أن يكون رحيما على وطنه.» بماذا نجيب على هذا يا أقريطون؟ آلقوانين فيما تقول صادقة أم ليست بصادقة؟
أقريطون :
أحسبها صادقة فيما تقول.
سقراط :
وستقول القوانين بعدئذ: «اعلم يا سقراط، إن صح هذا، أنك بهذه المحاولة إنما تسيء إلينا؛ لأننا بعد إذ أتينا بك إلى الدنيا، وأطعمناك وأنشأناك وأعطيناك كما أعطينا سائر أبناء الوطن قسطا من الخير، ما استطعنا للخير عطاء؛ فقد أعلنا فوق ذلك على رءوس الأشهاد أن من حق كل أثيني أن يرحل إلى حيث شاء حاملا متاعه معه، إذا هو نفر منا بعد أن تقدمت به السن فعرفنا حق المعرفة وعرف على أي الأسس تسير المدينة وليس فينا نحن القوانين ما يحول دونه أو يتدخل معه في أمره، فلكل منكم إذا ما كرهنا وكره المدينة، وأراد الرحيل إلى إحدى المستعمرات أو إلى أية مدينة أخرى، أن يذهب حيث شاء، وأن ينقل متاعه معه. أما ذلك الذي عركنا فعرف كيف نقيم العدل وكيف ندير الدولة. ثم رضي بعد ذلك المقام بيننا؛ فهو بذلك قد تعاقد ضمنا على أنه لا بد فاعل ما نحن به آمرون، فمن عصانا، ونحن ما نحن، فقد أخطأ مرات ثلاثا: الأولى أنه عصى والديه بعصيانه إيانا، والثانية أننا نحن الذين رسمنا له طريق نشأته، والثالثة أنه قطع معنا على نفسه عهدا أنه سيطيع أوامرنا، فلا هو أطاعها، ولا هو أقنعنا بأنها خاطئة، ونحن لا نفرضها عليه فرضا غشوما، ولكنا نخيره، فإما طاعتنا وإما إقناعنا، هذا ما قدمناه إليه، وهذا ما رفضه جميعا. تلك هي صنوف المآخذ التي ستقيم من نفسك هدفا لها يا سقراط إذا أنت أنجزت عزيمتك، كما سبق لنا بذلك القول. ولا سيما أنت دون الأثينيين جميعا.» وهبني سألت: ولم هذا؟ فستجيب حقا بأنني قد سلمت بهذا الاتفاق دون سائر الناس. ستقول القوانين: إن ثمة لبرهانا ساطعا يا سقراط، بأننا والمدينة معنا لم نكن لنعكر عليك صفو العيش؛ فقد كنت أدوم الأثينيين جميعا مقاما في المدينة لم تغادرها قط، حتى ليجوز لنا الفرض بأنك كنت تحبها. إنك لم تغادرها مطلقا لنشهد الألعاب، اللهم إلا مرة واحدة حين ذهبت لترى البرزخ،
4
ولم تفصل عنها لتقصد إلى أي مكان آخر، إلا إذا كنت في خدمة الجيش، ولم تسافر كما يسافر الناس، ولم يدفعك حب الاستطلاع إلى رؤية الدول الأخرى لتلم بقوانينها؛ فقد اختصصتنا بحبك لم تجاوز به حدود دولتنا، فكنا نحن أصفياءك المخلصين، وقد رضيت بحكمنا إياك. إن هذه هي الدولة التي أعقبت فيها أبناءك، وإن ذلك لينهض دليلا على رضاك. هذا وقد كنت تستطيع لو أردت أن تقرر عقوبة النفي أثناء المحاكمة، وإن كان الآن ثمة دولة تغلق دونك أبوابها؛ فقد كانت حينئذ تسمح بذهابك إليها، ولكن ادعيت أنك تؤثر الموت على النفي، وأنك لم تبتئس من الموت، ولكن ها أنت ذا الآن قد أنسيت تلك العواطف الجميلة، وترفض أن تحترمنا؛ نحن القوانين التي أنت هادمها. وإنك الآن لتفعل ما لا يفعله إلا العبد الخسيس، فتولي أدبارك هاربا من العقود والعهود التي اقتطعتها على نفسك باعتبارك واحدا من أبناء الوطن. فأجب لنا أولا عن هذا السؤال: أنحن صادقون في القول بأنك اتفقت على أن تحكم وفقا لنا، بالفعل لا بالقول فقط؟ أهذا حق أم كذب؟ بماذا نجيب عن ذلك يا أقريطون ألسنا مضطرين إلى التسليم؟
أقريطون :
ليس عن ذلك منصرف يا سقراط.
سقراط :
أفلن تقول القوانين إذن: «إنك يا سقراط ناقض للمواثيق والعهود التي أخذتها معنا على نفسك اختيارا؛ فما كنت في أخذها عجلان ولا مجبرا ولا مخدوعا، ولكنك لبثت سبعين عاما تفكر فيها، وكنت خلالها تستطيع أن تغادر المدينة إن كنا لم نصادف من نفسك قبولا، أو كنت قد رأيت فيما اتفقنا عليه إجحافا بك. كنت في ذلك مخيرا، وكان في مقدورك أن ترحل إما إلى لاقيديمون أو إلى كريت اللتين كثيرا ما امتدحتهما لحسن حكومتيهما، أو ترحل إلى أية دولة أجنبية يونانية أخرى. ولكنك كنت تبدو، أكثر من سائر الأثينيين جميعا، شغوفا بالدولة، أو بعبارة أخرى، بنا؛ أي بقوانينها (إذ من ذا الذي يحب دولة لا قوانين لها)، فلم تتزحزح عنها قط، ولم يكن العمي والعرج والمقعدون، بأكثر منك قبوعا بها. وها أنت ذا الآن تفر ناقضا ما قطعته من عهود. ما هكذا يا سقراط إن أردت بنا انتصاحا، لا تدع نفسك بهروبك من المدينة موضع السخرية.
وحسبك أن ترى أي خير تقدمه لنفسك أو لأصدقائك، إن أنت اعتديت أو أخطأت على هذا الوجه. أما أصدقاؤك فالأرجح أن يشردوا نفيا، وأن يسلبوا حق انتسابهم للوطن، أو أن يفقدوا أملاكهم. أما عن نفسك أنت، فلو تسللت إلى إحدى المدن المجاورة، إلى طيبة أو ميغارا مثلا، وهما مدينتان تسيطر عليهما حكومة حازمة، فستدخلهما عدوا يا سقراط، وستناصبك حكومتاهما العداء، وسينظر إليك أبناؤهما الوطنيون بعين ملؤها الشر لأنك هادم للقوانين، وسيقر في عقول القضاة أنهم كانوا في إدانتهم إياك عدولا. فأغلب الظن أن يكون مفسد القوانين مفسدا للشبان، وأن يكون بلاء ينزل بالغفلة على بني الإنسان. فلم يبق لديك إلا أن تفر من هذه المدن المنظمة، ومن ذوي الفضل من الرجال، ولكن أيكون الوجود حقيقا بالبقاء على هذه الحال؟ أم أنك ستغشى هؤلاء الناس في صفاقة يا سقراط لنتحدث إليهم؟ وماذا أنت قائل لهم؟ أفتقول ما تقوله هنا من أن الفضيلة والعدالة والتقاليد والقوانين أنفس ما أنعم به على الناس؟ أيكون ذلك منك جميلا؟ كلا ولا ريب. أما إن فررت من الدول ذوات الحكم الحازم، إلى تساليا حيث أصدقاء أقريطون، وحيث الإباحية والفوضى، فسيجدون متاعا في قصة هروبك من السجن، مضافا إليها ما يبحث على السخرية من التفصيل عن كيفية تنكرك في جلد عنزة أو ما عداه من أسباب التنكر، وعما بدلته من ملامحكم كما جرت بذلك عادة الآبقين. ليس ذلك كله ببعيد، ولكن ألن تجد هناك من يذكرك بأنك وأنت هذا الشيخ الكهل، قد نقضت أشد القوانين تقديسا، من أجل رغبة حقيرة في استزادة الحياة زيادة ضئيلة؟ قد لا تجد إذا استرضيتهم، ولكن لا تلبث أن تثور منهم سورة الغضب، حتى يصكوا مسمعيك بما يجللك عارا. إنك ستعيش، ولكن كيف؟ متعلقا للناس جميعا وخادما للناس جميعا. وماذا أنت صانع؟ ستأكل في تساليا وتشرب؛ لأنك قد غادرت البلاد لكي تصيب في الغربة طعاما لغدائك، وأين ترى ستكون تلك العواطف الجميلة التي تبديها حول العدل والفضيلة؟ قل إنك راغب في الحياة من أجل أبنائك لتتعهدهم تربية وإنشاء، ولكن أأنت مصطحبهم في تساليا، فتقضي عليهم بذلك ألا يكونوا أبناء الوطن الأثيني؟ أذلك ما ستمنحهم إياه من نفع؟ أم أنت تاركهم واثقا بأنهم سيكونون أحسن رعاية وتربية ما دمت أنت حيا، حتى ولو كنت غائبا عنهم؛ إذ يعني بهم أصدقاؤك؟ هل تخيل لنفسك أنهم سيعنون بهم ما أقمت في تساليا، أما إن صرت من أهل العالم الآخر، فلن يعنوا بهم؟ كلا، فإن كان من يسمون أنفسهم أصدقاء، أصدقاءك حقا ، فإنهم لا شك معنيون بأبنائك.
اصغ إلينا إذن يا سقراط، نحن الذين أنشأناك. لا تفكر في الحياة والأبناء أولا، وفي العدل آخرا، بل فكر في العدل أولا، وارج أن تصيب البراءة عند ولاة العالم الأدنى. فإن فعلت ما يأمرك به أقريطون، فلن تكون أنت ولا من يتعلق بك كائنا من كان، أسعد أو أقدس أو أعدل في هذه الحياة ولا في أية حياة أخرى. فارحل الآن بريئا، مجاهدا لا فاعلا للرذيلة، ضحية الناس لا ضحية القوانين. أما إن صممت أن ترد الشر بالشر والضر بالضر، ناقضا ما قطعته أمامنا على نفسك من عهود ومواثيق، مسيئا إلى أولئك الذين ينبغي ألا يمسهم من إساءتك إلا أقلها؛ أعني نفسك، وأصدقاءك، ووطنك، ونحن، فسننقم عليك ما دمت حيا، وستستقبك قوانين العالم الأدنى وهي إخوتنا، عدوا؛ لأنها ستعلم أنك لم تدخر وسعا في هدمنا. اصغ إذن إلينا، لا إلى أقريطون.»
هذا هو الصوت الذي كأني به يهمس في مسمعي، كما تفعل نغمات القيثارة في آذان المتصوف. أقول إن هذا هو الصوت الذي يدوي في أذني فيمنعني من أن أستمع إلى أي صوت سواه، وإني لأعلم أن كل ما قد تقوله بعد هذا سيذهب أدراج الرياح. ومع هذا، تكلم إن كان لديك ما تقوله.
أقريطون :
ليس لدي ما أقوله يا سقراط.
سقراط :
ذرني إذن أتبع ما توحي به إلي إرادة الله.
مقدمة «فيدون»
مات سقراط، ثم انقضت بعد موته شهور أو سنين، فطلب إلى فيدون وهو التلميذ المحبب إلى أستاذه أن يقص على أهل «فليوس» كيف قضى سقراط، وكيف أنفق أخريات ساعاته، فاستجاب فيدون، وقص هذا الحوار الذي نقدم له؛ وإذن فالمحاورة قد صيغت بالضرورة في أسلوب القصة؛ لأنه كان لا بد لفيدون أن يصف سقراط في حديثه وحركاته، فلم يفته فيما روى أدق التفصيلات، وكان السامعون يتابعون الحديث في شغف لا يقل عن شغف راويه.
حكم على سقراط بالموت، وكان لا بد له أن ينتظر في سجنه حتى تعود السفينة المقدسة من «ديلوس»، وهي رحلة تستغرق ثلاثين يوما، اتخذها الأثينيون شهرا حراما لا يجوز القتل خلاله؛ فأنفق سقراط هذه الأيام يتحدث إلى صفوة مختارة من تلاميذه، فلما انتهى الشهر المحرم، أقبل التلاميذ في ساعة باكرة لكي يحاوروا سقراط الحوار الأخير، وكان بين الحاضرين «سمياس» و«سيبيس» و«أقريطون» وحارس السجن الذي اختاره أفلاطون ليصور به تأثير سقراط في عامة الناس.
لم يكد يدخل هؤلاء التلاميذ والأصدقاء غرفة سقراط حتى هم هذا بإرسال زوجته وأبنائه - وكانوا في زيارته - إلى الدار لكي يتفرغ إلى محادثة أصدقائه، وكان ساعتئذ قد حلت عنه القيود لتوه، فانتهز هذه الفرصة، وبدأ الحديث بأن لاحظ أن اللذة تعقب الألم (وهنا ينبغي أن نلاحظ أن أفلاطون يمهد بذلك إلى نظريته التي سيبسطها فيما بعد عن تعاقب الأضداد)، فيقول عن اللذة والألم: إنهما كانا جديرين أن يمثلهما «إيسوب» في قصة، فيصورهما مخلوقا ذا رأسين، فاستدعى ذكر «إيسوب» سؤالا ألقاه «سيبيس» يسأل سقراط عن العلة التي دفعته إلى قرض الشعر في السجن - إذ كان يحاول أن ينظم قصص «إيسوب» شعرا - مع أنه لم يكن شاعرا، فأجاب سقراط بأنه إنما لجأ إلى ذلك؛ لأنه أنذر مرات عدة في أحلامه بوجوب ممارسته الموسيقى، ولما كان حينئذ يدنو من الموت أراد أن يتحوط لنفسه فينفذ إرادة النذير الذي أهاب به في رؤاه تنفيذا حرفيا من ناحية، وروحيا من ناحية أخرى، بنظمه للشعر وبتعلمه للفلسفة، ويستطرد سقراط في الحديث فيذكر الموت والرغبة فيه مع تحريم الانتحار لعدم شرعيته، فيسأل «سيبيس» لماذا يكون الانتحار في رأي الناس خطيئة إذا كان الموت خيرا؟ فيجيبه سقراط: بأن الإنسان سجين لا يجوز له شرعا أن يفتح باب سجنه بنفسه ليفر هاربا، وثانيا لأن الإنسان ليس ملكا لنفسه، ولكنه ملك للآلهة؛ فليس له الحق إذن في أن يتصرف فيما ليس ملكا له. فيسأل «سيبيس» قائلا: لماذا يرغب الإنسان في الموت ما دام ملكا للآلهة مع أنه بذلك سيغادر أصدقاءه (هو هنا يعرض بسقراط) فيقول سقراط: إن الإنسان يرغب في الموت؛ لأنه سيكون في حماية الآلهة، وهو من غير شك لا يستطيع أن يعنى بنفسه كما تعنى به الآلهة ... ثم يستطرد سقراط فيقول: إن الفيلسوف يريد الموت، ولكن ليس معنى الموت الذي يريده الفيلسوف هو ما يفهمه الناس؛ فما معناه إذن؟ الموت هو انفصال الروح عن الجسد، والفيلسوف يريد هذا النوع من الانفصال؛ لأنه يود أن يتحرر من عالم اللذة الجسدية ومن الحواس التي تشوش التفكير العقلي. إن الفيلسوف يريد أن يتخلص من عينيه وأذنيه؛ ليشهد الحقيقة بضوء العقل وحده؛ فكل ما يصيب الناس من شر، وكل ما ينغمسون فيه من أسباب الفجور وألوان الرغبة إنما مصدره الجسد، والموت هو الذي ينجيه من تلك المفاسد التي يستطيع وهو حي أن يتخلص منها، فإذا كان الفيلسوف يريد هذا الانفصال ويتمناه فهل يندم إذا حانت ساعته؟ إذا كان ميتا في حياته، فلماذا يخشى هذا النوع الثاني من الموت مع أنه وحده السبيل إلى مشاهدة الحكمة في صفائها؟
هذا إلى أن سقراط يخالف سائر الناس في رأيه عن الخير والشر؛ فالناس شجعان حين يخشون خطرا أعظم مما يقبلون عليه بشجاعتهم، وهم معتدلون حين ينشدون باعتدالهم لذة أعظم من اللذة التي يصيبونها في إسرافهم؛ فأما الفيلسوف فيزدري هذه الموازنة بين اللذة والألم؛ لأنها موازنة تصلح لتبادل السلع في التجارة، ولكنها لا تصلح لتبادل الفضائل بحال من الأحوال، فالفيلسوف لا يعتبر الفضائل جميعا بكل ما فيها من حكمة إلا وسائل تطهير للروح، وفي سبيل هذا التطهير الروحي يقبل سقراط على الموت راضيا.
ولكن لا يخشى أن تفنى الروح إذا ما فارقت جسدها كما يتلاشى الدخان أو كما يتبعثر الهواء؟ فيجيب سقراط على هذا الاعتراض أولا بأن يحتج قبل كل شيء بما ذهب إليه رجال المذهب الأورفي منذ القدم من أن أرواح الموتى كائنة في العالم الأدنى، وأن الأحياء إنما يستمدون أرواحهم منها، وهنا يحاول سقراط أن يؤيد هذا المذهب برأي فلسفي وهو أن الأضداد كلها - كالأصغر والأكبر، والأضعف والأقوى، والنائم والمستيقظ، والحياة والموت - يتولد أحدهما من الآخر، ويستحيل أن تكون عملية التوليد هذه مجرد انتقال من ضد إلى ضده وكفى؛ أعني مثلا أن تنتقل الحياة إلى الموت ثم يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ لو صح ذلك لانتهى كل شيء إلى الموت، ولما أمكن لدورة الطبيعة أن تتم إلا إذا انتقل الموت بدوره إلى الحياة، فيصدر الأحياء عن الأموات كما يعود هؤلاء الأحياء أنفسهم فيمضون إلى عالم الأموات.
وهنا يسوق أفلاطون نظريته في التذكر؛ ليؤيد بها وجود الروح قبل حلولها بالجسد، وهو يقيم البراهين على هذه النظرية، وأول برهان يساق لذلك أنك تستطيع أن تستنتج من الجاهل بعض النتائج الرياضية الصحيحة بأن ترسم له شكلا هندسيا وتأخذ في سؤاله فيجيبك بالعلم الصحيح، ولا يكون ذلك إلا أن يكون العلم الرياضي كامنا في الروح، والبرهان الثاني ما للروح من مقدرة على ترابط المعاني، أي استثارة بعضها ببعض، فترى سمياس مثلا فيذكرك ذلك بسيبيس، أو ترى صورة سمياس فتذكر بذلك سمياس نفسه، كذلك قد ترى القيثارة فتذكرك بالعازف عليها، وقد ترى القطع المتساوية من الخشب أو الحجر فيستدعي ذلك في نفسك فكرة سامية هي فكرة المساواة المطلقة. وجدير بنا في هذا الموضع أن نلاحظ أن الأشياء المادية المتساوية لا يبلغ تساويها مبلغ فكرة المساواة المطلقة التي نقارن بها تلك الأشياء ونتخذها مقياسا لها، ولما كان المقياس لا بد أن يكون سابقا للشيء المقيس، وجب أن تكون فكرة المساواة أسبق من المتساويات المادية، وإذا كانت سابقة لها فهي كذلك أسبق من الحواس التي أدركتها؛ وإذن فقد أوتيناها قبل الميلاد، أو ساعة الميلاد نفسها، ولكن الناس جميعا لا يعرفون شيئا إلا إذا استذكروه، فمتى أنسوا العلم إن كانوا قد أوتوه ساعة الميلاد؟ هل يعقل أن يوهبوه ويسلبوه في لحظة بعينها؟ وإذن فلم يبق إلا أن يكون العلم مفطورا في الروح قبل الميلاد أي قبل حلولها بالجسد، وهذا دليل على وجود الروح قبل اتصالها بالجسد، وأنها كانت حينئذ على شيء من الذكاء والإدراك، وإذا صح ذلك فقد صدقت نظرية المثل كلها.
فيعترض سمياس وسيبيس بأن هذه الأدلة إنما تبرهن على وجود الروح قبل اتصالها بالجسد، ولكنها لا تدل على خلودها بعد انفصالها عنه، فيرد سقراط عليهما بأن يذكرهما بما اتفقوا عليه جميعا منذ حين بشأن الأضداد وما يتبع ذلك من اشتقاق الأحياء من الأموات، أما أن نخشى على الروح أن يبددها الهواء عند رحيلها، لا سيما إن كانت الريح عاصفة فتفنى بذلك وتزول، فخوف لا يعتمد على أساس صحيح. ولنسائل أنفسنا: أي الأشياء يجوز عليه التحلل والفساد، أهو البسيط أم المركب؟ الثابت أم المتغير؟ الفكرة الخفية أم المرئي المحسوس؟ لا شك في أن المركب المتغير المرئي هو ما يجوز عليه الفساد، وذلك هو الجسم، أما الروح - وهي فكرة خالصة لا تعرف التغير والتبدل - فلا يعتريها الفساد. هذا إلى أن الروح تأمر والجسم يطيع؛ وإذن فالروح شبيهة بالإلهي الخالد، وأما الجسد فقريب من الزائل الفاني. وهكذا مهما قلبت وجهة النظر رأيت الروح تصور القداسة والخلود، والجسد يصور الخصائص البشرية الفانية، فبينا ترى الجسد يتعرض للتحلل السريع ترى الروح تستعصي على الفساد، أو تكاد تستعصي عليه، ومع ذلك فقد يمكن للجسد أن يصان بالتحنيط حينا طويلا من الدهر؛ فهل نحتمل للروح بعد ذلك أن تفنى وتتبعثر في الهواء وهي في طريقها إلى الله الخير الحكيم؟ إن الروح بعد الموت تتجمع في نفسها، وترتفع عن الجسد، وتتخلص من أدران الناس وسخفهم لتعيش مع الآلهة إلى الأبد.
أما الروح التي دنستها الصفات الجسدية وأثقلتها، والتي لا تبصر إلا بأعين الحواس والتي انغمست في الشهوات الجسدية فيتعذر عليها بعدئذ أن تتجرد. مثل هذه الروح تخاف الدنو من العالم الأدنى فتتلكأ وتتثاقل حول المقابر، مشفقة أن تفارق الجسد الذي أحبته، فتراها تدور حول الرموس في صورة الجن، ويمكن للعين البشرية أن تراها؛ لأنها تكون مشبعة بالمادة حتى تنقلب شيئا محسوسا، وينتهي بها الأمر أن تتقمص حيوانا تتفق طبيعته مع حياتها الأولى، حياة الحس والمادة، فتتقمص حمارا أو ذئبا أو حدأة. وأسعد هذه الأرواح الأرضية ما مارس منها الفضيلة بغير فلسفة ، ويؤذن لهذا الضرب من الأرواح أن يتقمص حيوانا وديع الطبائع ذا نظم اجتماعية كالنمل والنحل ... والفيلسوف وحده هو الذي يرحل نقيا طاهرا، وهو وحده الذي يؤذن له أن يضاف إلى عشيرة الآلهة؛ وذلك ما يدعو إلى الترفع عن شهوات الجسد؛ فهو لا يمتنع عن تلك الشهوات خشية الخسارة والعار كما يفعل سائر الناس، بل لأنه يريد ألا يمتزج بالمادة حتى لا تثقله في رحلته الروحية بعد الموت. لقد كان الفيلسوف في حياته مكبلا بما يكبل سائر الناس من أغلال الجسد، ولكن الفلسفة تحدثت إليه فأصغى إلى حديثها، فكانت خلاصا له من هذا العنصر الجسدي الدنيء، وأزجت عن بصيرته غمائم العواعف وخداع الحواس؛ وبذلك استطاعت روحه أن تنجو من تأثير اللذائذ والآلام، التي من خصائصها أن تربط الروح بالجسد كأنها المسامير، لا رغبة منه في أن يظفر بلذة أعظم، ولكن لأنه يعلم أنه لا يستطيع أن يشهد ضوء الحقيقة إلا إذا هدأ وتحرر من قيود الجسد.
ولكن ذلك لا يزيل الشك عند سمياس وسيبيس، ومع ذلك فلم يعترضا، فيستطرد سقراط متعجبا كيف يحاول أصدقاؤه أن يصرفوه عن رغبة الموت، ولماذا لا يكون كالتم
Swan
الذي ينفق حياته كلها في الإنشاد حتى إذا ما جاءه الموت ازداد إنشادا بل كان أشجى في غنائه منه في أي وقت مضى؟ ... وهنا يقول سمياس: إن الحقيقة وإن تكن مستحيلة الإدراك في صورتها الإلهية، غير أنه من الضعف ألا يحاول الإنسان أن يدرك منها أقوم ما يستطيع البشر إدراكه، وإن ذلك ليكفيه ليتخذ منه فلكا يسبح عليه في خضم الحياة، ويمضي في بسط إشكاله قائلا: لقد أقمنا الدليل على أن الروح خفية لا ترى، وأنها غير مجسدة، وأنها لذلك خالدة بعد انفصالها عن الجسد وموجودة قبل اتصالها به، ولكن ألسنا نزعم أنها عبارة عن انسجام، وإذن فيكون ما يربطها بالجسد هو ما يربط النغمة بالقيثارة؟ فما القول إذا كانت النغمة لا تبقى بعد فناء القيثارة؟ وهنا يتقدم سيبيس أيضا باعتراض يسوقه في تشبيه كما فعل سمياس باعتراضه ، فسلم أن الروح أطول بقاء من الجسد، غير أنه اعترض بأن طول بقاء الروح بالنسبة لبقاء الجسد لا ينهض دليلا على خلودها؛ لأننا لو فرضنا أن الروح ستبقى وستحل في جسد آخر ثم في ثالث ورابع وهكذا؛ فماذا يمنع أن يصيبها الفناء بعد هذا كله؟ أليس من الجائز أن تفنى الروح في إحدى هذه المرات ويبقى آخر جسد حلت فيه مدة بعد فناء الروح، كما يقال في العطاف الذي يبقى بعد فناء ناسجه مع أن الناسج أطول بقاء من عطافه الذي ينسجه، فإن من يريد البرهنة على خلود الروح لا يكفي أن يقصر برهانه على أن الروح أطول بقاء من الجسد، أو أنها أطول بقاء من أجساد عدة، بل لا بد من إقامة الدليل على أنها دائمة بعد أن تفني كل ما تحل فيه من أجساد.
إن الناس يميلون إلى مخادعة بعضهم بعضا، ويكره الخدوع منهم أن يثق بأحد؛ إذ يخيل إليه أنه ما دام قد نصبت له شراك الخداع فانخدع فليس بين الناس إطلاقا من يركن إليه ويثق به. وإنه لمما يؤسف له أن ينظر بعضنا إلى الأدلة نظرته إلى الناس، فلا يؤمنون بكل ما يقام لهم من البراهين؛ لأن أحدا قد ألبس لهم الباطل بالحق، ولكنا لا ينبغي بحال أن نعادي الناس جميعا لأننا نكره واحدا أو جماعة من الناس، ولا أن نمقت الأدلة كلها؛ لأننا نمقت طائفة معينة من الأدلة؛ فليس المسئول عن النقص والخطأ هو الأدلة نفسها بل نحن أنفسنا، ولما كان سقراط على حافة الموت فهو يخشى أن يكون ظرفه الخاص داعيا لتحيزه وميله إلى تصديق برهان الخلود، وهو لذلك يستحث أصدقاءه أن يختبروا قوله ويفندوه ما وسعهم التفنيد.
فلا يلبث سمياس وسيبيس أن يعيدا اعتراضيهما، فيقول سمياس: إنه لا ينكر أزلية الروح، ولكنه في الوقت نفسه يرى الروح عبارة عن انسجام الجسد، غير أنه يجد في التسليم بأزلية الروح نقضا لكونها انسجاما للجسد؛ وذلك لأن الانسجام معلول في حين أن الروح علة وليست بمعلول ، الانسجام يتبع وجود القيثارة، أما الروح فتستتبع وجود الجسد، والانسجام تتفاوت درجاته، وليس للروح درجات؛ إذ لا مبرر أن تكون روح أفضل من روح، وإلا فما معنى هذا التفاضل؟ أيكون معناه تفاوتا في درجة انسجامها؟ ولكن الروح لا تقبل التدرج؛ وإذن فيستحيل أن يكون روح أكثر أو أقل انسجاما من روح أخرى. هذا إلى أن الروح لا تنفك تقاوم ميول الجسد ورغباته، وهذه المقاومة لا تتفق مع قولنا: إنها انسجام الجسد.
وهنا يلاحظ سقراط أن اعتراض سيبيس هذا يتناول مشكلة السببية كلها، ويرجو سامعيه أن يأذنوا له أن يقص عليهم تجربته في هذا الموضوع؛ فقد كان يدرس علم الطبيعة أيام صباه وأخذ حينئذ يبحث في كون الحيوان وفساده وفي أصل الفكر، حتى انتهى به الأمر إلى الشك في صحة البديهية القائلة بأن النمو نتيجة الأكل والشرب، فلم يتردد في أن يعرض عن هذا الموضوع موقنا أنه لم يخلق لمثل هذه البحوث. كذلك أربكته المقارنة بين الأشياء كما حيرته فكرة العدد؛ فقد خيل إليه في أول الأمر أنه يفهم الفرق بين الأكبر والأصغر، وأن العشرة أكبر من الثمانية باثنين وما إلى ذلك، أما الآن فهو يرى في هذه الآراء شيئا من التناقض: فكيف تمكن قسمة الواحد إلى اثنين أو تكوين الواحد من اثنين؟ لم يستطع سقراط أن يفسر هذا الإشكال.
ولقد سمع سقراط مصادفة قارئا يقرأ كتابا لأناكسجوراس يقول فيه: إن العقل سبب كل شيء. فسأل نفسه: إذا كان العقل سبب كل شيء؛ فهو من غير شك يسيطر على كل شيء، ويسير به نحو الأفضل. ورجا سقراط أن يجد عند هذا المعلم الجديد أناكسجوراس ما يوضح له هذا «الأفضل» في الإنسان والطبيعة. ولكن سرعان ما خاب رجاؤه؛ إذ ألفى صديقه الجديد مخطئا غير منسجم الفكر باتخاذه العقل سببا للأشياء، فقوله هذا مساو لقولك: إن سقراط جالس في المكان المعين؛ لأنه مصنوع من عظام وعضلات. وبديهي أن ليس ذلك هو السبب؛ فالسبب الحقيقي هو أن الأثينيين قد رأوا من الخير أن يحكموا عليه بالإعدام، وأنه رأى من الخير أن يجيء إلى حيث هو لينتظر تنفيذ الإعدام، فلو أنه سمح لعظامه وعضلاته أن تفعل ما تشاء وما تراه واجبا، لنفرت من ذلك المكان منذ زمن بعيد؛ وإذن فلا ريب في أن في هذا القول خلطا كثيرا بين السبب والحالة، ويؤدي هذا الخلط بالناس إلى نظريات خاطئة في وضع الأرض وحركاتها.
فليس بين الناس من يعلم ما هو «الأفضل» الذي تسعى إليه الدنيا، والذي هو علة تحركها.
ويقول سقراط: إن التأمل في طبائع الأشياء تأملا مباشرا قد يضر ويؤذي كما يؤذي العين أن تنظر إلى الشمس أثناء كسوفها، فإذا أردت أن ترى الشمس في هذه الحالة وجب أن تأخذ لنفسك الحيطة اتقاء للأذى، فتكتفي بالنظر إلى صورة الشمس المنعكسة على سطح الماء أو على سطح المرآة، وكذلك إذا أردت أن تنظر في طبائع الأشياء فلا ينبغي أن تتجه بروحك إلى الأشياء نفسها، وإلا أصيبت روحك بالأذى، وحسبك أن تتأمل في المثل لترى الوجود خلالها.
ويعتقد سقراط أنك إذا سلمت بوجود المثل هانت عليك البرهنة على خلود الروح، ثم يطلب إلى مناقشيه أن يسلموا معه بشيء آخر، وذلك أن الجمال سبب الجميل، والعظمة سبب العظيم، والصغر سبب الصغير، وهكذا قل عن سائر الأشياء. ثم يمضي يشرح لتلاميذه كيف تتعاون المثل المتناقضة على الوجود ولكنها لا توجد معا في شيء واحد بعينه؛ فقد يقال مثلا: إن سمياس له كبر وصغر في آن واحد؛ لأنه أكبر من سقراط وأصغر من فيدون، ولكن سمياس ليس في حقيقة الأمر كبيرا وصغيرا في وقت واحد، إنما يكون كذلك إذا قورن بفيدون وسقراط؛ لأن الأضداد يطرد أحدها الآخر، فإن كان الشخص صغيرا لزم ألا يكون كبيرا؛ إذ الصغر الكائن فيه يطرد عنه الكبر.
وهنا يلاحظ أحد الحضور أن هذا القول يناقض ما سلموا به من قبل، وهو: أن الأضداد تولد أضدادها، فيجيب سقراط بأن ذلك يصدق على الأضداد الحسية فقط، ولا ينصب على الأضداد المثالية؛ أعني أنه صادق بالنسبة للأحياء والأموات ، ولكنه لا يصح في الحياة والموت ... ويستطرد سقراط في الكلام عن مطاردة الأضداد بعضها لبعض فيقول: إن تلك المطاردة لا تقع في الأضداد نفسها فقط بل في الأشياء المتصلة بها أيضا على أن يكون اتصالها بها قويا ودائما، مثال ذلك أن البرودة والحرارة ضدان، وكذلك النار التي لا تنفصل عن الحرارة ضد للبرودة، ولا يمكن أن توجد معها جنبا إلى جنب، والثلج الذي لا ينفصل عن البرودة ضد للحرارة، ويستحيل أن يوجد معها، كذلك العدد ثلاثة يطرد العدد أربعة؛ لأن الأول عدد فردي والثاني عدد زوجي، والفردي ضد الزوجي؛ وبذلك نستطيع أن نخطو خطوة إلى الأمام، فنقول إن الفردي لا يتضمن الزوجي، وليس هذا فحسب، ولكن العدد ثلاثة الذي يساهم في الفردية لا يتضمن الزوجي. وعلى هذا القياس يمكنك أن تقول إن الحياة لا تتضمن الموت، ولا يقتصر الأمر على هذا، بل إن الروح الذي من صفاته اللازمة الحياة يستحيل أن يتضمن الموت، وإن ما تكون الحياة صفته اللازمة لا يكون قابلا للفناء بحكم مدلول اللفظ نفسه، إنه إذا كان مبدأ الفردية غير قابل للزوال؛ فالعدد ثلاثة إذن لن يفنى، ولكنه يتوارى فقط إذا اقترب منه مبدأ الزوجية، وكذلك الخالد لا يقبل الفناء، والروح عند اقتراب الموت لا تفنى، ولكنها تتوارى فحسب.
هكذا أجاب سقراط عن اعتراضات محاوريه، ثم انتقل إلى التطبيق فقال: إذا كانت الروح خالدة، فكيف ينبغي لنا أن نكون، إذا لم يكن الإنسان محدودا بعمره، وكان أبديا خالدا، فلن يتخلص الشرير من شره بالموت؛ لأن الموت ليس نهاية وجوده؛ فكل إنسان يحمل معه إلى العالم الأدنى ماهيته؛ وذلك لأن الروح تتقدم بعد الموت إلى المحاكمة، فإن كانت روحا حكيمة اهتدت في طريقها إلى العالم الآخر، بملك أمين، فلا تضل طريقها، أما الروح الدنسة فتتخبط هنا وهنالك دون أن تجد لها رفيقا يؤنسها أو دليلا يهديها.
وينتقل سقراط بعدئذ إلى وصف الأرض، ووصف العالم الأدنى، وكيف يلاقي الأشرار عذابهم، والأبرار جزاءهم وثوابهم. ويستدرك سقراط بعد وصف مطنب، فيؤكد أن هذا الوصف الذي قدمه لا يتحتم أن يكون دقيقا مضبوطا، بل إنه يصور به شيئا كالحقيقة لا أكثر.
وأزفت ساعة الموت فسأله سائل كيف يريد أن يدفن بعد موته؛ فأبى أن يجيب عن ذلك قائلا إنهم لن يدفنوه هو بل سيدفنون جسده الميت وحده، ثم يجرع بعد ذلك كأس السم، وإذ هو يلفظ أنفاسه الأخيرة تقدم إلى أصدقائه بطلب أخير لم تستطع الأجيال المقبلة أن تفسره؛ فقد قال في شيء من التهكم إن عليه واجبا دينيا صغيرا لم يؤده بعد، ورجا أصدقاءه أن يؤدوه نيابة عنه، ولعله كان يريد أنه بموته إنما يستقبل السعادة والعافية، فعليه أن يقدم للآلهة آية شكره وولائه، أو لعله أراد ألا يرحل وفي ضميره لذعة من التقصير الديني.
فيدون أو خلود الروح
أشخاص الحوار:
فيدون (وهو راوي الحوار إلى أشكراتس من أهالي فليوس)، سقراط، أبولودورس، سمياس، سيبيس، أقريطون، حارس السجن.
مكان الحوار:
سجن سقراط.
مكان الرواية:
مدينة فليوس.
أشكراتس :
أي فيدون! هل كنت بنفسك في السجن مع سقراط يوم تجرع السم؟
فيدون :
نعم، كنت يا أشكراتس.
أشكراتس :
أود لو حدثتني عن موته، ماذا قال في ساعاته الأخيرة؟ لقد أنبئنا أنه مات باجتراعه السم، ثم لم يعلم أحد منا فوق ذلك شيئا؛ فليس ثمة اليوم بين بني فليوس من يذهب إلى أثينا، كما أن أحدا من الأثينيين لم يجد سبيله إلى فليوس منذ عهد بعيد؛ ولذا لم يأتنا عنه نبأ صريح.
سقراط يحاور تلاميذه.
فيدون :
هل أتاك حديث المحاكمة وكيف سارت؟
أشكراتس :
نعم، لقد حدثنا بعض الناس عن المحاكمة، فلم ندر لماذا نفذ فيه الإعدام بعد الإدانة بزمن طويل، كما رأينا، ولم ينفذ في حينه؛ فما علة ذلك؟
فيدون :
علته حادث وقع في اليوم السابق لمحاكمته يا أشكراتس، وهو تكليل مؤخرة السفينة التي يبعثها الأثينيون إلى دلفي.
أشكراتس :
وما تلك السفينة؟
فيدون :
يرى الأثينيون أنها السفينة التي كان قد أبحر عليها تسيوس
Teseus
وصحبه الشبان الأربعة عشر إلى أقريطش حيث نجا وإياهم، وكان قد قيل وقتئذ إنهم نذروا لأبولو أن لو سلموا ليحجن إلى دلفي مرة في كل عام، وما تزال تلك العادة متصلة إلى اليوم. فهذه الفترة كلها، التي تنفقها السفينة في رحلتها إلى دلفي ذهابا وإيابا، منذ الساعة التي يكلل فيها كاهن أبولو مؤخرة السفينة، فترة حرام، لا يجوز للمدينة خلالها أن تدنس أرضها بقتل أحد من الناس. وكثير ما اعترضت السفينة ريح أخرتها؛ فأرجئ الإعدام أياما طوالا؛ فهذه السفينة كما سبق لي القول قد كللت في اليوم السابق لمحاكمة سقراط، فدعاه ذلك إلى أن يلبث في السجن ولم يعدم إلا بعد الإدانة بزمن طويل.
أشكراتس :
كيف كان موته يا فيدون؟ ماذا عمل وماذا قيل؟ ومن ذا جاوره من أصدقائه؟ أم لم يأذن لهم ذوو السلطان بالحضور فمات وحيدا؟
فيدون :
لا، بل رافقته من أصدقائه طائفة كبيرة.
أشكراتس :
إن لم يكن لديك ما يشغلك؛ فأرجو أن تقص علي ما حدث، دقيقا ما استطعت إلى الدقة سبيلا.
فيدون :
لا شاغل عندي، وسأحاول أن أجيبك إلى ما رجوت؛ فليس كذلك أحب إلي من أن أكون دائم الذكر لسقراط، سواء أكنت أنا محدثا، أم كنت مستمعا إلى من يتحدث عنه.
أشكراتس :
لن تجد من سامعيك إلا نفوسا ترغب فيما رغبت فيه، وإني لآمل أن تكون دقيقا ما وسعتك الدقة.
فيدون :
إني لأذكر ما اعتراني من إحساس عجيب، إذ كنت إلى جانبه، لقد كنت بإزائه غليظ القلب يا أشكراتس؛ لأني لم أكد أصدق أني إنما أشهد صديقا يلفظ الروح، إن كلماته وقسماته ساعة الموت، كانت من النبل والجلد، بحيث بدا في ناظري كأنه رافل في نعيم؛ فأيقنت أنه لا بد أن يكون بارتحاله إلى العالم الآخر ملبيا لدعوة من ربه، وأنه سيصيب السعادة إذا ما بلغ ذلك العالم، إن كان لأحد أن يعيش ثمة سعيدا. فكان طبيعيا، وتلك حاله، ألا تأخذني عليه الرحمة، ولكني مع ذلك لم أجد في الحوار الفلسفي (إذ كانت الفلسفة موضوع حديثنا) ما تعودت أن أجده فيه من متاع. لقد كنت مغتبطا، ولكني أحسست إلى جانب الغبطة ألما، أن علمت أنه لن يلبث طويلا حتى يموت. لقد ساهمنا جميعا في هذا المزيج العجيب من المشاعر، فكان يتناوبنا الضحك والبكاء، ولا سيما أبولودورس؛ لأنه سريع التأثر، هل تعرف هذا الضرب من الرجال؟
أشكراتس :
نعم.
فيدون :
لقد غلب على أمره وتخاذلت قواه، وأنا أنفسي، بل وكلنا جميعا، قد بلغ منا التأثر مبلغا عظيما.
أشكراتس :
من كان الحضور؟
فيدون :
حضر سوى أبولودورس من بني أثينا، كريتوبولس وأبوه أقريطون، وهرموجينس، وأبيجينس، وإيشينس، وأنتستين. كذلك أكتيسبس من أهل بيانيا، ومينكسينوس وغيرهم كثيرون. أما أفلاطون، فقد كان مريضا فيما أظن.
أشكراتس :
أكان ثمة أحد من الغرباء؟
فيدون :
نعم، كان هناك سمياس الطيبي، وسيبيس، وفيدونديس، وأقليدس، وتربيزون الذين جاءوا من ميغارا.
أشكراتس :
وهل كان أرسطبتس وكليومبروتس حاضرين؟
فيدون :
لا؛ فقد قيل إنهما كانا في أيجينا.
أشكراتس :
ومن غير هؤلاء؟
فيدون :
هم فيما أحسب كل الحاضرين على وجه التقريب.
أشكراتس :
وأي حديث تناولتم بالحوار؟
فيدون :
سأسوق الحديث من أوله، محاولا أن تكون الرواية شاملة.
لعلك تعلم أنا قد كنا من قبل نجتمع من الصباح الباكر في المحكمة التي جرت فيها المحاكمة، وهي على مقربة من السجن، فنظل نتجاذب أطراف الحديث حتى تفتح أبواب السجن (وقد كانوا لا يبادرون بفتحها)، فندخله لننفق معظم النهار مع سقراط، فلما كان الصبح الخير، بكرنا باللقاء عن الموعد المعهود،
1
إذ علمنا في الليلة السالفة أن السفينة المقدسة قد عادت من دلفي، فتواعدنا على اللقاء في المكان المضروب جد مبكرين؛ فما كدنا نبلغ السجن حتى طلع السجان المسئول عن حراسة السجن، ولم يأذن لنا بالدخول، بل أمرنا أن ننتظر حتى يدعونا؛ «لأن الأحد عشر مع سقراط الآن، يرفعون عنه الأغلال، ويأمرون بأن يكون اليوم قضاؤه المحتوم» كما قال. ولم يلبث أن عاد يجيز لنا الدخول؛ وإذ فعلنا ألفينا سقراط قد خلص لتوه من الأصفاد، وإكزانثيب،
2
التي تعرفها جالسة إلى جانبه تحمل وليده بين ذراعيها، فلم تكد تبصرنا حتى صاحت قائلة ما ينتظر أن تقوله النساء: «أواه يا سقراط ! لتلك آخر مرة يتاح لك فيها أن تتحدث إلى أصدقائك أو يتحدثون إليك.» فنظر سقراط إلى أقريطون، وقال: «مر أحدا يا أقريطون أن يذهب بها إلى الدار.» فساقها بعض حاشيته صارخة لادمة، وما كادت تغيب عن النظر حتى انثنى سقراط، وكان جالسا على سريره، وأخذ يربت على ساقه قائلا: «ما أعجب هذا الشيء الذي يسمونه اللذة، وما أغرب صلته بالألم، الذي قد يظن أنه واللذة نقيضان لأنهما لا يجتمعان معا في إنسان، مع أنه لا بد لمن يلتمس أحدهما أن يحمل معه الآخر. إنهما اثنان، ولكنهما ينبتان معا من أصل واحد، أو يتفرعان عن أرومة واحدة، ولست أجد سبيلا إلى الشك في أنه لو رآهما إيسوب
Aesop
لأنشأ عنهما قصة، يصور فيها الله وهو يحاول أن يوفق بينهما في الخصومة القائمة، فإن لم يوفق شد رأسيهما إلى بعض في وثاق واحد؛
3
وذلك علة أن يجيء الواحد في أعقاب أخيه، كما شاهدت في نفسي؛ إذ أحسست لذة في ساقي جاءت في أثر الألم الذي أحدثه القيد فيها.»
4
وهنا قال سيبيس: كم يسرني حقا يا سقراط أن تذكر إيسوب؛ فقد ذكرني ذلك بمسألة طرحها بعض الناس واستجابني عنها أفينوس الشاعر أمس الأول، ولا ريب في أنه سيعود ثانية إلى السؤال، فحدثني بماذا أجيبه، إن كنت تحب أن يظفر بالجواب. إنه أراد أن يعرف لماذا، وأنت رهين السجن، ولم تكتب من قبل بيتا واحدا من الشعر، تنظم قصص إيسوب وتنشئ تلك الأنشودة إجلالا لأبولو.فأجاب أن حدثه يا سيبيس بأني لم أفكر في منافسته ومنافسة أشعاره، وحق ما أقول، لأنني كنت أعلم أن لا قبل لي بذلك، إنما أردت أن أرى هل أستطيع أن أمحو وهما أحسسته عن بعض الرؤى، فلكم أشارت إلي هواتف الأحلام في أيام الحياة «بأنني سأنشئ الموسيقى»، وقد كان يطوف بي هذا الحلم في صور متباينة، ولكنه لازم عبارة بعينها ينطق بها أو بما يقرب منها دائما: أنشئ الموسيقى وتعهدها بالنماء. هكذا كانت تهتف الرؤيا. وقد خيل إلي منذ ذلك الحين أنها لم ترد بذلك إلا أن تحفزني وتبعثني على دراسة الفلسفة التي كانت دوما قصد الرمي من حياتي، والتي هي أسمى جوانب الموسيقى وأرفعها شأنا، فكما ترى النظارة في حلبة السباق يهيبون بالمتسابق المتحمس أن يجري مع أنه يجري فعلا، كذلك كانت رؤياي تأمرني أن أؤدي ما كنت بالفعل قائما بأدائه، ولكني لم أكن على يقين من هذا، وربما قصدت الرؤيا بالموسيقى معنى الكلمة المعروف، فرأيت أن أكون آمن لو أرضيت هذا الشك وأطعت الرؤيا فيما تأمر به؛ فأنشأت قبل رحيلي قليلا من الشعر؛ فهذا قضاء الموت يرقبني، وقد أمهلني العيد قليلا، فكتبت بادئ ذي بدء نشيدا في تمجيد إله هذا العيد، ثم لما رأيت أن الشاعر الذي يراد له أن يكون شاعرا مبدعا حقا، لا ينبغي أن يحشد ألفاظا وكفى، بل لا بد له أن ينشئ قصصا، ولما لم تكن لدي قوة الإنشاء، أخذت طائفة من قصص إيسوب ونظمتها شعرا، فقد كانت ميسرة سهلة التناول، وإني بها لعليم. أنبئ أفينوس بهذا ولا تجعله يبتئس، وقل له إني أود أن يتبعني، وألا يتلكأ إن كان رجلا حكيما؛ فأغلب الظن أني مرتحل عنكم اليوم؛ إذ قال الأثينيون أن ليس لي من ذلك بد.قال سمياس: يا له من نبأ يحمل لذلك الرجل إني أقرر لكم وقد كنت رفيقا له ملازما، أنه - كما عهدته - لن يأخذ بنصحك إلا مجبرا.قال سقراط: ولماذا؟ أليس أفينوس فيلسوفا؟قال سمياس: أحسبه كذلك.إذن فسيكون راغبا في الموت، شأن كل رجل عنده روح الفلسفة، ولو أنه لن ينتزع روحه بيده، فقد أجمع الرأي على أن ليس ذلك صوابا.وهنا بدل في وضعه؛ فأنزل ساقيه من السرير إلى الأرض، ولبث جالسا حتى ختم الحوار.تساءل سيبيس: فيم قولك إن الإنسان لا ينبغي أن يستل حياته، وأنه يجب على الفيلسوف أن يعد نفسه ليلحق بالموتى؟
5
فأجاب سقراط: إنكما يا سيبيس وسمياس، تعرفان فيلولاوس،
6
فهل سمعتماه قط يتحدث عن هذا؟- إني يا سقراط لم أفهم قوله أبدا.- ليست كلماتي كذلك إلا صدى، ولكني شديد الرغبة في أن أروي ما سمعته؛ فالحق أني ما دمت مرتحلا إلى غير هذا المكان فيجب ألا يشغل الفكر ويدور الحديث إلا حول هذا الرحيل الذي أوشك أن أقوم به، وماذا عساي أن أفعل خيرا من هذا منذ الآن إلى أن تغرب الشمس؟- إذن، فحدثني يا سقراط، لماذا استقر الرأي على ألا يكون الانتحار حقا مشروعا؟ لقد سمعت فيلولاوس يقينا يؤكد ذلك عندما كان يجلس بيننا في طيبة، وثم أناس آخرون يقولون مثل هذا القول، ولو أن أحدا منهم لم يستطع قط أن يفهمني ما يقول.فأجاب سقراط: ولكنك يجب أن تحاول الفهم ما استطعت، ولا بد أن يأتي اليوم الذي تفهم فيه، أحسبك تعجب لماذا تشذ هذه الحالة وحدها، ومعظم الشرور قد تجيء بالخير عرضا (لأنه أليس من الجائز أن يكون الموت كذلك أفضل من الحياة في بعض الظروف؟) وإذا كان خيرا للإنسان أن يموت؛ فما الذي يمنع أن يقدم لنفسه الخير بنفسه؟ ألزام عليه أن ينتظر من غيره يد الإحسان؟فقال سيبس ضاحكا في لغته الدورية القومية: أي وحق جوبتر!فأجاب سقراط: إني أسلم بأن في هذا تناقضا ظاهرا، ولكن مع ذلك قد لا يكون هذا التناقض حقيقيا، هناك مذهب جرت به الألسنة في الخفاء بأن الإنسان سجين، وليس له الحق في أن يفتح باب سجنه ليفر هاربا. إن ذلك إشكال عظيم لست أفهمه فهما دقيقا، ولكني أعتقد مع ذلك أن الآلهة هم أولياؤنا، وأننا ملك لهم، أفلست ترى ذلك؟قال سيبيس: بلى، إني أوافق على ذلك.- فلو أن ثورا مثلا مما تملك أنت أو حمارا، شاءت له إرادته أن يحيد بنفسه عن الطريق، على حين أنك لم تشر إليه برغبتك في وجوب حيدته، أفلا تسخط عليه، ثم ألا تعاقبه إن استطعت؟فأجاب سيبيس: يقينا.- وإذن فقد يكون في القول بأن الإنسان يجب أن ينتظر، وألا يهلك حياته بنفسه، حتى يقضي الله فيه أمرا، كما فعل بي الآن، سند من العقل.قال سيبيس: نعم يا سقراط، إن في ذلك ولا ريب سندا من العقل، ولكن كيف بعد هذا تستطيع أن توائم بين هذه العقيدة الصحيحة في ظاهرها، وهي أن الله مولانا ونحن له عبيد، وبين ما كنا نضيفه إلى الفيلسوف من رغبة في الموت؟ أما أن يرغب من هم أبلغ الناس حكمة في ترك هذا العمل الذي تحكمهم فيه الآلهة وهم خير الحاكمين، فلا يسلم به العقل؛ لأنه يستحيل على صاحب الحكمة أن يظن بنفسه المقدرة، لو أطلقت له حرية العمل، على أن يعنى بنفسه أكثر مما تعنى به الآلهة، ربما توهم ذلك المأفون، وقد يحتج بأن خيرا له أن يفر من سيده دون أن يضع في اعتباره بأن واجبه هو أن يثبت حتى النهاية، لا أن يفر من الخير فرارا لا حكمة فيه. أما الرجل الحكيم فلا إخاله إلا راغبا في أن يكون أبدا مع من هو خير منه. انظر يا سقراط، فهذا يناقض ما قد قيل توا؛ إذ يترتب على هذا الأساس أن يأسف ذو الحكمة لفراق الحياة، وأن يغتبط له الجهول.فصادفت حماسة سيبيس فيما يظهر غبطة من سقراط؛ فالتفت إلينا وقال: هاكم رجلا لا يبرح متسائلا، ولا تكفي لإقناعه الفترة القصيرة، وليست كل حجة ترضيه.فأضاف سمياس: ولكن اعتراضه الآن يبدو لي على شيء من القوة؛ فأي غناء عسى أن يكون في ذي الحكمة الحق، إذا هو ابتغى أن يلوذ بالفرار، وأن يستخف بترك سيده الذي هو أفضل منه؟ ولست إخال سيبيس إلا مشيرا إليك؛ فهو يظن أنك لا تتردد في تركنا، بل لا تتردد في ترك الآلهة الذين هم كما اعترفت أولو أمرنا الصالحون.فأجاب سقراط: نعم ذاك قول يستقيم مع العقل، ولكن أهو في ظنك دعوى ينبغي أن أجيب عنها كما لو كنت أمام القضاء؟قال سمياس: ذلك ما كنا نبتغي.- إذن فلأحاول أن ألقي في نفوسكم أثرا خيرا مما تركت حين كنت أدافع عن نفسي أمام القضاة؛ فلست أتردد يا سيبيس وسمياس في الاعتراف بوجوب الأسى من الموت، إذا لم أكن راسخ العقيدة بأني ذاهب إلى طائفة أخرى من الآلهة ذوي الخير والحكمة (وإني لأوقن بهذا يقيني بأي شيء آخر من هذا القبيل) وإلى الراحلين من الرجال (وإن كنت لا أقطع بهذا قطعي بالأولى)، وهم يفضلون هؤلاء الذين أخلفهم ورائي؛ فلست لهذا أبتئس، كما كان ينتظر أن أفعل؛ لأني آمل خيرا، بأن ثمة شيئا لا يزال مدخرا للموت، وهو كما قد قيل منذ القدم أدنى جدا إلى الخير منه إلى الشر.قال سمياس: ولكن هل يريد أن تستصحب آراءك معك يا سقراط فلا تنقلها إلينا! إنا قد نرجو أيضا أن نساهم في ذلك النفع، وأنت إذا وقفت بعد ذلك لإقناعنا، كان ذلك منك ردا على ما اتهمت به.فأجاب سقراط: سأبذل وسعي، ولكن دعوني أستمع أولا لما يريده أقريطون، إنه كان قد هم أن يقول لي شيئا.فأجاب أقريطون: أردت أن أقول يا سقراط إن الخادم الذي أمر بإعطائك السم قد أنبأني، لأبلغك بأنه يحسن بك ألا تكثر الكلام لأنه يزيد من الحرارة، وهذه تؤثر في فعل السم، لقد اضطر أحيانا أولئك الذين أثاروا نفوسهم أن يجرعوا السم مرتين أو ثلاثا.قال سقراط: إذن فليؤد واجبه، وليتأهب لإعطاء السم مرتين أو ثلاثا، إذا لزم الأمر، وحسبنا هذا.فأجاب أقريطون: لقد كدت أوقن بأنك ستقول ذلك، ولكني لم أجد محيصا عن إرضائه.قال سقراط: لا تأبه له.وها أنا ذا الآن أجيبكم - أنتم يا قضاتي - فأبين لكم أن من عاش فيلسوفا حقا، معه الحجة في أن ينعم بالا إذا ما اقترب من الموت، وأنه قد يرجو أن يصيب في العالم الآخر بعد الموت أعظم الخير. سأشرح لكما، أي سيبيس وسمياس، كيف يمكن أن يكون هذا، فيغلب فيما أرى أن يسيء الناس الظن بطالب الفلسفة الصحيح؛ لأنهم لا يدركون أنه أبدا دائب السعي وراء الموت والموتى، وإن صح أنه ما برح راغبا في الموت طوال حياته، ففيم الجزع إذا ما تهيأت له غايته التي كان لا يفتأ ساعيا إليها راغبا فيها.فضحك سمياس وقال: إني وإن كنت لا أسوق القول متندرا هازلا، لأقسم بأنه لا يسعني إلا أن أضحك إذا ما فكرت فيما سيقوله هذا العالم اللعين، حين يخبر بهذا - سيقولون بأن هذا بالغ الحق - ومن في دورنا من أهل، سيؤيدونهم، في قولهم بأن الحياة التي يتمناها الفلاسفة هي لا شيء غير الموت، وإنهم قد تبينوهم فإذا هم حقيقون بالموت الذي يتمنون.- وهم على حق يا سمياس في قولهم هذا، إذا استثنيت منه هذه العبارة: «إنهم تبينوهم»؛ لأنهم لم يتبينوا طبيعة هذا الموت الذي يتمناه الفيلسوف الحق، ولا كيف هو حقيق بالموت أو راغب فيه، فلندعهم وليتحدث بعضها إلى بعض قليلا: أنحن معتقدون في وجود ما يسمى بالموت؟فأجاب سمياس: كن من ذلك على يقين.- وهل يكون الموت إلا انفصال الروح عن الجسد؟ والإنسان إنما يبلغ هذا الانفصال إذا ما قامت الروح بذاتها مفصولة عن الجسد، وقام الجسد مفصولا عن الروح - أليس ذلك هو الموت؟فأجاب: هو كذلك، وليس شيئا غير هذا.- وما قولك يا صديقي في مسألة أخرى، أحب أن تدلي إلي برأيك فيها، وقد تلقي إجابتك عنها ضوءا على موضوع بحثنا، هل ترى جديرا بالفيلسوف أن يعنى بلذائذ الأكل والشرب - إن صح أن تدعى هذه لذائذ؟فأجاب: سمياس: لا، ولا شك.- وماذا تقول في لذة الحب، أينبغي له أن يعنى بها؟- لا ينبغي بحال من الأحوال.وهل يجوز له أن يطيل الفكر في غير ذلك من ألوان لذة الجسد، كحيازة اللباس الفاخر والنعال مثلا، أو غيرهما من زينات البدن، ألا يجدر به بدلا من أن يعنى بهذا أن يزدري كل شيء مما يزيد على حاجة الطبيعة؟ فماذا تقول؟- يجب أن أقرر بأن الفيلسوف الحق ينبغي أن يزدريها.- ألست ترى أن ينصرف بكليته إلى الروح لا إلى البدن؟ إنه يود أن يتخلص من البدن، وأن يعود إلى الروح ما استطاع إلى ذلك سبيلا؟- ذلك حق.- وترى الفلاسفة يلتمسون في مثل هذا الأمر كل سبيل لفصل الروح عن الجسد أكثر مما يفعل سائر الناس جميعا. - ذلك صحيح.- بينا يعتقد سائر الناس يا سمياس أن الحياة تخلو من لذائذ البدن ولا تأخذ منها بقسط، ليست حقيقة بالبقاء، بل يرون أن إنسانا لا يفكر في مسرات الجسد، يكاد يكون كالأموات.- ذلك جد صحيح.- وبعد؛ فماذا عسانا أن نقول عن السبل الحقيقية التي تقتضيها المعرفة؟ إن كان ثمة ما تدعو الجسم للمساهمة في تحصيلها؛ فهل يكون عائقا لها أم معينا عليها؟ أعني هل يأتينا السمع والبصر بحقيقة ما؟ أليس هما دليلين خاطئين كما لا يفتأ ينبئنا الشعراء؟ فإن كانا خاطئين ومبهمين فماذا عسى أن يقال عن سائر الحواس؟ ولا أحسبكم معارضين في أنهما أضبط الحواس.فأجاب سمياس: يقينا.- وإذن فمتى تدرك الروح الحقيقية؟ - لأنها إن أشركت معها الجسم فيما تحاول أن تبحثه، فهي مخدوعة لا محالة.- نعم، هذا صحيح.- أفلا يجب إذن أن ينكشف لها الوجود بوساطة الفكر، إن كان له أن ينكشف.- نعم.- وأحسن ما يكون الفكر حينما ينحصر في حدود نفسه، حتى لا يشغله شيء من هذه، فلا أصوات ولا مناظر ولا ألم ولا لذة مطلقا، وذلك إنما يكون عندما يصبح الفكر أقل اتصالا بالجسد، فلا يصله منه حس ولا شعور، بل ينصرف بتطلعه إلى الكون.- هذا جد صحيح.- وفي هذا يزدري الفيلسوف البدن، فتفر منه روحه وتود أن تنعزل بنفسها.- هذا صحيح.- حسنا، ولكن بقي شيء آخر يا سمياس، أثمة عدل مطلق أم ليس له وجود؟- لا ريب في أنه موجود.- وجمال مطلق وخير مطلق؟- بالطبع.- ولكن هل حدث لك أن رأيت واحدا منها بعينيك؟- يقينا لم أره.- ألم تدركها قط بأية حاسة جثمانية أخرى؟ (ولست أتحدث عن هذه وحدها، بل كذلك عن العظمة المطلقة وعن الصحة وعن القوة وعن ذات كل شيء، أي حقيقة طبيعته) ألم يأتك علمها قط خلال أعضاء الجسد؟ أليس ذلك يريد عقله على أن يتصور ذات الشيء الذي هو بصدد بحثه أضبط تصور، إنما يسلك بذلك أخصر السبل التي تؤدي إلى معرفة طبائعها الكثيرة.- يقينا.- أما من يظفر بمعرفتها أسمى ما تكون نقاء؛ فهو ذلك الذي يسعى إليها واحدة واحدة، فيتناولها بالعقل وحده، دون أن يأذن للبصر أو لغيره من الحواس الأخرى بالتطفل أو التدخل في مشاركة العقل وهو منصرف إلى التفكير، بل ينفذ بأشعة العقل ذاتها، بكل صفائها، إلى ضوء ما فيها من حقائق، بعد أن يكون قد تخلص من عينيه وأذنيه، بل ومن كل جسده، الذي لا يرى فيه إلا عنصر تهويش، يعوق الروح عن إدراك المعرفة ما دام متصلا بها - أليس أرجح الظن أن يظفر مثل هذا الرجل بمعرفة الوجود، إن كانت معرفته في مقدور البشر على الإطلاق؟فأجاب سمياس: إن في ذلك يا سقراط لحقا رائعا.- أوليس لزاما على الفلاسفة الحق إذا هم اعتبروا ذلك كله أن يغوصوا في أفكارهم، فإذا ما التقوا تحدث بعضهم إلى بعض عن تفكيرهم بمثل هذه العبارة، إنا قد اهتدينا إلى سبيل من التأمل قمينة أن تنتهي بنا وبالجدل إلى هذه النتيجة، وهي أنه ما دمنا في أجسادنا وما دامت الروح ممتزجة بهذه الكتلة من الشر، فلن تبلغ شهوتنا حد الرضا، وإنها لشهوة الحقيقة؛ ذلك لأن الجسد مصدر لعناء متصل، علته هذه الحاجة إلى الطعام، وهو كذلك عرضة للمرض الذي ينتابنا فيحول بيننا وبين البحث عن الحقيقة، وهو كما يقول الناس، أبدا لا يدع لنا السبيل إلى تحصيل فكرة واحدة، لما يملؤنا به من صنوف الحب والشهوات والمخاوف والأوهام والأهواء، وكل ضرب من ضروب الجهالة، وإلا فمن أين تأتي الحروب والمعارك والأحزاب إن لم تكن آتية من الجسد وشهوات الجسد؛ فالحروب يثيرها حب المال، والمال إنما يجمع من أجل الجسد وخدمته، ومن جراء هذا كله يضيع الوقت الذي كان ينبغي أن ينفق في الفلسفة، هذا ولو تهيأ للفلسفة الميل والفراغ لنفث الجسد في مجرى التأمل الشغب والاضطراب والخوف ليحول بيننا وبين رؤية الحقيقة. وقد دلت التجارب جميعا على أنه لو كان لنا أن نظفر عن شيء ما بمعرفة خالصة لوجب أن نتخلص من الجسد، ولزم على الروح أن تشهد بجوهرها جواهر الأشياء جميعا. ولست أحسبنا إلا ظافرين بما نبتغي، وهو ما نزعم أننا محبوه، وأعني به الحكمة، لا أثناء حياتنا بل بعد الموت كما تبين من الحديث، فإن كانت الروح عاجزة عن تحصيل المعرفة وهي في رفقة الجسد؛ فالنتيجة كما يظهر أحد أمرين: إما أن تكون المعرفة ليست على الإطلاق حقيقة بالتحصيل، وإما أن تحصيلها يكون بعد الموت إن كانت جديرة به، فعندئذ - وعندئذ فقط - تنعزل الروح في نفسها مستقلة عن الجسد. وأحسب أننا في هذه الحياة الحاضرة نسلك أخصر السبل إلى المعرفة، لو كنا نبذل نحو الجسد أقل ما يمكن بذله من عناية وشغف، فلا نصطبغ بصبغة الجسد، بل نظل أصفياء إلى الساعة التي يشاء فيها الله نفسه أن يحل وثاقنا، فإذا ما تطهرنا من أدران الجسد، وكنا أنقياء، وتجاذبنا مع سائر الأرواح النقية أطراف الحديث، تعرفنا أنفسنا في الأشعة الصافية التي تضيء في كل مكان، فلا ريب أن ذلك هو ضوء الحقيقة، فلن يؤذن لشيء دنس أن يدنو مما هو طاهر، إنه لن يسع محبي الفلسفة الحقيقية يا سمياس إلا أن يفكروا في هذه الألفاظ وأشباهها، وأن يقولها بعض لبعض، أفأنت موافقي على ذلك؟- يقينا يا سقراط.- ولكن إن صح هذا يا صديقي؛ فما أعظم الأمل إذن في أنني إذا ما بلغت غاية رحلتي، فلن يقلقني هذا الهم الشاغل الذي صادفني وإياكم في حياتنا الأولى، أما وقد تحددت ساعة رحيلي، فذلك ما أرحل به من رجاء، ولست في ذلك فريدا بل هكذا كل رجل يعتقد أن عقله تطهر.فأجاب سمياس: يقينا.- وماذا يكون التطهير غير انفصال الروح عن الجسد، كما سبق لي القول، واعتياد الروح أن تجمع نفسها وتحصرها في نفسها بعيدا عن مطارح الجسد جميعا، وانعزالها في مكانها الخاص، في هذه الحياة كما في الحياة الأخرى، ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وفكاكها من أغلال البدن؟فقال: هذا جد صحيح.- وماذا يكون ذلك الذي يدعى الموت سوى هذا الانفصال نفسه، وتحلل الروح من الجسد؟فقال: لا شك في ذلك.- والفلاسفة الحق وحدهم دون غيرهم ينشدون خلاص الروح، ويتمنون أن يكون، أليس انفصال الروح وفكاكها من الجسد هو موضوع بحثهم الخاص؟- هذا صحيح.- إنه لتناقض مضحك كما قلت في بادئ الأمر، أن ترى أناسا يحاولون بالدراسة أن تكون حياتهم قريبة من حالة الموت ما استطاعوا، فإذا ما أدركهم الموت أشفقوا منه.- يقينا. - إذن يا سمياس؛ فما دام الفلاسفة الحق لا ينفكون يعدون أنفسهم للموت؛ فالموت عندهم دون الناس جميعا أهون الخطوب، انظر إلى الأمر على هذا النحو، كم يبلغ منهم التناقض أن يناصبوا الجسد عداوة متصلة، وأن يتمنوا لو خلصت لهم الروح وحدها، فإذا ما أجيبوا إلى ذلك كان منهم السخط والجزع في مكان اغتباطهم بالرحيل إلى ذلك المكان، حيث يؤملون إذ ما بلغوه أن يظفروا بما قد أحبوا في الحياة (ألا وهي الحكمة)، وأن يتخلصوا في الوقت نفسه من مرافقة عدوهم، وكأين من رجل تمنى أن يذهب إلى العالم الأدنى، آملا أن يصادف هناك معشوقة دنيوية، أو زوجا، أو ولدا، ليتحدث إليهم، أبعد ذلك يشفق من الموت من هو للحكمة محب صحيح، ويعتقد كذلك أن لن تتاح له بالحق إلا في العالم الأدنى، أليس يقابل الرحيل بالبشر؟ إنه يا صديقي لا بد فاعل إن كان فيلسوفا حقا؛ لأنه سيوقن يقينا ثابتا أنه لا يستطيع أن يلتمس الحكمة في نقائها إلا هناك فقط، دون أي مكان آخر، وإن صح هذا فأبلغ به من أحمق - كما سبق لي القول - إن كان يفرق من الموت.فأجاب سمياس: لا ريب في أنه فاعل.- وأنت إذا رأيت رجلا يجزع من اقتراب الموت، كان جزعه دليلا قاطعا على أنه ليس محبا للحكمة، ولكنه محب للجسد، وربما كان في الوقت نفسه محبا للمال، أو القوة، أو كليهما.فأجاب: هذا جد صحيح.- إن ثمة يا سمياس لفضيلة تدعى الشجاعة، أليست هذه صفة خاصة بالفلسفة؟- يقينا.- وكذلك الاعتدال، أليس الهدوء، وضبط النفس، وازدراء العواطف، التي يسميها الدهماء أنفسهم بالاعتدال، صفة مقصورة على أولئك الذين يحتقرون الجسد ويعيشون في الفلسفة؟- ليس في ذلك خلاف.- وأنت إذا نظرت إلى الاعتدال والشجاعة عند سائر الناس، ألفيت بينهما، في حقيقة الأمر، تناقضا.- وكيف ذلك يا سقراط؟فقال: إنك عليم بأن الناس بصفة عامة ينظرون إلى الموت شرا وبيلا.فقال: هذا صحيح.- أوليس البواسل من الرجال يحملون الموت؛ لأنهم يخشون ما هو أعظم من الموت شرا؟- هذا صحيح.- إذن فكل الناس ما خلا الفلاسفة شجعان، إلا أنها شجاعة من الخوف والوجل، وإنه لعجيب ولا شك أن يكون الرجل شجاعا لأنه مذعور جبان!- صحيح جدا.- أوليس هذا بعينه شأن المعتدلين؟ إنهم معتدلون؛ لأنهم مفرطون - قد يبدو ذلك متناقضا، ولكنه مع ذلك هو ما يحدث في هذا الاعتدال الأحمق - فهناك من اللذائذ ما يحرصون على تحصيلها ويخشون ضياعها؛ فهم لذلك يتعففون عن نوع من الملذات لأن نوعا آخر قد استولى عليهم، وإذا عرف التفريط بأنه «الخضوع لسلطان اللذة»، فإنهم لا يقهرون لذة، إلا لأن لذة تقهرهم، وذلك ما أعنيه بقولي إنهم معتدلون؛ لأنهم مفرطون.- يظهر أن ذلك حق.- ومع ذلك فليس من الفضيلة استبدال خوف أو لذة أو ألم بخوف آخر أو لذة أو ألم، وهي متساوية كلها، أكبرها بأصغرها، تساوي النقد بالنقد، أي عزيزي سمياس، أليس في النقد قطعة واحدة صحيحة هي التي ينبغي أن تستبدل بالأشياء جميعا؟ - وتلك هي الحكمة - ولن يشرى شيء بحق أو يباع، شجاعة كان أم عفة أم عدلا، إلا إن كان للحكمة ملازما، وإلا إن كانت هذه الحكمة له بديلا، ثم أليست الفضيلة الحق بأسرها رفيقة الحكمة بغض النظر عما قد يكتنفها أو لا يكتنفها من المخاوف واللذائذ أو ما إليهما من الخيرات أو الشرور؟ إلا أن الفضيلة التي يكون قوامها هذه الخيرات التي تأخذ في استبدال بعضها ببعض بعد أن تكون قد انفصلت عن الحكمة، ليست من الفضيلة إلا ظلها، ولا يكون فيها من الحرية أو العافية أو الحقيقة شيء، أما التبادل الحق فيقتضي أن تمحى هذه الأشياء محوا، وما طهورها إلا العدل والشجاعة والحكمة نفسها. وإني لأتصور أن أولئك الذين أنشئوا الأسرار، لم يكونوا مجرد عابثين، بل قصدوا إلى الجد حينما عمدوا إلى شكل فرمزوا به إلى أن من يمضي إلى العالم الأدنى دنسا جاهلا سيعيش في حمأة من الوحل، أما ذلك الذي يصل إلى العالم الآخر بعد التعليم والتطهير، فسيقيم مع الآلهة، وكما يقولون في الأسرار: «كثيرون هم من يحملون عصا السحر، أما العالمون بالسحر، فقليل.»
7
وهم يريدون بهذه العبارة فيما أرى، الفلاسفة الحق، الذين أنفقت حياتي كلها أبحث بينهم لعلي أجد مكانا، ولست أشك في أنني عندما أبلغ العالم الآخر بعد حين قصير، سيأتيني إن شاء الله علم يقين، عما إذا كنت قد التمست في البحث سبيلا قويمة أم لا، وإن كنت قد أصبت التوفيق أم لم أصبه. أي سمياس وسيبيس، لقد أجبت بهذا على أولئك الذين يؤاخذونني بعدم الحزن أو الجزع لفراقكم وفراق سادتي في هذا العالم؛ فقد أصبت بعدم الخوف لأنني أعتقد أنني سأجد في العالم الأدنى أصدقاء وسادة آخرين، يعدلونكم خيرا، ولكن الناس جميعا لا يسيغون هذا، وإنه ليسرني أن تصادف كلماتي عندكم قبولا أكثر مما صادفت عند قضاة الأثينيين.أجاب سيبيس: إني موافقك يا سقراط على معظم ما تقول، ولكن الناس أميل إلى عدم التصديق فيما يتصل بالروح، إنهم يخشون ألا يكون لها مستقر إذا ما فصلت عن الجسد، وأنها قد تذوي وتزول في يوم الموت ذاته - فلا تكاد تتحلل من الجسد حتى تنطلق كالدخان أو الهواء، ثم تتلاشى في العدم، فلو قد تستطيع أن تتماسك أجزاؤها، وأن تظل كما هي بعد أن تكون قد خلصت من شرور الجسد، لرجونا يا سقراط، محقين فيما نرجو، أن ما تقوله حق، ولكنا بحاجة إلى كثير من البراهين ووفير من الحجج لإثبات أنه إذا مات الإنسان فروحه تظل مع ذلك موجودة، وتكون على شيء من قوة الذكاء.فقال سقراط: هذا حق يا سيبيس؛ فهل لي أن أقترح حديثا قصيرا عما يحتمل لهذه الأشياء من وجوه؟قال سيبيس: لست أشك في أني شديد الرغبة في معرفة رأيك عنها.فقال سقراط: لا أحسب أن لأحد ممن سمعني الآن، حتى ولو كان أحد أعدائي القدماء من الشعراء الهازلين، أن يتهمني بالخبط في الحديث عن موضوعات لا شأن لي فيها؛ فأذنوا إن شئتم بأن نمضي في البحث.إن مشكلة أرواح الناس بعد الموت، أهي موجودة في العالم الأدنى أم غير موجودة؟ يمكن مناقشتها على هذا النحو: يؤكد المذهب القديم الذي كنت أتحدث عنه، أنها تذهب من هذا العالم إلى العالم الآخر، ثم تعود إلى هنا حيث تولد من الميت، فإن صح هذا وكان الحي يخرج من الميت، للزم أن تكون أرواحنا في العالم الآخر؛ لأنها إن لم تكن، فكيف يمكن لها أن تولد ثانيا؟ إن هذا القول حاسم، ولو كان ثمة شاهد حقيقي أن تولد ثانيا؟ إن هذا القول حاسم، ولو كان ثمة شاهد حقيقي على أن الحي لا يولد إلا من الميت. أما إذا لم ينهض على هذا دليل، فلا بد من سوق أدلة أخرى.فأجاب سيبيس: هذا جد صحيح.- إذن فدعنا نبحث هذه المسألة، لا بالنسبة إلى الإنسان وحده، بل بالنسبة إلى الحيوان عامة، وإلى النبات، وكل شيء يكون فيه التوالد؛ وبذلك تسهل إقامة الدليل. أليست كل الأشياء التي لها أضداد تتولد من أضدادها؟ أعني الأشياء التي كالخير والشرير، والعادل والجائر. وهناك من الأضداد الأخرى التي تتولد من أضدادها عدد ليس إلى حصره من سبيل، وإنما أريد أن أبرهن على أن صحة هذا القول شاملة لما في الكون من أضداد؛ أعني مثلا أن أي شيء يكبر، لا بد أنه قد كان أصغر قبل أن أصبح أكبر.- صحيح.- وأن أي شيء يصغر، لا بد أنه قد كان يوما أكبر ثم صار أصغر.- نعم.- وأن الأضعف يتولد من الأقوى والأسرع من الأبطأ؟- جد صحيح.- والأسوأ من الأحسن، والأعدل من الأظلم؟- بالطبع.- وهل هذا صحيح عن الأضداد كلها؟ وهل نحن مقتنعون بأن جميع الأضداد ناشئة من أضداد؟- نعم.- ثم أليس ثمة كذلك في هذا التضاد الشامل بين الأشياء جميعا، فعلان متوسطان، لا ينفكان يسيران من ضد إلى الضد الآخر جيئة وذهابا، فحيث يوجد أكبر وأصغر، يوجد كذلك فعل متوسط بينهما، يعمل للزيادة والنقصان، ويقال للشيء الذي ينمو إنه يزيد، وللشيء الذي يتناقص إنه يذوي.فقال: نعم.- وهناك غير ذلك عمليات كثيرة أخرى كالتجزئة والتكوين والتبريد والتسخين، التي تتضمن تساويا بين ما يخرج من شيء وما يضاف إلى شيء آخر. أليس ذلك صحيحا بالنسبة إلى الأضداد كلها - حتى ولو لم يعبر عنها باللفظ دائما - فهي تتولد الواحد من الآخر، وثمة انتقال، أو فعل، بين بعضها وبعض.فأجاب: هذا جد صحيح.- جميل، أفليس هناك ضد للحياة، كما أن النوم ضد اليقظة؟- فقال: بل هذا حق.- وما هو ذاك؟فأجاب: هو الموت.- فإن كان هذان ضدين؛ فهما متولدان إذن أحدهما من الآخر، وبينهما كذلك فعلان متوسطان؟- بالطبع.فقال سقراط: سأعمد الآن إلى أحد زوجي الأضداد اللذين ذكرتهما لك فأحلله، وأحلل كذلك فعليه المتوسطين وعليك أن تحلل لي الآخر. فحالة النوم تضاد حالة اليقظة، ومن النوم تتولد اليقظة، ومن اليقظة يتولد النوم، وعملية التولد هي في إحدى الحالين إدراك النعاس، وهي الاستيقاظ في الأخرى. أفأنت متفق معي على هذا؟- إني جد متفق!إذن فهب أنك أخذت بهذه الطريقة نفسها تحلل لي الحياة، والموت أليس يضاد الحياة؟- بلى.- وهما متولدان أحدهما من الآخر؟- نعم.- ما الذي تولد من الحياة؟- إنه الموت.- وما الذي تولد من الموت؟- لا يسعني أن أقول في الجواب إلا أنها الحياة.- إذن يا سيبس؛ فالحي من الأشياء والأشخاص متولد من الميت؟فأجاب: هذا جلي.- ونتيجة ذلك إذن هي أن أرواحنا كائنة في العالم الأدنى؟- هذا حق.- وأحد الفعلين أو التولدين ملحوظ بالعين، فلا شك أن عملية الموت ظاهرة؟فقال: لا ريب.- أفلا يجوز أن يستنتج التولد الآخر، على أنه متمم للطبيعة التي لا يفترض بأنها تسير على ساق واحدة فحسب؟ فإن كان الأمر كذلك، فلا بد أيضا أن يضاف إلى الطبيعة عملية تولد من الموت مقابل عملية التولد من الحياة.فأجاب: يقينا.- وماذا تكون تلك العملية؟- هي عودة الحياة.- وعودة الحياة، إن صح وجودها، هي ولادة الميت في عالم الأحياء؟- هذا جد صحيح.- إذن فهناك سبيل جديدة تؤدي بنا إلى النتيجة بأن الحي يخرج من الميت كما يخرج الميت من الحي سواء بسواء. فإن صح هذا فلا بد أن تكون أرواح الموتى مستقرة في مكان ما، ستعود منه مرة أخرى، وقد أقمنا على ذلك فيما أظن دليلا مقنعا.قال: نعم يا سقراط، فيظهر أن هذا كله يتبع بالضرورة ما سلمنا به من قبل.فقال: ولم يكن ذلك الذي سلمناه به يا سيبيس معوجا، وتستطيع أن تتبين ذلك، فيما أظن على هذا النحو: لو كان التولد يسير في خط مستقيم فقط، فلم تكن في الطبيعة دورة أو تعويض، فلا تبادل بين الأشياء أخذا وردا، لاتخذت الأشياء - كما تعلم - في نهاية الأمر صورة بعينها، ولتحولت إلى حالة بعينها، ولما تولد منها بعد ذلك شيء.فقال: ماذا تعني بهذا؟فأجاب: أعني شيئا بسيطا جدا، وسأوضحه بحالة النوم؛ فأنت تعلم أنه لو لم يكن ثمة توازن بين النوم واليقظة لأضحت قصة أنديميون
8
النائم بلا معنى. فقد كان النعاس سيدرك كذلك كل شيء آخر، فلا يعود أنديميون موضعا لتفكير أحد. أو لو كانت المادة ينتابها تكوين بغير انقسام؛ إذن لعاد هيولى أنكسجوراس مرة ثانية. وهذا، أي عزيزي سيبيس، لو كان كل شيء تناولته الحياة صائرا إلى الموت، ثم لا يعود إلى الحياة ثانيا لانتهى الأمر بكل شيء إلى الموت، فلا يبقى ثمة شيء حي، وإلا فكيف يمكن ذلك أن يكون؟ إذ لو كانت الأحياء صادرة من غير شيء غير الأموات، وكان الأحياء يدركهم الموت، أليس حتما أن يبتلع الموت آخر الأمر كل شيء؟فقال سيبيس: ليس عن ذلك منصرف يا سقراط، وإني لأحسب أن ما تقوله أنت حق خالص.فقال: نعم يا سيبيس، إني كذلك أحسبه حقا خالصا، ولسنا بذلك سابحين في خيال فارغ، ولكني ثابت الإيمان بحقيقة العودة إلى الحياة، وبأن الأحياء يخرجون من الموتى، وبأن أرواح الموتى ما برحت من الوجود، وبأن الأرواح الخيرة أوفى من الأرواح الشريرة جزاء.فأضاف سيبيس: كذلك لو صح مذهبك العزيز يا سقراط، بأن المعرفة ليست إلا تذكرا، لاقتضى ذلك بالضرورة زمنا سالفا تعلمنا فيه ما نحن الآن ذاكروه، وقد كان هذا التذكر يستحيل لو لم تكن أرواحنا قبل حلولها في الصورة البشرية، كائنة في مكان ما؛ وإذن فهذه حجة أخرى تؤيد خلود الروح.فاعترضه سمياس قائلا: ولكن حدثني يا سيبيس، ما البراهين التي تساق لمذهب التذكر هذا؟ فلست جازم اليقين بأنها الآن تحضرني.قال سيبيس: منها برهان ساطع تقيمه الأسئلة، فإذا أنت ألقيت على شخص سؤالا بطريقة صحيحة، أجابك من تلقاء نفسه جوابا صحيحا. فكيف استطاع أن يفعل ذلك، ما لم تكن لديه من قبل معرفة ومنطق مصيب؟ وأكثر ما يكون ذلك وضوحا حينما يعرض عليه شكل هندسي، أو أي شيء من هذا القبيل.قال سقراط: إن كنت لا تزال شاكا يا سمياس ساءلتك، أفلا يجوز أن توافقني إذا ما نظرت إلى الموضوع على نحو آخر؟ أعني إذا كنت لا تزال مترددا في التسليم بأن المعرفة عبارة عن تذكر؟فقال سمياس: لست شاكا، ولكني أردت أن تعاد إلى ذاكرتي نظرية التذكر هذه، ولقد بدأت أذكرها وأقتنع بها مما قاله سيبيس، غير أنني ما زلت أتمنى لو أدليتم بما لديكم فوق ما أعلم.فأجاب: هذا ما سوف أدلي به، ولعلنا إن لم أكن مخطئا متفقون على أن ما يتذكره الإنسان لا بد أن يكون قد علمه في زمن سالف.- جد صحيح.- فما طبيعة هذا التذكر؟ إنما أريد بهذا السؤال أن أتساءل: ألا يحق لنا القول بأنه إذا لم يقتصر علم إنسان على ما قد رآه أو سمعه أو سلك إلى إدراكه أية سبيل أخرى، بل عرف شيئا آخر معرفة تباين تلك، أفليس هو بذلك إنما يتذكر شيئا يختلج في عقله؟ ألسنا على ذلك متفقين؟- ماذا تعني؟- أعني ما قد أوضحه بهذا المثال الآتي: ليست معرفتك القيثارة كمعرفتك الإنسان سواء بسواء.- هذا صحيح.- ولكن ما شعور المحبين إذا ما رأوا قيثارة أو لباسا أو أي شيء آخر مما كان المحبوب يستخدمه عادة؟ أليسوا من رؤية القيثارة يكونون في عين العقل صورة للفتى صاحب القيثارة؟ وهذا تذكر، وكل من يرى سمياس قد يتذكر بنفس الطريقة سيبيس، وهناك من هذا الضرب أشياء لا يحدها الحصر.فأجاب سمياس: نعم إنها موجودة حقا ولا حصر لعددها.فقال: وهذا الشيء وما إليه هو التذكر، وهو في الأعم الأغلب عملية لكشف ما قد طواه النسيان بفعل الزمن والإهمال.فقال: هذا صحيح.- ثم ألا يجوز كذلك أن تتذكر إنسانا من رؤية قيثارة أو صورة لجواد؟ أو قد تبعثك صورة سمياس على تذكر سيبيس؟- هذا حق.- أو قد تنساق كذلك إلى تذكر سمياس نفسه؟فقال: هذا حق.- وقد يكون التذكر في هذه الحالات جميعا منبعثا من أشباه الشيء أو مما يباينه؟- هذا صحيح.- وهناك سؤال لا بد أن ينشأ، حينما يكون التذكر قد انبعث من شبيه الشيء، وهو: هل يكون شبيه الشيء المتذكر ناقصا في أي ناحية من نواحيه أم لا يكون؟
9
فقال: هذا جد صحيح.- وهل نتقدم خطوة أخرى، فنؤكد بأن التساوي موجود فعلا، لا تساوي الخشب بالخشب أو الحجر بالحجر، بل ما هو أسمى من ذلك وأرفع. أنؤكد بأن التساوي موجود في عالم التجريد؟فأجاب سمياس: نعم، أؤكد ذلك وأقسم على صحته بكل ما وسعت الحياة من يقين.- وهل نحن نعلم هذه اللذات المجردة؟فقال: لا شك في ذلك.- ومن أين جاءنا هذا العلم؟ ألم نر متساويات من الأشياء المادية، كقطع الحجر والخشب، فاستنتجنا منها مثالا لمساواة تخالفها؟
10
أفأنت موافق على هذا؟ أو فانظر مرة أخرى إلى الموضوع على هذا النحو: أليست قطع الحجر والخشب بعينها تبدو متساوية حينا متفاوتة حينا آخر؟- لا ريب في هذا.- ولكن هل تتفاوت المتساويات الحقيقية أبدا؟ أم هل يكون مثال التساوي يوما عدم مساواة؟- لا شك في أن ذلك شيء لم يعرف بعد.- إذن فهذه المتساويات (كما يسمونها) ليست تطابق مثال التساوي؟- لا بد من القول يا سقراط بأنها تخالفه تماما.- ومع ذلك؛ فأنت من هذه المتساويات؛ فقد تصورت مثال التساوي ووصلت إليه، على الرغم من أنها مخالفة لذلك المثال؟فقال: هذا جد صحيح.- وقد يكون مثال التساوي شبيها بها. وقد يكون مباينا لها؟- نعم.- ولكن هذا لا يغير في الأمر شيئا؛ فما دمت قد تصورت شيئا من رؤية شيء آخر، سواء أكانا شبيهين أم متباينين؛ فقد حدثت بذلك من غير شك عملية تذكر؟- جد صحيح.- ولكن ماذا عساك أن تقول في قطع متساوية من الخشب والحجر، أو في غيرها من المتساويات المادية؟ وأي أثر هي تاركة في نفسك؟ أهي متساويات بكل ما في التساوي المطلق من معنى، أم أنها تقع في القياس دونه بشيء يسير؟فقال: نعم، بل دونه بمسافة بعيدة جدا.- ثم ألا يلزم أن نسلم بأنني - أو أي أحد آخر - حين ينظر إلى شيء فيدرك أنه إنما ينشد أن يكون شيئا آخر، ولكنه مقصر من دونه، عاجز عن بلوغه، فلا بد أن قد كانت لدى من يلاحظ هذا معرفة سابقة بذلك الشيء الذي كان هذا الأخير أحط منه، كما يقول، وإن كانا متشابهين؟- يقينا.- ثم أليست هذه حالنا في موضوع المتساويات والتساوي المطلق؟- تماما.- إذن، فلا ريب في أننا كنا نعرف التساوي المطلق قبل أن نرى المتساويات المادية لأول مرة، وفكرنا في أن كل هذه المتساويات الظاهرة، إنما تنشد ذلك المتساوي المطلق، ولكنها تقصر من دونه؟- هذا صحيح.- ونحن نعلم كذلك أن التساوي المطلق لم يعرف إلا بواسطة اللمس، أو البصر، أو غيرهما من الحواس التي لا تمكن معرفته بغيرها،
11
وإني لأؤكد هذا عن كل إدراك كلي من هذا القبيل.- نعم يا سقراط؛ فكل واحد من هذه المدركات لا يختلف عن الآخر في شيء مما يدور حوله الحديث.- وإذن فمن الحواس تنبعث المعرفة، بأن كل الأشياء المحسة تنشد مثال التساوي، ولكنها تقصر من دونه؛ أليس ذلك صحيحا؟- بلى .- إذن فقبل أن بدأنا في النظر، أو السمع، أو الإدراك بأية صورة أخرى لا بد أن قد كانت لدينا معرفة بالتساوي المطلق، وإلا لما استطعنا أن ننسب إليه المتساويات التي نشتقها من الحواس؟ - فهذه كلها تسعى نحو ذلك التساوي المطلق فتقصر من دونه؟- تلك يا سقراط نتيجة مؤكدة للعبارات التي سلف ذكرها.- ثم ألم نأخذ في النظر والسمع واكتساب حواسنا الأخرى بمجرد أن ولدنا؟- يقينا.- إذن فلا بد أنا قد حصلنا معرفة المتساوي المثالي في زمن سابق لهذا؟- نعم.- أي قبل أن نولد فيما أظن؟- صحيح.- وإذا كنا قد حصلنا هذه المعرفة قبل أن نولد، وكانت لدينا عند الميلاد؛ إذن فقد كنا قبل الميلاد، وفي ساعة الميلاد نفسها نعرف كذلك، فضلا عن المتساوي، والأكبر والأصغر، سائر المثل جميعا؛ فنحن لا نقصر الحديث على المتساوي المطلق، ولكنه يتناول الجمال، والخير، والعدل، والقداسة، وكل ما نطبعه بطابع الجوهر في مجرى الحوار، حينما نلقى أسئلة ونجيب عن أسئلة، أفنستطيع أن نؤكد، أننا قد كسبنا معرفة هذه كلها قبل الميلاد؟- هذا صحيح.- ولكن، إذا نحن بعد كسب المعرفة، لم ننس ما كنا قد كسبنا، فلا بد أنا قد ولدنا ومعنا المعرفة دائما، وسنظل أبدا على علم بها، ما دامت الحياة؛ لأن العلم هو كسب المعرفة وحفظها، لا نسيانها. أليس النسيان يا سمياس هو فقدان المعرفة لا أكثر ولا أقل؟- جد صحيح يا سقراط.- أما إذا افتقدنا عند الميلاد تلك المعرفة التي حصلناها قبل أن نولد، ثم كشفنا فيما بعد، بواسطة الحواس، ما قد كنا نعلم من قبل، أفلا يكون ذلك، وهو ما نسميه تعلما، عملية لكشف معرفتنا، ثم ألا يجوز لنا بحق أن نسمي هذا تذكرا؟- جد صحيح.لأنه من الواضح، أننا إذ ندرك شيئا بواسطة البصر، أو السمع، أو أية حاسة أخرى، لا نصادف صعوبة في أن ينشأ لدينا من هذا الشيء تصور لشيء آخر، يشبهه أو يباينه، كنا قد أنسيناه، وكان قد ارتبط بذلك الشيء؛ وعلى ذلك، فكما سبق لي القول، يقع أحد الأمرين: إما أن هذه المعرفة كانت لدينا عند الميلاد وظللنا نعلمها طوال الحياة، وإما أن يكون أولئك الذين يقال عنهم إنهم يحصلون العلم، بعد ميلادهم، لا يفعلون أكثر من أن يتذكروا؛ فما العلم إلا تذكر وكفى.- نعم يا سقراط، هذا جد صحيح.- فأي الأمرين تؤثر يا سمياس، أكانت المعرفة لدينا عند الميلاد، أم أنا قد تذكرنا فيما بعد الأشياء التي كنا نعلمها قبل ميلادنا؟- لا أستطيع الحكم الآن.- مهما يكن؛ فأنت تستطيع أن تحكم فيما إذا كان ينبغي أو لا ينبغي لمن لديه المعرفة أن يكون قادرا على تعليل معرفته.- لا شك أن ذلك حتم عليه.- ولكن هل تظن أن كل إنسان قادر على تعليل هذه الموضوعات نفسها التي نتحدث عنه الآن؟- ليتهم يستطيعون يا سقراط! ولكم أخشى ألا يكون ثمة من يستطيع في مثل هذه الساعة من الغد
12
أن يقدم تعليلا جديرا بأن يؤخذ عنه.- إذن فليس من رأيك يا سمياس أن كل الناس يعلمون هذه الأشياء؟- يقينا إنهم لا يعلمون.- إذن فهم آخذون في تذكر ما قد كانوا يعلمونه من قبل؟- يقينا.- ولكن متى كسبت أرواحنا هذه المعرفة؟ لم يكن ذلك بعد أن ولدنا بشرا؟- لا، ولا ريب.- وإذن فقبل ذلك؟- نعم.- إذن يا سمياس، لا بد أن أرواحنا كانت موجودة قبل أن تصور في هيئة البشر،
13
ولا بد أن قد كان لديها ذكاء لما كانت بغير أبدان؟- حقا يا سقراط، ما لم تفرض أن هذه الآراء قد أوتيناها في ساعة الميلاد؛ لأنه لم يبق إلا تلك اللحظة وحدها.
14 - نعم يا صديقي، ولكن متى افتقدناها؟ فهي لا تكون لدينا عندما نولد - وقد سلمنا بهذا. هل افتقدناها في اللحظة التي فيها أخذناها، أم في وقت آخر غير هذا؟
15 - لا يا سقراط، لقد أدركت أني إنما كنت أنطق هراء لا أعيه.- إذن، أفلا يجوز لنا يا سمياس أن نقول ما نردده دائما، وهو إذا كان ثمة جمال مطلق، وخير مطلق، وسائر الذوات التي اكتشفنا الآن أنها سبقتنا في الوجود ، وكنا نقيس إليها كل أحاسيسنا ونقارنها بها، زاعمين أن قد كان لها وجود سابق، فإن لم يكن، ذهبت كل قوة في قولنا. فليس من سبيل إلى الشك بأنه إذا كان لهذه المثل المطلقة وجود قبل أن نولد، فلا بد أن أرواحنا كانت كذلك موجودة قبل ميلادنا، فإن لم تكن المثل موجودة لم تكن الأرواح موجودة كذلك.- نعم يا سقراط، إني مقتنع بأن لوجود الروح قبل الميلاد هذه الضرورة نفسها، وأنت إنما تتحدث من الروح عن كنهها؛ فقد انتهى بنا التدليل إلى نتيجة يسرني أنها تتفق مع ما أرتئيه. فلست أرى شيئا يبلغ في بداهته مبلغ قولنا إن الجمال والخير وسائر المثل التي كنت تتحدث عنها الآن توا، لها وجود غاية في الحق والتجريد، وإني لمقتنع بالدليل.- حسنا، ولكن هل اقتنع سيبيس اقتناعك هذا؟ لأنني لا بد أن أقنعه كذلك.- قال سمياس: أظن سيبيس مقتنعا؟ فإني أحسبه قد آمن بوجود الروح قبل الميلاد، على الرغم من أنه أبعد الكائنات عن التصديق. ولكن دليلا لم يقم بعد على استمرار وجود الروح بعد الموت، بحيث يقنعني أنا، فلا أستطيع أن أتخلص من شعور الدهماء الذي كان يشير إليه سيبيس - ذلك الشعور بأنه إذا مات الإنسان فقد تتبعثر الروح، وقد يكون ذلك نهايتها، فلو سلمنا بأنها قد تتولد وتنشأ في مكان غير هذا، وقد تكون موجودة قبل حلولها في الجسم البشري؛ فماذا يمنع أن تبلى وتفنى بعد أن حلت فيه ثم خرجت منه ثانيا؟ فقال سيبيس: هذا جد صحيح يا سمياس، أما أن أرواحنا كانت موجودة قبل أن نولد؛ فهو الشطر الأول من الحديث، ويظهر أن قد قام الدليل عليه، وأما أن الروح ستبقى بعد الموت كما كانت قبل الميلاد؛ فهو الشطر الآخر، الذي لا يزال يعوزه الدليل ولا بد له من التأييد.قال سقراط: أي سمياس وسيبيس! لو أنكما أضفتما الدليلين أحدهما إلى الآخر؛ أعني هذا وما سبقه، الذي سلمنا فيه بأن كل شيء حي قد ولد من الميت، لرأيتما أنا قد فرغنا من إقامة هذا الدليل؛ لأنه لو كانت الروح موجودة قبل الميلاد، وأنها إذ تجيء إلى الحياة وإذ تولد، لا تكون ولادتها إلا من الموت أو الاحتضار، أفلا يجب عليها بعد الولادة أن تستمر في وجودها ما دام لا بد لها أن تولد مرة أخرى؟ لا ريب في أنا قد فرغنا من إقامة البرهان الذي ترجوان. ولكني مع ذلك أحسبك أنت وسمياس لا ترغبان في أن تخبرا هذا الدليل أكثر من ذلك؛ فقد استولى عليكما ما يستولي على الأطفال من فزع، خشية أن يذرو الهواء الروح حقيقة، ويبعثرها عند فراقها الجسد، وبخاصة إذا كتب لإنسان أن يموت في جو عاصف، ولم يقدر له الموت حيث السماء ساكنة. فأجاب سيبيس باسما: إذن يا سقراط، فواجبك أن تنفض عنا خوفنا بالدليل، ومع ذلك فليست هي مخاوفنا، إن توخيت الدقة في القول، ولكن هنالك في طويتنا، طفل ينظر إلى الموت، كأنه ضرب من الغول، فلا بد أن تحمله كذلك على ألا يفزع إذا ما انفرد وإياه في الظلام.قال سقراط: ردد في كل يوم صوت الساحر، إلى أن تطرد بالسحر ذلك الغول.- وأين عسانا أن نجد ساحرا حاذقا يقينا مخاوفنا بعد ذهابك يا سقراط؟فأجاب: إن هلاس
16
لمكان فسيح يا سيبيس، وفيه كثير من طيبي الرجال، وهناك غير قليل من القبائل المتبربرة، فابحث عنه في طول البلاد وعرضها، بين هؤلاء جميعا، ولا تدخر في البحث جهدا ولا مالا؛ فليس من سبيل أفضل من استخدامك المال، ولا يفتك أن تبحث عنه كذلك بين أنفسكم، فوجوده ها هنا أرجح منه في أي مكان آخر.فأجاب سيبيس: لن نتردد في القيام بهذا البحث، ولنعد الآن إذا شئت في الحوار إلى النقطة التي استطردنا منها.فأجاب سقراط: طبعا، وماذا أريد غير هذا؟فقال: حسنا جدا.قال سقراط: أفلا ينبغي أن نساءل أنفسنا سؤالا كهذا: ما هو الشيء الذي تظنه عرضة للبعثرة، ونحن عليه حريصون؟ ثم ما هو الشيء الذي لا نحرص عليه؟ وبعدئذ نستطيع أن نمضي في البحث عما إذا كان ذلك الذي تمتد إليه يد البعثرة، من طبيعة الروح أم لا. فعلى ذلك سنقيم ما نكن لأرواحنا من آمال ومخاوف.فقال: هذا صحيح.- فقد نفرض أن الشيء المركب، أو الذي يتكون من أجزائه، أنه بطبيعته يمكن أن يتحلل، كما أمكن له أن يتركب، أما ذلك الذي لم يتركب من أجزاء، فيلزم أن يكون وحده غير قابل للتحلل، إذا كان ثمة شيء كهذا.فقال سيبيس: نعم؛ فهذا ما قد أتصوره.- وقد يزعم أحد غير المركب، يظل كما هو، ولا يخضع للتغير، بينما يكون المركب دائم التغير، لا يظل أبدا كما هو؟فقال: إني أظن ذلك أيضا.- وإذن فلنعد الآن إلى حوارنا السابق: هل يتعرض ذلك المثال، أو الجوهر، الذي نعرفه في سياق الكلام، بأنه كنه
17
الوجود الحقيقي - سواء في ذلك كنه المساواة أو الجمال أو أي شيء آخر - أقول هل تتعرض هذه الجواهر على مر الزمن إلى شيء من التغير؟ أم أن كلا منها يبقى هو ما هو دائما، له نفس ما له من صور توجد بنفسها، لا تتغير ولا تقبل التحول بتاتا، كيفما كان، أو في أي وقت كان؟فأجاب سيبيس: إنها لا بد أن تكون دائما كما هي يا سقراط، وماذا أنت قائل في تعدد الجميل، سواء أكان أناسا، أم لباسا، أم جيادا، أم أي شيء آخر يمكن أن يسمى متساويا أو جميلا، أهي كلها لا تخضع للتغير، وتبقى كما هي دائما، أم أنها نقيض ذلك تماما؟ أليس الأولى أن توصف بأنها متغيرة في الأغلب، وأنها لا تكاد تبقى أبدا كما هي، سواء مع أنفسها، أو بعضها مع بعض؟فأجاب سيبيس: إنها الأخيرة. إنها دائما في حالة من التغير.- وأنت تستطيع أن تلمسها، وأن تراها، وأن تدركها بالحواس. فأما الأشياء الثابتة، فلا يمكنك إدراكها إلا بالعقل. إنها تخفى على الأبصار فلا ترى.فقال: هذا جد صحيح.فأضاف: حسنا، لنفرض إذن أن ثمة ضربين من الوجود، وجودا مرئيا ووجودا خفيا.- لنفرضهما.- والمرئي هو المتغير، والخفي هو الثابت .- يمكن فرض ذلك أيضا.- أليس الجسد، فضلا عن ذلك، جزءا منا، وما يبقى هو الروح؟- ليس في ذلك شك.- ترى إلى أي نوع من هذين يكون الجسد والجلد أشبه؟- ظاهر أنهما أشبه بالمرئي، إن أحدا لا يشك في ذلك.- وهل الروح مرئية أم خفية؟- لم يرها إنسان يا سقراط.- وهل نقصد «بالمرئي» و«الخفي» ما تراه عين الإنسان وما لا تراه؟- نعم، بالنسبة إلى عين الإنسان.- وماذا تقول عن الروح؟ أهي مرئية أم خفية؟- إنها لا ترى.- هي خفية إذن؟- نعم.- وإذن فالروح أشبه بالخفي، والجسد أشبه بالمرئي؟- إن ذلك مؤكد جدا يا سقراط.- ألم نكن نزعم منذ عهد بعيد، أن الروح حين تتخذ من الجسد أداة للإدراك؛ أعني حين تستخدم حاسة الإبصار، وحاسة السمع، أو غيرهما من الحواس (لأن معنى الإدراك خلال الجسد، هو الإدراك بواسطة الحواس)؛ ألم نكن نزعم أن الجسد بذلك يجر الروح أيضا إلى منطقة المتغير، وأنها تضل وترتبك؟ فإن الدنيا عندئذ تضرب حولها نسيجا، فتكون الروح عند خضوعها لتأثير الحواس كمن أثملته الخمر؟- جد صحيح. - ولكنها إذا ما ثابت إلى نفسها، فإنها تفكر، وبعدئذ تدخل عالم النقاء، والأبدية، والخلود، والثبات. فهؤلاء عشيرتها، وهي تعيش معها أبدا، إذا ما خلت إلى نفسها دون أن يعطلها معطل، أو يحول دونها حائل، وعندئذ لا تعود تسلك سبلها الخاطئة. فإنها إذا ما خالطت ما هو ثابت، كانت هي كذلك ثابتة، وتسمى هذه الحالة التي تكون فيها الروح بالحكمة.أجاب: هذا صحيح، فحق ما قلت يا سقراط.- وبأي نوع ترى الروح أشد شبها وقربى؟ استنتاجا من هذا التدليل ومن سابقه؟- إني أظن يا سقراط أن كل من يتتبع هذا التدليل، يعتقد أن الروح ستكون الشبه بالثابت قربا لا نهاية له؛ ولن ينكر هذا أحد حتى أشد الناس غباء.- والجسم أقرب شبها بالمتغير؟- نعم.- انظر بعد ذلك إلى الأمر مرة أخرى مستضيئا بهذا: حينما تتحد الروح مع الجسد، تأمر الطبيعة الروح أن تحكم وأن تسيطر، والجسد أن يطيع وأن يعمل؛ فأي هذين العملين أدنى إلى الإلهي؟ وأيهما أقرب إلى الفاني؟ أليس يبدو لك الإلهي أنه ما يأمر وما يحكم بطبيعته، وأن الفاني هو الخادم الخاضع؟- حقا.- وأيهما يشبه الروح؟- إن الروح تشبه الإلهي، أما الجسد فيشبه الفاني. ليس إلى الشك في ذلك سبيل يا سقراط.- إذن فانظر يا سيبيس، أليست هذه هي خلاصة الأمر كله؟ إن الروح على أشد ما يكون الشبه بالإلهي، وبالخالد، وبالمعقول، وبذي الصورة الواحدة، وبغير المتحلل، وبغير المتحول، وإن الجسد على أشد ما يكون الشبه بالإنساني، وبالفاني وبغير المعقول، وبذي الصورة المتعددة، وبالمتحلل، وبالمتحول. هل من سبيل إلى إنكار ذلك، أي عزيزي سيبيس؟- لا، ولا ريب.- ولكن إن صح هذا، أفلا يكون الجسد عرضة للتحلل السريع؟ ألا تكون الروح غير قابلة للتحلل، في أغلب الحالات، بل فيها جميعا؟- يقينا.وهل تلاحظ فوق هذا، أن الجسد بعد موت الإنسان لا يتحلل أو يتفكك دفعة واحدة، بل قد يبقى أمدا طويلا، إذا كان قوي البنية عند الموت، ووقع الموت في فصل ملائم من فصول السنة، مع أن الجسد هو الجزء المرئي من الإنسان، وله مادة تراها العين، تسمى جثة، ستنتهي بطبيعتها إلى التحلل، فتتفرق أجزاؤها وتتبدد؛ لأن تقلص الجسد وتحنيطه، كما جرت بذلك العادة في مصر، يعملان في أغلب الأحيان على حفظه أبدا لا يبيد، وحتى إذا أصابه الفساد، فإن بعض أجزائه تظل باقية، كالعظام وبعض الأعصاب التي تستعصي على التحلل بطبيعتها. هل تسلم بهذا؟- نعم.- وهل يجوز لنا أن نفرض أن الروح الخفية، عند انتقالها إلى عالم الأموات الحقيقي، وهو مثلها في خفائها، ونقائها، ونبلها، وأنها إذ تكون في طريقها إلى الإله الخير الحكيم، الذي توشك روحي أن تنتقل إليه إن شاء الله بعد حين، أقول: هل يصح الفرض أن الروح، إن كانت هذه طبيعتها، وذاك أصلها، تتبدد وتفنى عند فراق الجسد، كما تقول جمهرة الناس؟ يستحيل أن يكون ذلك، أي عزيزي سمياس وسيبيس، وأولى أن تكون الحقيقة هي الروح، وهي نقية، لا تجر في ذيلها عند انتقالها أية صبغة جسدية، ما دامت لم تتصل قط بالجسد اختيارا، بل إنها لتتجنبه دائما، وما دامت قد انحصرت في نفسها (فقد كان مثل هذا التجريد موضوع دراستها في الحياة). وماذا يعني هذا إلا أن الروح قد كانت تابعة مخلصة للفلسفة، وأنها قد مرنت على كيفية الموت بغير عناء؟ أفليست الفلسفة مرانا على الموت؟- يقينا.- أقول إن تلك الروح في خفائها، تنتقل إلى العالم الخفي، إلى الإلهي والخالد والعاقل. فإذا ما بلغته، رفلت في نعيم، وتخلصت من أوزار الناس وحمقهم، ومن مخاوفهم وعواطفهم الحوشية، ومن النقائص البشرية جميعا، ورافقت الآلهة إلى الأبد، كما يروى عن العالمين بالسر. أليس ذلك صحيحا يا سيبيس؟فقال سيبيس: نعم، وليس إلى الشك فيه من سبيل.- ولكن الروح التي قد أصابها الدنس، والتي تكون كدرة عند انتقالها، والتي ترافق الجسد دائما، وتكون خادمته، والتي تغرم وتهيم بالجسد ورغبات الجسد ولذائذه، حتى ينتهي بها الأمر إلى العقيدة بأن الحقيقة لا تكون إلا في صورة جسدية يمكن الإنسان أن يلمسها وأن يراها وأن يذوقها، وأن يستخدمها لأغراض شهواته. أعني الروح التي اعتادت أن تنفر من المبدأ العقلي، وأن تخافه وتتحاشاه، ذلك المبدأ الذي هو للعين الجسمانية معتم تستحيل رؤيته، والذي لا يدرك إلا بالفلسفة وحدها، أفتحسب أن روحا كهذه سترحل نقية طاهرة؟فأجاب: يستحيل أن يكون هذا.- إنها قد استغرقت في الجسدي، وقد أصبح طبيعيا بالنسبة لها؛ لاتصالها المستمر بالجسد، وعنايتها الدائمة به.- جد صحيح.- ويحق لنا يا صديقي أن نتصور أن هذه هي تلك المادة الأرضية الثقيلة الكثيفة، التي يدركها البصر، والتي بفعلها تغشى الكآبة مثل هذه الروح، فتنجذب هبوطا إلى العالم المرئي مرة أخرى؛ لأنها تخاف مما هو خفي، وتخاف من العالم الأدنى؛ فتظل محومة حول المقابر واللحود؛ إذ ترى بجوارها - كما يحدثوننا - أشباح طيفية لأرواح لم تكن قد رحلت نقية، ولكنها ارتحلت مليئة بالمادة المنظورة فأمكن رؤيتها.
18 - يغلب جدا أن يكون ذلك يا سقراط.- نعم يا سيبيس؛ فأغلب الظن أن يكون ذلك، ولا بد أن تكون هاتيك أرواح الفجار لا أرواح الأبرار، هؤلاء الفجار الذين كتب عليهم أن يضلوا في مثل تلك المواضع جزاء وفاقا بما اقترفوا في الحياة من إثم، فلا ينقطع تجوابهم، حتى تشبع الرغبة التي تملؤهم، ثم يسجنون في بدن آخر، وقد يظن أن تلازمهم نفس الطبائع التي كانت لهم في حياتهم الأولى.- أي الطبائع تريد يا سقراط؟- أريد أن أقول إن من اندفعوا وراء الشره والفجور والسكر، ولم تدر في خلدهم فكرة اجتنابها، سينقلبون حميرا وما إليها من صنوف الحيوان. فماذا ترى أنت؟- أرى أن ذلك جد محتمل.- وهؤلاء الذين اختاروا جانب الظلم والاستبداد والعنف، سينقلبون ذئابا أو صقورا أو حدأ، وإلا فإلى أين تحسبهم ذاهبين؟فقال سيبيس: نعم، إن ذلك، ولا ريب، هو مستقر تلك الطبائع التي تشبه طبائعهم.فقال: وليس من العسير أن نهيئ لهم جميعا أمكنة تلائم طبائعهم وميولهم المتعددة.فقال: ليس في ذلك عسر.- وحتى بين هؤلاء ترى فريقا أسعد من فريق؛ فأولئك الذين اصطنعوا الفضائل المدنية والاجتماعية التي تسمى بالاعتدال والعدل، والتي تحصل بالعادة والانتباه، دون الفلسفة والعقل، أولئك هم أسعد نفسا ومقاما. ولم كان أولئك هم الأسعد؟لأنه قد يرجى لهم أن يتحولوا إلى طبيعة اجتماعية رقيقة تشبه طبيعتهم، مثل طبيعة النحل أو النمل، بل قد يعودون مرة ثانية إلى صورة البشر، وقد يخرج منهم أناس ذوو عدل واعتدال.- ليس ذلك محالا.- أما الفيلسوف، أو محب التعلم، الذي يبلغ حد النقاء عند ارتحاله؛ فهو وحده الذي يؤذن له أن يصل إلى الآلهة، وهذا هو السبب، أي سمياس وسيبيس، في امتناع رسل الفلسفة الحق عن شهوات الجسد جميعا؛ فهم يصبرون ويأبون أن يخضعوا أنفسهم لها، لا لأنهم يخشون إملاقا أو يخافون لأسرهم دمارا كمحبي المال ومحبي الدنيا بصفة عامة، ولا لأنهم يخشون العار والشين الذين تجلبهما أعمال الشر كمحبي القوة والشرف.قال سيبيس: لا يا سقراط، إن ذلك لا يلائمهم.فأجاب: حقا إنه لا يلائمهم؛ وعلى ذلك فأولئك الذين يعنون بأرواحهم، ولا يقصرون حياتهم على أساليب الجسد، ينبذون كل هذا؛ فهم لن يسلكوا ما يسلك العمي من سبل، وعندما تعمل الفلسفة على تطهيرهم وفكاكهم من الشر، يشعرون أنه لا ينبغي لهم أن يقاوموا فعلها، بل يميلوا نحوها، ويتبعوها إلى حيث تسوقهم.- ماذا تعني يا سقراط؟قال: سأحدثك. إن محبي المعرفة ليدركون عندما تستقبلهم الفلسفة أن أرواحهم إنما شدت إلى أجسادهم وألصقت بها، ولا تستطيع الروح أن ترى الوجود إلا خلال قضبان سجنها، فلا تنظر إليه وهي في طبيعتها الخاصة، إنها تتمرغ في حمأة الجهالة كلها، فإذا ما رأت الفلسفة ما قد ضرب حول الروح من قيد مخيف، وأن الأسيرة تنساق مدفوعة بالرغبة إلى المساهمة في أسر نفسها؛ لأن محبي المعرفة يعلمون أن هذه كانت الحالة البدائية للروح، وأنها حين كانت في تلك الحال، تسلمتها المعرفة ونصحتها في رفق، وأرادت أن تحررها، مشيرة لها بأن العين مليئة بالخداع، وكذلك الأذن وسائر الحواس، لتحملها على التخلص منها تخلصا تاما، إلا حين تدعو الضرورة إلى استخدامها وأن تتجمع وتتفرغ إلى نفسها، وألا تثق إلا بنفسها وما توحي به إلى بصيرتها عن الوجود المطلق، وأن تشك في ما يأتيها عن طريق سواها، ويكون خاضعا للتغير؛ فالفلسفة تبين لها أن هذا مرئي ملموس، أما ذلك الذي تراه بطبيعتها الخاصة فعقلي وخفي، وروح الفيلسوف الحق تظن أنه لا ينبغي لها أن تقاوم هذا الخلاص؛ ولذا فهي تمتنع عن اللذائذ والرغبات، والآلام والمخاوف، جهد استطاعتها، مرتئية أن الإنسان حينما يحوز قدرا عظيما من المسرات أو الأحزان أو المخاوف أو الرغبات؛ فهو لا يعاني منها هذا الشر الذي تقدره الظنون - كأن يفقد مثلا صحته أو متاعه، مضحيا بها في سبيل شهواته - ولكن يعاني شرا أعظم من ذلك، هو أعظم الشرور جميعا وأسوأها، هو شر لا يدور في خلده أبدا.قال سيبيس: وما هو ذلك يا سقراط؟- هو هذا، حينما تحس الروح شعورا شديد العنف، بالسرور أو بالألم، ظننا جميعا بالطبع أن ما يتعلق به هذا الشعور العنيف يكون عندئذ أوضح وأصدق ما يكون، ولكن الأمر ليس كذلك.- جد صحيح.وتلك هي الحال التي يكون فيها الجسد أشد ما يكون استعبادا للروح.- وكيف ذلك؟- لأن كل سرور وكل ألم يكون كالمسمار الذي يسمر الروح في الجسد، ويربطها به، ويستغرقها، ويحملها على الإيمان بأن ما يؤكد عنه الجسد أنه حق فهو حق، ومن اتفاقها مع الجسد، وسرورها بمسراته ذاتها، تراها مجبرة على أن تتخذ عادات الجسد وطرائقه نفسها، ولا ينتظر ألبتة أن تكون الروح نقية عند رحيلها إلى العالم الأدنى، فهي مشبعة بالجسد في كل آن، حتى إنها سرعان ما تنصب في جسد آخر، حيث تنبت وتنمو؛ ولذا فهي لا تساهم بقسط في الإلهي، والنقي، والبسيط.فأجاب سيبيس: ذلك جد صحيح يا سقراط؟- وهذا يا سيبيس هو ما دفع محبي المعرفة الحق أن يكونوا ذوي اعتدال وشجاعة؛ فهم لم يكونوا كذلك؛ لما تقدمه الحياة الدنيا من أسباب.- لا، ولا ريب.- لا، ولا ريب! فليست تفكر روح الفيلسوف على هذا النحو، إنها لن تطلب إلى الفلسفة أن تحررها، لكي تستطيع، إذا ما تحررت، أن تلقي بنفسها مرة أخرى، في معترك اللذائذ والآلام، فتكون بذلك كأنها تعمل ما تعمل، لا لشيء إلا لكي تعود فتنقضه، وكأنها تنسج خيوطه - كما فعلت بنلوب
19 - بدل أن تعمد إلى حلها، ولكنها ستتخذ من نفسها عاطفة راكدة ستتأثر خطو العقل، فتلازمه لتشاهد الحقيقي والإلهي (وهو ليس موضوعا للرأي)؛ ومن ثم تستمد غذاءها، وهي تحاول بذلك أن تحيا ما دامت في الحياة، وتأمل أن تلتمس ذوي قرباها بعد الموت، وأن تتحرر من النقائص البشرية، فلا تخشيا أي سمياس وسيبيس أن تتبدد روح كان ذلك غذاءها، وكانت تلك آمالها المنشودة، عند انفصالها عن الجسد فتذروها الرياح، وتصبح عدما ليس له وجود.وما إن انتهى سقراط من هذا الحديث حتى ساد الصمت فترة طويلة، فبدا هو نفسه، كما بدا معظمنا، كأنما نفكر فيما قيل، إلا أن سيبيس وسمياس تهامسا بكلمات قليلة، فلما لحظ ذلك سقراط، استنبأهما عما ارتأيا فيما أقيم من دليل، وهل لم يزل يعوزه التدعيم، وقال: إن كثيرا منه لا يزال عرضة للشك والطعن، إذا ما صحت من أحد عزيمته، أن يقلب النظر في جوانب الموضوع كلها. وإن كنتما تتحدثان عن شيء آخر، فخير ألا أعترضكما. أما إن كنتما لا تزالان تشكان في الدليل، فلا تترددا أن تصرحا بكل ما تريانه، ولنأخذ بما قد تقترحانه، إن كان خيرا مما قلنا، واسمحا لي أن أعينكما إن كان يرجى لكما مني نفع.قال سمياس: لا بد أن أعترف يا سقراط بأن الشكوك قد ثارت في عقولنا، وكان كل منا يحفز الآخر ويدفعه ليلقي السؤال الذي أراد أن يستفسر عنه والذي لم يرد منا أن يلقيه؛ خشاة أن يكون إلحاحنا مضنيا لك في حالتك الراهنة.فابتسم سقراط وقال: ألا ما أعجب ذلك يا سمياس! أحسبني في أرجح الظن مستطيعا إقناع سائر الناس بأنني لا أجد رزءا في موقفي هذا، ما دمت عاجزا عن إقناعكم أنتم وما دمتم على ظنكم أنني الآن أكثر مشغلة مني في أي وقت آخر. ألا تريان عندي من روح النبوة ما عند طيور التم؟
20
التي إذا أدركت أن الموت آت لا ريب فيه ازدادت تغريدا عنها في أي وقت آخر، ومع أنها قد أنفقت في التغريد حياتها بأكملها، وذلك اغتباطا منها بفكرة أنها وشيكة الانتقال إلى الله، الذي هي كهنته، ولما كان الناس يشفقون هم أنفسهم من الموت، تراهم يؤكدون افتراء أن طيور التم إنما تنشد مرثية في ختام حياتها، ناسين أن ليس من الطيور ما يغرد من برد أو جوع أو ألم، حتى البلبل والسنونو، بل حتى الهدهد، الذي يقال عنه بحق إنه يغرد تغريدة الأسى، وإن كنت لا أومن أن ذلك يصدق عليه أكثر مما يصدق على طيور التم، فهي إنما أوتيت موهبة التنبؤ لقداستها عند أبولو، فاستطلعت ما في العالم الآخر من طيبات، فطفقت تغني لذلك وتمرح في ذاك اليوم أكثر مما فعلت في أي يوم سابق. كذلك أنا، فإني أعتقد في نفسي بأنني خادم قد اصطفاه الله نفسه، وإني رفيق لطيور التم فيما تعمل؛ فأنا أظن أن قد أتاني سيدي من التنبؤ موهبة ليست دون مواهبها مرتبة، فلن أغادر الحياة أقل مرحا من التم.
21
فلا تحفلا بعد بهذا، وتكلما فيما تشاءان، وسلا عما تشاءان، في هذه الفترة التي يسمح فيها حكام أثينا الأحد عشر بالكلام.قال سمياس: حسنا يا سقراط؛ إذن فسأفضي إليك بمسألتي وسينبئك سيبيس بمشكلته، فإني لأقول مجترئا إنك تحس يا سقراط، كما أحس أنا، كم هو عسير أو يكاد يستحيل أن تبلغ في مثل هذه المسائل يقينا، ما دمت في هذه الحياة الحاضرة، ومع هذا فإني لأتهم بالجبن كل من لا يدلل عليها ما وسعه الدليل، أو كل من خار به قلبه قبل أن يخبرها من كل جوانبها.
22
فينبغي للمرء أن يثابر حتى ينتهي إلى أحد أمرين، إما أن يستكشف حقيقتها أو يعلمها، فإن استحال ذلك فإني أحب له أن يأخذ بأقوم الآراء البشرية وأبعدها عن التفنيد، وليكن ذلك طوفه الذي يسبح به في الحياة. وإني مسلم بأنه لن يفعل ذلك دون أن يتعرض للخطر، إذا هو لم يستطع أن يجد من الله كلمة تسير به على هدى وطمأنينة.والآن فسأجسر، كما تريدني، على أن أسألك؛ لأني لا أحب أن آخذ على نفسي فيما بعد أنني لم أدل برأيي في حينه الملائم، فإني إذا ما قلبت النظر في الموضوع يا سقراط، سواء أكنت وحدي أم كنت مع سيبيس، بدا لي أن التدليل لم يكن حاسما.أجاب سقراط: إنني لأعترف يا صديقي أنك قد تكون مصيبا، ولكني أحب أن أعلم في أي ناحية لم يكن التدليل حاسما.فأجاب سمياس: في هذه الناحية، ألا يجوز أن يستخدم أحد هذا الدليل بذاته في القيثارة والانسجام؟ ألا يحق له القول إن الانسجام شيء خفي، غير جثماني، لطيف إلهي، موجود في القيثارة المنسجمة؟ ولكن القيثارة والأوتار مادة، وهي مادية متآلفة من أجزاء أرضية، وتربطها القربى بالفناء؟
23
وأنه إذا تحطمت القيثارة أو تقطعت أوتارها وتمزقت، فإن من يأخذ بهذا الرأي يدلل كما تدلل أنت، وبالتشابه نفسه، على أن الانسجام يبقى حيا ولا يفنى؛ لأنك لا تستطيع أن تتصور، كما يجوز القول، أن تبقى القيثارة بغير أوتارها، بل وتبقى الأوتار الممزقة نفسها، على حين أن الانسجام الذي يمت بأسباب القربى إلى الطبيعة السماوية الخالدة يفنى، بل ويفنى قبل الذي هو فان. سنقول إن الانسجام لا شك موجود في مكان ما، وإن الفناء سيصيب الخشب والأوتار قبل أن يصيب ذلك الانسجام، وإني لأشك يا سقراط أنك ستأخذ أنت أيضا في الروح بهذا الرأي الذي نميل جميعا إلى الأخذ به، وستذهب كذلك إلى أن الجسد إنما أقيم وارتبطت أجزاؤه بفعل عناصر الحر والبرد والرطوبة والجفاف وما إليها، وأن الروح هي ما بين هاتيك العناصر من انسجام، أو هي مزاجها المتزن المتناسب، فإن صح هذا نتج بداهة أن أوتار الجسد إذا ارتخت أو أجهدت بغير مبرر بسبب الفوضى أو أي فساد آخر فنيت لذلك الروح جملة واحدة،
24
برغم ما بها من ألوهية غالبة، مثل سائر الانسجامات التي تكون في الموسيقى أو آيات الفن. ولو أن بقايا الجسد المادية ربما لبثت طويلا حتى يدركها الفناء أو الاحتراق. والآن، إن زعم زاعم بأن الروح تفنى أولا فيما يسمى بالموت، باعتبار أنها ما بين عناصر الجسد من انسجام، فبم نجيبه؟فأجال فينا سقراط النظر، كما هي عادته، وقال باسما: إن دليل العقل ناهض في جانب سمياس، وإن في مهاجمته إياي لقوة، فلماذا لا يتصدى منكم لإجابته من هو أقدر مني؟ ولكن قد يحسن بنا قبل أن نجيبه أن نصغي كذلك لما يريد سيبيس أن يناهض به الدليل، وسيكون لنا من ذلك للروية متسع، فإذا ما فرغ كلاهما من الحديث وبدا قولهما مستقيما مع الحقيقة سلمنا لهما، وإلا، فلنا أن نؤيد الجانب الآخر، وأن نناقشهما. قال: تفضل إذن فحدثني يا سيبيس، أي مشكلة صادفتك فأتعبتك؟قال سيبيس: سأحدثك، إني لأشعر بأن التدليل لم يتزحزح عن موضعه؛ فأنا مستعد أن أسلم بأن قد قام الدليل القاطع الوافي جدا، إن جاز لي هذا القول، على وجود الروح قبل حلولها في الصورة الجسدية. ولكني أرى أن بقاء الروح بعد الموت لا يزال يعوزه الدليل، ولست أعترض في ذلك بما اعترض به سمياس؛ لأنني لا أريد أن أنكر أن الروح أقوى من الجسد وأطول بقاء، فعقيدتي أن الروح تسمو على الجسد في كل هذه النواحي سموا بعيدا. وقد يخاطبني الدليل فيقول: حسنا إذن، فلماذا تقيم على ارتيابك؟ إذا رأيت أن الأضعف يظل باقيا بعد موت الإنسان، أفلا تسلم بأنه يتحتم أيضا أن يبقى ما هو أطول بقاء خلال هذه الفترة نفسها؟ ويجمل بي الآن أن أستخدم المجاز كما فعل سمياس، وسأطلب إليك أن تنظر في استعارتي لترى هل جاءت ملاءمة لموضوعها. أما المثل الذي سأسوقه فهو مثل نساج قديم، يموت فيزعم بعض الناس بعد موته أنه لم يمت وأنه لا بد أن يكون حيا، ويستشهد على ذلك بالعطاف
25
الذي نسجه بنفسه وارتداه، والذي لا يزال جيدا متينا، ثم يمضي فيسأل المرتاب من القوم: هل الإنسان أطول بقاء أم العطاف الذي يستخدم ويرتدى؟ فإذا ما أجيب بأن الإنسان أطول جدا في البقاء، ظن أنه قد أثبت بذلك يقينا بقاء الإنسان الذي هو أطول بقاء ما دام الأقصر بقاء لا يزال باقيا. ولكني أرجو أن تلاحظ يا سمياس أن ليست تلك هي الحقيقة، وليس بخاف على الناس أن من يتحدث بهذا إنما ينطق هراء، فحقيقة الأمر أن هذا النساج قد ارتدى ونسج كثيرا من هذا العطف، ولئن كان قد أفنى كثيرا منها وعمر بعدها، إلا أن آخرها قد ظل بعد فنائه باقيا، ولكن لا ريب في أن هذا أبعد جدا من أن يقوم دليلا على أن الإنسان أقل من العطاف شأنا وأشد ضعفا. غير أنك تستطيع أن تعبر عن علاقة الجسد بالروح باستعارة كهذه، فلك أن تقول بحق إن الروح باقية، وإن الجسد بالقياس إليها ضعيف قصير الأجل، فقد يقال عن كل روح إنها تبلي أجسادا كثيرة وبخاصة إذا امتد بها أجل الحياة؛ لأنه إذا كان الجسد يتحلل ويفنى في حياة الإنسان؛ فالروح لا تني تنسج لنفسها لباسا جديدا وتصلح ما قد أصابه البلى؛ فطبيعي إذن أن تكون الروح مرتدية آخر أثوابها حينما يدركها الفناء، وذاك الثوب وحده هو الذي سيبقى بعد فنائها. ولكن الجسد بدوره، إذا ماتت الروح سيكشف آخر الأمر عن ضعف طبيعته، فلا يلبث أن يدركه الفناء، ولهذا لن أركن إلى هذا الدليل برهانا على بقاء الروح بعد الموت؛ لأنه إذا سلمنا فرضا حتى بأبعد مما تؤكد أنت أنه في حدود الممكن، فارتضينا - فضلا على اعترافنا بوجود الروح قبل الميلاد - أن أرواح طائفة من الناس لا تزال موجودة بعد الموت، وأنها ستظل موجودة، وأنها ستولد وتموت كرة بعد أخرى، وأن في الروح قوة طبيعية ستقاوم بها حتى تولد مرات عدة؛ فقد نميل مع هذا كله إلى الظن بأنها ستعاني من آلام الولادات المتعاقبة رهقا قد ينتهي بها آخر الأمر السقوط في إحدى مرات موتها، فتفنى فناء تاما، وربما خفيت عنا جميعا هذه المرة التي يموت فيها الجسد ويتحلل، والتي قد تؤدي بالروح إلى الفناء، ولا يمكن أن تتوفر لأي واحد منا خبرة عن ذلك،
26
فإن صح هذا، زعمت أن من يثق في الموت فإنما يثق وثوقا غاشما، ما لم يكن قادرا على التدليل بأن الروح لا تخضع للموت أو الفناء إطلاقا. أما إن كان عاجزا عن إثبات ذلك، فمعقول ممن يقترب من الموت أن يخشى فناء الروح فناء تاما عند انحلال الجسد.فلما سمعنا منهم هذا القول، أحسسنا جميعا بالكآبة، كما لاحظ بعضنا إلى بعض فيما بعد. وأحسب أنه قد داخلنا الاضطراب والشك، لا فيما سلف من دليل فحسب، بل في كل ما قد يجيء به الدهر من دليل؛ لأننا - وقد كنا من قبل نؤمن إيمانا راسخا - قد رأينا ذاك الإيمان تتزعزع دعائمه. فإما أننا لم نكن قضاة صالحين، وإما أن العقيدة لم تقم على أساس صحيح.
أشكراتس :
إني لأشاطرك إحساسك هذا، حقا إني لأشاطرك إياه يا فيدون، وقد هممت وأنت تتحدث أن ألقي نفس السؤال. أي دليل يمكن أن أومن به بعد اليوم؛ فماذا عسى أن يكون أقوى في الإقناع من تدليل سقراط، وها هو ذا قد هبط إلى الجحود؟ فيا طالما فتنني فتنة عجيبة هذا المذهب القائل بأن الروح هي الانسجام، ولم يكد يرد ذكره حتى عاودني بغتة؛ لأنه عقيدتي الأولى. وجدير بي الآن أن أعود فألتمس دليلا آخر، يؤكد لي بأن الروح لا تموت مع الإنسان عند موته. فأرجو أن تنبئني كيف مضى سقراط في الحديث؟ هل بدا كأنما يشاطركم إحساسكم الكئيب الذي ذكرت؟ أم أنه استقبل الاعتراض هادئا؛ فأجاب عنه جوابا وافيا؟ أنبئنا بما وقع دقيقا ما استطعت.
فيدون :
أي أشكراتس، إني ما فتئت معجبا بسقراط، ولكني لم أعجب به قط أكثر مما فعلت وقتئذ. أما إنه استطاع الجواب فيسير، ولكن ما أدهشني أولا هو ما تناول به كلمات الشبان من وداعة وغبطة واستحسان، ثم سرعة إحساسه بما أحدثه الحوار من جرح وما واتته به لباقته من فنون العلاج. مثله في ذلك مثل القائد الذي يستجمع جيشه وقد انهزم واندحر، ويحفز جنده أن يتابعوه فيعودوا إلى ميدان الحوار.
أشكراتس :
وكيف كان ذلك؟
فيدون :
ستعلم مني؛ فقد كنت قريبا منه، جالسا إلى يمينه على مقعد وطيء، أما هو فقد استوى على سرير يرتفع كثيرا عن مقعدي، وقد أخذ يداعب شعري، ثم مسح رأسي بيديه، وصفف شعري على عنقي وقال: أي فيدون! غدا ستجذ هذه الجدائل الجميلة فيما أظن.
أجبت: نعم يا سقراط، إني أظن ذلك.- إنها لن تجذ لو أخذت بنصحي.قلت: وماذا عساي أن أفعل بها؟أجاب: إني وإياك سنقطع اليوم جدائل شعرنا، فلا نرجئها إلى غد، لو كان هذا الحوار ليموت، واستحال علينا أن نرده إلى الحياة مرة أخرى. وإني لو كنتك، ولم أستطع أن أثبت ضد سمياس وسيبيس، ولأقسمت ألا أرسل شعري قط، كما يفعل الأرجيفيون، حتى أثير المعركة من جديد وأدحرهما.قلت: نعم، ولكن لم يرو عن هرقليس نفسه أنه نازل اثنين.فقال: ادعني إذن، وسأكون لك أيولاوس حتى تغرب الشمس.قلت: سأدعوك، لا كما يدعو هرقليس أيولاوس، ولكن كما كان يدعو أيولاوس هرقليس.قال: لا فرق بين هذا وذاك، ولكن لنأخذ الحذر أولا لكي نتقي خطرا.قلت: وما ذاك؟أجاب: خطر أن تتمكن منا كراهة المنطق، فذلك من أسوأ ما قد يصيبنا من أحداث، فكما أن ثمة أعداء للإنسانية وهم من يمقتون البشر، كذلك هناك من يكرهون المنطق وهم من يمقتون المثل، وكلاهما ناشئ عن سبب بعينه، هو الجهل بالعالم، فتجيء كراهة البشر من الغلو في الركون إلى عدم الخبرة؛ فأنت تثق برجل، وتظنه مخلصا تمام الإخلاص، وخيرا وأمينا، ثم لا يلبث أن يتكشف لك زائفا خبيثا، وهكذا غيره وغيره. فإذا وقع ذلك لإنسان مرات عدة، وبخاصة من جماعة أصدقائه الذين يظنهم أشد الناس إخلاصا له، وكثر النزاع بينه وبينهم، فإنه ينتهي آخر الأمر إلى كراهة الناس جميعا، ويعتقد أن ليس بين الناس على الإطلاق صاحب خير. أحسبك بغير شك قد لاحظت هذا.قلت: نعم.- أليس ذلك مدعاة للخزي؟ وسببه أن الإنسان في اضطراره إلى معاملة سائر الناس، لا يكون لديه بهم علم؛ لأنه لو عرفهم لعرف الأمر على حقيقته، وذلك أن ذوي الخير قليلون وأن ذوي الشر قليلون، وأن الكثرة الغالبة هي فيما يقع بين هذين.قلت: ماذا تعني؟أجاب: أعني أنه كما قد نقول عن بالغ الكبر وبالغ الصغر بأنه ليس أندر من رجل بالغ الكبر، أو رجل بالغ الصغر؛ فهذا ينطبق بصفة عامة على النهايات، سواء أكان ذلك عن الكبير والصغير، أم السريع والبطيء، أم الكدر والصافي، أم الأسود والأبيض. وسواء ضربت أمثلة ناسا أو كلابا أو أي شيء آخر، فقليلون هم النهايات، أما الكثرة فتتوسط بين النهايات. أولم تلاحظ هذا قط؟قلت: نعم لاحظته.قال: ثم ألست ترى أنه لو كان بين الشرور تنافس، لوجد أن قليلا جدا منها هو أسبقها في الشر؟قلت: نعم، فذاك أرجح الظن.أجاب: نعم ذاك أرجح الظن، ولست أعني أن مثل الأحاديث في مثل هذا مثل الناس. وأراك ها هنا قد حملتني أن أقول أكثر مما اعتزمت أن أقول، ولكن وجه المقارنة هو أنه إذا ما آمن رجل ساذج، لا يحذق علوم الكلام بصحة دليل، وخيل إليه فيما بعد أنه باطل، سواء أكان باطلا حقا أم لم يكن، ثم تكرر هذا في غيره وغيره، فلا تبقى للرجل عقيدة واحدة، وينتهي الأمر كما تعلم بكبار المجادلين إلى الظن بأنهم قد باتوا أحكم بني الإنسان؛ لأنهم هم وحدهم الذين أدركوا ما في التدليلات كلها من تزعزع وضعف شامل، لا بل أدركوا ذلك في الأشياء جميعا، وهي تظل صاعدة هابطة في مد وجزر لا ينقطعان، كما هي الحال في تيار يور بيوس.قلت: هذا جد صحيح. أجاب: نعم يا فيدون، ولشد ما يبعث على الأسى أيضا أن يصادف إنسان تدليلا هنا أو هناك، فيبدو له أول الأمر أنه حق، ثم يتكشف له عن باطل، فبدلا من أن ينحو باللائمة على نفسه وعلى ما يعوزه من ذكاء، تراه لحنقه آخر الأمر يغتبط شديد الغبطة في إزاحة اللوم عن عاتقه ليلقيه على التدليل بصفة عامة، ويظل بعد ذلك إلى الأبد كارها لاعنا لكل تدليل، فتفلت منه حقيقة الوجود وعرفانه، لو كان ثمة ما تسمى بالحقيقة أو اليقين أو القدرة على المعرفة إطلاقا.قلت: نعم، إن ذلك ليبعث على الحزن الشديد.قال: فلنحاول إذن بادئ ذي بدء، أن نسلم في نفوسنا بالفكرة القائلة إنه لا حقيقة ولا عافية ولا قوة في أي تدليل على الإطلاق، ولنعلن قبل ذلك أن ليس فينا نحن الآن عافية وأنه يجب أن نطلق فينا العنصر الإنساني، ونسعى جهدنا في اكتساب العافية، فتكسبها أنت وسائر الناس جميعا من أجل حياتكم المقبلة كلها، وأما أنا فمن أجل الموت؛ فلست أحس الساعة أني متخلق بخلق الفيلسوف، وما أنا في الرأي إلا مشايع كأفراد السوقة، وليس يعبأ المتشيع حينما يلج في المخاصمة بأوجه الصواب من الموضوع، بل يحرص على إقناع سامعيه بأقواله وكفى، وليس بينه وبيني في اللحظة الراهنة من فرق إلا هذا، بينا هو يحاول إقناع سامعيه بصحة ما يزعم، تراني أحاول إقناع نفسي قبل كل شيء، فإقناع سامعي أمر ثانوي بالنسبة إلي. ولتنظرن كم عسى أن أفيد بهذا، فلو كان ما أقوله صحيحا فما أجمل أن أكون مقتنعا بالحقيقة، وأما إن كان لا شيء بعد الموت، فسأوفر على أصدقائي هذا العويل فيما بقي من حياتي من أجل قصير. هذا وسترتفع عني جهالتي؛ ولهذا فلن يقع مني ضرر. أي سمياس وسيبيس، تلك هي الحالة العقلية التي أتناول بها الحوار. وإني أطلب إليكما أن تفكرا في الحقيقة لا في سقراط، فإن رأيتما أني أتكلم حقا فوافقاني، وإلا فقاوماني بكل ما وسعكما من جهد، حتى لا أخدعكما جميعا كما أخدع نفسي، وحتى لا أكون لكما كالنحلة؛ فأدع فيكما حمتي قبل موتي.قال: والآن دعنا نمضي، ولأتأكد منك قبل كل شيء أن ما في ذهني يطابق ما كنت تقوله. فإن كنت مصيبا فيما أتذكر؛ فقد كان لدى سمياس مخاوف وشكوك أن تكون الروح أسبق إلى الفناء، ما دامت عبارة عن انسجام، على الرغم من أنها أشد من الجسد ألوهية وصفاء. وقد بدا سيبيس من جهة أخرى أنه يسلم بأن الروح أطول من الجسد بقاء، ولكنه قال: إن أحدا لا يستطيع أن يعلم إن كان يمكن للروح بعد أن تكون قد أبلت أجسادا عدة، أن تفنى هي نفسها، مخلفة وراءها آخر أجسادها، وأن هذا هو الموت الذي يجلب الدمار للروح لا للجسد؛ لأن فعل التخريب لا يفتأ عاملا في الجسد أبدا. أليست هذه يا سمياس وسيبيس هي النقط التي تستوجب منا النظر؟فوافق كلاهما على أن ذلك تقرير لرأييهما.فمضى سقراط: وهل تنكران ما في الحوار السابق كله من قوة، أم تنكران ما في بعضه فقط؟فأجابا: بل ما في بعضه فقط.قال: وماذا ارتأيتما في ذلك الجزء من الحوار الذي ذكرنا فيه أن المعرفة عبارة عن تذكر فحسب، واستنتجنا منه أن الروح لا شك كانت موجودة فيما سبق، في مكان آخر، قبل أن تنحصر في الجسد؟فقال سيبيس إنه قد تأثر بذلك الجزء من الحوار تأثرا عجيبا، وأنه لبث فيه راسخ اليقين. ووافقه سمياس، وأضاف أنه عن نفسه لم يكد خياله يجيز أن يجيء يوم يرى فيه حول ذلك رأيا مخالفا لهذا.فاستأنف سقراط: ولكن يجدر بك، أي صديقي الطيبي، أن ترى رأيا مخالفا؛ لأنك إن أصررت على أن الانسجام مركب وعلى أن الروح انسجام، نشأ من أوتار ركبت في إطار الجسد، فلا ريب أنك لن تجيز لنفسك القول بأن الانسجام سابق للعناصر التي يتألف منها الانسجام.
27 - كلا يا سقراط، فذلك مستحيل.- ولكن ألست ترى أنك إنما تقرر هذا فعلا حينما تقول إن الروح كانت موجودة قبل أن تأخذ صورة الإنسان وجسده، وأنها تألفت من عناصر لم يكن لها وجود بعد؟ فليس الانسجام شيئا يشبه الروح كما تظن، وإنما القيثارة والأوتار والأصوات توجد أولا في حالة من التنافر، فيجيء الانسجام بعد هذه جميعا، ثم هو يسبقها جميعا في الفناء. فكيف يمكن أن نلائم بين هذا الرأي في الروح وبين الرأي الآخر؟
28
أجاب سمياس: لا يمكن قطعا.قال: ومع ذلك فينبغي بلا ريب أن يكون ثم انسجام، ما دام الانسجام هو موضوع الحديث.أجاب سمياس: ينبغي أن يكون.قال: ولكن ليس ثم انسجام بين هاتين القضيتين. إن المعرفة عبارة عن تذكر، وإن الروح انسجام؛ فأيهما إذن تستبقي لنفسك؟أجاب: إني لأحسبني يا سقراط أشد يقينا بأولاهما التي أقيم لي عليها الدليل الوافي، مني بالثانية التي لم ينهض عليها دليل قط؛ فليست ترتكز إلا على أسس من الظن والاستحسان، وأنا عليم علم اليقين أن هذه الأدلة التي تعتمد على الظنون مضللة، وهي خداعة ما لم يؤخذ عند استخدامها حذر شديد. هي خداعة في علم الهندسة وفي سائر الأشياء أيضا. أما نظرية المعرفة والتذكر؛ فقد أقيم برهانها على أسس من اليقين، والبرهان هو أن الروح لا بد كانت موجودة قبل أن تحل في الجسد؛ لأن الجوهر
29
متعلق بها، ومجرد اسم الجوهر يقتضي الوجود، وما دمت قد ارتضيت هذه النتيجة بحق وعلى أسس وافية، كما أعتقد، فينبغي فيما أظن ألا أستطرد في الجدل، وألا أسمح لسواي أن يزعم بأن الروح هي عبارة عن انسجام.قال: دعني يا سمياس أبسط الموضوع من وجهة نظر أخرى: هل يمكن فيما تتصور أن يكون الانسجام أو أي مركب آخر في حالة تختلف عن حالة العناصر التي تألف منها؟- لا، ولا ريب.- أم هل هو يفعل أو يعاني شيئا غير الذي تفعله هي أو تعانيه؟فوافق سمياس.- إذن فليس يسوق الانسجام الأجزاء أو العناصر التي يتكون منها هو، ولكنه يتبعها فقط. فوافق سمياس.- لأنه يستحيل على انسجام أن يكون على شيء من الحركة أو الصوت أو أية صفة أخرى تكون مضادة للأجزاء.فأجاب: يستحيل أن يكون كذلك.- أوليس كل انسجام يتوقف على الحالة التي تنسجم فيها العناصر؟قال: لست أفهم ما تقول.- أريد أن أقول إن الانسجام يقبل التدرج؛ فهو أكثر انسجاما، وهو أقرب إلى الانسجام التام، حينما تدنو الأجزاء في تناسقها إلى التمام، إن أمكن لها ذلك. وهو أقل انسجاما، وأبعد عن الانسجام التام، حينما تكون الأجزاء أقل تناسقا.- حقا.ولكن هل تقبل الروح التفاوت؟ أعني هل تكون روح ولو إلى أقل حد ممكن، أكثر أو أقل روحانية من غيرها، أو أبعد عن تمام الروحانية، أو أدنى إليه من روح أخرى؟- لا يكون ذلك قطعا.- ومع ذلك فقد يقال بحق إن روحا تتصف بالذكاء والفضيلة وإنها خيرة، وإن روحا أخرى تتصف بالغباوة والرذيلة وإنها شريرة، وحق هذا الذي يقال؟- نعم هو حق.- ولكن ماذا يقول أولئك الذين يصرون على أن الروح انسجام، فيما رأيت من وجود الفضيلة والرذيلة في الروح؟ - أيقولون إن ثم انسجاما آخر وتنافرا آخر، وإن الروح الفاضلة تكون منسجمة، وما دامت هي نفسها انسجاما، ففي باطنها انسجام آخر، وإن الروح الرذلة ليست منسجمة ولا يكون في باطنها انسجام؟- أجاب سمياس: إني لا أحير جوابا، ولكني أحسب أن سيزعم أولئك الذين يأخذون بهذا الرأي شيئا كهذا.- ونحن قد اتفقنا فيما سبق أن ليست روح أكثر روحانية من غيرها، وهذا الاتفاق يساوي الموافقة على أن الانسجام لا يزيد في درجة انسجامه ولا ينقص، أي لا يكون أكمل ولا أنقص انسجاما.- جد صحيح.- وما لا يزيد في انسجامه ولا ينقص لا يكون أكثر ولا أقل تناسقا!- صحيح. - وما لا يكون أكثر ولا أقل تناسقا لا يكون فيه من الانسجام أكثر ولا أقل، ولكنه دائما مقدار متساو من الانسجام؟- نعم الانسجام متساو.- فإذا لم تزد روح ولم تنقص في روحانيتها المجردة عن غيرها، فهي ليست أكثر ولا أقل انسجاما منها؟- تماما.- وعلى ذلك فليس فيها من الانسجام أو التنافر مقدار أكثر أو أقل؟- ليس فيها ذلك.- ولما كان ما فيها من الانسجام أو التنافر ليس أقل ولا أكثر فلا يكون لروح من الرذيلة أو الفضيلة أكثر مما يكون لغيرها، على فرض أن الرذيلة تنافر، وأن الفضيلة انسجام؟- إنه لا تكون أكثر من غيرها أبدا.- وإن توخينا يا سمياس في حديثنا دقة أكثر، فلن يكون لروح أية رذيلة، إن كانت الروح انسجاما؛ لأنه ما دام الانسجام مطلقا فهو لا يساهم في غير المنسجم؟- لا.- وعلى ذلك فلا تقع رذيلة من روح هي روح مطلقة؟- كيف يمكن، وفاقا لما سبق من حديث، أن تقع منها الرذيلة.- وبناء على هذا إذن تكون أرواح الحيوانات جميعا سواء في الخير، ما دامت كلها متساوية ومطلقة في روحانيتها؟فقال: إني موافقك يا سقراط.فقال: وهل يمكن في ظنك أن يصدق كل هذا؟ أنسلم بهذه النتائج كلها، وهي مع ذلك ناتجة فيما يظهر من الزعم بأن الروح انسجام؟فقال: كلا ولا ريب.فقال: وأيضا، أي عنصر بين الأشياء البشرية تراه مسيطرا، سوى الروح، والروح الحكيمة بنوع خاص؟ أترى بينها مثل ذلك العنصر؟- حقا إني لا أرى.- وهل الروح على اتفاق مع رغبات الجسد، أم هي وإياها في خلاف؟ فمثلا عندما يكون الجسد ظمآن ساخنا، أفلا تصدف الروح بنا عن الشراب؟ وعندما يحس الجسد جوعا، أفلا تصدفنا عن الأكل ! وذلك واحد فقط من عشرة آلاف من أمثلة التضاد بين الروح وبين أشياء الجسد.- جد صحيح.- ولكن سبق منا اعتراف بأن الروح ما دامت انسجاما، فلا يمكنها أن تنطق بإثارة لا تتفق مع الأوتار التي تألفت هي منها، من حيث حالات التوتر والاسترخاء والتموج وسائر المؤثرات، إنها تتبعها فقط، ولا تستطيع أن تقودها؟فقال: نعم، إنا اعترفنا بذلك يقينا.- ومع ذلك فلسنا نرى الآن الروح تفعل الضد تماما، فهي تقود العناصر التي يظن أنها تتألف منها، وهي في معظم الأحوال تعارضها وتقهرها طيلة الحياة بكل ما أمكنها من سبل.وقد تكون معها أحيانا أشد عنفا بأن ترغمها على آلام الأدوية والألعاب، ثم قد تعود فتكون وإياها أرق وداعة، وهي في ذلك تتهدد بل وتزجر الشهوات والعواطف والمخاوف. كأنما هي بذلك تتحدث إلى شيء غير نفسها، كما يصور لنا هوميروس أوذيسيوس في الأوذيسة بهذه الكلمات:
لقد ضرب على صدره لكي يؤنب قلبه: «يا قلب صبرا، فيا طالما احتملت أسوأ من ذلك شرا».
أفتظن هوميروس، قد تأثر حين سطر هذا، بالفكرة القائلة إن الروح انسجام، وإن رغبات الجسد قمينة أن تسوقها، وإنه لم يكن يرى أنها هي التي بطبيعتها تسيطر على تلك الرغبات وتقودها، وإنها أمعن في الألوهية من أي انسجام؟- نعم يا سقراط، إني موافق جدا على ذلك.- إذن فلن نصيب يا صاح في قولنا إن الروح انسجام؛ لأن في ذلك تناقضا ظاهرا مع هوميروس الإلهي كما أنه متناقض وإيانا.فقال: حقا.قال سقراط: كفى يا سيبيس حديثا عن هارمونيا،
30
إلهتكم الطيبية؛ فما أحسبها قد أغلظت معنا الصنيع، ولكن ماذا أقول لكادموس الطيبي، وكيف أسترضيه؟قال سيبيس: أظنك واجدا سبيلا إلى استرضائه؛ فلست أرتاب في أنك رددت حديث الانسجام بطريقة لم أكن أتوقعها قط. فقد أيقنت حينما تقدم سمياس باعتراضه أن ليس إلى إجابته من سبيل، فأدهشني لذلك أن أرى قوله يخور فلا يثبت أمام هجمتك الأولى، وليس بعيدا أن يلاقي الآخر، الذي تدعوه كادموس، مصيرا كهذا المصير.فقال سقراط: لا يا صديقي العزيز؛ فما ينبغي أن نزهى خشاة أن تنطلق من عين خبيثة هذه الكلمة التي أوشك أن أنطق بها، فلنا أن ندع الأمر بين أيدي من هم في عليين، حتى أدنو، على طريقة هومر، فاختبر ما يتوقد في عبارتك من حماسة، وخلاصة اعتراضك باختصار هي ما يأتي: إنك تريد أن يقام لك الدليل على أن الروح باقية خالدة، وتظن أن الفيلسوف الذي يطمئن إلى الموت إنما يركن إلى طمأنينة فارغة حمقاء، إذا هو ظن أنه سيكون في العالم الأدنى أوفر جزاء ممن سلك في حياته سبيلا أخرى، ما لم يستطع أن يدلل على ذلك، وأنت تزعم أن إثبات ما للروح من قوة وألوهية، وإثبات وجودها السابق لوجودنا في هيئة البشر، لا يقتضي بالضرورة خلودها. فإذا سلمنا بأن الروح قد عمرت طويلا، وأنها في حالتها الأولى علمت وعملت شيئا كثيرا؛ فليس هذا الاعتبار دليلا على خلودها، وقد يكون حلولها في الصورة البشرية ضربا من الموت الذي هو ابتداء الانحلال، وقد تنتهي آخر الأمر إلى ما يسمى بالموت، بعد أن تفرغ من عناء الحياة. وسواء كانت الروح تحل في الجسد مرة واحدة فقط أم مرات عدة، فذلك كما قد تقول لا يخفف من مخاوف الأفراد شيئا؛ فليس يخلو إنسان من الشعور الطبيعي، فإن لم يكن لديه عن خلود الروح علم وبرهان حق له أن يخاف. ذلك ما أحسبك قائله يا سيبيس، وهو ما أعيده عامدا، حتى لا يفلت منا شيء منه، ولكي تستطيع إن شئت أن تضيف إليه أو تحذف منه شيئا.فقال سيبيس: ولكني، فيما أرى الآن، لا أجد ما أضيفه أو ما أحذفه. إنك عبرت عما أريد.فسكت سقراط هنيهة، وبدا عليه كأنما غاص في تأمله، وأخيرا قال: إن هذا المبحث الذي أثرته يا سيبيس لذو خطر عظيم؛ فهو يتضمن موضوع الكون والفساد برمته، وذلك ما أود إن شئتم أن أقدم لكم فيه خبرتي. فخذوها إن رأيتم فيما أقول شيئا يعين على حل إشكالكم.فقال سيبيس: لشد ما أرغب في أن أنصت لما تقول.قال سقراط: إذن فهناك حديثي يا سيبيس. لقد كنت في صباي شديد الرغبة في معرفة ما يسمى بالعلم الطبيعي من أبواب الفلسفة؛ فقد ظننت أن له أغراضا سامية؛ إذ هو العلم الذي يبحث عن علل الأشياء فينبئنا لماذا وجد الشيء، وفيم خلقه وفناؤه، وكنت لا أني أقلق نفسي بالنظر في مسائل كهذه: هل يرجع نمو الحيوان إلى فساد يجيء به عاملا الحر والبرد كما يقول بعض الناس؟
31
أيكون العنصر الذي نفكر به هو الدم أم الهواء أم النار؟ أم قد لا يكون شيئا من هذا القبيل؟ - فربما كان المخ هو القوة التي تبتدع أحاسيس السمع والبصر والشم، وقد تنشأ عن هذه الأحاسيس الذاكرة والرأي، وعلى الذاكرة والرأي قد يبنى العلم، ولكن إذا وقفت فيهما الحركة وأدركهما السكون. وبعدئذ مضيت أختبر فساد الأحاسيس، وأتناول بالبحث أشياء الأرض والسماء، واستخلصت أخيرا أنني عاجز كل العجز عن هذه المباحث؛ وعلى ذلك سأقيم لك الدليل قاطعا فقد فتنت بها إلى درجة عميت معها عيناي أن ترى الأشياء التي كنت أحسبني، ويحسبني الناس عالما بها علم اليقين. قد أنسيت ما كنت ظننته من قبل بديهيا لا يحتاج إلى دليل، وهو أن نمو الإنسان نتيجة الأكل والشرب؛ لأنه بهضم الطعام يجتمع لحم إلى لحم وعظم إلى عظم، وحيثما تجمعت عناصر متجانسة كبر الجرم الضئيل، وعظم الإنسان الصغير. ألم يكن ذلك رأيا معقولا؟قال سيبيس: نعم أظن ذلك.- حسنا، دعني أنبئك شيئا آخر؛ فقد مر بي زمن كنت فيه أحسب أني أفهم معنى الأكبر والأصغر فهما جيدا، فإذا أبصرت رجلا ضخما واقفا إلى جانب رجل ضئيل، توهمت أن أحدهما أطول من الآخر قيد رأس، أو أن حصانا كان يلوح لي أنه أكبر من حصان آخر، بل أوضح من ذلك أنني كنت فيما يظهر أحسب العشرة تزيد على الثمانية باثنين، وأن ذراعين أكبر من ذراع واحدة، لأن الاثنين ضعف الواحد.قال سيبيس: وماذا أنت اليوم قائل في مثل هذه الأمور؟فأجاب: كان ينبغي أن أنأى بنفسي بعيدا من توهم أنني أعلم لأيها سببا. حقا كان ذلك ينبغي؛ فلست أستطيع أن أقنع نفسي بأننا لو أضفنا واحدا إلى واحد صار الواحد الذي جاءته الإضافة اثنين، أو أن الواحدتين مضافتين معا تساويان بسبب الإضافة اثنين؛ فلست بمسيغ كيف أنه إذا انفصلت إحداهما عن الأخرى كانت واحدا لا اثنين، ثم إذا تلاقيا؛ فقد يكون مجرد التقارب بينهما سببا في أن تصبحا اثنتين. هذا ولست أفهم كيف تكون قسمة الواحد سبيلا للحصول على اثنين؛ لأنه عندئذ تكون النتيجة الواحدة ناتجة من سببين متباينين. ففي المثال الأول نشأ اثنان من جمع واحد إلى واحد وتقاربهما، وفي الثاني كان السبب هو انفصال واحد عن واحد وطرحه منه.
32
ولست مقتنعا بعد ذلك بأنني أفهم لماذا يتولد الواحد أو أي شيء آخر، ولماذا يزول، بل ولماذا يكون إطلاقا؟ إنني لن أسلم بهذا قط، وإني لأتمثل في ذهني فكرة مهوشة عن طريقة أخرى.ثم استمعت إلى رجل كان عنده كتاب أناكسجوراس، كما قال، وطالع فيه أن العقل هو المصرف والعلة لكل شيء، ولشد ما اغتبطت لذكر هذا الذي كان باعثا على الإعجاب. وقلت لنفسي: إذا كان العقل هو المسير فإنه سيسير بكل شيء إلى الصورة المثلى، ويضع كل شيء أحسن موضع. وزعمت أن من يرغب من الناس في استكشاف علة تولد أي شيء أو زواله أو وجوده، فعليه أن يرى كيف تكون الصورة المثلى لذلك الشيء من حيث وجوده وسعيه وعمله، لذلك كان لزاما على المرء ألا يضع نصب عينيه إلا الحالة المثلى بالنسبة إلى نفسه وإلى الناس، ثم عليه بعد ذلك أن يعلم الأسوأ أيضا؛ فالأمثل والأسوأ يحويهما علم واحد. وسرني ما ظننت أني واجد في أناكسجوراس من يعلمني ما وددت أن أعلم من أسباب الوجود، وخيل إلي أنه منبئي أول الأمر عن الأرض أمسطحة هي أم كرية، وأنه باسط لي بعد ذلك علة هذا وضرورته، وأنه معلمي طبيعة الأمثل، ومظهر لي أن الأمثل إنما هو هذا،
33
فإن زعم أن الأرض قائمة في المركز شرح كيف أن هذا هو الوضع الأمثل، وكنت سأقتنع به لو بين لي كذلك، وما كنت لأقتضيه غير ذلك سببا. وحسبت أنني قد ألتمسه بعد ذلك فأسائله عن الشمس والقمر والنجوم، فيشرح لي سرعتها المقارنة، ونكوسها ومختلف حالاتها، وكيف أنها تتجه بميولها المتعددة، القابلة منها والفاعلة نحو الأمثل دائما، وما كنت أتصور أنه إذا ما تحدث عن العقل باعتباره مصرفا لها، يعلل وجودها على هيئتها الراهنة بغير علة أن هذه هي الصورة المثلى، وظننت أنه بعد أن يفرغ من الشرح المفصل لعلة كل منها وعلتها جميعا، سيمضي يبين لي الحالة المثلى لكل منها ولها جميعا. لقد تناولت الكتب متلهفا لأعلم أمر الأمثل والأسوأ، فتلوتها مسرعا ما استطعت إلى السرعة سبيلا، وقد رجوت آمالا لم أكن لأبيعها بكثير.ما أبعد ما رجوت من أمل، وما أسوأ ما عدت به من فشل! فما مضيت حتى ألفيت فيلسوفي قد نبذ العقل نبذا كما نبذ كل ما سواه من أسس الاتساق، وانتكس إلى الهواء والأثير والماء وما إليها من شوارد الآراء، فكان عندي أشبه برجل أصر بادئ ذي بدء أن العقل هو علة أفعال سقراط بصفة عامة، فلما أراد أن يبين بالتفصيل أسباب أفعالي العديدة، أخذ يبرهن أنني أجلس ها هنا لأن جسمي مصنوع من عظام وعضلات، وأن العظام كما كان ينتظر أن يقول: صلبة تفصل بينها أربطة، وأن العضلات مرنة وهي تغطي العظام التي يحتويها كذلك غشاء أو محيط من اللحم والجلد. ولما كانت العظام مشدودة إلى مفاصلها لقبض العضلات وبسطها، كان في استطاعتي أن أثني أطراف بدني، وهذا علة جلوسي ها هنا في وضع منحن. إنه كان سيزعم هذا، وكان سيشرح بمثل هذا كلامي إليكم، فقد كان سيعزوه إلى الصوت والهواء والسمع، وكان سيذكر من هذا النوع من الأسباب عشرة آلاف سوى ما ذكر، ناسيا أن يشير إلى السبب الحقيقي وهو أن الأثينيين قد رأوا في إدانتي صوابا، فرأيت أنا بناء على ذلك أن الأفضل والأصوب هو مقامي ها هنا محتملا ما حكم علي به؛ فأرجح الظن عندي أن عظامي وعضلاتي هذه كانت تود لو فرت إلى ميغارا أو بوتيا
Beotia ، وإني لأقسم بالكلب أنها تود ذلك، إذا لم يكن يسيرها إلا فكرتها هي عن الأحسن، وإذا لم أكن قد آثرت أن أحتمل كل عقوبة تقضي بها الدولة، على اعتبار أن ذلك أفضل وأشرف مسلكا، بدل أن أمثل دور الآبق فألوذ بالفرار. لا شك أن في هذا كله خلطا عجيبا بين الأسباب والحالات. وقد يمكن القول حقا إنني لا أستطيع تحقيق غاياتي بغير العظام والعضلات وسائر أجزاء الجسد، أما القول بأنني أفعل ما أفعل من أجلها، وأن فعل العقل إنما يكون على هذا النحو ولا يكون باختيار الأحسن، فذلك ضرب من القول العابث العقيم؛ وإني لأستغرب ألا يستطيع الناس أن يفرقوا بين السبب والحالة، وهو ما يخطئ الدهماء فيه وفي تسميته دائما؛ لأنهم يتخبطون في الظلام. وهكذا ترى واحدا من الناس يفترض دوامة من الماء تحيط بالأرض التي ترتكز في موضعها بفعل السماء، وترى آخر يذهب إلى أن الهواء عماد الأرض، وأن الأرض في شكل الحوض الفسيح،
34
ولا تسيغ عقولهم قط وجود أية قوة تسير بهم إذ تصرفهم نحو الأحسن، وهم لا يتخيلون أن في ذلك قوة فوق القوة البشرية، إنما هم يتوقعون أن يجدوا للعالم عمادا آخر أقوى من الخير وأكثر منه دواما وشمولا، وهم بغير شك يرون أن قوة الخير القسرية الشاملة هي كل شيء، ولكني مع ذلك أتمنى أن يكون هذا هو المبدأ الذي أتعلمه إن وجد من يعلمنيه، ولما كنت قد فشلت أن أستكشف بنفسي أو بإرشاد غيري من الناس طبيعة الأمثل، فسأعرض عليكم إذا شئتم طريقة البحث في العلة التي وجدتها تتلو الأمثل في المثالية.
35
أجاب: لشد ما أحب أن أصغي إلى ذلك.فمضى سقراط: ظننت أني ما دمت قد فشلت في تأمل الوجود الحقيقي فينبغي أن أحرص على عين روحي فلا أفقدها كما يؤذي الناس عيونهم الجثمانية بشهود الشمس والنظر إليها أثناء الكسوف، ما لم يتحوطوا فلا ينظرون إلا إلى الصورة المنعكسة على الماء أو ما يشبه الماء من وسيط. حدث لي ذلك فخفت أن تصاب روحي بالعمى الشامل إذا أنا نظرت إلى الأشياء بعيني أو حاولت أن أتفهمها بوساطة الحواس، وفكرت أنه يحسن بي أن أعود إلى المثل فأبحث فيها عن حقيقة الوجود، وإني لأعترف بنقص هذا التشبيه؛
36
لأنني بعيد جدا عن التسليم بأن من يتأمل صور الوجود بوساطة المثل يراها «معتمة خلال منظار» دون من ينظر إليها وهي في نشاطها وبين نتائجها، ومهما يكن من أمر فهذه سبيلي التي سلكتها، فرضت بادئ الأمر مبدأ زعمت أنه أمتن المبادئ، ثم أخذت أثبت صحة كل شيء يبدو متفقا مع ذلك المبدأ، سواء أكان ينتمي إلى السبب أو إلى أي شيء آخر، واعتبرت كل ما يتنافر وإياه غير صحيح، ولكني أحب أن أوضح بالشرح ما أعني؛ فما أحسبكم تفهمون ما أريد.فأجاب سيبيس: كلا، حقا إنا لم نفهم جيدا.قال: ليس فيما أوشك أن أنبئكم به من جديد؛ فهو ما ظللت أكرره أينما حللت، فيما سبق من نقاش، وفي ظروف غيره سلفت، فثمة علة قد ملكت علي خواطري، أريد أن أبسط لكم طبيعتها، ولا مندوحة لي عن العودة إلى تلك الألفاظ المألوفة التي يلوكها كل إنسان؛ فأزعم قبل كل شيء أن ثم جمالا مطلقا وخيرا مطلقا وكبرا مطلقا وما إلى ذلك. سلم معي بهذا ولعلي أستطيع أن أدلك على طبيعة العلة، وأن أقيم لك الدليل على خلود الروح.فقال سيبيس: تستطيع أن تمضي من فورك في برهانك؛ فلست أتردد في أن أسلم لك بهذا.فقال: حسنا، إذن فأحب أن أعلم هل تتفق معي في الخطوة التالية، وتلك أنه لو كان هنالك شيء جميل غير الجمال المطلق لما شككت في استحالة أن يكون ذلك الشيء جميلا إلا بمقدار مساهمته في الجمال المطلق، وإني أقرر هذا عن كل شيء. أأنت موافقي على هذا الرأي في العلة؟فقال: نعم أوافقك.فمضى قائلا: لست أعلم شيئا ولا أستطيع أن أفهم شيئا عن أي سبب آخر من تلك الأسباب الحكيمة التي يزعمونها. فإن قال لي أحد إن جمالا ينبعث عن ازدهار اللون أو الشكل أو ما شئت من شيء من هذا القبيل، لطرحت قوله جملة؛ فليس لي منه إلا ربكتي، ولتشبثت بفكرة واحدة دون غيرها تشبثا قد يكون على شيء من الحمق، ولكني من صوابها على يقين، وهي أنه لا يجعل الشيء جميلا إلا وجود الجمال والمساهمة فيه، مهما تكن سبيل الوصول إلى ذلك، وكيفية الحصول عليه، فلست أقطع برأي في الكيفية، ولكني أقرر بقوة أن الأشياء الجميلة كلها إنما تكون جميلة بالجمال، وعندي أن ذلك وحده هو الجواب المعصوم الذي أستطيع أن أدلي به لنفسي أو لأي أحد آخر، وإني لأتشبث به، ويقيني أن لن تصيبني الهزيمة قط، وأنه في مكنتي أن أجيب، في عصمة من الزلل، على نفسي أو على أي أحد من الناس، بأن الأشياء الجميلة لا تكون جميلة إلا بالجمال. ألست توافق على ذلك؟- نعم أوافق.- وبالكبر وحده تصير الأشياء الكبيرة كبيرة فأكبر وأكبر، وبالصغر يصير الصغير صغيرا؟- حقا.فلو لاحظ شخص أن «أ» أطول من «ب» بمقدار رأس، وأن «ب» أصغر من «أ» بمقدار رأس، فسترفض أن تسلم له بهذا، وستزعم بقوة أنك لا تعني إلا أن الأكبر أكبر بالكبر، وبسببه، وأن الأصغر ليس أصغر إلا بالصغر، وبسببه، وهكذا تجنب نفسك خطر القول بأن الأكبر أكبر، وأن الأصغر أصغر، بمقياس الرأس، الذي هو هو في كلتا الحالين، وستجنب نفسك كذلك ما في افتراض أن الرجل الأكبر أكبر بسبب الرأس الذي هو صغير، من سخف فظيع. ألم تكن لتخشى ذلك؟فقال سيبيس ضاحكا: كنت لأخشاه حقا.وكنت تخشى بنفس الطريقة أن تقول إن عشرة تزيد على ثمانية باثنين، وبسببها، ولكنك كنت تقول إنها تزيد عليها بالعدد، وبسببه، أو أن ذراعين يزيدان على ذراع واحد بنصف بل هما يزيدان عليه بالكبر، ذلك ما كنت تقوله لأن الخطر بذاته موجود في كلتا الحالين.قال: جد صحيح.- ثم ألم تكن لتحذر من التأكيد بأن إضافة واحد إلى واحد، أو قسمة واحد، هي سبب اثنين، وكنت لتقسم أمام الملأ بأنك لا تدري طريقة يجيء بها أي شيء إلى الوجود، إلا مشاطرته لجوهره الأصلي، فينتج أن سبب الاثنين الأوحد هو - في حدود ما تعلمه أنت - مشاطرة الاثنينية؛ فهذه المشاطرة هي طريقة عمل اثنين كما أن مشاطرة الواحد هي طريقة عمل الواحد، وكنت ستقول إني مطرح ألغاز القسمة والإضافة جانبا - فقد تجيب عنها رءوس أبلغ من رأسي حكمة، وما دمت كما أنا عديم الخبرة، أفزع من ظلي كما يذهب المثل؛ فلست أقوى على أن أتناول بالهدم مبدأ ذا أساس مكين. فإن هاجمك في ذلك مهاجم، لم تحفل به، أو أجبته حتى ترى إن كانت النتائج الناجمة متفقا بعضها مع بعض أو لا، فإن طلب إليك بعد ذلك أن تتناول هذا المبدأ بالشرح، مضيت تزعم مبدأ أسمى؛ فأسمى المبادئ السامية، حتى تجد لنفسك مكمنا، ولكنك لم تكن لتخلط في تدليلك بين المبدأ والنتائج، كما فعل الأرستيون
The Eristics
على الأقل إذا أردت أن تستكشف الوجود الحقيقي. لا لأن هذا الخلط كان سيتبين لهؤلاء الذين لا يعنيهم الأمر إطلاقا ولا يفكرون فيه، فلديهم من الذكاء ما يكفي أن يجعلهم يغتبطون بأنفسهم غبطة عظيمة، مهما يكن ما تحويه أفكارهم من عناء كبير، ولكني أعتقد أنك فاعل كما أقول إن كنت فيلسوفا.قال سمياس وسيبيس في صوت واحد: إن ما تقوله لحق بالغ.
أشكراتس :
نعم يا فيدون، وليس يدهشني منهما هذا التسليم؛ فكل إنسان له من الفكر أدنى حدوده ليقر بما في تدليل سقراط من وضوح عجيب.
فيدون :
يقينا يا أشكراتس، وقد كان ذلك عندئذ إحساس الرفاق جميعا.
أشكراتس :
نعم، وهو إحساسنا أيضا، نحن الذين نصغي الآن لروايتك ولم نكن من الرفاق، ولكن ما الذي تلا هذا؟
فيدون :
بعد أن سلموا بهذا كله، ووافقوا على وجود المثل، وعلى مشاركة سائر الأشياء فيها، تلك الأشياء التي اشتقت أسماؤها من تلك المثل. قال سقراط ما يأتي، إن كنت مصيبا فيما أتذكر: تلك هي طريقتك في الحديث، ومع ذلك فحين تقول إن سمياس أكبر من سقراط وأصغر من فيدون، ألست بذلك تصف سمياس بالكبر والصغر معا؟ - نعم، إني أفعل ذلك.- ولكنك على رغم هذا تسلم بأن سمياس لا يزيد في الحقيقة عن سقراط بسبب أنه سمياس، كما قد يدل عليه ظاهر العبارة، ولكنه يزيد عليه بسبب ما له من حجم؛ فليس يزيد سمياس على سقراط لأنه سمياس أكثر مما يزيد عليه لأن سقراط هو سقراط؛ إنما سبب الزيادة أن فيه صغرا حينما يقرن إلى كبر سمياس؟- حقا.- وإذا كان فيدون يربي عليه حجما؛ فليس ذلك لأن فيدون هو فيدون، بل سببه أن في فيدون كبرا بالنسبة إلى سمياس الذي هو أصغر بالمقارنة؟- هذا حق.- وإذن فسمياس يقال عنه إنه كبير كما يقال عنه إنه صغير لأنه في موقف وسط بينهما؛ فهو يزيد بكبره على صغر أحدهما، كما أن كبر الآخر يزيد على صغره. ثم أضاف ضاحكا: ما أشبهني فيما أقول بكتاب، ولكني أعتقد أن ما أقوله حق.فوافق سمياس على هذا.- والسبب في هذا القول مني هو رغبتي في أن تروا معي أنه ليس الكبر المطلق وحده هو الذي يستحيل عليه أن يكون كبيرا وصغيرا في آن معا، بل إن ما فينا من الكبر، وكذلك ما في المحسات، لن يقبل كذلك الصغير بتاتا، ولن يرضى أن يربى عليه، وسيحدث بدلا من هذا أحد شيئين: إما أن الأكبر سيزول أو يتراجع أمام ضده، وهو الأصغر، أو أنه سيتلاشى بازدياد الأصغر، ولكنه لو قبل أو سلم بالصغر فلن يغير ذلك منه، كما أني لا أزال كما كنت تماما الشخص الصغير بذاته مع كوني قد تلقيت الصغير وقبلته حينما قرنت إلى سمياس. فكما أنه يستحيل قطعا على مثال الكبير أن يتنازل ليكون أو ليصير صغيرا، كما يستحيل على أي ضد آخر ظل كما هو، أن يكون أو يصير ضد نفسه أبدا، فهو إما أن يزول أو يمحى أثناء التغير.أجاب سيبيس: هذا عين ما أرتئيه.فلما أن سمع ذلك أحد الرفاق، ولست أذكر على التحقيق من هو، قال: بحق السماء، أليس هذا هو النقيض تماما لما سبق التسليم به؛ ذلك أن من الأكبر جاء الأصغر، ومن الأصغر جاء الأكبر، وأن الأضداد إنما تولدت من أضداد؛ فأحسبكم الآن منكرين هذا إنكارا قاطعا.فمال سقراط نحو المتكلم برأسه منصتا، ثم قال: تعجبني جرأتك في تذكيرنا بهذا، ولكنك لم تلاحظ أن هنالك اختلافا بين الحالتين؛ فقد كنا نتحدث فيما سلف عن الأشياء المتضادة، أما الآن فحديثنا عن الضد في ذاته الذي يستحيل عليه - كما هو مقطوع به - أن يتحول إلى ضد نفسه سواء كان موجودا فينا أم في الطبيعة. إذن فقد كنا يا صديقي نتحدث عن الأشياء التي تنسب إليها الأضداد، والتي سميت تبعا لها، أما الآن فنحن إنما نتكلم عن الأضداد نفسها الموجودة في الأشياء والتي تخلع أسماءها عليها، فلن تقبل قط هذه الأضداد الذاتية فيما نعتقد، الكون أو صدور بعضها من بعض. وهنا التفت إلى سيبيس وقال: هل أدخل اعتراض صاحبنا شيئا من الحيرة في نفسك يا سيبيس؟فأجاب سيبيس: لم أشعر بذلك، ولكني لا أنكر أني أوشك أن أحس الارتباك.فقال سقراط: إذن فنحن بعد هذا كله متفقون على أن الضد لن يكون مضادا لنفسه بأية حال؟فأجاب: إننا في هذا على اتفاق تام.- ولكن اسمح لي أن أطلب إليك مرة ثانية أن تنظر إلى المسألة من وجهة أخرى، لترى إن كنت متفقا معي: أهنالك شيء تسميه بالحرارة وشيء آخر تطلق عليه اسم البرودة؟- يقينا.- ولكن أهما النار والثلج ذاتهما؟- كلا، بغير شك.- ليست الحرارة هي النار، ولا البرودة هي الثلج؟- لا.- ولكنك لن تتردد في التسليم بأنه إذ يكون الثلج تحت تأثير الحرارة، كما سبق القول، فلن يلبثا ثلجا وحرارة، بل كلما ازدادت الحرارة، تراجع الثلج أو أدركه الفناء.- أجاب: جد صحيح.- كذلك كلما ازدادت البرودة على النار، فإما أن تتراجع أو تفنى؛ وإذ تكون النار تحت تأثير البرودة، فلن يلبثا نارا وبرودة ، كما كانت الحال من قبل.قال: هذا حق.- وفي بعض الحالات لا يكون اسم المثال
idea
مقصورا على المثال، بل إن لكل شيء آخر حق المشاركة في الاسم، ما دام موجودا في صورة المثال، من غير أن يكون هو المثال، وسأسوق إليك مثلا لعلي أوضح هذا القول: أليس يطلق دائما اسم الفردي على العدد الفردي؟- جد صحيح.- ولكن هل هذا وحده هو الشيء الذي يسمى بالفردي؟ أليس ثمة أشياء أخرى لها أسماؤها الخاصة بها، ويطلق عليها رغم ذلك اسم الفردي؛ لأنها وإن كانت ليست هي الفردية ذاتها، غير أنها لا تخلو من الفردية قطعا؟ - هذا ما أريد أن أستجيب عنه - أليست الأعداد كرقم ثلاثة مثلا من نوع الفردي؟ وهناك غير هذا كثير من الأمثلة، ألست تقول مثلا إنه يجوز أن يدعى رقم الثلاثة باسمه الأصلي، ثم يطلق عليه كذلك اسم الفردي، وليس الفردي هو الثلاثة ذاتها؟ وليس يقال هذا عن العدد ثلاثة فقط، بل إنه جائز أيضا على خمسة، وعلى كل الأعداد الفردية الأخرى، كل منها فردي دون أن يكون هو الفردية. وهكذا قل في اثنين وأربعة وسائر سلسلة الأعداد المتعاقبة، كل عدد زوجي دون أن يكون هو الزوجية. هل تسلم بهذا؟قال: نعم، وهل إلى إنكاره من سبيل؟- ألق بالك إذن إلى الغاية التي أنشدها؛ ليست الأضداد المعنوية وحدها هي التي يطرد بعضها بعضا، بل كذلك الأشياء المجسدة التي وإن لم تكن متضادة في ذاتها إلا أنها تحتوي أضدادا. وأنا أزعم أن هذه الأشياء أيضا ترفض المثال
idea
الذي يكون مضادا لما تحتويه في داخلها، وهي إذا ما تقدم ذلك فإما أن تنسحب أو تفنى. خذ عدد ثلاثة مثلا، أليس يصبر على التلاشي أو أي شيء آخر، أهون عليه من أن يتحول إلى عدد زوجي مع بقائه ثلاثة؟فقال سيبيس: جد صحيح.قال: ومع ذلك فلا ريب في أن العدد اثنين ليس مضادا للعدد ثلاثة؟- إنه لا يضاده.- إذن فليست المثل المتضادة وحدها هي التي يقاوم بعضها تقدم بعض، ولكن ثمة أشياء أخرى تقاوم كذلك اقتراب الأضداد؟- فقال: هذا جد صحيح.قال: هبنا نحاول تحديد ماهية هذه «الأشياء» إن أمكن ذلك.- لا ريب في هذا.- أليست هذه يا سيبيس ترغم الأشياء التي في حوزتها على أن تتخذ شكل بعض الأضداد فضلا عن شكلها هي؟- ماذا تعني؟- أعني، كما كنت أقول الآن توا، وما ليس بي حاجة لإعادته إليك، إن الأشياء التي يملكها العدد ثلاثة، لا يلزم فقط أن تكون ثلاثة في عددها، بل ينبغي كذلك أن تكون فردية.- جد صحيح.- ويستحيل على المثال المضاد أن يعتدي على هذه الفردية التي انطبع العدد ثلاثة بطابعها؟- كلا.- وهو إنما استمد هذا الطابع من عنصر الفردي؟- نعم.- والزوجي والفردي ضدان؟- حقا.- إذن فمثال العدد الزوجي لن يلحق بثلاثة أبدا؟- كلا.- وإذن فليس لثلاثة في الزوجي من نصيب؟- كلا.- إذن فالثلاثي أو العدد ثلاثة غير زوجي؟- جد صحيح.لأعد إذن إلى ما زعمته من تمييز بين الطبائع التي ليست أضدادا وهي مع ذلك لا تقبل أضدادا، فكما في هذا المثال على الرغم من أن ثلاثة ليست مضادة للزوجي إلا أنها لا تقبل شيئا من الزوجي أبدا، ولكنها دائما تعرض الضد في الجانب الآخر أو كما أن اثنين لا تتقبل الفردي، أو النار البرودة. ومن هذه الأمثلة (ومنها كثير غير هذا) ربما استطعت أن تصل إلى نتيجة عامة أنه ليست فقط الأضداد هي التي لا تتقبل أضدادا، بل كذلك لا شيء مما يسوق الضد يقبل ضد ما يسوقه فيما سيق إليه. واسمح لي هنا أن ألخص ما سبق من قول - فليس في التكرار من ضرر، لن يقبل العدد خمسة طبيعة الزوجي، أكثر مما تقبل عشرة، وهي ضعف الخمسة، طبيعة الفردي - فللضعف ضد آخر وليس مضادا للفردي تضادا دقيقا، غير أنه يرفض الفردي إجمالا، ولن تقبل كذلك أجزاء النسبة 3 : 2 فكرة الكل، وكذلك أي كسر يكون فيه نصف، لا بل والذي يكون فيه ثلث، ولو أنها ليست مضادة للكل، هل تسلم بذلك؟فقال: نعم إني متفق تماما، وذاهب معك إلى ذلك.قال: أظنني الآن أستطيع أن أبدأ ثانيا، وإني لأرجوكم أن تدلوا إلي عن هذا السؤال الذي أوشك أن ألقيه، بجواب غير الجواب القديم المأمون، وسأقدم لكم لما أريد مثالا، وعسى أن تجدوا أساسا آخر فيما قيل الساعة توا يكون مأمونا كذلك؛ أعني أنه لو ساءلكم أحد: «ما هو الشيء الذي يجعل الجسم حارا بحلوله فيه؟» فستجيبون أنه ليس الحرارة (وهذا ما أدعوه بالجواب المأمون)، ولكنه النار، وهو جواب يفضل ذلك كثيرا، ونحن الآن مهيئون للإدلاء به. أو لو ساءلكم أحد: «لماذا يعتل الجسد؟» فلن تقولوا من المرض بل من الحمى، وفي مكان القول بأن الفردية هي سبب الأعداد الفردية ستقولون إن الجوهر الفرد هو سببها. وهكذا في الأشياء بصفة عامة، أحسب أنك ستفهم ذلك فهما جيدا بغير أن أسوق إليك أمثلة أخرى؟فقال: نعم، إني أفهم ما تقول فهما جيدا.- حدثني إذن ما هو الشيء الذي يجعل الجسم حيا بحلوله فيه؟فأجاب: هو الروح.- أهذه هي الحال دائما؟فقال: نعم، بالطبع.- إذن فمهما يكن ما تملكه الروح؛ فإنها إذ تأتيه تحمل إليه الحياة؟- نعم، يقينا.- وهل ثمة ضد للحياة؟فقال: نعم هناك.- وما هو ذاك؟- الموت.- إذن فلن تقبل الروح أبدا، كما اعترفنا، ضد ذلك الذي تسوقه. ثم قال: والآن، بماذا سمينا ذلك المبدأ الذي يقاوم الزوجي؟- الفردي.- والمبدأ الذي يقاوم الموسيقي أو العادل؟فقال: غير الموسيقي وغير العادل.- وبماذا نسمي ذلك المبدأ الذي لا يقبل الموت؟فقال: الخالد.- وهل تقبل الروح الموت؟- كلا.- إذن فالروح خالدة؟فقال: نعم.- أيحق لنا القول بأن ذلك قد ثبت بالدليل؟فأجاب: نعم يا سقراط، لقد ثبت بأدلة كثيرة.- وإذا فرضنا أن الفردي لا يخضع للفناء، أليس يلزم أن ثلاثة غير قابلة للفناء؟- طبعا.- وإذا كان الشيء البارد غير قابل للفناء، ثم جاء العنصر الدافئ يهاجم الثلج، أفلا ينبغي للثلج أن يتراجع متماسكا متجمدا لأنه عندئذ يستحيل عليه أن يفنى كما كان يستحيل عليه أن يبقى مع قبوله للحرارة؟فقال: حقا .- وكذلك لو كان العنصر الذي لا يبعث البرودة، أي الدافئ، مستعصيا على الفناء، لما فنيت النار وما انطفأت حين تغير عليها البرودة، ولكنها تنأى بغير أن تتأثر؟فقال: يقينا.- ويمكن أن يقال هذا القول نفسه عن الخالد: لو كان الخالد مستعصيا كذلك على الفناء، لاستحال فناء الروح حين يهاجمها الموت؛ إذ يدل البرهان السابق على أن الروح لن تكون قط ميتة، فلن تقبل الموت أكثر مما تقبل ثلاثة أو العدد الفردي، الزوجي، أو النار أو الحرارة التي في النار، البرودة. ومع ذلك فرب أحد يقول: «ولكن على الرغم من أن الفردي لن يصير زوجيا حتى يقترب الزوجي منه، فلماذا لا يجوز أن يفنى الفردي وأن يحل مكانه الزوجي؟» ونحن لا نستطيع أن نجيب من يتقدم بهذا الاعتراض بأن العنصر الفردي مستعص على الفناء لأن ذلك لم يعترف به بعد، فلو قد اعترف بهذا لما أشكل علينا الزعم بأن العنصر الفردي والعدد ثلاثة يهمان بالرحيل حين يقترب الزوجي، وهذا البرهان بعينه كان يصح عن النار وعن الحرارة وعن أي شيء آخر.- جد صحيح.- ويجوز هذا القول نفسه عن الخالد: لو كان الخالد مستعصيا كذلك على الفناء؛ إذن لكانت الروح مستعصية على الفناء كالخالد سواء بسواء، فإن لم يكن، وجب أن يقام برهان آخر على استحالة فنائها.فقال: ليس بنا من حاجة إلى برهان آخر؛ إذ لو كان الخالد - وهو سرمدي - عرضة للفناء، للزم ألا يستحيل الفناء على شيء.فأجاب سقراط: نعم؛ فكل الناس مسلمون بأن الفناء مستحيل على الله وعلى صورة الحياة الروحية وعلى الخالد بصفة عامة.قال: نعم، كل الناس بذلك مسلمون - هذا صحيح، وأكثر من هذا؛ فهم مجمعون - إن لم أكن مخطئا، على أن الآلهة كالناس في ذلك.- وإذن فما دمنا قد رأينا أن الخالد لا يناله التخريب، أفلا يلزم أن تكون الروح مستعصية على الفناء كذلك، ما دامت خالدة؟- بكل تأكيد.- إذن فحين يهاجم الموت إنسانا؛ فقد يتعرض الجزء الفاني منه للموت، أما الخالد فينأى عن طريق الموت حيث يحفظ مصونا سليما؟- حقا.- إذن يا سيبيس فالروح خالدة بغير شك، هي مستعصية على الفناء، وستحيا أرواحنا حقا في عالم آخر!فقال سيبيس: إني مقتنع يا سقراط، وليس لدي بعد ذلك ما أعترض عليه، فإن كان عند صديقي سمياس، أو عند أحد سواه اعتراض آخر، فيجمل به ألا يلتزم الصمت وأن يعلنه، اللهم إن كان لديه شيء يريد أن يدلي به، أو كان يود لو أدلى به؛ فلست أرى أن سيجود عليه الدهر بأنسب من هذه اللحظة حتى يجوز له أن يرجئ إليه الحديث.فأجاب سمياس: ولكن ليس عندي ما أقوله بعد ذلك، بل لست أرى مجالا للشك، إلا ما ينشأ حتما عن ضخامة الموضوع وضعف الإنسان، فذلك ما لم يسعني إلا أن أشعر به.فأجاب سقراط: نعم يا سمياس فقد أحسنت قولا، أضف إلا ذلك أن المبادئ الأولى يجب أن تبسط للبحث الدقيق حتى وإن كانت تبدو يقينا، فإذا ما استوثقنا منها وثوقا مرضيا، استطعنا بعدئذ، فيما أظن، في شيء من الإيمان المزعزع بالعقل البشري، أن نتتبع مجرى البرهان، فإن ألفيناه واضحا لم يكن بنا بعد ذلك حاجة لسؤال.فقال: ذلك صحيح.قال: أما إن كانت الروح يا أصدقائي خالدة حقا؛ فما أوجب العناية بها، ليس في حدود هذه الفترة من الزمن التي تسمى بالحياة وكفى، بل في حدود الأبدية! وما أهول الخطر الذي ينجم عن إهمالها بناء على هذه الوجهة من النظر. لو كان الموت خاتمة كل شيء، لكانت صفقة الأشياء في الموت راجحة؛ لأنهم سيغتبطون بخلاصهم، لا من أجسادهم فحسب، بل من شرهم ومن أرواحهم معا. أما وقد اتضح في جلاء أن الروح خالدة؛ فليس من الشر نجاة أو خلاص إلا بالحصول على الفضيلة السامية والحكمة العليا؛ لأن الروح لا تستصحب معها شيئا في ارتقائها إلى العالم الأدنى، اللهم إلا التهذيب والتثقيف، اللذين يقال عنهما بحق إنهما ينفعان الراحل أكبر النفع أو يؤذيانه أكبر الأذى، إذا ما بدأ حجته إلى العالم الآخر.فبعد الموت، كما يقولون ، يقود كل امرئ شيطانه
37
الذي كان تابعا له في الحياة، إلى مكان معين يتلاقى فيه الموتى جميعا للحساب؛ ومن ثم يأخذون سمتهم نحو العالم الأدنى، يقودهم دليل نيطت به قيادتهم من هذا العالم إلى العالم الآخر، فإذا ما لقوا هناك جزاءهم ولبثوا أجلهم، رجع بهم ثانية بعد كر الدهور المتعاقبة دليل آخر، وليست هذه الرحلة للعالم الآخر، كما يقول أسكيلوس
Aschylus
في «التلفوس»
Telephus ، طريقا واحدة مستقيمة، وإلا لما احتاج الأمر إلى دليل، فلم يكن أحد ليضل في طريق واحدة، ولكن الطريق كثيرة الشعب والحنايا. وإني لأستنتج ذلك مما يقدم إلى آلهة العالم الأدنى من الشعائر والقرابين، في أمكنة من الأرض تتلاقى عندها سبل ثلاث؛ فالروح الحكيمة المنظمة تكون عالمة بموقفها وتسير في سبيلها على هدى، أما الروح الراغبة في الجسد، والتي لبثت أمدا طويلا - كما سبق لي القول - ترفرف حول الهيكل الذي لا حياة فيه، وحول عالم الرؤية، فيحملها شيطانها الملازم لها في عنف وعسر، وبعد عراك متصل وعناء كثير، حتى تبلغ ذلك المكان الذي تجتمع فيه سائر الأرواح. فإن كانت روحا دنسة خبيثة الصنيع، بأن انغمست في الفتك المنكر وفي أخوات الفتك من الجرائم الأخرى، وتلوثت بهذه السلسلة من الآثام، فإن كل إنسان يفر من تلك الروح وينصرف عنها، فلن يكون أحد لها رفيقا أو دليلا، بل تظل تخبط وحدها في أرذل الشر، حتى ينقضي أجل معلوم، فإذا ما انقضى ذاك الأجل حملت خانعة إلى مستقرها الملائم. كذلك لكل روح طاهرة مسكينة، مضت في حياتها مرافقة للآلهة مترسمة خطوهم، مقامها الخاص.هذا وإن في الأرض لربوعا مختلفة عجيبة، تختلف في حقيقة أمرها - كما أعتقد معتمدا على رأي ثقة لن أذكر اسمه - تمام الاختلاف عن آراء الجغرافيين من حيث طبيعتها ومداها.فقال سمياس: ماذا تعني يا سقراط؟ لقد سمعت للأرض أوصافا كثيرة، ولست أدري مع أيها تذهب، وأحب أن أعلم ذلك.فأجاب سقراط: حسنا يا سمياس، لا أظن أن حكاية تروى تستلزم لروايتها فن جلوكس
Glaucus ، ولست أدري أن فن جلوكس مستطيع أن يقيم الدليل على صدق حكايتي، التي أنا عاجز تمام العجز عن إثباتها بالدليل، وحتى لو استقطعت ذلك، لخشيت يا سمياس أن أختم حياتي قبل أن يكمل الدليل، ومع ذلك فقد أستطيع أن أصف لك صورة الأرض وربوعها كما أتصورها!قال سمياس: حسبي منك ذلك.قال: حسنا، إذن فيقيني أن الأرض جسم مستدير، هو من السماوات في مركزها؛ لهذا لم يكن بها حاجة إلى الهواء أو ما إلى الهواء من قوة أخرى، ليكون لها عمادا، بل هي قائمة هنالك، تحول موازنة السماء المحيطة بها، وتوازنها هي نفسها، بينها وبين السقوط أو الانحراف في أية ناحية؛ ذلك لأن الشيء الذي يكون في مركز شيء آخر منتشر انتشارا متوازنا، ويكون هو نفسه متزنا، لن ينحرف بأية درجة في أي اتجاه، بل سيظل ملازما لحالة بعينها دون أن يحيد. ذلك هو أول رأي لي.فقال سمياس: وهو بغير شك رأي صحيح.- كذلك أعتقد أن الأرض فسيحة جدا، وأننا نحن الذين نقيم في المنطقة التي تمتد من نهر فاسيس
إلى أعمدة هرقليس
بمحاذاة البحر، إنما نشبه النمل أو الضفادع احتشدت حول مستنقع، فلسنا نأهل إلا جزءا ضئيلا، وأعتقد أن كثيرا من الناس يقيمون في أمكنة كثيرة كهذه، فلا بد من القول بأن هنالك فجوات في أنحاء الأرض جميعا، مختلفا أشكالها وحجومها، يتجمع فيها الماء والضباب والهواء، وأن الأرض الحقيقية أرض نقية تقيم في السماء النقية حيث سائر النجوم، تلك هي السماء التي يجري عنها الحديث عادة بأنها أثير، وليس الأثير منها إلا إرسابا يتجمع في فجواتها وأما نحن الذي نقيم في هذه الفجوات، فنظن مخدوعين بأننا إنما نقيم على سطح الأرض، كما يخيل للكائن الذي في قاع البحر بأنه على سطح الماء، وبأن البحر هو السماء التي يرى خلالها الشمس وسائر النجوم؛ فهو لم يطف على سطح الماء قط لوهنه وفتوره، ولم يرفع رأسه ليرى، ولا سمع دهره ممن شهد تلك المنطقة الثانية، وهي أشد نقاء وجمالا من منطقتنا. والآن، فتلك حالنا تماما؛ فنحن مقيمون من الأرض في فجوة، ونخيل لأنفسنا أننا على السطح، ونطلق على الهواء اسم السماء ثم نتوهم أن النجوم سابحة في تلك السماء. ولكن ذلك أيضا يرجع لما بنا من ضعف وفتور؛ فهما اللذين يحولان بيننا وبين الصعود إلى سطح الهواء، فلو استطاع إنسان أن يبلغ الحد الخارجي، أو أن يستعير جناحي طائر ليطير بهما صعدا، فيكون كالسمكة التي تطل برأسها لتشهد هذا العال؛ إذن لرأى عالما قاصيا، ولاعترف الإنسان إذا ما شحذت طبيعته من بصره بأن ذلك هو مكان السماء الحق والضوء الحق والنجوم الحق؛ لأن هذه التربة وهذه الصخور بل وكل هذه المنطقة التي تحيط بنا قد فسدت وتآكلت كما يتآكل ما في البحر من أشياء بفعل الماء الأجاج، فيندر في البحر أن ينمو شيء نموا رفيعا كاملا؛ فكل ما فيه شقوق ورمال وحمأة لا نهاية لها من الطين، لا بل يجوز أن نقرن البر بما في ذلك العالم من مناظر هي أروع في جمالها؛ فالعالم الآخر أسمى بدرجة عظيمة جدا. والآن أستطيع أن أقص عليك يا سمياس حكاية رائعة عن تلك الأرض العليا التي تحت السماء، وهي جد جديرة بالإنصات.فأجاب سمياس: ونحن يا سقراط يسرنا أن نصغي.قال: الحكاية يا صديقي هي كما يأتي: فأولا إذا نظرت إلى الأرض من أعلى رأيتها تشبه إحدى هذه الكور التي تكسوها أغشية من الجلد في اثنتي عشرة قطعة، وهي مختلفة الألوان؛ فليس ما يستخدمه المصورون في هذه الدنيا من الألوان إلا مثال منها أما هنالك فالأرض كلها مصبوغة بها، وهي أشد لمعانا ونصاعة من ألواننا، فثم أرجواني عجيب الرونق، وثم ذهب يتألق، والأبيض في أرضها أنصع من كل ثلج أو طباشير. تلك الأرض مصبوغة بهذه الألوان وغيرها، وهي أكثر عددا وأروع جمالا مما وقعت عليه عين الإنسان، والفجوات نفسها (التي كنت أتحدث عنها) يغمرها الهواء والماء، فتراها كالضوء الوامض بين سائر الألوان، وبها لون خاص بها يخلع على تباين ما في الأرض نوعا من التلف، وكل شيء مما ينمو في هذه المنطقة الجميلة - أشجارا وأزهارا وفاكهة - أجمل، بنفس الدرجة، من أضرابه هنا. وثم تلال، صخورها أشد صقلا، وأكثر شفافية، وأجمل لونا، بنفس الدرجة، مما نغلو بقدره عندنا من زمرد وعقيق ويصب وسائر الجواهر التي إن هي إلا نثرات منها ضئيلة؛ فالأحجار كلها هنالك كأحجارنا الكريمة، بل أروع منها جمالا؛ وعلة ذلك أنها نقية، وأنها لم تفسدها ولم تبرها العناصر الملحة الفاسدة، كما فعلت بأحجارنا الكريمة، تلك العناصر التي خثرت عندنا فتولد منها الدنس والمرض في التراب وفي الصخور على السواء، كما تولدا في الحيوان والنبات، تلك هي جواهر الأرض العليا، وفيها كذلك يسطع الذهب والفضة وما إليهما، وليست تلك الجواهر بخافية عن العين، وهي كبيرة وكثيرة، وتوجد في مناطق الأرض جميعا، فطوبى لمن يراها، ويعيش فوق الأرض ناس وحيوان، منهم من يستوطن إقليما داخليا، ومنهم من يسكن حول الهواء، كما نسكن نحن حول البحر، ومنهم من يعيش في بلدة يتاخم القارة، ويهب حوله الهواء. وجملة القول إنهم يستخدمون الهواء كما نستخدم نحن الماء والبحر، وللأثير عندهم ما للهواء عندنا، هذا وحرارة فصولهم هي بحيث لا يعرفون معها مرضا فيعمرون أطول بكثير مما نعمر نحن، ولهم بصر وسمع وشم، وسائر الحواس كلها، وهي أعظم كمالا من حواسنا بنفس الدرجة التي بها الهواء أنقى من الماء، أو الأثير أصفى من الهواء. كذلك لهم معابد وأماكن مقدسة فيها يقيم الآلهة حقا؛ فهم يسمعون أصواتهم ويتلقون إجاباتهم، وهم يشعرون بهم ويديرون بينهم وبين أنفسهم أطراف الحديث، وهم يرون الشمس والقمر والنجوم كما هي في حقيقة أمرها، وعلى هذا النحو كل ما هم فيه من أسباب النعيم.تلك هي طبيعة الأرض كلها، وما حول الأرض من أشياء، وفي الفجوات التي على ظهر الأرض أصقاع متباينة، بعضها أعمق وأوسع من فجوتنا التي نقيم فيها، وأخرى أعمق وأضيق فوهة منها، وبعضها أوسع وأقل عمقا، وتربطها جميعا بعضها ببعض ثقوب عدة وممرات عريضة وضيقة في باطن الأرض. وهنالك يتدفق فيها ومنها - كما يتدفق في الأحواض - تيار عظيم من الماء، وثم مجار ضخمة لأنهار تحت الأرض لا ينقطع جريانها، وينابيع حارة وباردة، ونار عظيمة، وأنهار كبيرة من النار، ومجار من طين سائل، منها الرفيع والسميك (كأنهار الطين في صقلية وما يتبعها من مجاري الحمم)، فتغمر المناطق التي تتدفق حولها. وهنالك في باطن الأرض نوع من الذبذبة يحرك هذا كله إلى أعلى وإلى أسفل. والحركة الآن في هذا الاتجاه، وبين الفجوات هوة هي أوسعها جميعا، تنفذ خلال الأرض كلها، وهي التي وصفها هوميروس بهذه الكلمات:
إن أغور عمق تحت الأرض جد سحيق.
وقد أطلق عليها في مواضع أخرى اسم جهنم، وكذلك فعل كثير غيره من الشعراء. وسبب الذبذبة هو تلك الأنهر التي تتدفق في هذه الهوة ومنها، ولكل منها طبيعة التربة التي تجري فيها، وإنما كانت تلك الأنهار دائمة التدفق دخولا في الهوة وخروجا منها؛ لأن عنصر الماء ليس له قاع ولا مستقر، وهو يعج ويهتز صعودا وهبوطا، وهكذا تفعل الريح والهواء المحيطان به؛ إذ هما يتبعان الماء في صعوده وهبوطه وفي اندفاعه فوق الأرض هنا وهناك، مثل ذلك مثل الشهيق والزفير لا ينقطعان حين نتنفس الهواء، وباهتزاز الريح تبعا للماء دخولا وخروجا نشأت عنها العواصف المروعة القاصفة، فإذا ما تراجعت المياه مندفعة إلى الأجزاء السفلى من الأرض - كما تسمى - انسكبت في تلك المناطق خلال الأرض وغمرتها، كما يحدث إذا تحركت مضخة الماء الحركة الثانية، فإذا ما خلفت تلك المناطق وراءها وكرت إلى هنا مدفعة، فإنها تملأ ما هنا من فجوات مرة أخرى، حتى إذا امتلأت هذه، فاضت تحت الأرض في قنوات لتلتمس سبيلها إلى أمكنتها العديدة، فتكون بذلك البحار والبحيرات والأنهار والينابيع؛ ومن ثم تفور في الأرض ثانية، فيدور بعضها دورة طويلة في أراض فسيحة، ويذهب بعضها إلى أمكنة قليلة وإلى المواضع القريبة، ثم تهبط مرة أخرى إلى جهنم، فيبلغ بعضها حدا دون ما كان ارتفع إليه بمقدار كبير، ولا يهبط بعضها الآخر دون ذلك الحد هبوطا كثيرا، لكنها جميعا تكون أوطأ من نقطة الانبثاق إلى حد ما ، ثم ينهمر بعضها ثانيا في الجانب المقابل، وينهمر بعضها الآخر في الجانب نفسه، ويدور بعضه حول الأرض في ثنية واحدة أو في عدة ثنايا تشبه حنايا الثعبان، وتنزل ما استطاعت النزول، ولكنها دائما تعود فتصب في البحيرة، أما الأنهار التي على كلا الجانبين فلا تستطيع النزول إلى أبعد من المركز؛ لأن في الجانب المقابل لهذه الأنهار هاوية.فهذه الأنهار عديدة وقوية ومنوعة، منها أربعة رئيسية أعظمها وأقصاها نحو الخارج هو ذلك المسمى بالأقيانوس
Oceanus
الذي يجري في دائرة حول الأرض، ويسير في الاتجاه المضاد له نهر أشيرون
Acheron
الذي يجري تحت الأرض في ربوع جدباء حتى يصب في بحيرة أشيروزيا
Acherusian Lake : هذه هي البحيرة التي تذهب إلى شواطئها أرواح الدهماء حين يدركهم الموت، حيث يلبثون أجلا مضروبا، يكون طويلا لبعضها قصيرا لبعضها الآخر، ثم تعود ثانية لتحل في جسوم الحيوان، وينبع النهر الثالث فيما بين ذينك النهرين، وهو يصب على مقربة من منبعه في منطقة شاسعة من النار، حيث يكون بحيرة أوسع من البحر الأبيض المتوسط، يغلي فيها الماء والطين، ثم يخرج منها عكرا مليئا بالوحل، فيدور حول الأرض حتى يبلغ فيما يبلغ من مواضع أطراف بحيرة أشيروزيا، ولكنه لا يختلط بمائها، وبعد أن يتحوى في عدة ثنايا حول الأرض، يغوص إلى جهنم أدنى مما كان مستوى. هذا هو نهر فيرفيلجثون
- كما يسمى - الذي يقذف في كل مكان بفوارات من النار. ويخرج النهر الرابع في الجهة المقابلة، ويسقط أول ما يسقط في منطقة همجية متوحشة، تصطبغ كلها باللون الأزرق القاتم الذي يشبه حجر اللازورد، وهذا النهر هو ما يسمى نهر ستيجيا
Stygian River
وهو يصب في بحيرة ستكس
Styx
التي يكونها، وبعد أن يصب في البحيرة ويستمد لمائه قوى عجيبة، يجري تحت الأرض، دائرا حولها في اتجاه يضاد نهر بيرفليجثون، ويلتقي به في بحيرة أشيروزيا من الجهة المقابلة، ولا يختلط ماء هذا النهر أيضا بغيره، بل يجري في دائرة ويتدفق في جهنم، مقابلا لنهر بيرفليجثون، ويسمى هذا النهر كوكيتوس
Cocytus
كما يقول الشاعر.تلك هي طبيعة العالم الآخر، فلا يكاد الموتى يصلون إلى حيث تحملهم شياطينهم وحدانا حتى يقضى في أمرهم بادئ ذي بدء إن كانوا أنفقوا الحياة في الخير والتقوى أم لا، فمن ظهر منهم أن حياتهم لم تكن لا إلى الخير ولا إلى الشر، فإنهم يذهبون إلى نهر أشيرون، ويركبون ما يصادفونه من وسائل النقل، فيحملون فيها إلى البحيرة حيث يقيمون ويطهرون من أوزارهم، ويعانون جزاء ما أساءوا به للناس من أخطاء، ثم يغتفر لهم وينالون جزاء وفاقا بما قدمت أيديهم من خير، أما أولئك الذين لا يرجى لهم إصلاح، فيما يظهر، لفداحة ما أجرموا، أولئك الذين أتوا من الآثام المنكرة شيئا كثيرا، كتدنيس المعابد، وإزهاق الأنفس إزهاقا خبيثا عنيفا أو ما أشبه ذلك، أولئك يلقى بهم في جهنم لا يخرجون منها أبدا، فهي لهم أنسب مصير. أما هؤلاء الذين أجرموا إجراما لا يجل عن العفو على هوله، أولئك الذين قسوا على والد أو والدة مثلا وهم في ثورة من الغضب ثم أخذهم الندم مدى ما بقي من حياتهم، أو الذين قتلوا نفسا مدفوعين بظروف تخفف من جرمهم، هؤلاء يلقون في جهنم ولزام عليهم أن يصلوا عذابها حولا، وفي نهايته تقذف بهم الموجة: أما قاتل النفس فتقذف به إلى مجرى نهر كوكيتس، وأما قتلة الآباء والأمهات فإلى نهر بيرفيلجيثون، فيحملون إلى بحيرة أشيروزيا حيث يرفعون عقائرهم صائحين بضحاياهم القتلى، أو بمن نالتهم منهم إساءة، عسى أن تأخذهم بهم رحمة فيتقبلوهم ويسمحوا لهم بالخروج من النهر إلى البحيرة، فإن نالتهم الرحمة من أولئك، خرجوا ونجوا من عذابهم، وإن لم يرحموهم حملوا إلى جهنم مرة أخرى، ومنها إلى الأنهار. وهكذا دواليك حتى يظفروا ممن أساءوا إليهم بالرأفة، فهكذا قضى عليهم قضاتهم. أما من امتازت حياتهم بالتقوى؛ فأولئك يطلق سراحهم من هذا السجن الأرضي، فينطلقون إلى عليين حيث يقيمون في مقامهم الطاهر ويعيشون على تلك الأرض وهي أنقى، وأما أولئك الذين طهروا أنفسهم حقا بالفلسفة، فهم يعيشون منذ الآن متحللين من أجسادهم في منازل أجمل من تلك، يعجز عنها الوصف ويضيق الوقت أن أحدثكم عنها.إذن يا سمياس، وقد رأيت هذه الأشياء كلها؛ فماذا ينبغي لنا ألا نفعله لكي نظفر بالفضيلة والحكمة في هذه الحياة؟ ألا إن الجزاء لجميل، والأمل لعظيم.لست أريد أن أقطع بصدق الوصف الذي قدمته عن الروح ومنازلها؛ فما ينبغي لرجل ذي فطنة أن يقطع بهذا، ولكنه في رأيي حقيق وقد اتضح خلود الروح أن يجازف بالظن، لا خاطئا فيه ولا عابثا، أن يكون الصواب شيئا كهذا، وإنه منه لظن عظيم، ولا بد له أن يسري عن نفسه بمثل هذه الكلمات، فمن أجلها أطلت حكايتي، ولهذا أوصيكم ألا يأخذ أحد على روحه الأسى، ما دام قد طرح زينة الجسد ولذائذه، واعتبرها غريبة عنه، بل هي أدنى إلى إيذائه بما تجر وراءها من أثر، وما دام في هذه الحياة قد تعقب لذة المعرفة، إلا أن أولئك الذين يزينون أرواحهم بلآلئها الصحيحة، وهي: الاعتدال والعدل والشجاعة والنبل والحق، أولئك تكون أرواحهم، إذا ما زينت بتلك اللآلئ، مهيأة للرحيل إلى العالم الأدنى حيث يدركها الموت. فأنتم، أي سمياس وسيبيس ويا سائر الرجال، سترحلون في وقت قريب أو بعيد، أما أنا، فها هو ذا يناديني صوت القدر على حد قول شاعر المأساة، ولا بد أن أجرع السم عما قريب، ويجمل بي فيما أظن أن أذهب أولا إلى الختام حتى لا يشق على الناس غسل جسماني بعد موتي.فلما أن فرغ من الحديث قال أقريطون: أعندك ما تشير علينا به يا سقراط؟ ألديك ما تقوله عن أطفالك، أو عن أي شيء آخر نستطيع أن نعينك في أمره؟فقال: ليس عندي شيء بعينه، غير أني أحب لكم، كما كنت أحدثكم دائما، أن تعنوا بأنفسكم، فذلك فضل تستطيعون أن تواصلوا أداءه لي، ولذوي ولنا جميعا. ولا ينبغي لكم أن تكونوا أدعياء فيما تقولون؛ لأنكم لو جهلتم أنفسكم وصدفتم عما أوصيتكم به، وليست هذه أول مرة أوصيكم فيها، فلن تجدي عليكم حماسة الادعاء شيئا.قال أقريطون: سنبذل جهدنا، ولكن كيف تريدنا أن نواريك الثرى؟على أي وجه تشاءون، غير أنه لا بد لكم أن تمسكوا بي، وأن تحذروا فلا ألوذ منكم بالفرار. ثم التفت إلينا وأضاف باسما: لا أستطيع أن أقنع أقريطون أنني سقراط ذاته الذي كان يتحدث ويوجه الحوار، يحسبني سقراط الآخر الذي سيشهده بعد حين جثة هامدة، وهو يسائل ماذا عسى دفني أن يكون؟ مع أني قد أفضت في الحديث محاولا إقامة الدليل على أني مخلفكم حين أجرع السم، حيث أتوجه إلى لذائذ أصحاب النعيم. ويظهر أنه لم يكن لحديثي هذا الذي سريت به عن أنفسكم وعن نفسي، أثر في أقريطون؛ لذلك أريدكم أن تكونوا لي الآن عنده كفلاء، كما كان هو كفيلي عند المحاكمة، على أن يختلف وعدكم عما وعد؛ فقد كان كفل للقضاة أني سأبقى، ولكن عليكم أن تكفلوا له أني غير باق، بل إني ظاعن راحل، فتقل بهذا لوعته عند موتي، ولا يحزنه أن يرى جثماني يحترق أو يهال عليه التراب. إني لا أحب له أن يتحسر على جدي العاثر، بأن يرتاع لدفني؛ فتأخذه الحيرة: على هذا النحو نكفن سقراط، أو هكذا نشيعه إلى القبر أو نواريه التراب. إن الأقوال الباطلة ليست شرا في ذاتها فحسب؟ بل إنها لتصيب الروح بشرها. لا تحزن إذن، أي عزيزي أقريطون، وقل إنك لا تقبر مني إلا الجثمان؛ فاقبره على النحو الذي جرى به العرف، وكما تفضل أن يكون.ولما فرغ من هذه العبارة، نهض ودخل غرفة الحمام، يصحبه أقريطون، الذي أشار إلينا بأن ننتظر؛ فانتظرنا نتحدث ونفكر في أمر الحوار وفي هول المصاب. لقد كنا كمن ثكل في أبيه، وأوشكنا أن نقضي ما بقي من أيامنا كالأيتام. فلما تم اغتساله جيء له بأبنائه (وكانوا طفلين صغيرين ويافعا) كما وفدت نساء أسرته، فحادثهن وأوصاهن ببعض نصحه، على مسمع من أقريطون، ثم صرفهن وعاد إلينا.ها قد دنت ساعة الغروب؛ فقد قضى داخل الحمام وقتا طويلا، وعاد بعد اغتساله فجلس إلينا، ولكنا لم نفض في الحديث. وما هي إلا أن جاء السجان ، وهو خادم الأحد عشر، ووقف إلى جانبه وقال: لست أتهمك يا سقراط بما عهدته في غيرك من الناس، من ثورة الغضب؛ فقد كانوا يثورون ويصيحون في وجهي حينما آمرهم باجتراع السم، ولم أكن إلا صادعا بأمر أولي الأمر، أما أنت؛ فقد رأيتك أنبل وأرق وأفضل ممن جاءوا قبلك إلى هذا المكان؛ فليس يخامرني شك أنك لن تنقم علي؛ فليس الذنب ذنبي، كما تعلم، إنما هي جريرة سواي. وبعد فوداعا، حاول أن تحتمل راضيا ما ليس من وقوعه بد، وإنك لعليم فيم قدومي إليك؟ ثم استدار؛ فخرج منفجرا بالبكاء.فنظر إليه سقراط وقال: لك مني جميل بجميل، فسأصدع بما أمرتني به. ثم التفت إلينا وقال: يا له من فاتن! إنه ما انفك يزورني في السجن، وكان يحادثني الحين بعد الحين، ويعاملني بالحسنى ما وسعته، انظروا إليه الآن كيف يدفعه فضله أن يحزن من أجلي، فلزام علينا يا أقريطون أن نفعل ما يريد، مر أحدا أن يجيء بالقدح إن كان قد تم إعداد السم، وإلا فقل للخادم أن يهيئ شيئا منه.فقال أقريطون: ولكن الشمس لا تزال ساطعة فوق التلاع، وكثير ممن سبقوك لم يجرعوا السم إلا في ساعة متأخرة بعد إنذارهم، إنهم كانوا يأكلون ويشربون وينغمسون في لذائذ الحس، فلا تتعجل إذن؛ إذ لا يزال في الوقت متسع.فقال سقراط: نعم يا أقريطون، لقد أصاب من حدثتني عنهم فيما فعلوا؛ لأنهم يحسبون أن وراء التأجيل نفعا يجنونه، وإني كذلك لعلى حق في ألا أفعل كما فعلوا؛ لأنني لا أظن أني منتفع من تأخير شراب السم ساعة قصيرة؛ إنني بذلك إنما أحتفظ وأبقي على حياة انقضى أجلها فعلا، إني لو فعلت ذلك سخرت من نفسي، أرجو إذن أن تفعل بما أشرت به، ولا تعص أمري.
موت سقراط.
فلما سمع أقريطون هذا، أشار إلى الخادم فدخل، ولم يلبث قليلا أن عاد يصحبه السجان يحمل قدح السم، فقال سقراط: أي صديقي العزيز، إنك قد مرنت على هذا الأمر، فأرشدني كيف أبدأ. فأجاب الرجل: لا عليك إلا أن تجول حتى تثقل ساقاك ثم ترقد، فيسري السم. وهنا ناول سقراط القدح، فحدق في الرجل بكل عينيه، يا أشكراتس، وأخذ القدح جريئا وديعا لم يرع ولم يمتقع لون وجهه. وهكذا تناول القدح وقال: ما قولك إذا سكبت هذا القدح لأحد الآلهة، أفيجوز هذا أم لا يجوز؟ فأجاب الرجل: إننا لا نعد يا سقراط إلا بمقدار ما نظنه كافيا. فقال: إني أفهم ما تقول، ومع ذلك فيحق لي بل يجب علي أن أصلي للآلهة أن توفقني في رحلتي من هذا العالم إلى العالم الآخر، فلعل الآلهة تهبني هذا؛ فهو صلاتي لها. ثم رفع القدح إلى شفتيه وجرع السم حتى الثمالة رابط الجأش مغتبطا. وقد استطاع معظمنا أن يكبح جماح حزنه حتى تلك الساعة، أما وقد رأيناه يشرب السم، وشهدناه يأتي على الجرعة كلها، فلم يعد في قوس الصبر منزع، وانهمر مني الدمع مدرارا على الرغم مني، فسترت وجهي وأخذت أندب نفسي، حقا إني لم أكن أبكيه، بل أبكي فجيعتي فيه حين أفقد مثل هذا الرفيق. ولم أكن أول من فعل هذا، بل إن أقريطون وقد ألفى نفسه عاجزا عن حبس عبراته، نهض وابتعد، فتبعته. وهنا انفجر أبو لودورس الذي لم ينقطع بكاؤه طول الوقت بصيحة عالية وضعتنا جميعا موضع الجبناء، ولم يحتفظ بهدوئه منا إلا سقراط، فقال: ما هذه الصرخة العجيبة؟ لقد صرفت النسوة خاصة حتى لا يسئن صنيعا على هذا النحو؛ فقد خبرت أنه ينبغي للإنسان أن يسلم الروح في هدوء؛ فسكونا وصبرا.فلما سمعنا ذلك، اعترانا الخجل وكفكفنا دموعنا. وأخذ سقراط يتجول حتى بدأت ساقاه تخوران - كما قال - ثم استلقى على ظهره، كما أشير له أن يفعل. وكان الرجل الذي ناوله السم ينظر إلى قدميه وساقيه حينا بعد حين، ثم ضغط بعد هنيهة على قدمه بقوة وسأله هل أحس فأجاب أن لا، ثم ضغط على ساقه، وهكذا صعد ثم صعد، مشيرا لنا كيف أنه برد وتصلب. ثم لمس سقراط نفسه ساقيه وقال: ستكون الخاتمة حين يصل السم إلى القلب. فلما أخذت البرودة تتمشى في أعلى فخذيه كشف عن وجهه؛ إذ كان قد دثر نفسه بغطاء، وقال (وكانت هذه آخر كلماته): إنني يا أقريطون مدين بدينك لأسكلبيوس
Asclepius
فهل أنت ذاكر أن ترد هذا الدين؟ فأجاب أقريطون أنه سيوفي الدين، ثم سأله إن كان لديه رغبة أخرى، ولم يكن لهذا السؤال من جواب. وما هي إلا دقيقة أو دقيقتان حتى سمعت حركة، فكشف عنه الخادم، وكانت عيناه مفتوحتين؛ فأقفل أقريطون فمه وعينه.هكذا يا أشكراتس قضى صديقنا، الذي أدعوه بحق أحكم من قد عرفت من الناس، وأوسعهم عدلا وأكثرهم فضلا.
Page inconnue