وبما أن الشهية للأكل يزيدها الأكل تفتحا - كما يقول الغربيون - فإن محمد علي بعد أن استولى على أطيان الرزق والأوقاف، ورأى أنها لا تكفي لسد ما يجعله دأبه في التثبت فوق القمة في حاجة إليه من النقود، فرض ضريبة جسيمة على باقي أطيان القطر، فأثار ذلك ثائرة تململ وتذمر في صدور ملاكها وملتزميها، فأمرهم محمد علي بإبراز حجج ملكيتهم لتطبيقها على ما يمتلكون، فأبرزوها.
وكان هو في الأثناء قد تخلص من المماليك وأمن الأستانة، وبعث بالجند الميال للتمرد إلى بلاد الحجاز لقتال الوهابيين فيها، ولم يبق في مصر إلا جندا وقوادا يثق بولائهم وثوقا تاما، وأخرس المشايخ بما سجله عليهم من حطة جعلهم حسدهم يتدنئون إليها؛ فلم يعد يخاف ولا يهاب أحدا.
فضبط تلك الحجج وأعدمها، ووضع يده على باقي أطيان القطر مقابل ترتيب إيراد سنوي لأصحابها السابقين يوازي إيرادها السنوي المعتاد، أصبح هو حرا في دفعه أنى يشاء، وفي عدم دفعه متى شاء، وهذا كان الغالب، ثم لم يكتف بذلك، بل حكر الزراعة والتجارة، فأصبح مزارع البلاد وتاجرها الوحيد. •••
وهكذا حقق الحلم الذي رآه في صباه وقصه على الشيخ الوقور من أنه رأى نفسه يشرب كل ماء النيل ليروي ظمأ اعتراه، ولا يرتوي!
الفصل الرابع
بعد التثبت فوق القمة
فلما زالت الصعاب من سبيله، وشعر أنه أصبح حرا في حركاته، وضع نصب عينيه العمل على الاستفادة من كل سانحة لتحسين مركزه وتعزيزه، وإنشاء دولة على ضفاف النيل تعيد إلى مصر سؤددها ومجدها التالد، وتجلسها مكرمة في مصاف الأمم الحية.
وأدرك أنه لن ينال الغرض المقصود إلا إذا جمع على ولائه عواطف العالم الإسلامي، وإلا إذا نقل مصر - ولو بعنف - من البيئة التي بنت القرون المنصرمة جدرانها حولها، إلى بيئة جديدة تكون مصطبغة القاعدة والجدران بصبغة المدنية الغربية، ومتشربة النفس بمبادئها اصطباغا وتشربا متفقين مع روح الشرق. •••
فلجمع ولاء العالم الإسلامي حوله هب بإخلاص إلى قتال الوهابيين.
ثم هب بإخلاص كذلك إلى نجدة الدولة العثمانية على إخماد ثورة اليونان.
Page inconnue