أما الحكم الفرنسي فكان انقلابا من نوع لم يعرفه المصريون؛ إذ لما زال حكم مراد وإبراهيم حل محلهما بونابرت ولم يكن مسلما ولا عثمانيا، كذلك ترك الباشا العثماني مصر عند قدوم الفرنسيين، وزال بغيابه مظهر التبعية للسلطان خليفة المسلمين وسمع المصريون عن تبعية بلادهم لدولة غربية فرنجية، سمي لهم نظامها السياسي بأسماء شتى لا تدلهم تجاربهم على معانيها ... فنشر عليهم منشور «من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية»، وأرخت لهم الحوادث بشهور غربية من سنة تبدأ «من انتشار الجمهور الفرنساوي.»
وكانت للفرنسيين طرقهم في مخالطة النساء، وكانت هذه الطرق مما كرهته الخاصة كرها شديدا، وأدى انتشار العسكر في أنحاء المدن والأقاليم، وتشتت شمل أسرات الأمراء وانطلاق جواريهم عقب تركهم القاهرة إلى ضروب غير مألوفة من الفساد والرذيلة، وفي أيام الاحتلال الفرنسي حرر غير المسلمين من وطنيين وأجانب أنفسهم من قيود مختلفة كان المسلمون - إذ ذاك - يعدونها شروطا من شروط بقاء الإسلام، وهذا التحرر كان مما يقتضيه حكم غربي جمهوري شعاره المساواة والحرية الدينية، هذا إلى حاجة الاحتلال الفرنسي لغير المسلمين: لأموالهم ودرايتهم بأحوال البلاد ونظمها وعادات أهلها ولإمكان الوثوق بهم بفضل اتفاق المنافع.
ولم يكن للحكم الفرنسي، في مدته القصيرة، وفي ظروف الحرب والفتن الملابسة له من المآثر ما يحمل الخاصة والعامة من أهل مصر على الإغضاء عما صحبه من الانقلاب الاجتماعي، فقد كان حكما عسكريا شديدا عنيفا، ولم يكن الإصلاح الذي فكر فيه الفرنسيون، وما استحدثوه من الدواوين وغيرها، والبحث العلمي الذي شرعوا في إقامة قواعده؛ مما يجتذب إليهم المحكومين إلا بعد زمان طويل؛ ذلك لأن النظم الحكومية التي اعتادها المصريون وغيرهم إذ ذاك كانت ترمي لأغراض ثلاثة أساسية: جمع الأموال المفروضة، والأيدي العاملة اللازمة لصيانة الأعمال العامة، واستتباب الأمن، وفيما عدا هذه الأمور الثلاثة لا تتدخل الحكومة في أحوال الرعية؛ بل تدع كل ما يتعلق من هذه الأحوال بأغراضها تنظمه الجماعات أو لا تنظمه كما جرت به العادات.
وإذا شئنا إجمال وصف ما اختص به نظام الحكم القائم قبل الاحتلال الفرنسي قلنا: إنه يمتاز بقلة التدخل الحكومي - كما نفهمه الآن - وبالعنف والتعسف، ويجب ألا يحملنا ما نراه من جنوح الحكام لهذا العنف والتعسف إلى تصور نظم الحكم على غير ما صورناها من ترك الرعية وشأنها في كل ما يتعلق بأغراض الحكومة الأساسية.
ويجب كذلك ألا يحملنا ما نسمع عنه من الظلم على الظن بأنه لم تكن أمام المحكومين وسائل مختلفة لتجنبه أو لتخفيفه، فإن ارتباك الإدارة الذي نجم عن الانقلابات المتتابعة وسوء ذمة العمال وفوضى السجلات، وما إلى ذلك؛ فتح للرعية أبواب الخلاص من الفرض شرعية وغير شرعية.
فلا ينبغي إذن أن ننتظر أن يرحب المصريون في سنة 1798 بالتدخل الحكومي وبما يصحبه من النظم الدقيقة، ولا أن يعدوها - كما نعدها الآن - ضمانا لحقوقهم ، فكرهوا ضبط الدفاتر واعتبروه اشتطاطا في الطلب، ولم يروا فيما اتخذته الحكومة من الوسائل لمنع الأمراض إلا استبدادا لا يطاق، وفضولا لا يفهم.
كره المصريون الحكم الفرنسي وقاوموه؛ ثار أهل القاهرة ثورتين عنيفتين، وقام الفلاحون في الريف كلما أتيحت لهم فرصة، وقد ذكرنا من الأسباب ما يكفي لتفسير هذا الكره دون أن نلجأ إلى تعليله بانتحال تعبيرات من استعمال أيامنا، والتاريخ الصحيح لا يجد في الفتن الشعبية بالقاهرة والأقاليم إلا باعثا إيجابيا واحدا، هو: العودة لما ألفه الناس. إن مصر أكرم على بنيها من أن يلتمسوا سندا لحقوقها في «الدفاتر القديمة». •••
وابتهج أهل مصر لما أخرج العثمانيون والإنجليز الجيوش الفرنسية من بلادهم، وسمى الجبرتي مؤلفه في حوادث الاحتلال الفرنسي وما سبقه: «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس»، بل وسجل اعتقاده: «وإذا تأمل العاقل في هذه القضية يرى فيها أعظم الاعتبارات والكرامة لدين الإسلام، حيث سخر الطائفة الذين هم أعداء للملة هذه لدفع تلك الطائفة، ومساعدة المسلمين عليهم، وذلك مصداق الحديث الشريف وقوله
صلى الله عليه وسلم : «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»، فسبحان القادر الفعال!»
ولكن عيني «الرجل الفاجر» انفتحتا واسعتين صوب مصر وما يجري في مصر، فلن يكون الأمر بعد 1798 ما كان قبلها.
Page inconnue