تلت هذا الانتصار سنوات استقرار واستعداد في مناطق النفوذ المصري من الجزيرة العربية، وقف التقدم فيها نحو الشرق إلى الخليج الفارسي ونحو الجنوب إلى اليمن أمران: أولهما؛ انتظار تأليف قوات عسكرية نظامية (وهذا كان مما يعمل فيه إذ ذاك)، وأما الثاني: فاستخدامه قواته غير النظامية في فتوح أخرى أوحت بها - كما قدمنا - سياسة البحر الأحمر؛ إذ هي ألصق بها، فقصد للفتوح في المناطق الممتدة خلف ما عرفناه باسم ولاية الحبش أو مايعرفه المحدثون باسم فتوح السودان.
يعرفها المحدثون بهذا الاسم؛ لأنهم ينظرون إليها في ضوء ما يزيد على مائة سنة للتطور المصري السوداني، أما نحن فنحاول أن ننظر إليها بعين ذلك العصر، ولا نستطيع أن نغفل اتجاه تلك الإمارات العربية في السودان، إذ ذاك نحو البحر الأحمر، والجزيرة العربية عموما، ومكة المكرمة خصوصا: مصدر حياتها الروحية، وسوقها للحاجات الحسية، فوصل فتوح السودان بنمو الخطة المحمدية العلوية في الجزيرة العربية وبحارها أدق وأضبط تاريخيا من وصلها بأية فكرة عامة أخرى نحاول أن ننسبها لتلك الأيام، بل إن الدارس المتعمق لخطط الخديو إسماعيل فيما بعد لا يسعه إلا أن يرى عظم شأن البحر الأحمر وخليج عدن في إمبراطوريته الأفريقية: في نواحي التقدم الاقتصادي، والمواصلات ما بين مصر والمناطق الداخلية، وسلامة تلك الإمبراطورية ووحدتها.
وقد يعترض علينا بأن محمد علي اختار لتجريدته الأولى طريق النيل على وعورته، والرد على هذا الاعتراض وجيز: اختار محمد علي السير من أسوان جنوبا؛ لأن التجريدة كانت مهمتها الأولى (من حيث الزمن) تشتيت ملك بقايا الأمراء المصريين في حلفا ودنقلة نهائيا وتأمين حدود مصر الجنوبية تماما، أتمت التجريدة هذه المهمة ثم أوغلت في فتح الإمارات العربية في الشرق والغرب، وفيما بين النهرين، وكان على رأسها ابناه إسماعيل وإبراهيم وصهره الدفتردار، ولم تطل إقامة إبراهيم في السودان؛ ألزمه المرض بالعودة لوطنه، وها هنا أيضا أبناء محمد علي في الطليعة دائما.
عاد إبراهيم ولكن إسماعيل لم يعد؛ فقد راح ضحية اجتهاده في الوفاء بحاجات الجريدة الملحة للمال والرجال، وكتب أبوه للدفتردار: «إنه علم من إفادته فقد ولده إسماعيل باشا، وهذا قضاء مبرم لا حيلة فيه خلاف الصبر، ثم السعي بالتبصر والتدبر في أمور المصالح.»
ونود لو اتسع أفق المؤرخ (من أي أمة كان) عند كتابته تاريخ الاتصال ما بين مصر والسودان الذي أنشأه محمد علي على اتساع الآفاق التي فتحها الفتح المصري؛ نود ألا ينحصر الأمر في أن ما أتى بعد كان خيرا مما فات قبل، أليس المعقول أن يكون الأمر كذلك؟ أليس المعقول أن الإدارة التي تملك السكك الحديدية والسفن البخارية، والتلغراف والتلفون، وطب المناطق الحارة، والأخصائيين في الدراسات الاجتماعية والعلمية النظرية والتطبيقية، والمهندسين، والمعلمين، وغيرهم من الفنيين والجنود النظاميين؛ لديها أدوات ووسائل لم تملكها إدارة ما في كل أنحاء المعمورة في سنة 1820؟
وإن كانت هناك حاجة لموازنات ومقارنات ألا يقتضي الإنصاف أن تكون الموازنة بين إدارات سنة 1820 بعضها ببعض، وبين حظ فلاحي مصر والسودان وصناع مصر والسودان في تلك السنة وحظ أمثالهم في الوقت نفسه في سهول الروسيا والمجر وألمانيا، بل وفي غربي أوروبا أيضا وفي مدن إنجلترة الصناعية الجديدة، وبين تجارة الرق وأحوال الرقيق في العالم العثماني وبين تجارة الرق وأحوال الرقيق في نفس الوقت في الجمهوريات والمستعمرات الأمريكية السكسونية واللاتينية، وفي المستعمرات الأوروبية في أفريقية وفي آسيا وفي الأقيانوسية؟ لا نخشى شيئا من الموازنة والمقارنة، ولكننا نود أن نرتفع عنها وأن ندعو للارتفاع عنها، ذلك لا لأننا نتجنب الحقائق التي نكرهها؛ بل لأننا نحب أن نضع كل حقيقة مما نحب ومما نكره موضعها الجدير بها فلا تختل المقاييس ولا تضطرب النسب بين الأشياء، ومن أجل ذلك نود لو قل الكلام في مقدار ما أفاده محمد علي من فتوحه السودانية، ومقدار الذهب والعبيد وريش النعام والعاج وارتقى إلى الأشياء الجوهرية.
أول تلك الأشياء أن محمد علي الحاكم المسلم بعث جيشا من المسلمين للفتح في بلاد إسلامية تجاورها بلاد الزنوج الوثنيين وبلاد الحبش، ومنهم مسلمون ومنهم نصارى أو يهود، ومثل هذا الفتح ليس امتلاكا ولا استعمارا؛ فالمسلمون لا يملكون رقاب المسلمين، فالفتح هنا ضم جزء من دار الإسلام إلى الأمة الإسلامية لإحياء ذلك الجزء بإشراكه في الحياة الإسلامية الكبرى، ولنزد تحديد ذلك بيانا (ولننقل في هذا عن رجل نقلنا عنه في مواضع أخرى: رفاعة، وقد سكن السودان منفيا في أيام عباس الأول)، لاحظ رفاعة على الأهلين «قبولهم للتمدن الحقيقي؛ لدقة أذهانهم؛ فإن أكثرهم قبائل عربية»، كما لاحظ «أن اشتغالهم بما ألفوه من العلوم الشرعية شغل رغبة واجتهاد، ولهم مآثر عظيمة في حسن التعلم والتعليم؛ حتى إن البلدة إذا كان بها عالم شهير يرحل إليه من البلاد المجاورة من طلبة العلم العدد الكثير والجم الغفير فيعينه أهل بلدته على ذلك بتوزيع المجاورين على البيوت بحسب الاستطاعة؛ فكل إنسان من الأهالي يحتضن الواحد أو الاثنين فيقومون بشئونهم مدة التعلم والتعليم.»
وعرف رفاعة سيدة تسمى «السيدة أمونة، تقرأ القرآن الشريف ومؤسسة مكتبين أحدهما: للغلمان، والثاني: للبنات كل منهما لقراءة القرآن وحفظ المتون تنفق على المكتبين من كسبها بزراعة القطن وحلجه وغزله وتشغيله، ولا ترضى أن يشوبه شيء من مال زوجها، وبجانب المكتبين خلوات لمن يختلي من العباد والزهاد الحاضرين من أقصى البلاد لأداء فريضة الحج الشريف، ومنزلها كالتكية للفقراء وأبناء السبيل والقاصدين بيت الله الحرام وأمثال ذلك كثير هناك»، ثم قال: إن تلك البلاد «لم تخل قراها عن نوع التقدم في الحضارة، مع مساعدة الوارد والمتردد إليها في هذه الأيام لقصد الزيارة أو التجارة؛ فإنها أقرب للتمدن من أقاليم أفريقية بكثير وجميع أهلها - ما عدا بعض سكان الجبال - لسانهم عربي فصيح؛ حيث إن جلهم من نسل العرب المنتجعة القبائل قديما، يحفظون أحسابهم وأنسابهم وفيهم كمال الاستعداد وذكاء الفطنة، وإنما يحتاجون في حصول المطلوب إلى اطمئنان النفوس وتأليف القلوب من حكام أرباب صداقة وعفاف وعدل وإنصاف ...»
فلا نستطيع أن نزعم إذن أن الحكم المحمدي العلوي في السودان نقل قوما من الظلمات إلى النور، ولكنه أدى إلى ما لا يقل أهمية عن ذلك؛ خلق من إمارات وقبائل متفرقة وطنا إسلاميا جديدا، وهيأ لهذا الوطن مستقبلا ووجودا بين مناطق الأحباش والقبائل البدائية ومناطق الزحف الأوروبي الذي كان قد أخذ في الاقتراب نحو قلب القارة من الأطراف الساحلية، ثم ربط هذا الوطن الجديد بالعالم العثماني الأكبر وبحياة الإنسانية الحاضرة، وكانت مصر الصلة في ذلك الربط، هذا ما قدم محمد علي وهذا ما قدمت مصر - صنع الله له ولها جزاء ما قدما. •••
عمل محمد علي في الأقطار العربية في الجزيرة وفي السودان طليقا من كل قيد؛ لا دخل لحكومة السلطان في خططه ومشروعاته إلا بقدر بذل ألقاب التشريف وسيوفه وجواهره وحلله وتنميق عبارات الإطراء والحمد له ولابنه إبراهيم، ولا دخل أيضا للسياسة الأوروبية فيها إلا بقدر الانتباه إلى أن دور السكون والركود في الأقطار العربية قد انتهى ، وأنها قد أخذت تضطرب بحياة جديدة، واكتفت السياسة الإنجليزية إذ ذاك بهذا التنبه، ثم أضافت إليه تنبيها بالابتعاد عن بلاد الحبش.
Page inconnue