كان محمد علي سليم القلب، صادق اللهجة، أمينا في تصرفه، حكيما في أعماله، كريما إلى الغاية ، حريصا على عمار البلاد، وفيا في معاشرته، حريصا على ود عشيرته وجنوده ورعيته، متحببا إليهم، وإن كان في بعض المواطن سريع الغضب، فقد كان قريب الرضا، حليف الحلم، صفوحا عن الجاني، مقداما على اقتحام الأهوال، صبورا على الشدائد، شديد الحرص على شرف ناموسه، قوي الفطنة، سريع الإدراك، يجول فكره في الأمور البعيدة، بصيرا في الحساب الهوائي العقلي، عجيب البديهة، غريب الروية، تعلم القراءة والكتابة في أقرب وقت وعمره خمس وأربعون سنة إذ ذاك؛ جبرا لما فاته في زمن الصغر وتداركا لما يزيد في مجده في زمن الكبر، فرغب في مطالعة التواريخ ولا سيما تواريخ الفاتحين كتاريخ إسكندر وبطرس ونابليون، مع المواظبة على الاطلاع على الكازيتات (الصحف) الإفرنجية.
وكان صاحب فراسة؛ إذا تكلم أحد أمامه بلغة أجنبية فهم من النظر إلى حركته وإشارته مقصده، يستشير العقلاء والعلماء في جل أموره، وكان نشيطا يحب الحركة ويكره الكسل والبطالة، قليل النوم، سريع اليقظة، يستيقظ غالبا عند الفجر يسمع بنفسه العرضحالات التي تعرض له يوميا عند الصباح ويعطي عنها جوابا ثم يذهب لمناظرة العمارات الأميرية التي كان مغرما بها.
وكان متدينا إلى حد الاعتدال بدون حمية عصبية ولا تشديد، فكان يغتفر لأهل الملل والدول في بلاده التمسك بعقائدهم وعوائدهم مما أباحته الشريعة المطهرة، وهو أول من أعطى للعيسويين الداخلين في الخدمات الأميرية لمنافعهم الاقتضائية مزايا المراتب المدنية، وكان يؤثر الفعل على القول، بمعنى أنه إذا أراد ترتيب لائحة فيها منفعة للأمة شرع فيها بقصد التجريب وأجراها شيئا فشيئا على طريق الإصلاح والتهذيب، فإذا سلكت في الرعية وصارت قابلة لعوامل المفعلولية كساها ثوب الترتيب والانتظام وأخرجها من القوة إلى الفعل في ضمن قانون الأصول والأحكام؛ لما أنه كان يقال: أحسن المقال ما صدق بحسن الفعال.
وكان مولعا ببناء العمائر وإنشاء الأغراس وتمهيد الطرق وإصلاح المزارع وإتقان الصنائع والأعمال، يرغب في توسيع دائرة التجارة ويستميل عقول الأهالي ليجذبهم إلى ما فيه كسب البراعة والمهارة ... كالملتقط لليتيم المفارق أبويه لينقذه من التهلكة ... وما حصل له في الاستيلاء على مصر من التسخير والتيسير يدل على حسن النية وصفاء الطوية، فكأنما أرشده إلى بلوغ هذه المنزلة مصداق حديث: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»؛ فكان دأبه في العناية بشئون تقديم مصر الإخلاص وحسن النية، فأعماله صارت على ذلك مبنية، وقد خلصت نيته فهبت صوبه نسمات القبول وأصاب بشرف النفس وعلو الهمة وإخلاص العمل وإدراك المأمول.
ولنستخرج من كلام رفاعة هذه الأصول، ربما كان أساس صفاته جميعا ما عبر عنه رفاعة بقوله: «شدة الحرص على شرف ناموسه»، فهي الصفة التي أبت له إلا المجد والترفع عن الدنايا والانصراف إلى عظائم الأمور، وجعلته وفيا صفوحا صادق اللهجة أمينا، كما جعلته مقداما صبورا محبا للحركة كارها للكسل والبطالة، أما أظهر صفاته العقلية فما عبر عنه في قوله: «قوة الفطنة وسرعة الإدراك.»
كره محمد علي الإسراف والتبديد والإهمال كرها بلغ منه أن اعتبرها بمثابة الكفر بنعمة الله.
قال في منشور له من تلك المنشورات الممتعة التي يعبر بها عن كل ما يجول في نفسه: «إن نيلنا لوطن عديم النظير كهذا هو من النعم الجسيمة، وعدم القيام بالسعي والاجتهاد في عمارتها يكون عين الكفران بالنعمة، وهذا ما لا تقبله شيم جبلتي وتأبى نفسي أن أكون شريكا لكم في ذلك»، ولعلك قد لحظت إطلاق الوصف «الخيري أو الخيرية» على الكثير من منشآته، فقد رام بها الخير بمعنى أوسع جرى به الاستعمال، ويكاد يرتفع في نظره بناء القنطرة أو صيانة الجسر من «الأعمال العامة» أو «الأشغال» إلى مرتبة العبادة والاعتراف بأنعم الخالق - عز وجل - وندرك بهذا سر ما لاحظه رفاعة من «أن منافع مصر العمومية قد تمكنت كل التمكن في الذات المحمدية العلوية وتسلطنت على قلبه وأخذت بمجامع لبه»، وأنه عمل تماما بما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «من لم يحمل هم المسلمين فليس منهم.»
وقد اهتم - في ذلك العصر - سلاطين الدولة العثمانية بدولتهم: سليم ومحمود وعبد المجيد، ولكن على أي أساس؟ أعلى الأساس المحمدي العلوي اصطناع قوة الحديد والمال والعلم؟ لم يحاولوا إلا اصطناع قوة الحديد : إنشاء القوة العسكرية المدربة على النمط الأوروبي وإقامة الحكم المطلق بسحق عوامل الانفصال، أما تنمية الموارد فسبيلها خطة منح الماليين الأجانب هذا الامتياز وذلك، باستغلال منجم أو إدارة مرفأ أو سكة حديدية أو بريد، وهذه أغلال يغل بها السلاطين أيديهم وأيدي رعاياهم.
وبالجملة لم يجد السلاطين حلا لمشكلة دولتهم الأساسية، وهي - كما قدمنا - تحويلها إلى مجتمع تتضافر فيه الأمم على تحقيق غايات مشتركة وتتعاون - حرة مختارة راغبة - على البأساء والنعماء، وهذا يفسر موقف السلاطين من خطة محمد علي: استغلال الرجل ما أمكن والكيد له ما أمكن ثم المحاولة الصريحة لسحقه، ولم يتم لهم سحقه، ولكن تم لهم إفساد مشروعه، وسارت الدولة نحو ما قدره لها محمد علي: الانحلال التام، وتفرقت كلمة هذا العالم العثماني إلى ما نراه اليوم.
Page inconnue