Muhammad Ali Jinnah
القائد الأعظم محمد علي جناح
Genres
مقدمة المؤلف
سياسي صادق
انفصال الباكستان
الرواد والآباء
العالم الإسلامي
الملتقى
أسرته وطفولته
حياته العامة
الثقة
المرحلة الثانية
Page inconnue
حياته الخاصة
الباكستان بين الماضي والحاضر
موازنة بين غاندي وجناح
مقدمة المؤلف
سياسي صادق
انفصال الباكستان
الرواد والآباء
العالم الإسلامي
الملتقى
أسرته وطفولته
Page inconnue
حياته العامة
الثقة
المرحلة الثانية
حياته الخاصة
الباكستان بين الماضي والحاضر
موازنة بين غاندي وجناح
القائد الأعظم محمد علي جناح
القائد الأعظم محمد علي جناح
تأليف
عباس محمود العقاد
Page inconnue
مقدمة المؤلف
كتبت عن القائد الأعظم كلمة تقدير يوم سمعت بنعيه منذ ثلاث سنوات، اعتمدت فيها على المعلومات المتفرقة التي تناثرت إلينا من أخبار الصحافة والإذاعة، وكلها نتف قصيرة لا تجتمع منها سيرة وافية تكفي للتعريف بالرجل العظيم.
ولكن هذه المعلومات كانت كافية للتنويه بعظمة الرجل، وإن لم تكن كافية لتأليف كتاب في سيرته، وقد كان تأليف كتاب عن «جناح» من الموضوعات التي أعقد النية عليها في سياق متابعتي للحوادث العصرية، ثم أترك تحقيقها لحينه كلما استطعت التفرغ لموضوع بعد موضوع.
وقد كان محمد علي جناح وفاق شرط العظمة عندي بين زعماء الأمم ودعاة الأمم المغلوبة إلى الاستقلال.
وشرط العظمة عندي في هؤلاء الزعماء: همة الجبابرة من رجال العمل، وطموح المثاليين من المؤمنين بالفكرة ... وهما خلصتان لا تخفيان من أقل الأخبار التي تروى عن جناح في إبان جهاده، فإنه رجل تصدى بهمته العالية لتحقيق فكرة مثالية، سمع بها «الخبراء» فأجمعوا - أو كادوا يجمعون - على أنها مستحيلة، وأن جناحا يتخبط في الظلام وراء خيال لا يطلع عليه النور.
وطلع النور على الخيال، فإذا هو «خيال» ثابت كالجبال: كان جناح وفاق شرط العظمة بهذا وبما يزيد عليه، وهو الخلق المكين الذي يقاوم كل إغراء ولا يتخاذل أمام الوعيد.
والتمست المراجع الوافية عنه فلم أجدها، ثم تتبعت هذه المراجع سنة بعد سنة، واطلعت منها على الكتب وعلى الفصول، ومنها ما كتبه أبناء الباكستان، وما كتبه المنصفون من الغربيين في عرض الكلام على السياسة الشرقية، ومنها ما كتبه من أبناء الغرب والشرق أناس غير منصفين، ولكنهم يروون على الرغم منهم أخبار الرجل فتعليه وتزكيه من حيث يريدون انتقاصه والقدح فيه، ورب واقعة يسوقها العدو فيسجل بها شهادة لا تتهم؛ لأنها تكشف من مواطن للثناء لا يقصدها الأعداء.
وتجمعت المراجع التي تكفي لتأليف كتاب عن القائد الأعظم فألفت هذا الكتاب. •••
قال لي بعض أصحابي حين علموا أنني أكتب كتابا عن جناح: «لا جرم وقد كتبت عن غاندي ألا تفوتك الكتابة عن جناح!»
خاطر طبيعي لا غرابة في سبقه إلى الأذهان؛ لأن السبب الذي تخيلوه للكتابة عن محمد علي جناح سبب وجيه، فمن حق الباكستان علينا ألا نسكت عن زعيمها وقد أعطينا الهند حقها في زعيمها، ومقام القائد الأعظم في الشرق قرين لمقام «المهاتما» الذي سميناه بالروح العظيم.
Page inconnue
على أن هذا السبب «الوجيه» لم يكن هو في الواقع سبب تأليف الكتاب.
لأنني «أولا» لم أؤلف كتابي عن غاندي رعاية لدولة الهند، ولا لمرجع من مراجع السياسة، ففي الكتاب ما لا يوافق الهند ولا يوافق الباكستان.
إنما ألفت الكتاب عن غاندي «بحقه الشخصي» أو بحق عظمته، ومغزى هذه العظمة في تاريخ الإنسان.
ولأنني «ثانيا» قد نويت الكتابة عن جناح وعن غاندي في وقت واحد، ولكنني وجدت المراجع لكتاب غاندي متوافرة متكاثرة، ولم أجد المراجع لكتاب القائد الأعظم كاملة أو قريبة من الكاملة، إلا منذ بضعة أشهر.
وكتبت عن جناح كذلك «بحقه الشخصي» وحق عظمته ومغزاها الخالد في تاريخ الإنسان.
فالكتابة عن القائد الأعظم واجبة؛ لأنها تجلو للناس، وللشرقيين خاصة، صورة من صور العظمة الإنسانية.
وهي عدا هذا واجبة لدلالتها في تفسير أطوار الأمم وأسرار التاريخ، والزاد الذي يتزوده الدارسون من سيرة جناح في هذا الباب أوفر من زادهم في سير عشرة من العظماء.
وهذا الذي عنينا به عناية خاصة في وصف عظمة الرجل، ووصف العظات التي يخرج بها نقاد التاريخ من نشأة الباكستان.
وبين يدي القارئ صورة من صور العظمة الإنسانية، ودرس لا نظير له في فلسفة التاريخ، أو فيما نسميه العوامل التي نتطلع إليها من وراء حركات التاريخ.
عباس محمود العقاد
Page inconnue
محمد علي جناح.
سياسي صادق
نادر المثال
قرأت أكثر من مائتي بيان للقائد الأعظم زعيم الباكستان محمد على جناح ... منها الخطب في المحافل، والرسائل إلى الأصدقاء والخصوم، والتصريحات في الصحف، والمناقشات والمساجلات: ما هو مكتوب منها وما هو ملفوظ مرتجل، فخرجت منها بعقيدة راسخة عن عظمة هذا الرجل. إن القائد الأعظم ولا شك رجل عظيم نادر المثال بين عظماء الرجال.
لم أتبين هذه العظمة من بلاغة أسلوبه، فإن الزعماء الذين هم أبلغ منه كثيرون ...
ولم أتبينها من سعة معلوماته، فإن سعة المعلومات والعظمة لا تتلازمان في جميع الأحيان ...
ولم أتبينها من قوة العقل، فقد يكون العقل قويا وصاحبه غير عظيم، بل قد يكون العقل قويا في الشر والأذى فلا يحسب صاحبه من عظماء الأمم، ولا من عظماء الإنسانية ...
لكنني تبينتها من خصلة نادرة جدا في قادة الشعوب، وهي «الصدق الصريح في جميع الأقوال وجميع الأحوال»!
فمن المألوف في قادة الشعوب أن تكثر في أقوالهم الوعود الطنانة والكلمات البراقة، وأن يكون خطابهم للجماهير كالتنويم الذي يسوقها إلى الطريق التي يهواها الخطيب.
ويتفق كثيرا أن يكون الزعيم مخلصا غيورا على مصلحة قومه وهو يتصرف بتلك الأساليب ... ولكنه يخاطب الناس بما تعودوه، ولا يبالي أن يقنعهم بالوسيلة التي يرضاها ما دام إقناعهم للخير والفلاح، وما دامت قيادتهم لا تتأتى بغير هذه الوسيلة، ولو أنني وجدت في كلمات القائد الأعظم مسحة من هذه الألوان الخطابية لما أصغرته من أجلها، ولا اتهمته في إخلاصه وصدق دعوته، ولكنني أكبره لا محالة إذا خلا كلامه منها، وبلغ مع هذا غايته وغاية قومه على أقوم منهاج.
Page inconnue
تحدث القائد الأعظم بهذه الأقوال أو كتبها خلال أربعين سنة من عنفوان صباه إلى أن علت به السن وجاوز السبعين، فلم تختلف في واحدة منها تلك المزية التي تكبره وترفعه للناس مثلا بين زعماء السياسة وقادة الشعوب ... وهي مزية الصدق الصريح، بل مزية الصدق البسيط الواضح الذي لا يشوبه مرة واحدة تزويق أو تنميق.
كل ما قرأته له من تلك البيانات التي جاوزت المائتين صالح لأن يقال أمام هيئة علمية محققة، أو أمام هيئة قضائية بعد حلف اليمين.
وعد في حدود الإمكان والنفاذ، وصدق تتساوى فيه الروية والارتجال، وخطاب للجماهير يصارحهم فيه بعيوبهم أحيانا، ولا يتملقهم حينا واحدا بقول لا يقوله بينه وبين نفسه على انفراد.
إن هذا الرجل عجيب ... إن هذا الرجل عظيم ...
وأدعى إلى العجب منه والإيمان بعظمته أنه نشأ على مذهب الإسماعيلية المعتدلين، ومذهبهم يبيح للمعلم أن يصطنع التقية، وأن يخاطب الناس على درجات في الفهم والإقناع، ولكن الرجل لم يتقيد بهذا المذهب في هذه الخصلة، ولا في غيرها من الخصال، ولم يفارق سجيته التي فطر ودرج عليها ومات عليها، شبابه فيها وشيخوخته سواء.
موقفه من الطلبة والعمال
كان الزعماء جميعا يخطبون ود الطلبة الذين يتعلمون في البلاد الإنجليزية، ويعلمون أنهم عماد المستقبل، وأن من يكسبهم في حاضرهم يكسب الجيل المقبل في السياسة وفي القيادة الشعبية، ولكنه كان يؤمن بأن الطالب يحق له الاهتمام بأمراض قومه، ولكنه لا يحق له أن يتصدى لمعالجتها، ولما دعي لمخاطبتهم في سنة 1913 قال لهم وكان يومئذ في مقتبل حياته السياسية:
إن موقف الطلبة في هذا البلد فرد بغير نظير؛ لأنهم نموذج مختار من صفوة أبناء الأمة الهندية، وخيرة من تستطيع إخراجهم وتربيتهم، إنهم هنا الأمناء على سمعة بلادهم، ويسوءني أن أقول: إنهم في الوقت الحاضر من حيث العلاقة بالمجتمع البريطاني لا يظفرون بسمعة حسنة ولا بسيرة طيبة، فهم بدلا من سلوك مسلك الطلبة في التعلم والانتفاع بأفضل ما في الحضارة البريطانية التي لم يكسبها القوم إلا بعد رياضة العصور المتعاقبة يغفلون هذا الواجب ويقصرون حياتهم العامة على التراشق بالعبارات النابية في خصومات السياسة، دعوني أذكركم أنكم لم تدركوا بعد مرتبة الكفاية لتناول المسائل السياسية التي تتمثل في بلادكم، وما من أحد يقدر غيرتكم فوق قدري لها، ويفهم الأسباب التي حملتكم على ما تصنعون خيرا مما أفهمها، ولكن الوقت قد حان لإعادة النظر في موقفكم بعين الجد والسداد ... وتسألونني ما هو المطلب الذي يراد من جماعتنا، فاعلموا أننا في دور الاستعداد لتنشئة الأحوال التي تمتد بها نظرتنا القومية إلى نطاق أوسع وأكمل، واعلموا أن الرجال الذين يساهمون اليوم بالنصيب الأوفى في السياسة الهندية هم أناس تعلموا في إنجلترا وعادوا إلى بلادنا لخدمتها، فاختلطوا بالبيئات الإنجليزية واتخذوا الأصحاب منها، وليكن واجبكم الأول قبل هذا أن تلتقوا أبناء وطنكم وتعرفوهم حق معرفتهم، فإن مقامكم بإنجلترا هو الفرصة التي تجمعكم بغيركم من أبناء الهند الذين ينتمون إلى جميع أقطارها.
وخاطب الطلاب في كلية عليجرة الهندية؛ وقد مضى أربعون سنة على ذلك الخطاب في إنجلترا فقال:
اجتهدوا أولا في رياضة أنفسكم على الشعور بالتبعة والواجب، وليكن همكم بناء أخلاقكم فهو خير من الشهادات والإجازات، إن العناء في تحصيل الشهادات والإجازات بغير خلق ضائع، وعليكم أن تربوا في أنفسكم روح الكرامة والاستقامة والقيام بما هو مفروض عليكم، وما نحن دون غيرنا من الأمم مقدار ذرة، وإنما كانت آفتنا من إهمالنا لهذه الصفات ونحن قادرون عليها، وصدقوني عن يقين: إن الباكستان لكم خالصة يوم تتمكن هذه الصفات منكم.
Page inconnue
وكان القائد الأعظم يزور كلكتا في شهر مارس (سنة 1946) داعيا للعصبة الإسلامية؛ فوجه إليه وفد من العمال بعض الاعتراضات على تكوين العصبة وقال له أحدهم: يقول الناس: إن العصبة الإسلامية طائفة من الأغنياء لا محل بينها للفقراء.
فأجابه القائد الأعظم قائلا في صراحته التي لا التواء فيها: «من هم أولئك القائمون بالعصبة؟ إنهم ليسوا أغنياء، ودستور العصبة، بعد، دستور ديمقراطي، فإن كان في العصبة أغنياء طماعون فهم هناك لضعفكم أنتم وتهاونكم؛ لأنكم لا تختبرون قائدكم قبل اتباعه، وما للزعماء من قوة غير التي يستمدونها من الشعب ومن الفقراء، فعليكم قبل أن تسلموهم زمام القوة أن تختبروهم؛ فمن وجدتموه غير أهل للأمانة فانبذوه.»
قال أحد العلماء: «إن بعض الرؤساء لا يهتمون اهتماما فعالا بشئون الشعب وشكاياته.» فعاد القائد الأعظم يقول: «إذن عليكم أن تخرجوهم، فإنما أنتم الذين تصنعون الزعماء، فإن لم يعرفوا الأمانة فلا تقلدوهم الزعامة، وعاملوني أنا هذه المعاملة، واتخذوا من مستر تشرشل مثلا تعتبرون به، فإنه على كونه أنجح قادة الحرب قد نبذته أمته.»
شجاعته في معارضة الجماهير
واتفق مرة أن هيئة المؤتمر وهيئة العصبة الإسلامية معا أجمعتا على سياسة واحدة في مسألة الخلافة، ولم يكن جناح على رأيهم في الخطة التي أجمعوا عليها، فوقف وحده يعارض المؤتمر والعصبة ومن ورائهما الجموع الثائرة ... وكان في الاجتماع نحو خمسة عشر ألفا يتلهبون حماسة، ويصفقون للمقترحات المعروضة عليهم تصفيق المأخوذين بنشوة عارمة لا يقف في طريقها معترض يبالي بشهرته، بل بحياته، إلا هذا الرجل الفذ العجيب، فإنه لم يوافق ولم يسكت، ووقف وحده ينقد آراء الخطباء وحماسة المجتمعين، وكان في الهند يومئذ مستر ودجوود مندوب حزب العمال، فكتب يقول: «إن الهند ماضية في طريق الحرية؛ لأن فيها رجلا يستطيع أن يثبت على رأيه في وجه الجموع المخالفة!»
أما مستر جنتر مؤلف الكتب المشهورة عن داخل أوروبا، وآسيا، وأمريكا فقد قال: «إن الرجل حفر قبره بيديه.»
وتؤاتيه هذه الشجاعة إذ يخاطب الغوغاء وهم في غليان التعصب، كما تؤاتيه إذ يخاطب جمهورا من أعضاء المؤتمر والعصبة، فمن مواقفه التي يندر جدا أن يقدم عليها أحد من الساسة موقفه بين المسلمين والسيخيين في خلافهم على موقع تنازعوه، فقال المسلمون: إنه مسجد قديم، وقال السيخيون: إنه ملك لأجدادهم لا ينزلون عنه، وهاجت الفتنة هياجها وتساءل الناس كيف يواجه الرجل هذه الثورة الجائحة، فإذا به يذهب إلى مكان الاجتماع هادئا ساكنا كأنه يذهب إلى مجلس سمر، وتطلع إليه المجتمعون فلم يتكلم ولبث هنيهة يدخن سيجارته حتى فرغ من تدخينها، وبدلا من أن يعديه هياج الجموع أعدى الجموع هدوءه وسكينته فسكنت جائشتهم، وظلوا يترقبون كيف يبدأ الكلام وما عساه يقول، فلما تكلم كان كلامه آخر شيء توقعوه؛ لأنه لم يتملقهم ولم يجاملهم، بل أخذ في تبكيتهم؛ لأنهم يتعرضون لمسألة دينية بوسائل غير دينية، وليست مما ترضاه عقيدة المسلمين ولا عقيدة السيخيين، ومن عجيب قوته أنه أخجلهم ولم يثرهم بذلك التبكيت، ثم مضى يعرض للمسألة المختلف عليها، ويبين لهم أنها من المسائل التي تعرض على القضاء ليفصل فيها بالحجة والبينة؛ لأنها نزاع على عقار، فإن ثبت أنه مسجد قديم فالمسلمون أولى به، وإن لم يثبت فشأنه شأن كل بقعة يملكها غير المسلمين.
وقد أبت صراحته في كل موقف أن يجامل الهيجة الغالبة في وقت من الأوقات، وإن هانت فيه ظواهر المجاملة، فماذا عليه مثلا لو لبس كساء الزي الشائع الذي اصطلح عليه جماعة المغزل من البراهمة والمسلمين اقتداء بالمهاتما المبشر بذلك الكساء؟ لقد كان في اجتماع ناجبور الذي سبقت الإشارة إليه نحو خمسة عشر ألفا يلبسون «الخادي» ولكنه هو وحده حضر الاجتماع بملابسه المعتادة؛ لأنه لم يكن يؤمن بحركة المغزل، فلا يبيح له ضميره أن يلبس «الخادي» ساعة أو سويعات، وهو لا يرى في حركة المغزل حلا للقضية الهندية.
والذين خبروا الرجل من قريب يشهدون له بهذه الصراحة المستقيمة التي تشهد بها أقواله وأفعاله، ومنهم إنجليز وبرهميون، ومنهم مسلمون يخاصمونه ولا يقرون سياسته، ومنهم من اتهم غاندي في صراحته ولم يخطر له قط أن يتهم صراحة جناح، قال بيفرلي نيكولاس
Beverly Nicholas : «إن الفرق بين جناح والسياسي الهندي هو الفرق بين الجراح والساحر.» وقال الديوان شمان لال: «إنه أحد الرجال القلائل الذي لا يخدم مأربا شخصيا ولا يرمي إلى غاية نفعية. إن نزاهته فوق الشبهات.»
Page inconnue
ومع هذه الصراحة يشهدون له بقدرته على الإقناع، وتأتي هذه الشهادة ممن لا يشهدون لشرقي بالرجحان على أساطين الغربيين في أمر من الأمور، قال مونتاجو وزير الهند في الحكومة البريطانية: «إن شلمسفورد حاول أن يناقشه فوقع في كتافه، وإنه لرجل بارع جدا، ومن الغبن الصارخ أن رجلا مثله لا تتاح له الفرصة لتدبير أمور بلاده.»
قرأت ما قرأت للرجل، وقرأت ما قرأت عنه، فلم أجد ظلا واحدا يخالط ذلك النهار الواضح من صدقه واستقامته في تعبيره: سياسي لا يبطن غير ما يظهر، ولا يعني القليل وهو يجهر بطلب الكثير، ولا يدخر للصفقة الأخيرة مساومة لم يكشفها من الصفقة الأولى، وهو يقود أتباعه بغير خداع ولا تهويل ولا تهوين ولا تنويم، فكيف أفلح في مسعاه وقد أفلح فيه حقا غاية ما يستطاع من الفلاح؟
لا بد من سر في الرجل، أو لا بد من سر في القضية التي تجرد لها، ولعل السر في الرجل والقضية معا وهو الذي قدرناه ولمسنا شواهده، ولم نزل نلمسها كلما اطلعنا على جديد في سيرة جناح وسيرة الباكستان، وفي الصفحات التالية بيان هذا السر المبين.
انفصال الباكستان
ضرورة لا محيد عنها
كان انفصال الباكستان ضرورة لا محيد عنها ... ضرورة حاول ساسة الهند جميعا أن يتجنبوها فلم يفلحوا، وأن يتجاهلوها فلم يستطيعوا؛ لأنها غير قابلة للتجنب أو التجاهل، فهي الحل الوحيد الذي تستقر عليه مشكلات الهند كما تستقر المادة في موضعها بحكم قوانينها، فهي ختام كل محاولة.
وقد كانت المحاولات كثيرة متعددة، وكان المشتركون فيها كثيرين متعددين، منهم إنجليز ومنهم هنود برهميون، أو بوذيون، أو جينيون، ومنهم هنود مسلمين على مذهب السنة أو على مذهب الشيعة، وقد يكون من حسن الشهادة للزعماء المسلمين أنهم جميعا بدءوا حياتهم السياسية وهم من أنصار الوحدة الهندية التي تشمل أقوام الهند كافة، وأنهم جميعا جربوا كل محاولة قبل المحاولة الأخيرة، ولكنهم كما أسلفنا كانوا يتجاهلون حقيقة لا تقبل التجاهل، فعادوا إلى الاعتراف بها مكرهين، ثم آمنوا بها إيمانا لا يزعزع، لأن التجارب التي استغرقت كل تجربة معقولة قد خلصتها من الشكوك، وختمت بالحسم الفاصل كل محاولة، فلا سبيل إلى محاولة جديدة.
وكان إيمان الجماهير في هذه القضية سابقا لتفكير الزعماء.
كان إيمان الجماهير بوجوب الانفصال شيئا أقوى من الرأي وأقوى من الرغبة وأقوى من الهوى، كان كأنه القابلية المادية التي تتمثل في خصائص الأجسام: جسم لا يقبل الذوبان في جسم آخر، فلا موضع هنا للآراء ولا للرغبات ولا للأهواء.
لهذا تساوى منطق جناح وشعور أتباعه، ولهذا تلاقى تفكيره العملي وغيرتهم القبلية، فلم تكن به حاجة إلى إثارة شعور أو تلبيس حقيقة بطلاء مقبول؛ لأن الكلمة الصريحة المستقيمة هنا كافية بل فوق الكافية؛ إذ هي الكلمة اللازمة دون غيرها، فكل ما عداها ضياع وإسراف وفضول، ومن عجائب القصد في أطوار الطبيعة أن يدخر جناح للنهوض بأعباء هذه القضية؛ لأنها قضية لا تتطلب زعامة تنفق جهودها في التزويق والتأثير، بل تتطلب الزعامة التي تجسمت قوتها كاملة في الصراحة والاستقامة إلى القصد، وتجمعت وسائلها كلها في التنظيم ومضاء العزيمة وصحة التفكير، فكان تفكيره السليم وغيرة أتباعه قوتين متشابهتين في العمل والاتجاه.
Page inconnue
كان معظم المتتبعين لمشكلات الهند يتخيلون مسألة الباكستان كأنها مسألة قلة تنشق عن الكثرة في وطنها، وكانوا يحكمون عليها كما تخيلوها فيخطئون غاية الخطأ، ولا يحسنون الاهتداء إلى رأي سديد في تلك المشكلات.
وتصحيح هذا الخطأ هو الخطوة الأولى التي لا بد منها قبل الاستقامة على الطريق السوي، فإذا صحح هذا الخطأ أول الأمر؛ فكل خطوة بعده واضحة لمن يريد أن يبصر بعينيه.
لم تكن الهند قط وطنا واحدا بأي معنى من معاني الوطنية، ولم يكن لها قط اسم واحد قبل دخولها في حوزة الدولة البريطانية، وإنما أطلق عليها هذا الاسم؛ لأنه أيسر من اختراع اسم جديد، وما كانت الهند قبل ذلك تطلق على غير نهر السند ثم واديه، وهو جزء من القارة الهندية كان يجهله كثير من سكانها المتفرقين في أرجائها الفساح.
بل لم تكن قط وحدة جغرافية في زمن من الأزمان؛ إذ كانت المواصلات فيها منقطعة أو متعذرة، فلم تكن أنهارها موصلة إلى جميع أجزائها، ولم تكن وسائل النقل فيها تقوى على وحول الأمطار في الشتاء، ولم تكن الحاجة إليها ماسة في غير الشتاء.
وليس سكانها من جنس واحد ولا هم يتكلمون لغة واحدة، فمنهم الآريون والسود، ومنهم قبائل من المستوحشين يبلغون نيفا وعشرين مليونا، ويرجح علماء الأجناس أنهم من أصول القبائل الأسترالية، وقد أحصى السير جريرسون
Grierson
اللغات واللهجات التي يتكلمها هؤلاء السكان الهنديون، فبلغت نحو مائتين وخمس وعشرين لغة ولهجة أكثرها لا يكتب بحروف.
والمشهور أن الطبقات في الهند أربع تشمل طائفة المنبوذين، وهم نحو ستين مليونا يحرمون على أنفسهم الاتصال بهم ، ولكن هذه الطوائف الأربع هي الطوائف الكبرى التي تتفرع على كل منها عشرات الطوائف، تنطوي كل منها على نفسها في مسائل العبادة والزواج والمعيشة، وتتعصب لتقاليدها تعصبا لا هوادة فيه، والراجح من كلمة الطائفة في الهند - وهي فارونا
Varuna - أنها فاصل بين أجناس تختلف بالدم والسلالة؛ لأن الكلمة تعني اللون، فهي تفصل بين أقوام متعددي الألوان، ومع هذا سرى نظام الانقسام الطائفي حتى شملت العزلة في كثير من الأحوال أبناء الحرفة الواحدة وأبناء الموقع الواحد، وبلغ من تقديس هذه الفوارق أن إشاعة عزم الإنجليز على إلغاء الحواجز بين الطبقات كانت من أسباب العصيان المشهور في سنة 1857.
التعصب الديني
Page inconnue
والتعصب بين المختلفين في العقيدة من أهل الهند أصعب أنواع التعصب المعروف في كل اختلاف؛ لأنه لا يقوم على تباعد الآراء، بل على تباعد العادات الاجتماعية التي تحس فوارقها في كل يوم، بل في كل ساعة، ومن أعسر الأمور تعديلها؛ لأنها تتعلق بالحياة الأبدية لا بحياة الفرد من مولده إلى وفاته، فمن ولد من طبقة المنبوذين مثلا فهو قضاء أبدي يسبق مولده ويلاحقه بعد وفاته، فكل تعديل في نحلة من النحل أو في شعائرها ومراسمها فهو هروب من المشيئة الأبدية التي يتعلق بها خلاص الأرواح.
وقد تذمر البرهميون أشد التذمر حين أمرت الحكومة الهندية بإلغاء «السوتي» وهو إحراق النساء مع أزواجهن المتوفين، فلما صدر الأمر بإلغائه في سنة 1829 هبت عاصفة من السخط على الحكومة، وأمطرها البرهميون شكايات يلتمسون فيها إلغاء ذلك القرار، ويقاس على التشبث بهذه السنة مبلغ التشبث بغيرها مما هو أقل منها نكرا ومجافاة للشعور والعاطفة الإنسانية، فكل سنة، بل كل عادة، هي قضاء مبرم لا يجوز عليه التبديل أو التخفيف.
وقد وهم الكثيرون أن تحريم أكل الحيوان سنة عاطفية لجأ إليها البرهميون رحمة بالحيوان، ولكن الواقع أنها سنة تقليدية نشأت مع الإيمان بتناسخ الأرواح، وأن الأحياء الدنيا قد تحل فيها أرواح الناس على سبيل العقاب، فأكلها قطع لسلسلة التناسخ ودورة الأرواح في الأجساد من الآزال إلى الآباد.
فقد يكون الهندي مسامحا برأيه وفكره، وقد تكون عقيدته في الله عقيدة مسالمة لأصحابه ومعاشريه، ولكن المعضلة الكبرى هي هذه العادات التي تدور عليها معيشة كل يوم، وترتبط بها المشيئة الأبدية فلا تقبل المسالمة والمسامحة، وتلك هي المعضلة التي يعانيها المخالفون للعقيدة الهندية حين تكون السيطرة عليهم لأصحاب تلك العقيدة، وحين يكون المرجع كله إليهم في سلطان الدولة، وهذه المعضلة هي خلاصة الضرورة التي جعلت من الحتم الحاتم أن تنفصل الباكستان، أو كما قال القائد الأعظم في تلخيصها: «نحن نأكل البقرة وهم يعبدونها فكيف نتفق على نظام واحد.»
لهذا ولغيره من الاعتبارات الاقتصادية، والجغرافية، والعاطفية؛ أصبحت العقيدة قوام الأمة في الهند، وحدث في الهند ما لم يحدث في غيرها من قبل؛ وهو تحول الصلة الدينية إلى صلة قومية، فقيل في السيخيين مثلا: إنهم عقيدة أصبحت أمة؛ لأنهم أناس من سلالات الهند لا فاصل بينهم وبين سائر أبنائها بغير العقيدة، هذا والنحلة السيخية قد نشأت في القرن الخامس عشر للميلاد، فقس على ذلك نشأة الإسلام أو القومية الإسلامية بمقومات كثيرة غير العقيدة؛ وهي الثقافة، والدولة، والآداب الاجتماعية.
الإسلام والاستعمار
وكأنما كانت هذه العوامل القوية بحاجة إلى مزيد يوسع فوارق الانفصال فوق اتساعها؛ فجاءت سياسة الاستعمار بجملة من هذه الفوارق مقصودة أو غير مقصودة؛ إذ كان الاستعمار الإنجليزي قد تسلل إلى الهند وليس فيها دولة تقاومه أقوى من الدولة الإسلامية، فوقر في أخلاد المستعمرين أن الخطر على سيطرتهم إنما يتوقع من هذه الناحية قبل غيرها، وعملوا على إضعاف شوكة المسلمين وإقصائهم من الوظائف كبيرها وصغيرها، وكان المسلمون في إبان دولتهم قانعين من الحياة العامة بالوظيفة الحكومية، وذادهم عن الاشتغال بالصيرفة أنهم يحرمون الربا، وعن ملك الأرض أن الأرض لم تكن مملوكة لأحد ولكنها كانت متروكة للزراع وللجباة الذين يؤدون للحكومة حصتها من الضرائب، وكان أكثر هؤلاء الجباة من البرهميين المشتغلين ببيع الغلال وتصريفها، فلما أصدر الإنجليز قانونا لتسوية مسائل الأرض الزراعية جعلوا هؤلاء الجباة ملاكا، وجعلوا الزراع أجراء في أرضهم، واعتمدوا على هذا النظام زمنا لتحصيل الضرائب ومحاسبة الجباة عليها، فاجتمع الحرمان من الوظائف والحرمان من الأرض على إقامة العزلة بين المسلمين وغيرهم في الحياة الاجتماعية.
وقد كتب لورد «إلنبرو»
Ellenborough
مصرحا بهذا العداء فقال: ليس في وسعي أن أغمض عيني عن اليقين بأن هذا العنصر الإسلامي عدو أصيل العداوة لنا، وأن سياستنا الحقة ينبغي أن تتجه إلى تقريب الهنديين
Page inconnue
Hindus .
وما لم يكن من عوامل التفرقة السياسية صادرا من هذا الشعور فهو مقصود مدبر لتعزيز السيادة بالتفرقة بين المحكومين:
Divide et impera
وهي خطة جهر بها اللورد إلفنستون
Elphinstone
في سنة 1858، وسبقه إلى إعلانها في المجلة الآسيوية سنة 1821 كاتب قال بصريح العبارة: «فرق تسد: وهو الشعار الذي ينبغي أن نلتزمه في إدارتنا الهندية.» وتكررت هذه «النصيحة» في أقوال الرؤساء العسكريين ورؤساء الدواوين. •••
هذه العوامل جميعا، ما كان منها طبيعيا وما كان منها مصطنعا بتدبير السياسة، قد جعلت المسلمين أمة مستقلة تفصلها من الهنديين كل معالم القومية، وأصبحت الموازنة بين أسباب الانفصال وأسباب الاختلاط عند خروج الإنجليز من الهند «عملية حسابية» لا لبس فيها، فكل صعوبة جغرافية أو إدارية تحول دون الانفصال؛ فهي أسهل تذليلا وتمهيدا من صعوبات البقاء في ظل حكومة واحدة، وقد يطول شرح الأسباب إذا توخينا التفصيل والاستقصاء، ولكن القارئ خليق أن يستغني عنها جميعا بعرض موجز لسيرة الزعيمين الهنديين اللذين تعاقبا الزعامة منذ جيلين؛ وهما طيلاق وغاندي. فأما طيلاق فكانت دعوته الصريحة تخليص الهند من الواغلين الإنجليز والمسلمين على السواء، وكان برنامجه يقوم على إلغاء اللغة الأردية في الدواوين ومطالبة الحكومة بإباحة الزفات الموسيقية أمام المساجد، وكانت محرمة بنص القانون.
وأما غاندي فقد كان جزاءه القتل لتسامحه في معاملة المسلمين، وكان قاتله من جماعة كثيرة الأشياع ترى أن الحل الأمثل لمشكلة الأجناس في الهند هو استئصال تلك الأجناس.
لا جرم كان منطق القائد الأعظم الواضح الرصين مرادفا في معناه ووجهته لشعور الجماهير، فكانت صراحته في دعوته قوة لها، ولم تكن عقبة يحتاج إلى تذليلها وتخطيها على سنة الأكثرين من زعماء الجماهير، وصح القول أن شعور الجماهير في هذه المعضلة كان أكثر من شعور وأكثر من حكمة عملية؛ لأنه كان كالقابلية المطبوعة التي تستقر في خصائص الأجسام.
ومن عاداتنا في الزمن الحديث أن نستريب بدفعة الجماهير وبرامج الساسة، وأن نعتبرها على أحسن ما تكون أمورا موقوتة وأحوالا حائلة، إلا أن هذا الشعور الذي رددته برامج الساسة في الباكستان حقيقة علمية يقررها أساتذة التاريخ من غير المسلمين، وفي أحدث الكتب عن تطور الهند كتاب للأستاذ «لونيا»
Page inconnue
Luniya
مدرس التاريخ وعلم السياسة بكلية هولكار يبسط فيه علاقة المسلمين بغيرهم في الهند؛ فيقرر في غير موضع أنهم أمة مستقلة لا اختلاط بينها وبين الأمم البرهمية، ومنها قوله في فصل الهند والإسلام: «إن المسلمين أول قوم أغاروا على الهند، ولم تستوعبهم طيات القارة الهندية المرنة التي لا تني تمتد وتنطوي على المغيرين، وقد أغار قبلهم كثيرون كالإغريق، والسيثيين، والمغول، والمجوس وغيرهم، وانطووا في الغمار بعد أجيال قليلة انطواء تاما بأسمائهم ولغاتهم وعاداتهم وعقائدهم وأزيائهم وآرائهم، وفنيت جموعهم في الواقع في المجتمعات الهندية، إلا المسلمين، فإنهم لم يزالوا في الهند طائفة منفصلة، ورفضت نياتهم المتشددة في الوحدانية كل هوادة في قبول الشرك والأرباب المتعددة، ومن ثم عاش المسلمون والبرهميون في أرض واحدة دون أن يمتزجوا، ولم تفلح محاولة من المحاولات في وضع القنطرة على الفجوة، وما برح المسلمون خلال القرون التالية يولون وجوههم شطر الكعبة في مكة وينفردون بشريعتهم ونظام إدارتهم، ولغتهم، وأدبهم، وأضرحتهم، وأوليائهم.»
ومع شهادة المؤلف للمسلمين بالفضل في تعليم البرهميين مبادئ المساواة قال: «إن إحدى النتائج التي نجمت من حكم المسلمين في الهند؛ أن المجتمع قد انقسم في عهدهم قسمة رأسية، وكان قبل القرن الثالث عشر ينقسم ولكن قسمة غير رأسية، ولم تستطع البوذية ولا الجينية أن تحدثا مثل هذا الانقسام؛ لأنهما ما عتمتا أن اندمجتا في المجموع بسهولة وسرعة، على حين أن الإسلام قد شق المجتمع من الأسفل إلى الأعلى شطرين متقابلين: براهمة، ومسلمين، فنشأ في أرض واحدة مجتمعان متوازيان متغايران في جميع طبقاتهما قل أن تصل بينهما علاقة في المعيشة أو المعاشرة، واشتدت محافظة البرهميين أمام غيرة الإسلام في نشر دعوتهم الدينية، واندفعوا مع خوفهم وحرصهم على حماية مجتمعهم إلى المبالغة في قيود الطبقات والطوائف، وما إليها من القيود الاجتماعية.»
ومن العسير أن يقال عن خطة تمليها وقائع التاريخ وبدائة الشعوب، غير أنها ضرورة لا محيد عنها ولا طاقة بالرجوع فيها، وإن أريد الرجوع.
الرواد والآباء
السيد أحمد خان.
أستاذ الزعماء
من أصدق الأقوال في تلخيص قضية الباكستان كلمة الزعيم الهندي المعتدل جوكهيل؛ إذ يقول لأبناء قومه تيسيرا لفهم مطالب المسلمين: «إنكم لو كنتم في موضعهم لطلبتم مثل مطالبهم، وشعرتم بالحاجة إلى ضمان كالضمان الذي يحتاجون إليه.»
وجوكهيل هذا هو قدوة الزعماء الهنديين في السماحة ورحابة الصدر، وهو أستاذ جناح السياسي في صباه وقدوته في مسألة الطوائف والأحزاب، وكان جناح يقول: إنه يطمح إلى شيء واحد؛ وهو أن يكون جوكهيل من المسلمين.
قال جوكهيل كلمته تلك: وقد نجمت دعوة الطوائف وتشعب الخلاف عليها في الربع الأول من القرن العشرين، وكانت هذه الحقيقة واضحة أمام عينيه وهو ينظر إلى مفترق الطريق، ولكنها - قبل أن يفترق الطريقان - لم تكن واضحة هذا الوضوح أمام زعماء المسلمين، بل أمام أشدهم مغالاة في طلب الانفصال، ولا استثناء في ذلك لزعيم هؤلاء الزعماء وأستاذهم وموحي الفكرة التي نشأ منها المؤتمر الهندي والعصبة الإسلامية على السواء، وهو «السيد أحمد خان».
Page inconnue
كان السيد أحمد خان هو الرائد الأول للباكستان، وتلاه أعوانه وتلاميذه فبدءوا كما بدأ، ثم انتهوا كما انتهى: بدءوا يعملون يدا واحدة مع الهنديين على إمكان الوحدة، ثم حاول كل منهم محاولته وانتهى منها بعقله وتدبيره إلى حيث انتهت بداهة الجماهير، فتوافرت للحركة كل قوتها من تلاقي الرءوس والقلوب على عقيدة قد تمحصت من جميع جوانبها، وانتهى منها كل شك يخالج نفوس القادة أو الأتباع.
وكان السيد أحمد خان مثالا عاليا للرجل العظيم الذي يثبت للناس من حين إلى حين أن الغيرة الدينية البالغة والشعور الإنساني الأكمل لا يتناقضان، بل يمتزجان ويتعاونان، فلما وقعت الفتنة التي اشتهرت بفتنة العصيان
Mutiny
أنقذ من الموت كثيرا من الإنجليز، كما أنقذ كثيرا من الوطنيين، ولم تحتمل نفسه الكريمة أن يرى إنسانا أعزل يفتك به مطاردوه كأنه فريسة ينفرد بها وحوش ضراة.
وحفظ له الذين أنقذهم هذا الجميل، ومنهم رجل إنجليزي اشتهر بين القوم؛ لأنه يسمى باسم الشاعر الكبير وليام شكسبير، بلغ من وفائه له أنه كان يلازمه حيثما استطاع، وملازمته هذه هي التي تجعل لكلمته معناها في هذا السياق. فإنه سمعه زمنا طويلا يتكلم عن تقدم الهند ونهضة الهند وحقوق الهند، فلما سمعه لأول مرة يذكر تقدم المسلمين ويفردهم بالقول دهش وبدت عليه الدهشة، ولم يكتمه سبب دهشته فقال له: «هذه أول مرة أسمعك فيها تتكلم عن المسلمين وحدهم، وكنت على الدوام تهتم بمصالح أبناء وطنك أجمعين.» فأجابه الرجل العظيم الذي اشتهر بصراحته كما اشتهر بحكمته: «إنني اليوم مؤمن بأن القومين - كما وردت الكلمة في العبارة الأردية - لن يخلصا النية في أمر واحد، وليس بينهما اليوم عداء مكشوف، ولكن هذا العداء سينكشف في المستقبل من جراء من يسمونهم بالطائفة المتعلمة، ومن يعش ير.»
قال شكسبير: «إني ليحزنني أن تصدق هذه النبوءة.» فقال السيد أحمد: «وإنني أيضا لحزين جد الحزن من أجل هذا، ولكنني منه على يقين ...» ولم تمض فترة وجيزة حتى تحقق كلاهما أن خلوص النيات في قضية الوحدة مستحيل. •••
كان السيد أحمد خان ماردا من مردة الإصلاح الأفذاذ في كل زمن وكل أمة، وكانت شخصيته من الرحابة والقوة بحيث تحتمل الكثير من النقائض في مقاييس الأوساط، ولم يكن وسطا في مقياس من تلك المقاييس.
كان كما قدمنا غيورا شديد الغيرة على أبناء دينه، ولكنها غيرة لم تكن تحجب شعوره الإنساني في أوقات اللدد والشحناء، كما يحدث أحيانا لأصحاب النفوس الصغار.
وكان لفرط غيرته معدودا من المتعصبين في رأي بعض خصومه ومعارضيه، ولكنه كان في رأي المتعصبين متهما بالإلحاد والمروق، وتعرض للقتل مرتين من جراء هذا الاتهام.
وكان من سياسته أن يسالم الدولة الحاكمة حتى يرتقي بقومه إلى الشأو الذي يمكنهم من ولاية الحكم عند تمام الاستقلال، ولكنه لم يفهم قط من المسالمة أنها ملق وازدلاف، بل كانت صراحته تسلكه عند أناس من الحاكمين في عداد المهيجين، وقد ترك حفلة الدربار غضبا واحتجاجا على التمييز في كراسي الجلوس بين الإنجليز والوطنيين.
Page inconnue
وكان ينكر على الإنجليز في وجوههم تعاليهم على الرعية الوطنية ويحذرهم عاقبة هذا الكبرياء، ولكنه كان يكتب إلى خاصته وهو في بلاد الإنجليز؛ فيصارحهم في ألم شديد معترفا بأن الفارق بين المجتمع الإنجليزي والمجتمع الهندي كالفارق بين جماعة من الآدميين وقطيع من العجماوات.
ويعجب أصحابه لأمره بين النصح بالتقية السياسية وبين مجاهرته بكل ما يعتقده مجاهرة لا تعرف التقية والحيطة، ولا ترهب المقاومة والمعارضة، وكانت الدعوة الوهابية في إبانها حين نشط لدعوة الإصلاح، وكان يأخذ عليها اليبوسة والمبالغة في التحرج، فإذا قيل له: ما بالك إذن تنحو نحوهم في مجابهة الناس بما ينفرون منه، وتصر على مجابهتهم وهم نافرون، قال: إذن أنا وهابي الوهابيين إن كانت الوهابية أن تجهر بما تدين.
المارد الحق
والمارد الحق إنما يبدو لنا في جبروته، بل في ضخامة جبروته، إذا عرفنا أنه عمل ونجح في عمله، وأدرك غاية النجاح مع كثرة خصومه، وكثرة الآراء التي تعارض رأيه حتى بين أعوانه ومريديه.
فإذا مضيت في استقصاء علاقاته مع من حوله جزمت أنه لم يكن على وفاق مع أحد، لم يكن على وفاق مع الإنجليز، ولم يكن على وفاق مع البراهمة، ولم يكن على مع المسلمين المحافظين، ولم يكن على وفاق مع المسلمين المجددين، ولكنه عمل ونجح في عمله غاية النجاح الذي يتسنى لأحد في موقفه، وكان له أعوان من جميع هؤلاء المخالفين، طائعين أو كارهين، أو ليس فيهم كارهون على التحقيق، بل مستسلمون يفوضون الأمر ويستسلمون.
مرجع ذلك إلى الثقة بصدقه وإخلاصه، ولكن لا إلى هذه الثقة وحدها؛ لأن الصادق المخلص في غير قوة وعزم قد يفلح فلاح فرد، ولا يتسنى له أن يفلح في انتزاع الملايين من جمودهم وتحويلهم عنوة من حال إلى حال .
مرجع ذلك إلى القوة الماردة التي أسلست له قبل كل شيء زمام الثقة بنفسه، فوثق به كل من تحدث إليه وعمل معه وأيقن بيقينه، ونظر الرجل إلى مهمته الضخمة فوزنها بميزان قوته وإخلاصه، فإذا هي مستطاعة مفهومة محدودة الأهداف، وإذا هو يمضي فيها مضي سالك الطريق المعبد الذلول، ولو غيره نظر إلى ذلك الطريق قبل المضي فيه لأحجم ولم يمض، وأحجم وراءه كل من رآه يقدم وينثني بعد إقدام.
خالف الجميع ولكنه جمعهم بغير خلاف على رأي واحد، وهو رأيهم في صلاحه وقدرته، وأنه يعني ما يقول ويعمل ما يعنيه، وحسب الأعمال الكبار نجاحا أن يتفق العاملون لها على الإيمان بقائدهم فيها، وإن اختلفوا بعد ذلك أي اختلاف.
وكأنما كان هناك ارتباط بين تاريخ أسرة السيد أحمد خان وتاريخ الحركات الدينية ودعوات الإصلاح في الهند، فوصل أجداده إلى دلهي مهاجرين من جزيرة العرب في إبان دعوة السلطان أكبر، الذي حاول التوفيق بين الأديان؛ فأخرج منها جميعا دينا موحدا عرف يومئذ بدين أكبر، ومات بموت صاحبه. وكان جد السيد في زمرة المعارضين له بإمامة شيخ الطريقة النقشبندية وزملائه المعروفين باسم المجددين، وقد كان شاه غلام علي رئيس المجددين صديقا للسيد متقي والد السيد أحمد، ولم يكن للولي الموقر عقب، فكان يقول: إن أولاد متقي هم أولاده في الله والروح، وشغل نفسه بتعليم الطفل كتابة اللغة العربية وتلقينه بعض الأحكام والفروض.
وينمى السيد أحمد من ناحية أمه إلى الخوجة فريد الدين أعلم أهل زمانه بين المسلمين بالعلوم الرياضية والعقلية، وصاحب الكفاية الملحوظة التي جعلت «هاستنج» يندبه لنظارة الكلية التي أنشأها لتعليم الوطنيين، وجعلت ولاة الأمر من إنجليز وهنديين يندبونه لمهام الوزارة والسفارة في إيران وبرما، وقد سمع به أكبر شاه الثاني فعهد إليه بوزارة القصر والخزانة، وكان نظامه الدقيق في الشئون المالية سببا للحنق عليه.
Page inconnue
ويعزى إلى هذا العلامة أكبر الأثر في تنشئته حفيده على النشأة العقلية والحياة العصرية؛ إذ كان أبوه منقطعا عن الدنيا في نسكه ومصاحبته للأولياء، فكانت أمه تعيش أشهرا متواليات في بيت أبيها ومعها الصبي اليقظ المتنبه لكل ما يراه حوله ويسمعه من أحاديث جده العظيم.
وأول أثر من آثار هذه التربية أن الصبي لم ينهج نهج أسرته من ناحية أبيه في مقاطعة الوظائف أو مقاطعة كل ما له علاقة بالحكومة، فلما مات أبوه (1836م) وهو يناهز التاسعة عشرة قبل التوظف في المحاكم، وانتقل من الأعمال الكتابية إلى أعمال القضاء في بضع سنوات، ونشبت الثورة وهو يتولى القضاء بمدينة بجنور؛ فكان مسلكه مع أبناء قومه ومع الإنجليز والبرهميين أول شهادة له عند الأقربين والغرباء برجاحة العقل وسماحة الطبع وعلو الهمة، وأول مناسبة وضعت مشكلة الهند بجميع أجناسها وأقوامها في موضعها الصحيح.
خرج الإنجليز من تلك الفتنة الطاحنة حائرين في تفسير بواعثها يعتقدون أنهم مضللون، ولا يعرفون كيف يهتدون، وجعلتهم تلك الحيرة مستعدين للإصغاء إلى كل نصيحة، فلم يجدوا أمامهم أقدر على النصيحة وأشجع على إبدائها من القاضي الجريء الخبير، فأما العقلاء منهم فقد لمسوا الصدق في بيانه لبواعث الفتنة ووسائل علاجها، وأما المتهورون منهم فقد حسبوه من دعاة الهياج الذين يبذرون بين الأمة الهندية بذور الفتنة من جديد، وكانت خلاصة رأيه أن الإدارة الإنجليزية هي المسئولة عن تذمر المحكومين؛ لأنها تحكمهم بغير مشاركة منهم في الرأي، وعلى غير علم بما يساورهم من شعور، وتغلبت الحكمة على التهور فأخذت الحكومة البريطانية بمشورته وعولت على تنحية الشركة التي كانت تنفرد بحكم البلاد إلى ذلك الحين، وأن تقيم الحكم على أساس الشورى والتدرج في التمثيل النيابي، وإشراك المتعلمين من الوطنيين في مجالس الحكام، وهي مجالس شورية كادت أن تنحصر في الإنجليز، ولم تكن لأعضائها معرفة بمطالب القوم، ولا اطلاع على شكاواهم ومظالمهم، لترفعهم عن معاشرة أبناء البلاد.
الاستعمار يحارب المسلمين
وولدت على أعقاب الثورة فكرة المؤتمر الوطني فبرزت مع الفكرة مشكلات التمثيل النيابي والحكومة الوطنية، وجعلت هذه المشكلات تتفاقم كلما تدرج الوطنيون في مطالب الحكم الذاتي والاستقلال بالإدارة والسياسة.
برزت مشكلات الحكومة الوطنية وأولها حرمان المسلمين من الحكم بتدبير السياسة البريطانية ، أو من جراء هذه السياسة حين يكون الحرمان نتيجة غير مقصودة لوقائع الأحوال بعد دخول الهند في حوزة الدولة البريطانية.
كان المسلمون حكاما فأخذ الإنجليز منهم وظائف الحكومة الكبرى، وحذروهم في الوظائف الصغيرة فأكثروا فيها من البراهمة والبوذيين وسائر الهنديين، وأخلوها أو كادوا يخلونها من المسلمين.
وكان بين المسلمين أصحاب ضياع واسعة فانتزعها المرابون، وأتى قانون تسوية الأرض على بقيتها، وأسلمها إلى الجباة كما تقدم أو إلى الزراع الصغار.
وكانت الثقافة الفارسية هي ثقافة المسلمين، فجاءت المدارس الأوروبية الحديثة ولم يقبل عليها المسلمون؛ لأنها كانت على الأكثر في أيدي المبشرين والمتفرنجين.
وقد وصف هذه الحالة إنجليزي منصف هو الدكتور وليام هنتر فقال عن أسر المسلمين من كبار الزراع: «لو أراد سياسي أن يثير ضجة في مجلس النواب لما احتاج إلى أكثر من سرد صادق لقصة هذه الأسر في البنغال.»
Page inconnue
ثم استطرد إلى الوظائف فقال: إن القيادة العليا التي كانت من وظائف المسلمين قد نزعت بطبيعة الحال من جميع الهنود: «أما الوظائف الأخرى فكانت مشغولة هكذا في سنة 1869 ... أربع عشرة وظيفة من وظائف المهندسين بدرجاتها الثلاث يشغلها الهنديون، وليس معهم مسلم واحد، وكان بين المهندسين تحت التمرين أربعة هنديين وإنجليزيان، وليس معهم مسلم واحد، وكان بين وكلاء المهندسين أربعة وعشرون هنديا، ومسلم واحد، وبين المشرفين مسلمان وثلاثة وستون هنديا، ولم يكن في إدارة الحسابات مسلم واحد مع موظفيه الهنديين وعدتهم خمسون، وكذلك لم يكن في ديوان الرؤساء الثانويين مسلم واحد مع اثنين وعشرين من الهنديين.»
وهذه النسبة هي التي أحصاها الدكتور هنتر في البنغال، وهي نسبة نموذجية يقاس عليها في سائر الأقاليم، ومنها ما هو أسوأ حالا بالنسبة للموظفين وأصحاب الأرض المسلمين من ذلك الإقليم.
نظر السيد أحمد خان إلى هذه الحالة، وعرف من حقائقها ما لم يعرفه الدكتور هنتر ولا غيره من الإنجليز؛ لأن صاحب الدار كما يقال أدرى بالذي فيها، فأدرك عاقبة الحكم النيابي الذي تتولاه كثرة الناخبين، وعلم أنه حكم لا نصيب فيه للنواب ولا للموظفين ولا للساسة من المسلمين.
ومما زاد هذا الرأي اختمارا في نفسه قيام الدعوة القومية الهندية على أساس محاربة الإنجليز والمسلمين على السواء، بغير مواربة ولا مجاملة، فقد بدأت هذه الدعوة بعد حركة الفتنة، وظهر أنها تنتشر ولا تنحسر كما كان مرجوا في أول عهدها؛ إذ كان أناس من المتفائلين يحسبون أنها رد فعل للفتنة لا يلبث أن يستقر على قرار ثابت من الهوادة والاعتدال، وقد كان السيد أحمد خان أبعد منهم نظرا، وأعرف منهم بالحقائق فتشاءم من الحركة منذ نشأتها، وحققت الأيام ظنه، فلم يوجد في المؤتمر الوطني على عهد الزعيم طيلاق، أكبر المجاهرين بالعصبية الهندية، أكثر من سبعة عشر عضوا بين سبعمائة وخمسة وستين (سنة 1905).
رجل عمل
وفضل الزعيم الكبير أنه كان رجل عمل، ولم يكن رجل شكوى وانتقاد وكفي، فأول ما عمله لإصلاح هذه الحالة السيئة أنه أسس كلية «عليجرة» على النظام الحديث للتعليم العالي والدراسات الجامعية، وهذه الكلية هي التي أنجبت قادة الأمة الإسلامية في الهند إلا العدد القليل ممن حافظوا على التعلم في المدارس الدينية، ومن مصائب الدنيا أن هذا العمل الجليل الذي عرفت آثاره اليوم كان مثار السخط على الرجل بين الجامدين أنصار القديم، فأشاعوا بين أتباعهم أن السيد أحمد خان صنيعة للإنجليز، وأنه زنديق يريد تكفير شبان المسلمين، ويبيع ضميره في سبيل الوظائف والزلفى عند ولاة الأمور، ولم يغنه مع هؤلاء الجهلاء ما هو معلوم من رفضه كل منحة مالية تبرع بها الإنجليز لمكافأته على أثر الفتنة، وقد كان يرفض تلك المنح مع ضيق الحال به يومئذ حتى هم بالهجرة إلى مصر؛ كما قال في خطاب وصف به عواقب الفتنة وسوء منقلب المسلمين بعدها.
إلا أن قلبه الكبير لم يستسلم قط لليأس في أحرج الأوقات فمضى في تأسيس الكلية، وجعل شعاره في الإصلاح الاجتماعي كلمة واحدة كررها ثلاث مرات وهي: «علم، ثم علم، ثم علم» ودع كل شيء بعد ذلك لما يثمره التعليم.
أما في ميدان السياسة فقد أعلن رأيه منذ سنة 1883 عند الكلام على المجالس المحلية فقال في خطاب صراح: «إن نظام التمثيل بالانتخاب يعني تمثيل مصالح الكثرة وآرائها، وهو خير الأنظمة ولا ريب حيث يكون السكان من جنس واحد وعقيدة واحدة، ولكنه ... في بلاد كالهند حيث فواصل الدين على أشدها، وحيث التعليم لم يجر على سواء بين طوائف السكان، يقترن بأضرار جمة لا تنحصر في الشئون الاقتصادية ... وما دامت فوارق الجنس والعقيدة وحواجز الطبقة تعمل عملها الخطير في حياة الهند الاجتماعية السياسية، وتسيطر على سكانها في المسائل التي ترتبط بالإدارة والثروة ... فليس من المستطاع الاعتماد على النظام الانتخابي بمأمن من العواقب؛ لأن الطائفة الكبرى ستغمر الطائفة الصغرى، ويذهب الجمهور الجاهل مذاهب في اعتبار الحكومة مسئولة عن كل تصرف من شأنه أن يزيد مشكلات الجنس والعقيدة شدة على شدة ...»
عاش السيد أحمد بعد أن أعلن هذا الرأي خمس عشرة سنة، لم يحدث في خلالها ما يحمله على تغيير رأيه أو تعديله، بل كان كل ما حدث في هذه الفترة مضاعفا لمخاوفه مؤيدا لاعتقاده، فراجت في الهند الشمالية دعوة «آريا سماج»، وأعلن الزعيم البرهمي طيلاق دعوة «شيفاجي» التي تنادي بتخليص الهند من الإنجليز والمسلمين الأجانب، وتعتبر المسلمين جميعا «ميلاش»؛ أي دخلاء، وتصايح من هنا وهناك بعض الدعاة بإبطال اللغة الأردية وحذف الكلمات الفارسية والعربية التي دخلت في اللغة الهندية، ومات الزعيم الكبير وهو أشد ما يكون يقينا بأن قضية الهند لا تحل إلا على قاعدة واحدة، وهي اعتبارها قضية قومين أو أمتين.
طريق النصر
Page inconnue
ولمن يشاء على نحو من أنحاء التعبير أن يقول: إن الزعيم البرهمي طيلاق كان شريكا قويا لأحمد خان في تدعيم بناء الباكستان، وإن تحريضه في هذا الباب كان أقوى من حض الزعيم المسلم مع اختلاف المقصد والواسطة، فما من أحد من رواد الباكستان عمل على إقناع المسلمين بضرورة الانفصال كما عمل طيلاق، ولا نحسب أن هذه الخطة كانت طيشا من الرجل أو جهلا منه بالعواقب، ولكنه على الأرجح علم أن النزعة الوطنية وحدها لا تكفي لتنبيه أبناء قومه وإيقاظ نخوتهم؛ فعمد إلى نزعة تستثار بها القوة في طبائعهم؛ وهي نزعة العقيدة التي تمتزج بعاداتهم وموروثاتهم وأحوال معيشتهم، وتعمد أن يلهبها ويستفز النفوس من جانبها غير جاهل بالعواقب أو مندفع مع الطيش والرعونة، فهجم وهو يقصد الهجوم ويحسب أنه دون غيره طريق النصر المرسوم.
على أن السيد أحمد خان قد أثبت في حياته وبعد مماته أنه كان بحق مربي قادة ومربي أمم، فإنه أخرج من مدرسته تلاميذ يستقلون بالرأي، ولا ينقادون ليقين أستاذهم انقياد المقلد المتبع الذي يمشي وراء دليله مغمض العينين؛ فما من واحد من خريجي عليجرة أو مريديه المقربين إلا وقد اجتهد في قضية الوحدة اجتهاده، وعالج ما استطاع أن يوحد أقوامه وبلاده، وما من واحد منهم قد بدأ من حيث انتهى الزعيم الكبير، بل عاد كل منهم إلى أول الطريق يبدؤها حيث قدر أنه واصل إلى الغاية التي التوت على زعيمه، ونهج كل منهم نهجه غير مقلد لزعيمه، ولا مقلد لعامل آخر من زملائه وأبناء مدرسته.
كان بحق مربي قادة ومربي أمم، وصدقت فراسته حين لخص القيادة النافعة كلها في كلمة واحدة: وهي «علم ثم علم ثم علم» ... وليست هناك قيادة لا تضل بصاحبها أقوم من قيادة التعليم.
أما تربيته الأمم فقد ظهرت في بعثه الحياة بين قومه في زمرة أنصاره وخصومه، وقد عيب عليه بلسان أقرب المقربين إليه أنه كان مفرطا في الصراحة، عنيدا في الحق، صلبا في مقارعة المعارضين بالحجة الواضحة وإن كانت مؤلمة جارحة، ولكن هذه الصراحة التي لا تعرف المواربة هي التي ابتعثت القوة والثقة في معسكره ومعسكر خصومه، فمات والمعسكران معا في حركة دائمة واستعداد متجدد، واستفادت أفكاره ممن أيدوها وممن فندوها على السواء، وكان كل تلميذ له يعمل وكل معارض له يعمل، وكل عمل يثمر بعض الثمرة، ويغرس من ثمرته شجرة نامية وارفة الظلال.
الشاعر «ألطاف»
من مريديه الذين والاهم بعطفه وتأييده الشاعر ألطاف حسين «حالي» الملقب بشمس العلماء، وقد فطن السيد لعبقريته، وعلم فضل الشعر في تربية الأقوام الناهضة؛ فاقترح عليه أن ينظم ملحمة شعرية مطولة في تقدم الإسلام وتأخره، فنظمها وأهداها إلى كلية عليجرة، وعرفت باسم المسدسات، واستظهرها كثير من شبان عصره وشيوخه، وكان «الحالي» صوفيا على مذهب محيي الدين ابن عربي في حب جميع الناس ومصافاة جميع الأمم، يقول كما قال محيي الدين:
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
بل كان فضل النبي الأكبر كما قال في ختام قصيده «إنه صديق كل نفس إنسانية، عطوف على القريب والبعيد، سواء عنده المكي، والزنجي، والشامي، غفور للمسيء، يسدي الخير حتى إلى فاعلي الشرور.»
وكانت له قصيدة في الوطنية يقول فيها: «إن أردت خيرا لوطنك فلا تنظر إلى أحد من أبنائه نظرة الغريب، سيان المسلم والهندستاني، والبوذي، والبرهمي، فارعهم جميعا بعين الحب وسو بينهم كما تسوي بين إنساني عينيك.»
Page inconnue
وفي إحدى مسدساته يقول عن القرآن: «أول ما نتعلمه من كتاب الهدى أن الناس جميعا أسرة الله، وأنه لا يحب الله إلا من يحب خليقته، ذلك هو الإخلاص الحق وتلك هي العقيدة والإيمان، أن يكون الإنسان في عون الإنسان.»
وفي مقطوعة أخرى يقول: «دع الشحناء مع من يدين بغير دينك ... وأحجم عن الأذى، وقابل الأذى بالإحسان، وليأت بعد ذلك من يقول إن الدنيا جهنم فلينظر إلى هذا الفردوس.»
وقد عمل الشاعر على التقريب بين الأمتين بالتقريب بين اللغتين، فنظم مقاطيع من الشعر في لغة يفهمها المتكلمون بالأردية والمتكلمون بالهندستانية، وقيل إن غاندي قرأ قصيدته «شكوى الأيم» فقال: «لو تكلم أهل الهند يوما بلغة واحدة فبهذه اللغة يتكلمون»، وكتب في مقدمة ديوانه أن المسلمين يحسنون صنعا لو استغنوا عن الكلمات الغامضة من العربية والفارسية، وأن الهندستانيين خلقاء أن يتعلموا الأردية؛ لأنها هندستانية متطورة.
وهذا مثل من العاطفة الدينية الصوفية التي كان شعراء الإسلام من بيئة السيد أحمد يواجهون بها قضية الوحدة.
وإذا كان «الحالي» قد واجه قضية الوحدة بالروح الصوفية؛ فقد واجهها الأخوان محمد علي وشوكت علي بالروح الرياضية، وأيد محمد علي حركة المقاطعة التي قام بها غاندي بفتوى دينية تحرم على المسلمين خدمة الشرطة والجيش، ونادى بأن سياسة أستاذه السيد أحمد التي تقوم على محاسنة الدولة البريطانية قد انقضى عهدها، ووجب على العاملين في سياسة الهند أن يحاربوا تلك الدولة بكل ما يستطيعون، ثم انتهى الأمر بعودته إلى رأي أستاذه في قضية الوحدة، فقال في المؤتمر الإسلامي قبل غاندي بأكثر من ربع قرن: «إننا نعارض غاندي؛ لأن حركته ليست بالحركة التي ترمي إلى استقلال الهند كلها، وإنما هي حركة يراد بها أن يظل السبعون مليونا من المسلمين عالة على جماعة «المهاسبها» ... وهي الجماعة المتطرفة التي جاهرت غير مرة بأن الحل السريع لمشكلة الهند هو استئصال من فيها من المسلمين.
الشاعر إقبال
ومن تلاميذ السيد أحمد رواد الباكستان الشاعر محمد إقبال، الذي اشتهر باسم شاعر الإسلام، فقد كان أبناء قومه، يسلكونه بين غلاة الوطنيين «الناشو ناليست» طلاب الوحدة، فما زال مع الزمن حتى آمن باستحالة الوحدة. ودعي مرة إلى محفل «منيرفا» المشترك بين أبناء جميع الأديان والأقوام، فكتب إلى الداعين (في سنة 1909) يقول: «لقد كنت أرى وأعتقد أن الخلافات الدينية ينبغي أن تمحى في هذه البلاد، ولا أزال أعمل لذلك في حياتي الخاصة، ولكنني أجد اليوم أن محافظة كل من الأمتين على كيانها مطلوب بين المسلمين والهندستانيين، وأن الوطن الموحد في الهند لمن الأحلام الجميلة التي تروق الأمزجة الشعرية، ولكنه عند النظر إلى الأحوال الحاضرة والنزعات الباطنة في ضمائر الأمتين يبدو غير قابل للتحقيق.»
وقد تخرج من عليجرة وغيرها رواد كثيرون لفكرة الباكستان، كلهم اجتهدوا في الوحدة، وكلهم آمنوا باستحالتها، ولعل صاحب الترجمة - القائد الأعظم - كان آخر من بقي على أمل الوحدة بين أولئك الرواد، وهذه هي العبرة ذات الدلالة الكبرى في هذا الباب.
إلا أن حركات الجماهير أعمق في الدلالة على ضرورة الباكستان من هذا التطور في آراء القادة والزعماء. وقد أسلفنا أن الجماهير ألهمت بالفطرة ما قرره القادة والزعماء بالروية والاستقراء بعد طول العناء، ولكننا لا نقصد بذلك أن الجماهير قد اندفعت في وجهتها اندفاعا لا علة له ولا تردد في مقدماته ودواعيه؛ إذ الواقع أن علة هذا الاتجاه في الجماهير أوضح من علل التطور في عقول قادتها وزعمائها، وإنما الفرق بينها وبينهم في اتجاهها أنها تنقاد للسبب المعقول ولا تعلم أنه سبب انقيادها، ولكنه سبب معقول على كل حال.
العصبة الإسلامية
Page inconnue
فلما أسست العصبة الإسلامية (سنة 1906) كان تأسيسها تلبية لشكوى المسلمين في الأقاليم التي هم قلة ضئيلة فيها إلى جانب الهندستانيين أو البرهميين والبوذيين، ولم يقبل عليها المسلمون الذين هم كثرة في أقاليم إلا بعد فترة غير قصيرة، وكانت جماعة «المهاسبها» التي تقدم ذكرها هي الحافز لهم على الاعتصام بالعصبة، والاحتراس من عاقبة الاندماج في وطن واحد يسمع فيه صوت هذه الجماعة بين أقوى الأصوات الغالبة على نفوس جماهيره.
فالقلة الهندستانية في الأقاليم الإسلامية تمادت في تعصبها الذميم إلى أقصى حدوده، وثبت من إحصاءات الاشتراك في العصبة الإسلامية أنها لم تنتشر بين تلك الأقاليم عند تأسيس العصبة، ولكنها بلغت غاية الانتشار بعد ثورة «المهاسبها» وتوقح كتابها وخطباؤها على مقدسات الدين الإسلامي؛ ومنها كرامة نبيه عليه السلام، وجعلت مكانة العصبة بين أهل تلك الأقاليم تتوطد وتستقر كلما تجاوبت أرجاء الهند بتلبية «الدعاية» الهوجاء التي انتهت بمقتل «المهاتما» الهندي؛ لأنه أنكر على الجماعة تعصبها الذميم.
وأعمق من حركات الجماهير الإسلامية وأطوار القادة والزعماء في الدلالة على استحالة الوحدة؛ أن المنبوذين أنفسهم - وهم من أعرق السكان في الهند - قد اتخذوا مع حزب المؤتمر موقفا كموقف العصبة الإسلامية، بل أشد لددا في الخصومة، وأعلن زعيمهم الدكتور (امبدكار) أن عناية غاندي بالمنبوذين إنما هي عناية يريد بها أن تستقل الهند خالصة لقومه، وأن قومه بالنسبة إلى المنبوذين كالأوروبيين بلا خلاف. وأصر الدكتور امبدكار على هذا الموقف بعد الوصايا المتكررة من غاندي بإنصاف المنبوذين، وتسميتهم باسم الهاريجان؛ أي أبناء الله. وقد يمهد له العذر في إصراره أن وزارة المؤتمر بمدراس - وهي وزارة يؤيدها ستة وعشرون من النواب المنبوذين - رفضت قرار اقترحه الزعيم «راجاه» يبيح للمنبوذين دخول المعابد الهندية، ولولا أن هؤلاء المنبوذين لا تضمهم في الهند أماكن قابلة للاستقلال، وأنهم هم أنفسهم مستسلمون لقسمتهم؛ لأنها جزء من عقيدتهم، لوجدت في الهند دولة منبوذة مستقلة يسكنها أربعون مليونا أو يزيدون.
العالم الإسلامي
كانت الحركات التي تجاوبت بها أرجاء العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر عاملا في توجيه قضية الباكستان إلى الوجهة التي تدرجت في الاتجاه إليها حتى استقرت عند منتصف القرن العشرين على وضعها الأخير.
وكانت حوادث العالم الإسلامي خارج الهند لا تقل عن حوادث الهند الداخلية في تحويل أنظار مسلميها رويدا رويدا إلى ضرورة الاستقلال بحكومة منفصلة، وهي حكومة الدولة التي عرفت الآن باسم دولة الباكستان.
وكانت الحوادث الخارجية والداخلية معا ترسم مصير القضية وتقرره وتقيم له حدوده، حتى أصبح ذلك المصير كما قدمنا حلا مفروغا منه متفقا عليه بين القادة والجماهير، فلا حاجة به إلى تلك المؤثرات البلاغية أو السياسية التي يلجأ إليها القادة كثيرا لإقناع أتباعهم بما هم معتنقون به، ولكنهم يستجيشون لها شعور الجماعات تهيئة لقبوله على النحو الذي تتهيأ له نفوس الجماعات.
وكان القرن التاسع عشر منذ أوله فترة قلق شديد في بلاد العالم الإسلامي من أقصى أطرافها إلى أقصاها، وتلاحقت فيه الدعوات بغير انقطاع في كل أمة على النهج الذي يناسبها، فلم يخل بلد واحد في العالم الإسلامي من دعوة أو من حركة أو من ثورة، وكلها تطلب التغيير ولا ترضى بالواقع الذي صارت إليه.
وتجتمع تلك الدعوات جميعا في خصلة واحدة على تباين أشكالها وغاياتها، وهي أنها جميعا كانت «رد فعل» سريع لطغيان الاستعمار الأوروبي على الأقطار الشرقية، وقد ذهبت حملات الاستعمار حينا باستقلال أمم، وأضعفت أحيانا كيان الأمم التي بقيت مستقلة، وكشفت لهذه وتلك عن سوء حال لا قرار عليه.
ووقع في النفوس حيث اصطدم المسلمون بسلطان الدول المستعمرة أنهم أصيبوا بما أصيبوا به من جراء الفساد والفسوق والانحراف عن أحكام الدين، فلو عملوا بأحكام دينهم لما اصطلحت عليهم عوامل الضعف، ولا نزل بهم ذلك العقاب جزاء وفاقا من الله.
Page inconnue