Le procès de Gilgamesh
هو الذي طغى: محاكمة جلجاميش: في عشر لوحات درامية
Genres
ويذكر ثبت الملوك السومريين - المدون في بداية الألف الثانية قبل الميلاد - أنه الملك الخامس في ترتيب حكام هذه المدينة التي كانت من أهم المدن السومرية التي «نزلت عليها نظم الملكية من السماء» بعد الطوفان، وآلت إليها السيادة على سائر المدن السومرية بعد انتصارها على مدينة «كيش» وإن لم يتوقف الصراع بعد ذلك بينهما. وقد نسب إليه بناء سورها العظيم الذي أشادت بذكره الملحمة في بدايتها وخاتمتها بوصفه أحد أمجاده التي كفلت له نوعا من الخلود المتاح للإنسان بعد إخفاقه المأساوي في التوصل للخلود الذي تمناه وسعى إليه، واقتنع في النهاية بأن الآلهة قد استأثرت به دون البشر. وقد رجح العلماء، بعد فحص الأطلال الباقية من هذا السور والاطلاع على المأثور الغني عن شخصية جلجاميش، أنه قد عاش بين سنتي 2750 و2600 قبل الميلاد، وأنه كان أقوى الملوك السومريين في فترة حافلة بالصراعات الدامية بين دول المدينة التي أسسوها، وبالصراع بعد ذلك مع الأكديين الساميين الذين كانوا قد استقروا في شمال وادي النهرين قبل أن يتمكنوا بقيادة سرجون العظيم (من حوالي 2334ق.م. إلى حوالي 2279ق.م.) وحفيده نارام سين (2254-2288ق.م.) من توحيد البلاد بأجمعها تحت حكمهم.
تراكم حول شخصية جلجاميش مأثور ضخم من القصص والحكايات العجيبة عن استبداده بشعبه، وصداقته النادرة المؤثرة ل «وحش البرية» إنكيدو، ومغامراته معه وأسفاره التي انطلق إليها بعد موته بحثا عن سر الحياة والموت والخلود، ثم رجوعه إلى وطنه ومسقط رأسه بعد أن «تطهر» واقتنع بالحدود التي لا يجوز لإنسان أن يتخطاها، مهما صور له الكهنوت أن «ثلثيه إلهي، والثلث الباقي بشري فان».
ويبدو أن هذا المأثور الذي اختلطت فيه العناصر الأسطورية بالتاريخية قد نشأ في عصر مبكر، وربما سبق اكتشاف السومريين للكتابة بالخط المسماري على الألواح الطينية بزمن طويل؛ ولذلك يحتمل أن يكون الناس قد تناقلوه شفاها وشكل وجدانهم قبل البدء في تدوينه في العصر البابلي القديم خلال القرون الأولى من الألف الثانية قبل الميلاد. ولما كانت الشواهد القليلة المتبقية من الأدب السومري قبل سنة 2100ق.م. شديدة الغموض والتشوه، فلا نكاد نعرف شيئا عن ذلك المأثور قبل هذا التاريخ، غير أن هنالك ما يدل على نهضة متأخرة للثقافة السومرية في حدود هذا التاريخ ؛ أي في عهد ملوك سلالة أور الثالثة (من حوالي 2112ق.م. إلى حوالي 2004ق.م.)، كما يدل على نوع من الرخاء الاقتصادي الذي شجع على نمو هذه النهضة التي أثمرت معظم الأشكال الشعرية والأسطورية التي وصلتنا من أدب السومريين، وبدأ نسخها وتدوينها بلغتها الأصلية أو في ترجمتها الأكدية البابلية قبل سنة 1700 قبل الميلاد وبعدها. وقد كانت «جلجاميش» أشبه بواسطة العقد في هذا المأثور المجهول المؤلف، شأنها في ذلك شأن معظم ما وصلنا من التراث السومري والبابلي، والذي يهمنا من هذا المأثور هي القصص السومرية الخمس التي تدور حول شخصية جلجاميش.
4
وقد استطاع عالم السومريات صمويل كريمر - بمساعدة عدد من زملائه وتلاميذه مثل فلكنشتين وجاكوبسين - أن يجلو غوامضها ويترجم معظم شذراتها التي وضع لها هذه العناوين: جلجاميش وأرض الأحياء، جلجاميش وثور السماء، جلجاميش وأجا حاكم كيش، جلجاميش وإنكيدو والعالم السفلي، ثم موت جلجاميش. ومع أن العبقرية البابلية قد نسجت من هذه القصص المتفرقة ومن مأثورات أخرى عملا مبدعا متكاملا، فإن هذا لا يقلل من تأثيرها على كاتب الملحمة الشهيرة أو كتابها الذين أفادوا بغير شك من بعضها، وبخاصة القصص الأولى والثانية والرابعة، وأغفلوا الثالثة والخامسة تماما. ولا بد أنهم قد أخذوا أيضا من مأثورات سومرية أخرى لا نكاد نعرف عنها شيئا، أو من مأثورات وصلتنا في صورة مشوهة، كما فعلوا مع قصة الطوفان التي تؤلف اللوح الحادي عشر وأقحموها على الملحمة، ومع اللوح الثاني عشر الذي لا يخرج عن كونه ترجمة حرفية لجزء من إحدى القصص التي ذكرناها، وهي قصة جلجاميش وإنكيدو والعالم السفلي. وأيا كان الأمر فقد حان وقت التعريف القصير بمضمون القصص الثلاث التي تعد أحد الأصول الهامة التي تقوم عليها الملحمة. •••
تبدأ القصة الأولى - وهي جلجاميش وأرض الأحياء - بالقرار الذي اتخذه بطلنا المغامر بالسفر إلى أرض الأحياء «ليصنع له اسما عظيما». ويحدث «خادمه» إنكيدو - الذي أصبح في الملحمة البابلية رفيق دربه وأعز أصدقائه، بل صديقه الأوحد! - برغبته التي صمم عليها، فينصحه بأن يتوجه بالصلاة والدعاء لإله تلك الأرض ، وهو إله الشمس أوتو (الذي سيصبح إله الشمس والعدل البابلي شمش). ويقدم جلجاميش التضحية للإله، ويتضرع إليه أن يعينه في سفره ويشد أزره في الصراع المقبل عليه، ويبتهل إليه أن يساعده على أن يصنع لنفسه اسما يخلد ذكره، وينتشله من الفناء المحتوم على البشر. ويوافق «أوتو»، ويعده بحبس «الأبطال السبعة» الذين يحرسون تلك البلاد النائية في الكهوف. ويختار جلجاميش خمسين رجلا من شباب مدينته المتطوعين لمرافقته في رحلته، بعد أن يشترط عليهم ألا يكونوا قد كونوا أسرا بعد. ويبدأ البطل مغامرته بعد التزود بالسلاح الضروري من الحداد. وبعد اجتياز سبعة جبال وعرة يطوقه النوم العميق فلا يوقظه إنكيدو إلا بعد جهد جهيد، ويقسم جلجاميش بأمه نينسون وبأبيه لوجال بندا أنه لن يرجع أدراجه قبل قتل «الرجل»، ويحذره إنكيدو من سحر ذلك الرجل وقوته الشيطانية، ويلح عليه أن يرجع إلى وطنه، لكن جلجاميش يصر على القرار الذي صمم عليه. ولا يلبث حواوا (وهو نفسه المارد خمبابا الموكل بحراسة غابة الأرز في الملحمة) أن يلمح المتطفلين على أرض الأحياء، غير أنه لا يتخذ أي خطوة جادة لمنعهم من قطع أشجاره. ويفرغ الرجال الخمسون من قطع أشجار الأرز وإعدادها للنقل، ويصل جلجاميش إلى «حجرة» حواوا أو مأواه الذي يختبئ فيه، ويطلق منه تضرعاته لجلجاميش بأن يبقي على حياته. ويبدي هذا استعداده - كما في الملحمة تماما - للاستجابة شفقة عليه. غير أن إنكيدو يحذره من شر «نمتار» - وهو شيطان، أو إله من العالم السفلي مختص بالأوبئة - الذي يمكن أن يصيبهم أذاه. عندئذ يسب حواوا «الخادم» إنكيدو، ويصفه بأنه مرتزق أجير، وأنه قد تكلم ضده بالشر. وعندما قال هذا قطعا رأسه، وحملا جثته للإله إنليل الذي أقامه حارسا على أرضه ولزوجته ننليل (وإنليل هو إله العواصف الغضوب، ورب مدينة نيبور أو نفر السومرية القديمة التي عثر فيها على بعض ألواح الملحمة).
هنا يتوقف النص الأصلي لهذه القصة التي عبث الزمن بالألواح التي نقشت عليها وملأها بالثغرات والفجوات. والملاحظ على وجه المقارنة أن الملحمة البابلية تروي قصة الحملة على أرض الأحياء وغابة الأرز بمزيد من التفصيل في الثالث والرابع والخامس من ألواحها التي لم يرحمها الزمن كذلك من التشوه! ولا شك أن كاتب الملحمة قد تأثر بهذه القصة وبغيرها، وطور عناصرها في بناء محكم، وأبرز أهم هذه العناصر - وهو حرص جلجاميش على الشهرة وخلود الاسم - في أكثر من وضع، كما جعله كاتب هذه السطور أحد المفاتيح الهامة لفهم شخصية البطل الأناني المستبد، وتفسير طغيانه بشعبه وأهله، ولا سيما قبل موت صديقه الصدوق وانطلاقه بحثا عن الخلود لنفسه وشعبه والإنسان بوجه عام. •••
وتأتي القصة السومرية الثانية التي يناظر مضمونها في خطوطه العريضة مضمون اللوح السادس من الملحمة البابلية. ومن المؤسف أن النص الأصلي قد وصلنا في حالة تشوه شديد، بحيث لا نملك إلا الحدس بمضمون البقية الباقية التي تبدأ سطورها بعد فجوة كبيرة يبدو من سياق النص ومن الملحمة أيضا أنها كانت تدور حول العرض الذي تقدمت به ربة الحب والحرب إلى جلجاميش ليكون زوجها وزينة بيتها وعربتها المزدانة بالذهب واللازورد. وما إن تشرع إينانا (وهي نفسها ربة الحب السومرية التي سماها البابليون عشتار) في وصف المنح والهدايا التي تعد بها جلجاميش مقابل الزواج منها، حتى ينقطع النص مرة أخرى ويمتلئ بالثغرات، ولا نجد شيئا يدل دلالة واضحة على رفض جلجاميش للعرض المغري؛ ولذلك تتجه إلى أبيها آنو إله السماء لتشكو إليه وتلح عليه أن يسلمها الثور السماوي لتنتقم من جلجاميش. ونفهم من النص أن الأب يرفض طلبها، وأنها ستلجأ لكبار الآلهة في مجمعهم الخالد إن لم يستجب لدعائها. وعندئذ ينتابه الخوف (ولا نعرف من النص إن كان قد أشفق على مصير سكان أوروك من الثور الهائل كما نجد في الملحمة، أم على مصير الكون كله)، ويسمح لها بتسلم الثور والهبوط به إلى الأرض، فترسله إلى أوروك التي يلحق بها أفظع الكوارث (كالموت والقحط والجفاف التي اقترنت باسمه في تفسير بعض الباحثين).
وقد بقيت من النص أجزاء أخرى شحيحة، من أهمها قطعة تسجل جانبا من حديث إنكيدو مع جلجاميش. ولا شك أن القصة الأصلية قد روت مصرع الثور على يد البطلين، ولكننا لا نعلم إن كانت قد انتهت بهذا الخبر أو استمرت في رواية الأحداث التي نعرفها. والمرجح أن القصة لم تذكر الشتائم المهينة التي صبها كاتب الملحمة - على لسان جلجاميش - على رأس الربة الجميلة، كما أنها فيما يبدو لم تتطرق لغضب الآلهة - وبخاصة إنليل - على إنكيدو لتجديفه في حقهم، ولا لجرحه المهلك الذي تسبب في موته، وعبر بذلك عن عقدة الحبكة الدرامية التي أطلقت مأساة البطل المفزوع من «حظ البشر المحتوم»، والباحث عن الخلود لنفسه ثم للبشر المساكين. •••
ونصل إلى القصة الرابعة التي أثرت تأثيرا واضحا على اللوح الثاني عشر الذي يجمع العلماء، على أنه مقحم على الملحمة، ولا ينتمي إليها انتماء عضويا كما نقول اليوم. وعنوان هذه القصة هو «جلجاميش وإنكيدو والعالم السفلي»، وهي تبدأ - شأنها شأن كثير من القصص الشعرية والأساطير السومرية القديمة - بالتذكير بأسطورة الخلق أو التكوين السومرية؛ إذ نجدها تتحدث في البداية عن فصل السماء عن الأرض بقوة إله السماء آنو وإله الرياح إنليل، كما تتطرق باختصار للصراع بين إله المياه العذبة «إنكي» وإله العالم السفلي أو وحشه المخيف «كور»، ثم تحكي بعد ذلك عن شجرة ضخمة، لعلها كانت شجرة صفصاف على شاطئ الفرات، وكيف أوشك الطوفان والعواصف أن يقتلعاها من جذورها. ويتصادف مرور إلهة الحب إينانا بهذا المكان، فتشفق على الشجرة وتحملها معها لكي تغرسها في بستانها المقدس في مدينة أوروك. وتعنى الإلهة العطوف بالشجرة وتتعهدها بالرعاية، على أمل أن تصنع منها في المستقبل سريرا تنام عليه وكرسيا يليق بها. غير أن الأيام لم تشأ أن تحقق حلمها الجميل؛ إذ نمت الشجرة وصارت جذوعها مأوى لحية عظيمة لم ينفع السحر في إخراجها منه، كما أصبحت أطراف فروعها مسكنا لطائر العاصفة الإلهي الذي بنى عشه فوقها، وغدت ساقها القوية بيتا للشيطانة أو الروح الشريرة ليليت. تعذر على إلهة الحب الرقيقة أن تقطع الشجرة، فراحت تبكي بكاء مرا وهي تبث شقيقها إله الشمس أوتو حزنها، وتروي له المصير الذي آلت إليه شجرتها. ويبدو أن جلجاميش سمع شكاتها وقرر أن يمد لها يد العون، فأمر بتجهيز درع زنته خمسون رطلا، وبلطة زنتها أربعمائة رطل، وهجم على الحية الجبارة التي تربض في جذع الشجرة فقتلها. وكان أن طار طير العاصفة وهربت الشيطانة مذعورين، وتمكن جلجاميش وأتباعه من قطع الشجرة وتسليمها لإينانا لتصنع من خشبها الكرسي والسرير، وأرادت الإلهة المحبة أن تكافئ جلجاميش على صنيعه، فأعدت له طبلة وعصا يدق بها عليها (ويبدو أن البطل قد أساء استعمالهما - كما يعلمنا الكاتب البابلي - في استغلال شعب أوروك في أعمال السخرة وتأكيد سطوته عليهم، كما نرى في اللوح الثاني من ألواح الملحمة سطر 142 وبعده، وفي بداية اللوح الثاني عشر من سطر 1-20)، ثم تأتي هذه العبارة الدالة التي لا نشك في أن الشاعر البابلي قد اعتمد عليها في تصوير طغيان جلجاميش قبل أن «يتحول» بعد موت صديقه ذلك التحول الذي أدى به إلى «التطهر» في نهاية الملحمة: «وبسبب صراخ البنات الصغيرات سقطت الطبلة والعصا في العالم السفلي.»
Page inconnue