20 «نعم يا سيدي، ولكنه عدوهم الأكبر ومناظرهم الحقود، يملأ أيامهم بالتعاسة، ولياليهم بالأحلام المخيفة، فهو القوة التي تحول العاصفة نحو أكواخهم، وتحرق بالغيظ مزارعهم، وتقرض بالأوبئة مواشيهم، وتلامس بالأمراض أجسادهم، هو إله قوي شرير خبيث، يضحك لشقائنا، ويكتئب لأفراحنا، فعلينا أن نتفحص أطباعه لنتقي شره، وندرس أخلاقه لنبتعد عن سبل احتياله.»
فأسند الزعيم رأسه على نبوته، وهمس قائلا: «قد عرفت الآن ما كان خافيا عني من أسرار تلك القوة الغريبة، التي تحول العاصفة نحو منازلنا، وتقرض بالأوبئة مواشينا ، وسوف يعرف البشر كافة ما أعرفه الآن فيطوبونك يا لاويص؛ لأنك أبنت لهم خفايا عدوهم القوي، وعلمتهم كيف يتقون حبائله.»
وانصرف لاويص من أمام زعيم القبيلة، وذهب إلى مرقده فرحا بذكاء فكرته، نشوانا بخمرة خياله، أما الزعيم ورجاله فقد صرفوا تلك الليلة يتقلبون على مراقد محاطة بالأشباح المخيفة، والأحلام المزعجة.»
وقف الشيطان الجريح دقيقة عن الكلام، والخوري سمعان يحدق فيه، وفي عينيه جمود الحيرة والاستغراب، وعلى شفتيه ابتسامة الموت.
ثم استأنف الشيطان الكلام قائلا: «كذا ظهرت الكهانة في الأرض، وهكذا كان وجودي سببا لظهورها، وقد كان لاويص أول من اتخذ عداوتي صناعة، وقد راجت هذه الصناعة بعد موت لاويص بواسطة أبنائه وأحفاده، فنمت وتدرجت حتى صارت فنا دقيقا مقدسا لا يتخذه غير أصحاب العقول المختمرة، والنفوس الشريفة، والقلوب الطاهرة، والخيال الواسع.
ففي «بابل» كان الناس يسجدون سبع مرات أمام الكاهن الذي يحاربني بتعاليمه، وفي «نينوى» كانوا ينظرون إلى الرجل الذي يدعي معرفة أسراري وخفاياي كحلقة ذهبية بين الآلهة والبشر، وفي «ثيب» كانوا يلقبون من يصارعني بابن الشمس والقمر، وفي «بابلس» و«افسس» و«أنطاكية» كانوا يضحون أبناءهم وبناتهم إرضاء لخصمي، وفي «أورشليم» و«رومة» كانوا يضعون أرواحهم في قبضة من يتفنن في كرهي وإبعادي. في كل مدينة ظهرت أمام وجه الشمس كان اسمي محورا لدوائر الدين والعلم والفن والفلسفة، فالهياكل لم تقم إلا في ظلالي، والمعاهد والمدارس لم تظهر بغير مظاهري، والقصور والبروج لم ترتفع إلا برفعة منزلتي، فأنا العزم الذي يولد العزم في البشر، وأنا الفكرة التي تستنبت الحيلة في الأفكار، وأنا اليد التي حركت أيادي الناس، أنا الشيطان الأزلي الأبدي! أنا الشيطان الذي يحاربه الناس ليظلوا عائشين، وإذا كفوا عن منازلتي يوقف الخمول أفكارهم، ويميت الكسل أرواحهم، وتفني الراحة أجسادهم! أنا الشيطان الأزلي الأبدي! أنا عاصفة هوجاء خرساء، أهب في أدمغة الرجال، وصدور النساء، وأجرف أميالهم إلى الأديرة والصوامع، ليمجدوني بخوفهم مني، أو إلى منازل البغي والخلاعة، ليفرحوني باستسلامهم إلى مشيئتي، فالراهب الذي يصلي في سكينة الليل، لكي أبتعد عن مضجعه، هو كالمومسة التي تناديني لكي أقترب من مضجعها، أنا الشيطان الأبدي! ... أنا باني الأديرة والصوامع على أسس الخوف، وأنا مقيم الخمارات وبيوت الفحش على أسس الشهوة واللذة! فإن زال كياني، زال الخوف واللذة من العالم، وبزوالهما تضمحل الميول والأماني في القلب البشري فتصبح الحياة خالية مقفرة باردة كقيثارة مقطعة الأوتار مكسرة الجوانب، أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا موحي الكذب والنميمة والاغتياب والغش والسخرية، فإذا انقرضت هذه العناصر في العالم أصبحت الجامعة البشرية كبستان مهجور لا تنبت فيه سوى أشواك الفضيلة، أنا الشيطان الأزلي الأبدي! أنا أبو الخطيئة وأمها، فإذا زالت الخطيئة زال محاربوها، وزلت أنت أيضا، وزال أبناؤك وأحفادك وزملاؤك ورصفاؤك،
21
أنا أبو الخطيئة وأمها، فهل تريد أن تموت الخطيئة بموتي؟ هل تريد أن تقف الحركة البشرية بوقوف نبضات قلبي؟ هل تريد أن تمحو السبب لتمحى المسببات؟ أنا هو السبب الوضعي، فهل تريد أن أموت في هذه البرية؟ أجبني أيها اللاهوتي؟ هل تريد أن تنتهي العلاقة الأولية الكائنة بينك وبيني؟»
وبسط الشيطان ذراعيه، وألوى عنقه إلى الأمام، وتنهد طويلا فظهر بلونه الرمادي المائل إلى الاخضرار، كأحد تلك التماثيل المصرية التي أبقاها الدهر مطروحة على ضفاف النيل، ثم حدق بوجه الخوري سمعان بعينين مشعشعتين كالمسارج وقال: «لقد أنهكني الكلام، وكان الأحرى بي، وأنا جريح منازع، ألا أطيل معك الحديث، ومن العجيب أني قد استرسلت بإظهار حقيقة أنت أدرى بها مني؛ وبيان أمور هي أدنى إلى صالحك منها إلى صالحي. أما الآن، فلك أن تفعل ما تشاء، لك أن تحملني على ظهرك وتذهب بي إلى منزلك لتداوي جراحي، أو أن تتركني في هذا المكان؛ لأنازع وأموت.»
وكان الشيطان يتكلم، والخوري سمعان يرتعش، ويفرك يدا بيد، وبصوت تعانقه الحيرة والارتباك، قال: «أنا أعرف الآن، ما لم أكن أعرفه منذ ساعة، فسامح غباوتي، أنا أعلم بأنك موجود في العالم لكي تجرب، والتجربة هي مقياس يعرف الله بواسطته قدر النفوس البشرية، بل هي ميزان يستخدمه الله عز وجل ليدرك ثقل الأرواح أو خفتها، أنا أعلم الآن بأنك إذا مت تموت التجربة، وبموتها تزول تلك القوى المعنوية التي تجعل الإنسان أن يكون متحذرا، بل يزول السبب الذي يقود الناس إلى الصلاة والصوم والعبادة، يجب أن تحيا؛ لأنك إن قضيت
Page inconnue