مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل من سماء رحمته غيثًا نافعًا، فأنبت به في قلوب عباده زهرًا ناضرًا وثمرًا يانعًا.
زهر من العلم والعرفان مؤتلق ... في الطرس والنفس يستهدي بألوان
وثمر يجتنيه الأذكياء بتش ... مير ولا يجتنيه الفدم والواني
لله در كرام فاو فائزهم ... قدْمًا بحلب درور منه ملْبان
وبابتناء مبان منه سامية ... لا يبتني مثلها في دهره الباني
هذا هو المجد في الدارين والشرف ال ... محض الذي ما به في فضل ثان
" فاعكف عليه " مع الآناء معتنيًا ... ولا يكن لك عن تطلابه ثان
واعلم بأنك لن تحظى بصهْوته ... حتى تجوز المدى في كل ميدان
ما لم تسنح عليه كلما شجر ... يرجى الجني منه أرضي وعَبْدان
وتبذل النفس بعد المال مطرحًا ... لكل ترفيه أرواح وأبدان
وتغترب برهة في كل آلفة ... من ذات قربى وأوطان وإخوان
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ينبوع الأحكام والحكم، ومجموع شيم الفضائل وفضائل الشيم، وعلى آله ذوي المجد والكرم، وصحبه بحور العلوم ونجوم الظلم.
أما بعد، فإن الدهر أبو العجائب، وينبوع الغرائب، وفي المثل: الدهر حبلى لا يدري ما تلد، وقال الشاعر:
والليالي كما علمت حبالى ... مقْرِبات يلدن كل عجيبه
وقال طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وإن للعاقل على مرور الجديدين علمًا جديدًا حيث انتهى فهمه كما له عيش حيث تهدي ساقه قدمه وكنت قلت في نحو ذلك:
أراني حيثما أخطُ ... أجد ما لم أجد قطُّ
وإن الدهر حبلى كُلّ ... ما حين له سقط
لقد سايرته طفلًا ... إلى أن مسني وخط
فلم ينفك يشتد ... على المرء ويشتط
ولم يأل إذا استعلى ... يوم الهون أو يسطو
له في كل إذن من ... بني أبنائه قرط
وفي كل قذال وس ... مة بالنار أو شرط
وقد يحنو ويستأني ... وقد يحبو لمن يعطو
سماء ديمة تأتي ... بزهر زهرها رُقط
فحمر ومصفر ... وموفور ومُنْقَطُّ
ومجدود ومحروم ... ومستعمل ومنحط
ومنقاد ومعوج ... وكز الخلق أو سبط
قضاء مبرم ممن ... إليه الحل والربط
إلهٌ أمره الأمر ... ومنه الرفع والحط
ومنه اليسر والعسر ... ومنه القبض والبسط
له في كلِّ ما يومٍ ... شؤون منه تختط
وذو الفهم له علم ... جديد حيثما يخطو
ففكر واعتبر تعلم ... علومًا دونها الضبط
وتدرك غير ما في الصح ... ف يومًا خلد الخط
وسلم وأرض بالمقدو ... ر لا يذهب بك السخط
ولا تبرم إذا المولى ... يشدّ الحبل أو يمطو
فما ترجو من الرضوا ... ن أنْ تَرْضَى له شرط
وإني قد اتفقت لي سفرة بان بها عني الأهل شغلًا وتأنيسًا، وزايلني العلم تصنيفًا وتدريسًا، فأخذت أرسم في هذا المجموع بعض ما حضرني في الوِطاب، مما أحال فيه أو حان له إرطاب وسميته " المحاضرات " ليوافق اسمه مسماه، ويتضح عند ذكره معماه وفي المثل ": " خير العلم ما حوضر به " وإنما أذكر فيه فوائد وطرفًا، وقصائد ونتفًا، وذلك مما اتفق لي في أيام الدهر من ملح، أو لغيري مما ينتقى ويستملح، ولا أذكر نادرة فيها معنى شريف إلاّ شرحته، ولا لطيفًا إلا وشحته، وذلك هو لباب الكتاب، وفائدة الخطاب، والله الملهم للصواب.
وقد أذكر بعض ما صورته هزل يستهجن، وفيه سر يستحسن، وكما أن المقصود من الأشجار ثمارها، فالمطلوب من الأخبار أسرارها، وإنما حملني على الأخذ فيه أمور: منها التفادي من البطالة، التي هي مدرجة الجهالة والضلالة، ومنها إفادة جاهل أو تنبيه غافل، ومنها تخليد المحفوظ لئلا ينسى. وتفصيله نوعًا وجنسا، ومنها استمطار علم جديد، عند الاشتغال بالتقييد، فإن العلم كالماء نبَّاع، وبعضه تباع، وما هو في قلب ذكي الفؤاد، إلاّ كما قال امرؤ القيس عند وصف الجواد:
يجم على الساقين بعد كلاله ... جموم عيون الحسي بعد المخيض
1 / 1