La première aventure de l'esprit : étude sur le mythe : Syrie et Mésopotamie
مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة: سوريا وبلاد الرافدين
Genres
أن العالم بكل مظاهره المتنوعة يخضع لترابطات وقوانين وقواعد معينة، وأعتقد أن معرفته بتلك الترابطات وقواعدها، تساعده في السيطرة على الطبيعة المحيطة به وإخضاعها لرغباته ومصالحه؛ فهو يستطيع مثلا استجلاب الأمطار عن طريق ممارسات سحرية معينة، تدفع الطبيعة مجبرة للاستجابة، كما يستطيع شفاء الأمراض، والقضاء على الأعداء، ودفع الكوارث الطبيعية بالطريقة نفسها. وقد تجمعت لديه عبر القرون مجموعة من القواعد الذهبية التي تؤلف في مجموعها سفرا متكاملا للسحر. ولم يكن الإنسان في ممارساته تلك يستعين بأية قوى خارقة أو إلهية من أي نوع؛ لإيمانه المطلق بأن تتابع الأحداث يخضع لقانون معين، هو جزء أصيل من الطبيعة ذاتها، لا خارجا عنها ولا متعاليا عليها.
على أن الإنسان، بعد تاريخ طويل مليء بالمرارة والألم والإخفاق في السيطرة على محيطه بعلمه الزائف ذاك (السحر)، اتجه إلى الدين. فإذا كان العالم قد تمرد حتى الآن على الإنسان، مثبتا عدم خضوعه لتلك الترابطات المفترضة، فلا بد إذن من وجود قوى خارقة تقف وراء المظاهر المتبدية لهذا العالم، قوى إلهية، مفارقة له، فعالة فيه. ولا بد أن يكون الكون تبديا ماديا لتلك الطاقات الإلهية، ومظهرا لفعاليتها وقواها المستمرة. وبذلك ابتدأت مرحلة جديدة تتميز بالتقرب لتلك القوى واجتذاب عطفها، ومحاولة تفهم رغائبها، وآلية فعلها وشروطه. فظهر الدين وتطور بشقيه؛ الشق الأول: اعتقادي يستخدم الأسطورة أداة للمعرفة والكشف والفهم. والثاني: طقسي، يستهدف استرضاء الآلهة والتعبد لها.
فالأسطورة، والحالة هذه، هي التفكير في القوى البدئية الفاعلة، الغائبة وراء هذا المظهر المبتدي للعالم وكيفية عملها وتأثيرها، وترابطها مع عالمنا وحياتنا. إنها أسلوب في المعرفة والكشف، والتوصل للحقائق، ووضع نظام مفهوم ومعقول للوجود، يقنع به الإنسان ويجد مكانه الحقيقي ضمنه، ودوره الفعال فيه. إنها الإطار الأسبق والأداة الأقدم للتفكير الإنساني المبدع، الخلاق، الذي قادنا على طول الجادة الشاقة، التي انتهت بالعلوم الحديثة، والمنجزات التي تفخر بها حضارتنا القائمة.
إلا أن الفكر الإنساني في وثبته الدائمة لا يقف عند إطار، ولا يهدأ في مستقر يطمئن إليه، أو يركن لمعرفة يظنها مطلقة لا يأتيها الباطل؛ فهو في حركة دائبة تتجاوز أبدا ما وصلت إليه. فتهاوت الأسطورة تحت مطارق الفلسفة، وتجرع سقراط السم جزاء اجترائه على آلهة اليونان، ومن بعده تابع أفلاطون وأرسطو المهمة. وتعاونت، مع الفلسفة، الديانتان المسيحية والإسلامية. فتبنت المسيحية بضع أساطير أساسية، كونت منها هيكلها، كأسطورة هبوط الإله من السماء وموته وبعثه بعد ذلك، وصعوده إلى السماء. وهدمت ما تبقى من صرح الأساطير القديمة. أما الإسلام فقد أثبت بعض ما أوردته الأساطير، وقدمه في صيغة مختلفة تماما، مرجعا إياه إلى أصله السماوي القديم، قبل تحريف الكلام عن مواضعه، بسبب التقادم أو سوء الطوية. ثم أدى تبلور المناهج العلمية مع مطلع العصور الحديثة إلى الازدراء الكامل للأسطورة وإنزالها إلى مرتبة الحكاية المسلية؛ لما تحتويه من عناصر غيبية تتنافى والتفكير العلمي السليم. كما ادعى العلم، في بعض مراحله، القضاء على الفلسفة والدين معا.
إلا أن القرن التاسع عشر في أوروبا قد جلب معه ثورة فنية وجمالية، أعادت للأسطورة رونقها وبهاءها كشكل فني تعبيري من أشكال الفلكلور والأدب الشعبي، بعد أن أراد أصحاب الاستنارة في القرن الثامن عشر محوها. ولم تكن إعادة الاعتبار هذه إلا مرحلة أولى ؛ فما لبث الرومانتيكيون أن مشوا خطوات أبعد في النظر إلى الأسطورة، فاعتبروها أصلا للفن والدين والتاريخ، وصارت لهم منهلا ثرا وملهما. ثم اتجهت إليها العلوم الإنسانية تبحث خلف الشكل الظاهر للأسطورة عن رموز كامنة ومعان عميقة، تعين على فهم الإنسان وسلوكه وحياته الروحية والنفسية وآليات تفكيره وعواطفه ودوافعه. فقدمت لمختبرات علوم الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا مادة قيمة لا تقدر بثمن، وغدت منهلا للعلوم بعد أن لاقت من العلوم ما لاقت من تجاهل. وإلى جانب هذا وذاك ظهر فرع جديد من فروع المعرفة، يعنى بدراسة وتفسير الأساطير، دعي بالميثولوجيا
Mythology . والشق الأول من الكلمة
Mytho
مأخوذ عن الكلمة اليونانية
Mutho
التي تعني حكاية تقليدية عن الآلهة والأبطال.
Page inconnue