لم تستمر وزارة زيور باشا طويلا، فقد استقالت في 7 يونيو سنة 1926، وكنت قد بعثت باستقالتي منها قبل ذلك، وأنا في مصيفي بفيشى على أثر الخلاف الذي وقع بين نائب رئيسها يحيى إبراهيم باشا، وعبد العزيز فهمي باشا بسبب كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وكان من أهم العوامل في استقالتها قيام الائتلاف بين الوفد برياسة سعد زغلول، والأحرار الدستوريين برياسة عدلي باشا، وقد أسفر هذا الائتلاف عن قيام برلمان سنة 1926، وكنت أحد أعضائه، وعهد إلي برياسة اللجنة المالية فيه، فبذلت مجهودا نال تقدير رئيس المجلس سعد زغلول باشا وأعضائه، حتى إنه - رحمه الله - شرفني بأن نزل من كرسي الرئاسة إلى منصة الخطابة، ووقف يمتدح هذا المجهود طويلا.
والواقع أن زمالتي بالمرحوم سعد باشا في مجلس النواب، وفي فجر الحركة الوطنية وأثناء اعتقالنا في مالطة كانت تمتاز بالصداقة وحسن التقدير، وكما كنت أعترف بشخصيته العظيمة، كان يشرفني دائما بعطفه وتقديره، ولما سافر للاصطياف في مسجد وصيف، وكانت «محادثات ثروت باشا-تشمبرلين» قائمة، كان يبعث إلي دائما للتشاور فيما يصله من أنباء هذه المحادثات، وإذا ما انقطعت عنه الأنباء سألني عنها نظرا لعلاقاتي الخاصة بثروت باشا، وكنت وقتئذ في بلدي «الغريب» المتاخمة لمسجد وصيف، فكان يصر على أن أزوره يوميا، وإذا ما تأخرت عنه دعاني بالتليفون.
وقد توفي - رحمه الله - ونحن أصدقاء، يغمرني بتقديره، وأضمر له كل حب وإعجاب، وأحتفظ له حتى الآن بأجمل الذكريات.
سعد ... عدلي ... ثروت ... كما عرفتهم
انتهيت في الكلمة السابقة إلى سنة 1927، وأهم حادث فيها كان فقد البلاد لزعيمها العظيم سعد زغلول، وقد مر بك كيف كان اتصالي به، وصداقتي له، كما مرت بك زمالتي للمرحومين عدلي يكن باشا وثروت باشا وصداقتي لهما، واشتراكي معهما في الحكم والمفاوضات، وتصريح 28 فبراير، ولعل من المفيد للجيل الحاضر، وقد وصلت إلى هذه المرحلة من الذكريات أن أقول كلمة في كل من هؤلاء العظماء الثلاثة.
سعد زغلول
كان سعد زغلول عندما عرفته أكبر مني سنا، وأعلى مركزا، فكانت علاقتي به في بادئ الأمر علاقة صغير بكبير، فقد كنت في أوائل حياتي مساعدا للنيابة بينما كان هو مستشارا في الاستئناف، ثم اتصلت به في الحركة الوطنية ورافقته في الأسر، بل تمتعت بتقديره وعرفت من صفاته ما يعرفه الصديق عن صديقه، فشهدت فيه من كرم النفس ولطف الشمائل، والترفع عن الصغائر ما جعله محل احترام أصدقائه، وحبهم له وتعلقهم به، هذا إلى شخصيته القوية، وزعامته الوطنية التي كانت تسيطر على الجميع.
كان سعد زعيما وطنيا بكل ما تؤديه هذه الكلمة من المعاني؛ ولو أن كلمة «زعيم» لا تمنع أنه كان سياسيا قديرا، وقائدا ماهرا في أوقات الشدائد، وربانا بارعا صارع الأنواء والأمواج، وواجه الأخطار، فلم تؤثر في عزيمته، ولم تزعزع من جبروت نفسه وإرادته.
وكانت شجاعته وبلاغته وسعة إطلاعه، وكثرة تجاربه مما هيأ له التأثير العميق بين الجماهير، فاشتد حبها له، وإعجابها به، وانقيادها لكل ما يبديه من رأي، وإصغاؤها لكل ما يهتف به من قول، فامتلك الأفئدة والنفوس، وبقي طول حياته الزعيم الأكبر.
صحيح أنني اختلفت معه، وصحيح أنه كان للرجل أخطاء - ومن ذا الذي لا يخطئ - وصحيح أنه كانت فيه عيوب، ولكنها كما يقول الفرنسيون، العيوب التي تلازم الصفات الكبيرة، وقد قيل عني في باريس ما دعاه إلى تصديق عبارات ألقاها إليه بعض الواشين، ولكن عندما تلاقينا ووقف على الحقيقة لم نلبث أن تفاهمنا، ولم يكن بيني وبينه في بعض المواقف إلا ما يكون بين رجلين مختلفين في الرأي لمصلحة بلدهما، فكنت أجله كل الإجلال، وكان يشملني بتقديره، حتى إذا زالت أسباب الخلاف عاد اتصالنا وتعاوننا معا، وقد بقي الاحترام والإجلال من جانبي، والعطف والتقدير من جانبه حتى توفي - رحمه الله - وكانت أخريات أيامه تمتاز فيما يختص بشخصي بعطف شامل، بل بمحبة فائقة ، فإذا ذكرته تمثلت أمامي مواهبه العظيمة التي فقدناها وخسرتها مصر من كل الوجوه.
Page inconnue