Mémoires d'une fille appelée Suad
مذكرات طفلة اسمها سعاد
Genres
وأكثر ما كانت تحبه هو أن تراقب الكهربائي حين يأتي لإصلاح بعض أسلاك النور، أو لإصلاح الراديو، وتعلمت منه كيف يشتغل الراديو، وكيف يكتشف اللمبة التي حرقت، وكيف يوصل الأسلاك التي قطعت.
وفي صباح يوم أدارت أمها مسمار الراديو فلم ينطق، وكانت تحب سماع الراديو، وتسهر إلى جواره لتسمع حفلات أم كلثوم أو الريحاني، وأرسلت أمها الخادمة لتستدعي الكهربائي، لكن الخادمة عادت بدون الكهربائي وقالت إنه سيحضر بعض الظهر.
وسيطر على سعاد إحساس بأنها تستطيع أن تصلح الراديو، فما إن دخلت أمها المطبخ حتى حملت الراديو إلى حجرتها، وفتحته من الخلف كما يفعل الكهربائي، وبدأت تبحث بين الأسلاك واللمبات، أصابعها تنتقل بين الأسلاك الرفيعة بحذر ودقة، وحركة عقلها وهو يبحث عن سر العطل تبعث في جسدها لذة غريبة، والعرق يتصبب من جبهتها، والساعة تمر وراء الساعة وهي مستغرقة بين الأسلاك الكثيرة الملتوية المعقدة، تمسك كل سلك على حدة وتتتبعه من بدايته إلى نهايته، واللمبات تجربها وتختبرها واحدة وراء الأخرى، واكتشفت أن لمبة الصوت قد حرقت، فأسرعت إلى أمها متهللة الوجه، وقالت لها إن الراديو يمكن أن يتكلم لو أنها اشترت لمبة صوت جديدة وركبتها.
وصرخت أمها حين رأت الراديو في حجرتها وقد خرجت أسلاكه وأحشاؤه: ما هذا الذي فعلتيه! تركت المذاكرة وأخذت تلعبين في الراديو حتى أفسدتيه!
ولم يفسد الراديو ذلك اليوم، وجاء الكهربائي وركب لمبة صوت جديدة، واشتغل الراديو كما كان.
لكن أحدا بالبيت لم يعرف هذه الحقيقة، حتى سعاد نفسها لم تعرفها، فهي لم تقف إلى جوار الكهربائي وهو يعمل بل كانت واقفة أمام أبيها في حجرتها، خافضة رأسها كالمذنبة، وعينا أبيها حمراوان بالغضب، يؤنبها لأنها تركت المذاكرة ولعبت في الراديو.
ذلك اليوم أعطاها أبوها درسا قاسيا، قال لها: إنها لم تعد صغيرة لتلعب، ولا بد أن تنجح هذا العام وتحصل على الابتدائية لتدخل المدرسة الثانوية، وتحصل على شهادة عالية، وقال لها إنها لو رسبت هذا العام، فسوف يحرمها من التعليم لتبقى في البيت تمسح البلاط، فهو لا يملك أرضا ولا مالا ولا بيوتا ولا أي شيء سوى مرتبه، وإنه لن يعيش إلى الأبد لينفق عليها، وسيأتي يوم ويموت ولا تجد أحدا ينفعها، وثبت عينيه وهو ينظر إليها ويقول: ألا ترى أنك كبرتي وأصبحتي كالبغلة؟ فأنت لست شاطرة إلا في الأكل، ولكني لست على استعداد لأن أطعم البغال، ولا زال أمامي أختك وأخيكي الصغير لأنفق عليهما.
لا بد أن شيئا ما تغير في سعاد بعد هذا الدرس، لم يضربها أبوها هذه المرة كما كان يضربها، لكنه كان جالسا هادئا ينظر إليها بعينين ثابتتين، وبدا لها وهو ينظر في عينيها كأنه ليس أباها، وسرت فوق جسدها قشعريرة، فقد خيل إليها أنها عاشت كل تلك السنوات مع أب ليس هو أبوها، وأنه لا يريد أن يطعمها ويمكن أن تبقى في البيت لتمسح البلاط أو يطردها وتبيت على الرصيف في الظلام، وتنقض عليها اللصوص أو العفاريت، إلا أنها لم تكن إلا لحظة خاطفة وعادت إلى عيني أبيها نظرته المعتادة، وتلك السحابة الخفيفة من الحزن الدفين يشبه العاطفة الغامضة وكأنه حنان مكبوت، وحين قال إنه سيأتي يوم ويموت، لم تستطع سعاد أن تنظر في عيني أبيها، ودق قلبها بحب مكتوم كالبخار المضغوط، ونوع من الخوف على أبيها أن يموت، وقد بدت كلماته الهادئة الباردة أنه سيموت فعلا، وأن موته أصبح حقيقة واقعة ، أو ستقع عما قريب، ولم تكن سعاد حتى ذلك الوقت تدرك معنى «الموت» بعقلها، لكن جسدها أدرك معناه، وسرت فوقها قشعريرة نفذت إلى أحشائها وشعرت برغبة في القيء أو البكاء، ولم تكن تستطيع أن تفصل بين رغبة القيء ورغبة البكاء، وكانت إذا رغبت في البكاء تقيأت، وإذا تقيأت انهمرت دموعها بغير إرادة منها، ولم تكن تحب أن يرى أحد دموعها، وعلى الأخص أختها الصغرى، فالدموع تجعلها تهبط إلى مستوى أختها الصغرى، وقد تعودت أن تكبت البكاء وتبتلع دموعها، وتتكوم الدموع في بطنها وتضغط عليها فإذا بها تتقيأ.
تصورت أمها أن كثرة القيء بسبب مرض في معدتها؛ لأنها تأكل الزرع بطينه من الحقل وتأكل اللب بقشره الذي يقف عليه الذباب، وأخذها أبوها إلى طبيب، وقال الطبيب ما قالته أمها، وأعطاها دواء مرا، لم تكن تشربه، وإنما تفرغ ملعقة الدواء في الحوض بدلا من أن تفرغها في فمها، وضبطتها أمها مرة وهي تفعل ذلك، فأمسكتها هي وأبوها ليشرباها الدواء بالقوة، فأغلقت فمها بكل قوتها، لكن أباها سد أنفها بيده، وأحست أنها ستختنق وتموت، وفتحت فمها عن آخره لتتنفس، فسكب أبوها ملعقة الدواء داخل حلقها. •••
ونجحت سعاد في الامتحان ذلك العام، وحصلت على الشهادة الابتدائية، وفرحت أمها وفرح أبوها، واشترى لها هدية النجاح ساعة يد، ووفد على البيت أصدقاء أبيها يهنئون، وسمعت أبوها يقول عنها إنها أصبحت ابنة مطيعة، وأصدقاء أبيها يقولون إن الله لن يتخلى عنها وسوف ينجحها دائما.
Page inconnue