ع. ف :
إذن ستتركنا غدا يا عم هيكل، يا بختك، وتذهب إلى لندرة وترى بلاد الإنكليز، هذه البلاد الغاشمة الظالمة، لو أنك من صديقنا ع.س. عمدة المصريين في باريس لما دخلت لندن إلا غازيا.
ل. م :
البلاد الغاشمة الظالمة! ما أكرمك يا أخي بالألقاب! لماذا تعد إنكلترا غاشمة ظالمة؟ لأنها محتلة بلادنا؟ وإذا استطعنا نحن أن نحتل إنكلترا أفلا تفعل؟ ويومذاك نكون نحن الغاشمين؟ في نظر من؟ ليس أمام أنفسنا بالطبع ولكن في نظر الإنكليز، وأما نحن فنكون يومئذ أولياء الله على الأرض والموكلون من قبله بحكم الشعوب الضعيفة، كلا يا صاح، إنكلترا ليست ظالمة، إنكلترا تستغل بلادنا وتنهبنا كما تنهب أنت جارك الضعيف، وإذا كانت الصدفة تمن أحيانا على جارك بأن يجد فضاء يرد عليه ضائع حقه فلا يزال القضاء الفصل بين الأمم هو السيف، وصاحبة السيف الأحد والمدفع الأقوى صاحبه الحق من غير نزاع.
ربما كنت معك في الأسف على أن الأمم لا تزال في هذه البربرية، ولكن ذلك لا يمنعني من أن أنظر للأمم الحاكمة بعين الإعجاب، وإذا كان ذلك في نظرك ونظر الكثيرين يعد من قبيل إعجاب الجهلاء بأعمال البطولة؛ فإني راض أن أكون من بين هؤلاء البله والجهلاء، غاية الأمر أني أسمح لنفسي بالدفاع عن نفسي وعن هذه الطائفة، إن الكثيرين ممن تسمونهم العقلاء يعجبون بفيلسوف دقيق يدعو إلى إنسانية أرقى من الإنسانية الحاضرة، ويريد حين يقول أرقى أنها تكون أبعد عن الوحشية وعن الظلم، وأن ترتفع إلى جو العدل والرحمة، وجو العدل والرحمة لم يوجد بعد على الأرض بالرغم من أن الإنسانية تريد أن تصل إليه من آلاف سنين مضت، لماذا؟ لأن جو العدل والرحمة بالنسبة للإنسانية هو جو العدم، جو الفناء ... والإنسانية أظهرت لنا دائما ولا تزال أنها أحرص ما تكون على البقاء والاستمرار، وبكلمة أخرى حريصة على أن لا تصعد إلى جو العدل والرحمة؛ إذن فدفعها إلى هذا الطريق دفعا إلى ما يستحيل أن تسير فيه، وبالتالي تعب ضائع.
يقول الذين يعللون أنفسهم بعلالات التقدم إن الإنسانية قد قطعت شوطا كبيرا في هذا الطريق، حيث ألغت الرق، وألغت كثيرا من أنواع التعذيب، وخففت وطأة البؤس، وأحلت مكان ذلك كله التحاب والرفاهة، متى كان هذا؟ وهل ألغت شيئا مما تفتخر بأنها ألغته، إن كان أنصارها يريدون أن يتمسكوا بالألفاظ ومعناها الموجود في القاموس فأنا أوافقهم على أن كثيرا من الألفاظ دخل دولة التاريخ ولم يبق له أثر بين أظهرنا، لكن ألم تظهر مقابل ذلك ألفاظ أخرى ذات معان ليست بأقل فظاعة من معاني الألفاظ الذاهبة؟ وهل لم تظهر أشكال من البؤس تجعل ما عندنا منه يوازي على الأقل ما كان عند أجدادنا؟ وهاتيك البنات التعيسات اللاتي كن جالسات معنا من لحظة مضت ألسن خلق مدنية هذا الغرب المغرور المجرم؟ ومجاميع العمال التي تصبح تشكو الفاقة والبؤس أليست شقاء جديدا دخل إلى الإنسانية الحاضرة؟ ولكن الناس ينظرون لما كان في الماضي بعين تعظمه وكأن هاته الأشعة الزمنية التي تسري منا لم تمر أولا بمنظار مكبر فترى كل صغيرة من شروره كأنها عذاب الجحيم في حين لا يصل إلى آذان ابن ابن هاته الإنسانية المتألمة التي تحيط بنا.
لا أنكر أن من الناس من يكبر الخير الماضي، بل هؤلاء كثيرون، ومن بينهم قام جماعة الذين يرون في الرجل القديم مثال السعادة والكمال ؛ لذلك فالإنسانية الحاضرة شقاء كلها أمام عيونهم، وخطأ هؤلاء وخطأ أولئك متساويان، والواقع أن الإنسانية كانت ولا تزال ولن تزال خليطا من الحسن والقبيح والشر والخير والنقص والكمال، كما لا يزال الناس كما كانوا يقتل ويأكل بعضهم بعضا، وكل جيل بما لديهم فرحون أو هم عليه ساخطون.
إنك يا صاحبي (مشيرا إلي)
ذاهب غدا إلى مدينة جديدة وقوم يقدرون الخير والشر بمقياس غير المقياس الذي عهدت إلى اليوم، فلاحظهم لعلك تجد في ذلك لذة أو فائدة.
ع. ف. (الذي لم يكن ينتظر كل هذه الفلسفة خصوصا وقد ابتدأت رأسه تدور بعض الشيء) :
Page inconnue