23 يناير 1910
تلك الأرض في كفنها أم هي الطبيعة تهيئ نفسها وتلبس لعرسها، وذلك الشيب يصيب الأشجار من قدمها إلى رأسها أم تلك الحياة الجديدة تتمشى في عروقها.
أثلجت السماء وبعثت على البسيطة وما فوقها جلبابا أبيض يغطي كل سطح من سطوحها، ولقد كنت إذ ذاك أعبر الطريق وكأن لم ترض علي بردائي الأسود أو كأنها غارت فيه من لون الشباب وقد أكهلتها القرون فعملت لصبغة بياضا، وتلك أول مرة سمح لعيني فيها أن ترى الجو ممتلئا كله بأجرام بيضاء صغيرة لو لم يكن فيها لين الملمس لقلت شهب تساقط على أرض مجرمة أو ملائك تهبط لإسعاد الأشقياء، أو كأن الشتاء في قوته لم يرض أن يكون أقحل مجدبا فجاء من الزينة بما يضاهي به جمال الربيع وإن كانت زينة مستعارة لا تلبث أن تسقط وتظهر الطبيعة ثانية جرداء كشراء كالمرأة القبيحة تجمل وجهها وما هي إلا أن تسقط عاريتها ويظهر للناس قبحها، ولكن الخير أن يجني الإنسان من كل شيء أحسنه؛ لذلك ذهبت بعد غذائي إلى حديقة اللكسمبور أرى فيها زخرف الشتاء وقد تمتعت العين فيها بزخرف الربيع.
دخلتها فكأنما دخلت معبدا أصبح بين الآثار لا نسمع فيه رنة ولا طنينا، أو مقبرة مهيبة تجددها السماء، وسلكت طريقي فوق ثلج منسوج على بساط الحديقة لين تحت القدم وتماثيل الرجال أعطتها الطبيعة من الشيب ما ضنت به يد الإنسان، وغزال نسج الثلج غرة في جبينه وأشجار الزهر وهبتها السماء من نرجسها ما ضنت به الأكمام، وبعث الله من فوق علامة المساواة على أرض فرق الناس بينها فأصبحت تراها ولا تميز فيها بين طريق دقته الأرجل ولا مفارش الحشيش، بل كلها مسطوح ناصع البياض كأنه قلب الطفل لم يدنسه عالم الناس والمادة.
وبقيت في الحديقة زمنا وأميل أحيانا فآخذ الثلج بيدي وهو في لينه كأنه القطن الأبيض فإذا ما ضغطته تجمد حتى يتحجر ثم قذفت به فروع الأشجار وهي بيضاء من جانب سوداء من آخر.
وما كان السماء العادلة لتفرد مكانا دون آخر بجودها، بل حيث قصدت من سهول المدينة وسطوحها ترى المنظر متكررا أمامك لولا ما يذيبه الملح في الشوارع وما تقضي عليه أقدام السائرين.
29 يناير 1910
أسطر اليوم حادثة من آلم الحوادث التي أصابت هذا البلد العظيم والتي لم تجد لها مثلا في التاريخ من سنة 1802، ارتفع نهر السين فجأة وعلى غير انتظار، وظل يعلو من ساعة لساعة حتى أصبحت الملاحة فيه غير ممكنة لعدم استطاعة القوارب أن تعبر من تحت القناطر، وتعطل بذلك عمال الملاحة عن العمل، وظل النهر بعد ذلك يتزايد ويرتفع ماؤه من غير هدأة ولا انقطاع.
استمر يتزايد فاتصل ماؤه أولا بالشوارع المنخفضة ومنعت البلدية الناس عن المرور فيها، ولما كان عددها قليلا بادئ الأمر لم يكن شأنها من الأهمية بحيث تقلق له النفوس أو تتهيج الخواطر، لكن السرعة المتزايدة التي كان يعلو بها النهر جعلت تزيد في عدد هذه الشوارع المسدودة يوما بعد يوم، حتى إذا هي بالأمس شيء كثير، ولقد بلغت المياه أن وصلت إلى ما فوق ركب الخيل التي كانت تسحب عربات النقل فتنقل من يريدون الخروج من منازلهم، وحبس الناس عن بيوتهم وحبس عنهم طعامهم وكأنهم وما أجرموا فريسة هاته الطبيعة الهائجة، ولاح لي رابع يوم من هياج النهر أن أسير على جوانبه فاصطحبت صديقا وخرجنا حتى وصلنا الشاطئ، هناك رأينا الجموع الحاشدة ترمق بعيون ملأى بالغيظ والاسترحام ذلك الذي أزعجها عن سكينتها.
جعلنا نسير مع الشاطئ وفي اتجاه التيار تزحمنا أكتاف الجمع ونزحمهم حتى وصلنا (الكي دورساي
Page inconnue