وجدت قدرة راسين في هذه الحوادث البسيطة مجالها، ووجد المؤلف من الممثلين نعم المفسرين، وقد استعبرت مرارا أمام جزع اندروماك التي قامت بتمثيل دورها مدام سلفن، هي أرملة وأسيرة وأم سيقتل ولدها إن لم تخن عهد زوجها، كل ذلك في آن واحد، تريد أن تبقى على عهد زوجها فيروعها أن تتصور ابنها يساق للقتل ويهزها إشفاق الأم وحنانها، وهكذا تتقلب تحت مؤثرات عواطفها وتبكي أمام الملك القاسي فتستبكي الحاضرين.
هذا الصنف من الروايات التي ظهرت في القرن السابع عشر قرن راسين ومليير وكورني هي ما يسمى (بالكلاسيك)، وتصف إحساسات النفس بلغة دقيقة سهلة مكتوبة في شعر رقيق، ولم يأت فيها بعد وصف الطبيعة، ولا الإحساسات المختلطة التي تجيء مع المدنية المختلطة مما قام به الدرام، والرومانتيك ولا شك في أن سبق شكسبير لهذه المعاني ولتلك الأنواع ما يشهد بعظمته.
16 سبتمبر
زرت متحف اللكسمبور هذا الصباح وهو على صغره خفيف الروح، وقد حوى من الصور والتماثيل أبدعها وأكثرها إتقانا، وكل ما فيه من ذلك حديث وأكثره من عمل الفرنساويين، هنا حقيقة يحس الإنسان أنه محوط بالأحجار الصامتة كأنه بين عالم ناطق بليغ اللسان، وهذا الرخام الأبيض قد حوى فيه خيال المثال الذي نحته وصورة تتلألأ على سطحه كل المعاني التي أراد، فإذا ما سرت بينها خيل لك أن كلا منها يرمقك بنظرة أرادها صانعه أو هو لاه عنك بمحبوبه الذي يحدق به أو بأحلامه التائه في لذاتها الخالدة لا يلفته عنها أكبر ما في الكون ولا أقواه.
وما أنسى لا أنسى صورة للعذراء في يدها زهرة هي قائمة، وتنم ثيابها الرومانية عن أثداء شابة ناهدة وعن قوام دقيق جميل، عيونها المسبلة الجفون ناعسة عن العالم وما فيه، وكلها مثال الجمال التقي الخالد، وصورة سلامبو التف حول جسمها العاري ثعبان تنظر إليه بعيونها الرخامية الخالية كل نظرتها العشق الهوى، وذراعها ملفوفان يحكيان عن خصب ونعمة، وصدرها المزدان بثدييها الناهدين ينساب دقيقا إلى خصرها ثم يسلم نفسه إلى أردافها البارزة من غير مبالغة ليرتد ثانيا مع فخذيها، ولينسحب ساقاها جميلين حتى ينتهيا عند القاعدة بأصابع هي الأخرى مثال الجمال والدقة ... أمام هذا التمثال الناطق من الرخام الأخرس وقفت مأخوذا به تائه بالفكر فيه غير ذاكر شيئا عن سلامبو التي يمثلها، وأعجبت بتركيب جسم الفتاة وهذا الانحناء الدقيق بين صدرها وردفها إلى حد جعلني حين نظرت عن يميني وبصرت بتمثال أخر يحكي غير هذا النوع من الجمال أن أرد الطرف وأرجع لتقديس سلامبو البديعة القوام الساحرة النظرات. ... وأخيرا التفت إلى اليسار، فإذ تمثال آخر يسترعي النظر قد نقشه المصور ليمثل به السحر، والفتاة الشابة ترفع بيديها غطاءها وتنظر بعيون وسنى من تحته، إنها هي الأخرى لتحوي من الجمال في جسمها ومن الدقة في قوامها ومن الإتقان في صنعها ما يأخذ باللب، ولو أني لأذكر كل ما في المتحف وسعني الوقت، ولكني لا أقدر على نسيان تمثال (كرو) عن الشباب والحب، ولا تلك النظرات العاشقة التي تنظر بها بنت العشرين (لكيوبد) ملاك الحب، كذلك لست أنسى طهارة هذا الصغير في نظراته ومقابلته ابتسامه الفتاة التي تكن كل معنى سنها وكل ما يدور في مخيلتها وكأنه لا يفهم ما تريد ... لا ولا صورة أبن الطريق البائس قد وضع يده على كتف ولده وسار الأعمى والصغير يطلبان الإحسان، وعلى صدر الأب مكتوب فيه «رحمة بي» ... ووجه الولد ينم حقيقة عن بؤس وألم شديد.
هذا في التمثيل، أما في التصوير فلا أنسى صورة (جيوفروا) عن عيادة المريض في المستشفى وقد جلس أب إلى جانب سرير ابنه يحدثه، والابن شاحب والأب مكتئب، وعلى مقربة منهما سرير آخر يودع فيه شخصان بعضهما ويقبل الواحد صاحبه، صورة تجسم فيها الأسى والحزن والحنان والحب.
صور غير هذه متقنة للغاية تدل على مهارة القوم في الفن، وتشهد بأن الغرب ابن اليوم كما تدل آثار الشرق على هرمه ومشيبه، صور وتماثيل لم تترك حالة من حالات الإنسان النفسية إلا مثلتها، ولا علامة من علامات جماله الجسمي إلا أظهرتها كما أخذ الخيال فيها دوره هو الآخر، وتدل هذه الصور بتنوعها وإطلاق اليد والحرية فيها على تحلل الغربيين من قيود كثيرة لا تزال مقيدة بها النفس الشرقية، مما يأخذ اسم الفضيلة والحياء، وكأن هؤلاء الناس يريدون أن يستغلوا كل ذرة مادية نفسية وأخلاقية من ذرات الوجود وما يدخل فيه من إنسان وحيوان وأشياء وأرض ونبت وشجر وماء وسماء، وكل ما يمكن أن يجول بالخاطر أو يسرح إليه الخيال.
ويظهر أن على مثال هذه الحرية في الفن ينسج الغرب في كل شيء، والنفس المحاطة من كل جانب مظاهر الحرية تنشأ وتحيا وتموت حرة، والنفس الحرة قديرة على كل شيء، قديرة على المعجزات.
17 سبتمبر
صديقي عطية:
Page inconnue