ليس ذلك كل ما في سان كلو، بل إن فيها غير هذا شيء كثير يضيف إلى الجمال جمالا حتى ليسجد له المتمتع به ولتأخذه نفسه من الإعجاب بهذا الجمال النادر ما لا قبل لي بوصفه، وإن القلم مهما أعطيته من القوة فهو ضعيف عن أن يظهر على وجه القرطاس كل ما في نفسي من أثر ذلك الجمال، فيها من البرك يجري في مائها السمك بمختلف ألوانه والشلالات لينحدر منها الماء وما علمته يد الإنسان من نحو هذا، وإن القوم ليصفون من بهاء سان كلو في يوم الأحد ما يشوقني لها ولا بد لها من عودة إن شاء الله.
وكتبت إلى لطفي بك خطابا لعنوانه بإنكلترا، كما كتبت لوالدي خطابا أيضا، وإن تلك الساعة التي كنت أكتبه فيها لهي من أشد الساعات التي أخذ التأثر من نفسي فيها وعمل الشوق في صدري، وكنت ولا أزال كلما كتبت خطابا وذكرت والدتي وتلك الساعة التي رأيتها فيها تنهمل الدمعة على خدها تخنقني العبرة وإن كانت قوتي لتمنعني عن الاسترسال في شجني، هذا الإحساس أحس به الساعة وسأحس به ما بقيت.
25 منه
برج إيفل ...
ذهبت في الصباح لموعد إخوان متفقين معي على أن نذهب جميعا إلى برج إيفل، والبك هو اليوم أيضا دليلنا، بالله ما أطيب هذا الرجل
أخذنا طريقنا إلى جانب النهر على الضفة المقابلة لضفة قصر اللوفر حتى كان البرج على مقربة منا يستدعي البصر أعلاه قبل أن يأخذ بأسفله، وقد صعد في الجو كأنما شاده أهله ليوحي للمدينة بأخبار السماء، وفوق قمته الدقيقة تلعب الريح بالعلم المثلث اللون علم الجمهورية الفرنساوية.
يرتفع البرج إلى ثلاثمائة متر تحيط بقاعدته الحشائش الخضراء وينساب النهر إلى جانبه هادئا، وقد سرنا تحته حتى وصلنا إلى غرفة التذاكر ثم جعلنا نتشاور أنصعد على الأقدام أم نأخذ المرفع (اللفت)، وأخيرا اتفقنا جميعا على الصعود إلى الدور الأول على أقدامنا وبقينا نتسلل فوق درجه الضيق واحدا بعد واحد حتى وصلنا مكدودين، هناك ارتمينا على المقاعد وجعلنا نجيل نظرنا فيما حولنا في البرج الرفيع.
استرحنا ثم قمنا ندور في جوانبه وننظر إلى الأرض البعيدة عنا وإلى النهر المستكين وإلى بيوت باريس أو بالأحرى إلى سقوفها، إلى تلك الظهور السوداء والحمراء المحدبة اتقاء المطر، وظهرت أمامنا باريس بشوارعها كأنها خريطة تلهو بها العين كما تشاء.
في جوانب ذلك الدور من البرج صناديق ألاعيب وفيه صندوق للخطابات، ولقد تسابقنا جميعا لكتابة الكرت بوستال إلى أصدقائنا من مكاننا العالي، وبقينا حتى إذا كنا الظهر ملنا إلى المطعم هناك أيضا فتناولنا غذاءنا، وانتظرنا حتى استقر في جوفنا الطعام ثم صعدنا في المرفع إلى الدور الثاني.
المدينة من جديد على مقياس أصغر، والنهر أكثر استكانة وخضوعا، والناس يسيرون على الأرض هناك فنطل عليهم من علياء ونجدهم صغارا، وإخواني وغيرهم فرحون بذلك، كأنما حسبوا أنهم حقيقة أعظم ممن تركوا من بضع ساعات!! على كل حال ساعة من الحياة خلقت لهم خيال سرور فمن الجنون أن لا يسكبوها.
Page inconnue