131

Mémoires de jeunesse

مذكرات الشباب

Genres

إلى جانب مليير يجيء لافنتين، وإلى جانبهما يجيء الكاتب الثائر لابريير، ولكن هذين لم يكونوا في مركز الأولين الذين كانوا من حاشية الملك المقربين، ولا بريير أعرق في البعد عن البلاط من صاحبه ولكنه لاحظ كل ما يدور ويجري فيه، ولقد رأى صغار نفس هؤلاء المدعين العظمة المرتدين بلباس الشرف الذين يهفون ويرفون بدنتلاتهم تيها ودلا وهم مع ذلك المنافقون معدن الصغر والخسة، وبلغ به الاعتقاد بخستهم وعلو نفسه عليهم حتى انقلب ذلك إلى المضاضة المرة؛ لذلك كان كتابه (الأخلاق) مجموعة ملاحظات صادرة من قلم كاتب شديد القسوة صعب اللسان عظيم الاحتقار للناس، بل ربما بلغ به ذلك أحيانا إلى الحسد، والحقيقة أن هذه بذرة ثورة يبذرها هذا الكاتب الذي عاش في عصر الملكية وهي في عنفوان قوتها وعظمتها يريد أن يظهر للناس أن هناك شيئا آخر حقيق بالاحترام غير شرف المولد وكثرة المال، هناك العظمة النفسية والقوة العقلية، بل هذه أرقى مقاما من الأولى، وهذه شخصية لصاحبها في حين الأخرى غير متعلقة به ولا فضل له في كسبها.

ولقد ابتدأت هذه الفكرة تظهر واضحة قوية عند كتاب القرن الثامن عشر، وأصبح رجاله يقولونها ناصعة لا تحتاج شكا ولا تأويلا، ويكادون جميعا على كثرتهم يضربون على هذه النغمة التي دخلت في الذوق العام يومئذ، وأصبح يتمدح بها في صالونات الإشراف والأمراء، كذلك انتقل إلى هذا العصر مما قبله عادة الصالونات تقليدا لصالون الملك، فكل سيدة شريفة تجاهد لتجمع حولها نخبة من الأدباء والفلاسفة ذوي الفضل والشعراء والعلماء؛ لتكون في ذلك كمدام دمانتنون في القرن السابع عشر، ومن شأن هذا الاحتكاك أن يزيد الفكر الثائر ثورة وأن يدعو أشد الناس هدوءا للتفكير والنظر؛ لهذا سرت في البلد حركة عنيفة هزتها قامت على أقلام الكتاب وألسنة المتكلمين، وزاد عدد هؤلاء ودخل من بينهم جمع كبير من النساء الكاتبات وصرن يعددن في ميدان الأدب مئات كثيرة.

أظهر كتاب هذا العصر والمبرزين منهم ثلاثة، فولتير وروسو ومونتسكيو، وهم جميعا يتحدون في اعتبار أيامهم أيام ضعة وفوضى ولكنهم يختلفون اختلافا كليا في طريق تفسير ذلك، ولا بدع في اختلافهم؛ فإن هذا الهياج الفكري العام الذي كان موجودا يومئذ كان من شأنه أن يخرج رؤوسا تختلف اختلافا كليا في طريق البحث والنظر، كما أن طبائع الكتاب الثلاث الشخصية وأخلاقهم تختلف، وكذلك حالهم ومولدهم والوسط الذي عاشوا فيه، فأحدهم باريسي خفيف الروح ميال لأن يسخر من كل شيء، وثانيهم سويسري الأصل وضيعه عاش في شبه التشرد طول شبيبته ولكنه رأى الترف والرفاه الذي يعيش فيه الأغنياء فحمله ذلك على النفرة منهم، والثالث يمت بنسبه إلى الإشراف ورجال الحكومة فهو دائم الفكر في أمور الحكومة.

هذه الحركة الشديدة التي يتصف بها هذا العصر من عصور تاريخ فرنسا تجعلنا غير قادرين على أن نحكم عليه حكما عاما مثل حكمنا على القرن السابع عشر؛ فإنا نرى أنفسنا أمام أدب يتشعب إلى نواح شتى وأفكار تختلف اختلافا ظاهرا وعواطف غريبة متضاربة تجمع بين حب العظمة الملوكية والميل إلى الحرية والديمقراطية، وفي صالونات السيدات العظيمات يجتمع أقوام من أطراف متنائية في المولد، يجتمع أشراف أبناء أشراف ومعهم روسو ومن هم في طبقة ميلاد توازي طبقته، ويجلس الجميع وبينهم شبه مساواة تمكنهم من التفاهم والتعارف، لكن ذلك لم يمنع بعض الأشراف من الاعتصام بحصونهم والبقاء فيها والبعد عن العاصمة وعن الحركة الأدبية والبقاء على العقائد القديمة والاستمساك بعوائد عائلاتهم والإيمان بالفرق الذي بينهم وبين باقي الخليقة.

في هذا العصر، عصر الصالونات، حيث كان يجتمع الرجال المعروفون والسيدات النبيلات ظهرت العواطف في شكل جديد، فأصبحت في أحيان كثيرة مجرد لذة يتذوقها الرجل أو المرأة فإذا سئمها تركها حتى إذا شاقته عاد لها وإن هو وجد شيئا ألذ انتقل إليه؛ لهذا كنت ترى لكل رجل عددا من المعجبات به المحبات له ولكل جميلة ذيلا من المملقين المحبين، أما هذه العاطفة القوية المتينة التي تأخذ بالقلب والنفس وتستولي على الوجدان وتصرف على ما تشاء الحياة، هذا الحب الذي ينسينا وجودنا وأحزاننا ومخاوفنا ويجعلنا نفنى في ذكر المحبوب ونهيم به ولا نعرف سواه، ونهزأ بالحياة إذا فقدناه، فلم يك موجودا في الأخلاق يومئذ ولا في العقائد، لذلك خلت كتب الأدب منه إلى حد كبير وصار لا يجول إلا بخيال نفر لا يعدون.

أشد الكتاب الثلاثة الذين أخذناهم عنوانا للعصر والمبرزين فيه، أشدهم ميلا للعواطف وتقديسا للإحساس وإعلاء لشأنه إلى حد أن يعده المصرف لنا في الحياة هو جان جاك روسو، وهو مع ذلك أكثرهم ميلا مع الأهواء وتقلبا أمام رياح الحب وانتقالا للمحبوبات الجديدات، ولو شئنا أن نذكر جميع من أحبهم وتعلق بهم ولزمهم لذكرنا كثيرات، فمنهن مدام دفارنس ومدام دبناي وماداموازيل جرنفريد وغير أولئك ممن ورد ذكرهن في اعترافاته، وفي كل مرة كان يظهر نفسه الوامق المأخوذ التائه الرشد من شدة الحب، وفي كل مرة ينعقد لسانه ويعتريه الحصر أمام محبوبه فلا يقدر من عظيم ما به أن يبوح بمكنون صدره، ثم إذا هو بعد ذلك انتقل أن رأى سيدة أخرى أعجبته فمثل معها الدور عينه، هذا مع الاعتراف له بأنه كان أيام شبابه كلما أضناه التنقل رجع إلى دفارانس أول محبوباته وأسهلهن فقضى معها أياما يتمتع بمالها وبها بقدر ما يسمح له طبعه الحي وعلته الملازمة. فإذا شبع منها انتقل لباريس يبحث عن محبوبة أخرى.

وإنما نفسر هذا الطبع عند جان جاك بالنشأة التي نشأها وبما عنده من الخيال المتسع إلى حد الجنون وبميله إلى الترحل والبداوة.

ولد جان جاك من أب ساعاتي، وماتت أمه ساعة منحته الحياة فنشأ يتيما، وكان له أخ لم يكد يبلغ سن الإدراك حتى فارق أهله وبلده ولم يسمع به أحد بعد، وعني بروسو عم له، فلما بلغ الصغير سن التعليم أراد وصيه أن يلقنه صنعة وأودعه عند نجار فأبت عليه نفسه أن يتعلم وجاءت حوادث فارق من أجلها بيت معلمه وهام على وجهه، ثم ألقى عصاه بعد ذلك عند عجوز عرفه بمدام دفارنس فعنيت هذه به وردته عن كاثوليكيته إلى البروتستانتية، وتركها بعد ذلك تدفعه نفسه الرحالة إلى أن يضرب في الأرض فاشتغل خادما على مائدة بعض الإشراف، ثم طرد فالتجأ إلى دير ولم يبق به إلا قليلا حتى أراد أرباب الدير به السوء وأراد أحدهم ارتكاب المنكر معه، هنالك فر الشاب هاربا وجعل يتعيش من بعض حرف يدوية فكان ينقل كتب الموسيقى بأجر زهيد ويشغل وقته بقراءات شتى، ولقد كان ولوعا من أول أيامه بالقراءة، فلما أينع ذلك وظهر عنده أثره ابتدأ يكتب فأظهر أول الأمر أقاصيص لم تحز رواجا، ثم حماه جماعة من السيدات الأشراف واهتموا له وبذلك ظهر فضله، وكتب بعد أن استقر به الأمر كتابه في التربية (اميل) وأراد نشره فصودر طبعه في هولاندة، فأمرته السلطة بالخروج من فرنسا، ثم كتب النوفل هلويز، وانقطع في أخريات أيامه بعد أن قضى شبيبة مضطربة وتزوج بابنة غسالة شنعاء، وكتب اعترافاته ثم «أحلام المتنزه المنفرد» التي نشرت بعد وفاته، وفي هذه الاعترافات والأحلام يرى الإنسان علائم الجنون بادية ظاهرة حيث يرى روسو شديد الاعتقاد أن الناس يريدون الفتك به وأنهم جميعا يطلبون هلاكه لأنهم يحسدونه ويكرهونه، وأول كلمة في الأحلام «ها أنا وحيد في العالم هجرني الناس».

وألف غير الكتب المتقدمة كتاب «العقد الاجتماعي»، وقد كون فكرة هذا الكتاب عنده وجوده قنصلا لفرنسا بالبندقية، كذلك كتب خطابه لدالمبرت عن الفنون، وكتب كثيرا سوى هذا مما هو أقل منه تداولا وقيمة.

ولقد وضع في اعترافاته تاريخا مطولا لحياته كما قوى بها أساس (الرومانتيسم) فنقل الأدب بذلك خطوة إلى الأمام، وجعل الكتاب يرجعون عن مجرد قص الحوادث إلى التحليل النفساني لإبطالهم تحليلا مأخوذا من الواقع بوصف حالاتهم وعواطفهم وما يحيط بهم، كما أنه في «أميله » وضع مذهب الحرية المطلقة في التربية فقرر وجوب جعل الطفل معلم نفسه إلى أقصى الحدود، أما عقده الاجتماعي فمع أنه أقصد في الأدب من الاعترافات ومن الأميل فقد حاز شهرة أكثر منهما، ومبناه أن الناس أول ما ألفوا الجمعية تعاقدوا على ذلك، وقد أظهر النقاد فساد هذه الفكرة وخطأها، أما النوفل هلويز فهي الرواية التي ظهر فيها رومانتيسم جان جاك في أجلى مظاهره، رواية عواطف وإحساسات وهي كذلك مملوءة بالأفكار والآراء.

Page inconnue