م. ز. شاب في الحادية والعشرين، عقل طفل في جسم رجل.
ع. س. ينافق حبا في النفاق، ويكذب حبا في الكذب، ويعمل كل نقيصة ليقال عنه حر الفكر أو أنه ذو ذكاء.
هؤلاء جماعة من بين الذين عرفت في المطعم يومذاك، وأولهم أحبهم إلي لأنه إنسان جميل العشرة يفهمك إن حدثته، واسع الاطلاع.
في هذه اللوكاندة قضيت شهرين، ولسبب لا أدريه كنت أجد نفسي دائما مشتغلا بدروس غير دروس الاقتصاد التي أعددت أن أمتحن فيها لأول ما أتم تحضيرها، بالرغم من ذلك كنت حياتي مرتبة إلى حد كبير.
جاءت النتيجة الطبيعية لسكنى اللوكاندة، اعتدت القهوة وصرت أصرف فيها وقتا طويلا، كنت أحيانا أذهب لآخذ طعام الغذاء في (هولانديا) ولا أكاد أتمه حتى يحضر بعض إخواني المصريين فنبقى نتحدث ونلعب البليار أو الطاولة حتى موعد العشاء، ومن بعده نجد موضعا لقضاء الوقت هو وقت راحتي.
لكن ليالي كانت منتظمة إلى حد كبير، من الساعة العاشرة في غرفتي، وأشتغل حتى نحو منتصف الليل ثم أنام لأقوم الثامنة صباحا وإن كان عندي درس أسرع إليه وإلا بقيت أشتغل حتى الظهر، وفي مدة الشهرين أذكر أني لم أبق إلى الصباح إلا مرتين، إحداهما كنت مع جماعة في مونمارتر، وقد وضعت حديث هذه الليلة في غير هذا المكان من مذكراتي.
اشتركت في محاضرات العلوم الجنائية، وواظبت على حضورها وعلى سماع دروس المسيو جرسون في صبيحتي الثلاث والخميس.
في أواخر العام سئمت هذه اللوكاندة، وانتقلت مع العام الجديد إلى (سلكت)، سلكت معمورة بالمصريين، ولكن منهم من لا تراه إلا كما ترى آخر ساكنا في الحي اللاتيني ولا صلة بينكما، ومنهم من تتوثق بينكما الرابطة حتى لتصبح صداقة جامدة، كان ذلك شأني مع السيد مرعي.
أكثر من المطعم تسمح لك هذه اللوكاندة بملاحظة المصريين والدخول إلى باطن من أمرهم لا تقف عليه من غيرها، ولكنها كذلك تعرضك لأن تكون إلى جانبهم دائما وبالحق الذي يعطوه لأنفسهم بصفتهم مصريين، وإذن أصدقاؤك يدخلون عليك غرفتك في أي لحظة ولأي سبب.
عشت هنا عيشة الطلبة أكثر من أي لحظة عشتها قبل ذلك، هنا عرفت مواعيد العصر لأبقى بها إلى الصباح، هنا طعمت العيشة المكسال لا يغيرها أمر ولا نهتم فيها لشيء، وننسي أنفسنا تتوه حيث تشاء من علام الهمود ونتمتع من كل ما في الحياة ولا رقيب علينا، حقا أن النفس التي عاشت بعيدة عن لذائذ الحياة متى وجدت أنها بينها غرقت فيها وأرادت أن تأخذ منها بأكبر حظ تستطيع، وكثير من هاته النفوس تروح في عرقها إلى الموت، إلى موت لذيذ هو الآخر لا تحس به إلا حين تحرمها الظروف من غرضها أو يجعلها السن المتقدم قليلة الإحساس بما حولها، لكن إن قدر لها أن تنجو انتفعت من تجربتها أكبر النفع.
Page inconnue