في هذا العالم نحس حقيقة بالسعادة، نسير وسط هاته الأشياء البالغة منا أقصى درجات الإعجاب، وإلى جانبنا المحبوب الذي صورناه على ما نشاء، ونقول الكلمات ونعمل الأعمال التي تعجبنا، والسماء فوقنا ضاحكة الثغر دائما، وعن يميننا غروب الشمس البديع على ترعة صغيرة أو على النهر، أو هي تسقط لتبتلعها أمواج البحر العظيم، وعن يسارنا البدر المتكامل يحبو متهاديا ويتخطر ثملا، والجو كله تعطر بالطيب وتنعشه الطير بأحلى صفيرها.
فإذا ما خرجنا من هذا العالم الطيب إلى الحقيقة، إذا ما قابلتنا الحسناء التي أعجبتنا من قبل أو نحن زرنا الأماكن التي أخذت بأبصارنا مرة من المرات، كم يكون شقاؤنا كبيرا أن نرى كل ما تصورنا كاذبا! وكم نتمنى أن لا نخرج ولا مرة واحدة لنلمس الواقع.
26 مارس 1911 سان كلو
تعرف غادة وتسمح لكما معرفتكما بشيء من رفع التكلف والتكلم في مواضيع وفي أخرى، وتطرقان أبواب الحديث في كل شيء، وتمضي الأيام وتزيد المعرفة بينكما، وتطلعك أكثر على ما في نفسها وكل يوم تحادثها وكأنها تقول جديدا؛ ذلك لأنها إنما تحكي عن آمالها وتلك كلها لا حدود لها تمتد في كل الجهات وتميل إلى الشعر أكثر منها إلى الحقيقة وتنزع دائما لأن تجد جديدا.
وتعرف سيدة قد قضت من حياتها شطرا فإذا ما تكلمتما وقصت لك ما في نفسها ثم أعادته وجدتها دائما تقول الشيء بعينه لأنها بقية الماضي، وتحكي الأشياء الفائتة. الأولى نفس جديدة تريد أن تأخذ إليها كل ما تجد ولا شيء يكفيها، فهي تعبر في كل ما تقول عن هذه المطامع الغير المحدودة، ثم هي لم تدخل الحياة بعد ولا رأت مضايقاتها وتلك الأشياء السافلة التي تتكاثر في أنحائها؛ فكل ما تقول إنما هو عما في حلمها، وكل ما في حلم الشباب جميل، والثانية قد قضت وعرفت وعركت الدنيا وعلمت ما فيها؛ فهي لا تريد منها جديدا إلا لقضاء غرض حاضر أو لنوال مطلوب معين.
الأولى شعر الوجود البديع ممزوج بالأمل الحلو، والثانية الحياة الحقيقية الباردة ممزوجة بالألم المر.
الأولى ترنو للآتي فتحملنا معها إلى المستقبل ويظهر بذلك شباب الحاضر، والثانية تردنا إلى الماضي فتجعلنا نرى ما أمامنا وكله شعور بيضاء أو أكفان أو قيود كهذا الماضي المرجو.
من أجل هذا كله كان الشباب أوان الجمال، ومتى ولى الشباب ولى الجمال على أثره، كهاته الفتاة وهاته السيدة أمم الأرض، منها عجوز جاء عليها الضعف وذهب جمالها فكل ما تتعزى به عن أليم وقع الحاضر أن تفتخر كل يوم بماضيها وتعيده أمام الناس في أشكال إن اختلفت فهي دائما أشكال الماضي، في حين الأمم القوية الشابة دائما تنظر للمستقبل وتعنى به، الأولى مسكينة مخذولة والثانية قوية مهيبة.
28 مارس 1911
لم نكره الآخرين؟ ألأنهم أوصلوا إلينا ضررا؟ ألأن نفوسهم باقية لا تزال في الظلمة ولا تستطيع أن تتصور فعل الخير دائما؟ لعل واجبنا حين نرى هاته النفوس أن نتألم من أجلها ونعطف عليها، ويسوقنا هذا الألم والعطف لحبها، بل أليس الواجب أن يزداد حبنا لها كلما هي أوغلت في الشر أكثر، وكانت بذلك في ظلمة أدكن، كلنا نحب الطفل الصغير لأن نفسه لا تزال خالية من الخير والشر، فهل نحن نزداد له حبا وعليه عطفا إذا هو أسعده الخظ فوجد من ملأ بالخير نفسه واستغنى بذلك إلى حد كبير عن عطفنا، أو إن هو كان تعيسا فذهب به تعسه لأن يكون شريرا، الشخص الذي يسيء إلينا شخص مريض النفس، فإذا نحن حكمنا على من يتقزز من مريض الجسم أو مهدود القوى بأنه جاف خليط إلى حد أن يكون خبيثا ألا يكون من العدل أن نحكم الحكم عينه على أنفسنا إن نحن تقززنا من مريض النفس، واجبنا أن نداوي المريض ونعنى به، ولا يمكن أن يكون ذلك مع رفضه وتحقيره، ترى لو أنك نظرت إلى إنسان مقترب من الموت بنظرة يشك فيها ألا يتألم ويبكي كما بكى عبد الله الصياد حين أردنا أن نتركه بعد أن مكثنا نعوده سويعة من الزمان، كذلك ألا أكون قاسيا إذا نظرت النظرة عينها إلى مريض النفس، أليس من واجبي أن أحابيه مقدار ما أستطيع لعله يشفة ولا أبعده وأحرمه من عطفي حتى يموت موتا نفسيا مثلما أبقى مع الآخر حتى تفارق روحه بدنه، حقيقة في ذلك اليوم أدفنه لأنه لا فائدة منه بعد، ولكني أتألم من أجله بل وأزاداد له حبا، هذا واجب كل إنسان نحو كل إنسان.
Page inconnue