Mes mémoires 1889-1951
مذكراتي ١٨٨٩–١٩٥١
Genres
لم أغير أو أبدل في موظفي مكتب الوزير بل أبقيتهم كما كانوا في عهد الوزير السابق ولم أزد عليهم أحدا. وخوطبت في إجراء ما أشاء من التغيير والتبديل أو الزيادة والنقص، فكنت أقول: ليبق كل موظف في مكانه، إني أعتبر نفسي أبا ورئيسا لجميع الموظفين، وهم في نظري سواء، فلا داعي للتغيير والتبديل.
وأحسبني لم أغير من طباعي بعد أن توليت الوزارة، لم أتعاظم على الناس، وبقيت محتفظا بديمقراطيتي وشعبيتي. حقا أن منصب الوزير محاط عندنا بمظاهر كثيرة من التفخيم والتعظيم. ولكن هذه المظاهر لم تؤثر في نفسي ولم ألق إليها بالي، بل كنت أعرض عنها أحيانا. دعك من التحيات والتعظيمات التي يلقاها الوزير في ذهابه إلى الوزارة أو خروجه منها، فهذه مسائل مألوفة ولا بد من قبولها. ولكني لم أستطع أن أهضم الطريقة التي يقابل بها الوزير في محطة العاصمة أو الإسكندرية عند انتقاله من إحداهما إلى الأخرى؛ فقد كان يحيط بي ضابط أو ضابطان وثلة من الجنود يتقدمهم جندي ممتاز (لعله شاويش) يفسح الطريق لي على رصيف المحطة. لم أقبل هذا الوضع بالذات وطلبت من الضابط أن يأمر الجندي بالتنحي عن السير أمامي، فنفذ ما طلبت، وكان الطلب وإجابته يتكرران كل مرة. ولم أكن أحجز ديوانا خاصا لسفري بل كنت أكتفي بمقعد في عربة تكييف الهواء. وعندما كنت بالإسكندرية لم أغير عادتي من التريض سيرا على قدمي في طريق الكورنيش بعد غروب الشمس إلا في الأيام التي كنت أضطر إلى العودة للوزارة مساء. وكان الجندي المرافق لي من حرس الوزارة يطلب مني بإلحاح أن يرافقني في نزهتي ولو بعيدا عني؛ لأن التعليمات تقضي عليه بذلك، فكنت آمره بألا يرافقني لا من قرب ولا من بعد. وفي بعض الأحيان - ترويحا للنفس وتحررا من مظاهر الفخفخة الوزارية - كنت أركب ترام الرمل في بعض تنقلاتي وأصرف سيارة الوزارة، وكان يلمحني بعض معارفي وأصدقائي راكبا الترام فيدهشون لهذا المنظر: منظر وزير يركب الترام! وشاهدني مرة في هذه الحالة أحد مراسلي «الكتلة» فاعتقد أن في الجو أزمة وزارية وأن الوزارة وشيكة السقوط وأبرق إلى صحيفته بذلك لأنه لم يتصور أن وزيرا يركب الترام، إلا إذا كان على أهبة الاستقالة.
وكان جيراني في المصيف يلاحظون أني أعود إلى منزلي بعد رياضتي سيرا على قدمي، ويلاحظون على وجه العموم أني لم أتغير عما كنت عليه قبل دخولي الوزارة، بالرغم من مظاهر العناية والرعاية الحكومية التي أحاطت منزلي، كالكشك وحرس الوزارة وما إلى ذلك. وقد أقامت بلدية الإسكندرية عمودا من النور أضاء الرحبة التي أمام المنزل وكانت من قبل مظلمة، وأصلح عمالها الرحبة نفسها وسووا أرضها وأزالوا منها أكوام الطوب والحجارة التي كانت منتثرة فيها، فحمد الجيران هذه الصدفة التي جعلت جارهم وزيرا، وبدا منهم نحوي شعور من الانعطاف والتقدير إذ رأوني لم أفارق تواضعي.
كنت أهتم بشكاوى الجمهور وأتولى فحصها وتحقيقها بواسطة الموظفين المختصين، ولا أكتفي بإحالتها على المراقبات المختصة بل أؤشر عليها بنفسي بوجوب تحقيقها وعرض نتيجة التحقيق علي لأبدي فيها القرار الأخير. وكانت إشاراتي المكتوبة كلها بخطي تشعر الموظفين المختصين بأني رقيب عليهم، وكنت أسأل فعلا بين حين وآخر عن نتيجة تأشيراتي على هذه الشكاوى. وساعدني على ذلك أني كنت أدون في مذكرة خاصة (أجندة) أهم الشكاوى وأنتظر الوقت المناسب فأسأل عما تم فيها، وإذا تأخر تحقيقها كنت آمر بكتابة استعجال عنها، فأدرك الموظفون أن عين الوزير ساهرة ترقبهم، وهذا وحده يساعد على استقامة الأمور.
وكنت آخذ معي يوميا عند انصرافي من الوزارة محفظة تحوي المذكرات والتقارير المهمة التي يطلب فيها قرار من الوزير وأدرسها بمنزلي ليلا أو في الصباح الباكر وأكون فيها الرأي الصحيح وأستدعي في الوزارة الموظفين المختصين وأناقشهم في تفصيلات هذه المذكرات فيعرفون أني درستها دراسة دقيقة، ثم أصدر القرار الذي أعتقد أنه يطابق العدل والصالح العام بحضورهم دون إرجاء أو تسويف أو وضع للملفات في الأرشيف، وكنت أميل إلى سرعة البت في الأمور التي يستدعيها عمل الوزارة، فأتولى دراستها بنفسي بعد أخذ رأي اللجان أو الموظفين المختصين، وكثيرا ما كنت أستعجل دراستها لكيلا يتأخر البت فيها.
إن وزارة التموين موضع احتكاك وتضارب في المصالح والاتجاهات بين المنتجين والمستهلكين، وخاصة بين الجمهور وطبقة التجار والشركات والرأسماليين، فكنت أيضا أفصل في خلافاتهم بروح العدل والإنصاف.
وكانت نزعتي - وستبقى دائما - شعبية لا رأسمالية، فكنت أميل إلى إنصاف الطبقات الشعبية وأقف في صفهم ضد بعض الرأسماليين، ومن هنا صادفتني متاعب وعقبات تغلبت على كثير منها ولم يعمل برأيي في بعضها.
وقد نسبت إلي بعض الصحف - بإيعاز من بعض كبار الرأسماليين - أني تنقصني الكفاءة الفنية في شئون التموين، وأن بعض الوزراء شكا إلى رئيس الوزارة هذا النقص. وقد ابتسمت حينما قرأت هذه النبذة؛ فأي كفاءة يقصدها هؤلاء السادة؟ إني في المحاماة أستطيع أن أناقش آراء الفنيين في الطب والهندسة والصناعة والملاحة والشئون المالية وما إليها، وأن أوازن بين تقاريرهم وآرائهم التي يدلون بها أمام المحاكم، وأن أتعرف وجه الحق والصواب فيما يقررون، فهل أعجز عن فهم الآراء الفنية في شئون التموين وهي أسهل بكثير من الأمور المعقدة التي تعرض في ساحات القضاء؟!
وقد اشتد الخلاف على الأخص بيني وبين شركة السكر؛ إذ كنت أراها تعمل على إنقاص مقررات السكر للعائلات والأفراد والمصانع وتتباطأ في شحن هذه المقررات في الوقت المناسب مما أدى إلى ارتفاع سعر السكر في السوق السوداء، وجاءتني شكاوى كثيرة في هذا المعنى من مختلف البلاد، فأصدرت التعليمات للشركة بأن تفي بالتزاماتها، ولكني رأيت منها تلكؤا متعمدا في تنفيذها، فأصدرت قرارا وزاريا (رقم 144 لسنة 1949) بتاريخ 29 سبتمبر سنة 1949 ألزمتها فيه بشحن مقررات السكر الشهرية إلى جميع مناطق الاستهلاك طبقا لما تحدده وزارة التموين وأن يتم شحن هذه المقررات في ميعاد لا يتجاوز الخامس والعشرين من الشهر السابق للشهر المخصصة له، وحظرت عليها التصرف في أي نوع من السكر الخام أو المكرر بغير ترخيص من الوزارة. وألزمتها بإرسال بيان إلى الوزارة بالمركز الإحصائي للسكر الذي في مخازنها، وأن ترسل في الأسبوع الأول من كل شهر بيانا برصيد السكر المكرر الموجود في اليوم الأول من الشهر السابق بمصنع التكرير بالحوامدية وبمخازن الشركة كل على حدة، وفرضت في القرار عقوبات على عضو مجلس الإدارة المنتدب ومديري الشركة في حالة مخالفتهم لأحكام هذا القرار.
وقد نشر القرار في الجريدة الرسمية في عدد غير اعتيادي صدر في اليوم نفسه، فصار قانونا نافذا، ولاحظت أن توزيع السكر قد انتظم بعد صدور هذا القرار وارتاح الجمهور من هذه الناحية. على أن عضو مجلس الإدارة المنتدب قد ثار وشكاني إلى رئيس الوزارة، وكان يظن أن صداقته لسري باشا تجعله فوق القانون، وفي الحق أن سري باشا قد وقف من هذا الخلاف موقفا قويما وتركني أتصرف في حدود سلطتي، ولم يتدخل في اختصاصي ولا وجه إلي أي اعتراض فيما اتخذت من إجراءات. وقد أكبرت منه هذا المسلك الذي يدل على روح محمودة من الاستقامة والنزاهة.
Page inconnue