Mes mémoires 1889-1951
مذكراتي ١٨٨٩–١٩٥١
Genres
وهنا أراد رئيس الجلسة (سليمان باشا السيد سليمان وكيل المجلس) ألا أسترسل في هذا الحديث قائلا: «أرجو حضرة الشيخ المحترم ألا يخرج عن الموضوع وأن يقصر كلامه على بيان الوزارة.»
فقلت: «إني أتكلم في بيان الوزارة الذي جاء فيه أن علاقتنا وبريطانيا العظمى سيكون أساسها تنفيذ معاهدة التحالف والصداقة بروحها ونصها، وهذا الأساس لا نقره بحال.»
وعندئذ تدخل حسن صبري باشا رئيس الوزارة قائلا: «لقد أقسم حضرة الشيخ المحترم على احترام قوانين البلاد، ومعاهدة الصداقة صدر بها قانون يجب احترامه.»
فأجبته: «أنا لا أزال متمسكا برأيي. ولقد كنت دائما ممن عارضوا معاهدة الصداقة والتحالف، والأحزاب والجماعات تطالب الآن (1940) بالجلاء وهو الرأي الذي طالما نادى به الحزب الوطني من قديم وحققت الأيام صحته. فلا يليق بنا في الوقت الذي اتفقت فيه الأحزاب والجماعات على صحة هذا المبدأ وقامت تطالب بالجلاء، أن نتخلى عنه، ولا يتفق مع مبادئ الحزب الوطني أن نؤيد وزارة تقوم على غير هذا الأساس.»
ثم عاد رئيس الوزارة يجابهني باليمين التي أقسمتها قائلا: وماذا يقول حضرة الشيخ المحترم في اليمين التي أقسمها على احترام قوانين البلاد؟
وهنا تدخل المرحوم الأستاذ يوسف الجندي (وكان بيني وبينه ود متبادل) ورد على اعتراض رئيس الوزارة قائلا: «إن القسم على احترام قوانين البلاد لا يمنع أي عضو من انتقاد قانون ما أو طلب تعديله.» وقلت معقبا: «نعم، ولي أن أعترض على أي قانون وأطلب تعديله أو إلغاءه.» ثم قلت مخاطبا الأعضاء: «إخواني الأعزاء! إن المبادئ التي يدين بها الحزب الوطني والتي أثبتت الأيام صحتها هي ذلك التراث الوطني المقدس الذي تلقيناه عن أسلافنا العظام، فلا يجوز لنا أن نتنازل عنها أو نتراخى في التمسك بها.» وانتهت المناقشة عند هذا الحد.
ولما تناقش المجلس بجلسة 31 ديسمبر سنة 1940 في خطاب العرش على عهد وزارة حسين سري باشا لم أقر مشروع لجنة الرد على الخطاب، وقد حصلت المناقشة في جلسة سرية وأبديت وجهة نظري في بطلان المعاهدة، وعندما عرض مشروع اللجنة لأخذ الرأي عنه بالجلسة العلنية لم أوافق عليه، وقلت ما نصه: «للأسباب التي أبديتها في الجلسة السرية لا أوافق على مشروع الرد المقدم من اللجنة.»
وخلاصة هذه الأسباب (وهي مدونة تفصيلا في محضر الجلسة السرية) أن خطاب العرش ومشروع الرد عليه كما وضعته اللجنة يحتويان على إقرار الأساس (أساس المعاهدة) الذي يتنافى مع الاستقلال؛ ومن ثم لا أوافق على الخطاب ولا مشروع الرد عليه، وقلت في تأييد وجهة نظري: «لقد اعترضنا كثيرا على أساس التحالف بين مصر وبريطانيا كما ورد في معاهدة سنة 1936 فكانوا يقولون عنا أننا متطرفون أو متطيرون، وها هي الحوادث تنطق بأننا كنا معتدلين فيما قلناه وتوقعناه، ولا أدري ما هي مصلحة البلاد في كتمان الحقائق عنها أو تصوير الأمور على غير حقيقتها. إن الوضع الصحيح للتحالف أو التعاون هو ما نراه بين بريطانيا واليونان؛ نريد أن يعاملونا كما عاملوا اليونان قديما وحديثا؛ لقد ساعدوها على استرداد استقلالها منذ نيف ومائة عام وتركوها طول هذه المدة مستقلة استقلالا صحيحا، تركوها تعتمد على نفسها وتؤلف جيشها وأسطولها، تركوها تقوى وتنمو وتنهض، وساعدوها على توسيع أملاكها، وكانوا كلما تعرض استقلالها للخطر هبوا لنجدتها وحاربوا من أجلها. ومع ذلك لم يكن من شروط التحالف أو التعاون بينهما قديما أو حديثا أن يكون لإنجلترا في أي جزء من أراضي اليونان قوات حربية مستديمة في حالتي الحرب والسلم كما هو الحال عندنا، ولا أن تقتسم وإياها السيادة وتستأثر بالحكم في أي جزء من بلادها كما هو الحال في السودان؛ فهذا النوع من التحالف أو التعاون، هذا النوع السليم الصحيح، هو الذي أنتج دولة قوية هبت للدفاع عن الذمار ضد الغزو الإيطالي لأنها تعتقد حقا أنها تدافع عن الاستقلال لا عن الاحتلال.
أنا لا أتصور استقلالا بغير الجلاء، ولا أتصور احتلالا مهما كان شكله بغير تبعية، ولا أتصور تحالفا بين دولتين مستقلتين يقوم على غير أساس الجلاء، إلا إذا تنازلت إحداهما عن الجلاء أو عن جوهر الاستقلال، هذه هي الحقائق، هذه هي المسميات، أما الأسماء فما أكثرها
إن هي إلا أسماء سميتموها .»
Page inconnue