والآن نترك السادة الخصوم، وندع تأثيرهم في أذهان الجمهور، وننظر إلى هذا الأثر في نفسي. فأقول بكل صراحة إن شيئا من اليأس قد داخلني، وزاد منه أن توالت علي صدمات مالية قاسية. فقد اشتريت قبل ذلك قدرا هائلا من الفرنكات والليرات والأسهم والماركات، فهبطت أسعارها جميعا. وكان التدهور المادي شنيعا فأحسست بعده فعلا بهبوط حالتي المعنوية، حتى لم أكن أتمالك نفسي على خشبة المسرح ... ودب في عملي نوع من الإهمال الذي انقلب إلى فوضى تفشت في ثنايا المسرح، وكادت تقلبه رأسا على عقب.
وكانت ثالثة الأثافي أن تغير شعور كل من المرحومين عزيز عيد والشيخ سيد درويش نحوي، وسمعت من بعض المتصلين بهما أنهما ينويان رفع راية العصيان، ويتحدثان بأن الإيراد الذين يدخل جيبي من فرقة الكازينو - ولست ممثلا فيها - يجب أن يكون من حقهما وحدهما.
وحين وصل إلى سمعي هذا الخبر، قصدت إليهما وصارحتهما بأنني رجل لا أحب العمل إلا في وضح النهار. ثم سردت عليهما ما وقفت عليه من شأنهما، وأتبعته بأنني على تمام الاستعداد لنفض يدي من المشروع وتركه لهما بخيره وشره، فعليهما أن يذهبا بالفرقة حيث شاءا، وأن يكفياني مئونة النظر في أمرها. وكان ذلك الإجراء الحاسم فصل الخطاب بيني وبينهما، وتضافر الاثنان في إخراج رواية (شهر زاد).
ثلاث شقيقات
فاتني أن أذكر حادثا له أهميته، في مذكرات كهذه، يقصد بها وجه التاريخ الصحيح، الذي آليت على نفسي فيه منذ البداية أن أكون صريحا في سرد الحقائق، وإن آذت مرارتها شخصي في بعض الأحايين.
في سنة 1920 تقدمت إلى ثلاث فتيات منهن طفلة يبلغ سنها حوالي الأحد عشر أو الاثني عشر عاما، وطلبن الالتحاق بالفرقة!
فلم أتأخر عن إجابة هذا الطلب، وأضحت الفتيات (رتيبة وإنصاف وفاطمة رشدي) من أفراد فرقتي، وأريد إلى جانب ذلك أن أقول بأنني لاحظت في الصغرى ذكاء وقادا، وهواية شديدة للتمثيل، ورغبة أكيدة في العمل للتقدم على خشبة المسرح، بعكس شقيقتيها اللتين شعرت أن ميلهما كان متجها إلى إلقاء المقطوعات التلحينية. هذا ما رأيت إثباته قبل العودة إلى المدى الذي تركت القارئ عنده.
وهناك شيء آخر تدفعني الصراحة كذلك إلى إبدائه، وهو أنه في أواخر عام 1920 كان الخلاف قد دب بين الصديقة (لوسي دي فرناي) وبيني، فافترقنا إلى غير عودة. ويقيني أن هذا الفراق كان أول النكبات التي صبها القدر فوق رأسي وساقها إلي حلقات متتالية يأخذ بعضها برقاب بعض.
ذلك لأن ما كان يغمرني من خير جارف، أضحى بعد ذلك البحر جفافا من كل ناحية، بل وشرا مستطيرا، حتى لقد اقتنعت تماما أن هذه الفتاة كانت هي مصدر الأرزاق، وأنها إنما حملت في جعبتها بسمات الدهر وحظ العمر.
الفصل السابع
Page inconnue