انتقام من السينما
وفي هذا الوقت كان حظي في المسرح «ضارب» نار، وكأنني كنت أنتقم من خذلاني في السينما، فقد شفيت غليلي ومعي بديع زميلي، ووضعنا كل همنا في إخراج رواية كاملة المعاني. وكان التوفيق رائدنا بعون واحد أحد، فأتممنا تأليف رواية «حكم قراقوش»، وقد جاءت هذه الرواية بدعة من حيث الوضع والتنسيق، ومن ناحية وجود الفكاهة العذبة والتسلية اللذيذة، في سرد حوادثها وفي رسم شخصياتها.
فلما رأيت نجاحها، حمدت الله الذي عوضني عن السينما بهذا النجاح المسرحي الهائل، ولهذا عقدت نيتي من ذلك الحين على أن أهجر الشاشة بتاتا، وفي خشبة المسرح متسع لي، وإطفاء لشهوتي الفنية وغذاء لروحي المتلهفة على الوصول إلى الكمال بقدر الإمكان، ومن ثم رفضت جميع العروض السينمائية التي تقدم إلي بها كثيرون من الماليين ومن رجال الفن العديدين.
وبعد «حكم قراقوش» أخرجت «مين يعاند ست»، فكانت هي الأخرى انتصارا لي مع أنها كوميديا من النوع «الناعم»، إلا أن المتفرج تقبلها بقبول حسن، وحل الصيف فتأبطت ذراع زميلي بديع وقصدنا إلى جزيرة قبرص، وهناك هيأت لنا الظروف الصالحة وضع رواية «مندوب فوق العادة»، وكان في عزمنا أن نفتتح بها موسم 1946، ولكن الظروف المواتية مكنتنا من وضع رواية (قسمتي)، التي افتتحنا بها ذلك الموسم، وأبقينا الرواية الأولى بمثابة احتياطي لنا. وأعترف بأن هذه هي أول مرة في حياتي أحتفظ فيها بما يسمى الاحتياطي.
وبعد عرض الروايتين «قسمتي» و«مندوب فوق العادة» فكرت في إخراج رواية استعراضية نختم بها الموسم فأعددت العناصر اللازمة لها واشتركت مع الزميل بديع خيري في وضعها بعد أن أطلقنا عليها اسم «الدنيا على كف عفريت».
فيلم ثالث
وفي أحد الأيام التي كنا نستعد لإخراج تلك الرواية على المسرح، وبينما كنت أرتدي ملابسي لموافاة الممثلين في البروفة دق جرس التليفون وكان المتحدث زميلي بديع، يبلغني أنه في أستوديو مصر، وأن الأستاذ أحمد سالم مديره يود رؤيتي سريعا. فسألت بديعا: ألم يطلعك على أسباب هذه الرغبة؟ فقال كلا. وقبل أن أتوسع في طلب معلومات من بديع تناول الأستاذ سالم بوق «الأرزيز» ... أنت فاهمني؟ الأرزيز ... والأرزيز هو التليفون بلغة المجمع اللغوي، واسألوا أهل الذكر! وسمعت الأستاذ أحمد سالم يضرب لي موعدا أقصاه نصف ساعة ولكي يسهل مأموريتي أبلغني أن سيارته ستكون أمام منزلي قبل هذا الموعد.
وأكملت ارتداء ملابسي، ورحت أضرب أخماسا في أسداس. لا شك بأن مدير أستوديو مصر لم يطلبني بمثل هذه السرعة لأشترك معه في مباراة شطرنج، والا عشرة دومينو أمريكاني، فلابد إذن أن هناك عملا اقتضى هذا الاستدعاء، وأن هذا العمل لن يكون إلا فيلما للأستوديو. لقد كان مجرد التفكير في السينما يزعجني، بعدما رأيت منها فيما مضى، وبعدما قاسيت ممن اشتركت معهم، ولذلك قضيت الطريق بين منزلي وبين الأستوديو، مفكرا في طريقة الاعتذار «بذوق» عن ظهوري على الشاشة، وبزيادة علينا المسرح ... وبينا وبين السينما ربنا!!
ووصلت الأستوديو وهناك لقيت الأستاذ أحمد سالم وحسني نجيب وبديع خيري. سلام عليكم. عليكم السلام، وبعد التحيات الطيبات، والمجاملات المتبادلات (معلهش يا اخوانا يا فصحاء القافية حكمت)، فهمت من الأستاذ سالم أنه يسر الأستوديو أن يخرج فيلما لي ... آه وقعت الفاس في الراس!! ولم أجد ما أجيب به غير أنني مشتغل إذ ذاك بإخراج رواية مسرحية جديدة وأنها تستغرق كل أوقاتي فأمهلني حتى أنتهي منها.
ودارت بيننا مناقشة أكد لي فيها الأستاذ سالم أن روح التعاون بيننا ستكون وثيقة، ويظهر أنه أحس من ناحيتي بعض التردد أو الرغبة في «الحمرقة»، فصارحني بحقيقة كنت أجهلها، قال لي ما معناه إن الناس بدءوا يلوكون اسمك في معرض الفشل في السينما، وإن واجبك يدعوك إلى الدفاع عن نفسك بطريقة عملية، فقدم الدليل لأولئك القوم على أن الفشل الماضي أتى عن غير طريقك، لأن العوامل التي أفسدت عليك سبيلك لن يكون لها وجود في ستوديو مصر.
Page inconnue