وقد كان زائرنا هو ناظر العملة الذين يعملون بالمدرسة. وهو رجل أشقر اللون، ممتلئ الجسد، تمتزج في نظرته غباوة الضبع بخبث الثعلب. وقد كان صاحبنا مهذارا لا يكاد يكف عن التحدث والتساؤل، حتى لقد همس إلي بعض رفاقي ضاحكا: «ما أجدره بصناعة حلاق، ولكن القدر ظلمه حين وضعه في وظيفة مراقب العملة.»
دخل علينا صاحبنا وحيا، ثم جلس على مقعد والتفت إلى الشباك فرآه مفتوحا، فأراد أن يلقي علينا نصيحة غالية.
فقال: «ما كان من حقكم أن تفتحوا الشباك في حين أنه مواجه لباب البيت، ألا ترون أنه يحدث تيارات هوائية بالبيت ربما أضرت بكم وأضرت بالجالسين.»
فقال له رب البيت: «لقد فتحناه قصد إحداث هذا التيار لجرف رائحة النوم وتصفية هواء البيت.»
فلم يسكت وقال: «ولكن هواء البيت قد أصبح نقيا صافيا، ولذا فالواجب غلق الشباك أليس كذلك؟»
فقال له صاحبي وكان أوسعنا صبرا: «لقد فتحناه عن إرادة وقصد، وغايتنا أن الهواء متجدد على الدوام، خصوصا ونحن بعيدون عن منطقة الخطر، إذ إن مجلسنا بعيد عن مصب التيار الهوائي.»
فلم يقتنع صاحبنا الثقيل، وأراد أن يطيل الحوار. ولكننا أغضينا عنه ولم نعره التفاتا. وأخذت أسرد، وكأن صاحبنا لم يفهم. فزاد في حديثه الجميل، ثم التفت إلى أحدنا وكان يدخن قائلا: «أليس حراما عليك أن تدخن، وأنت تدرس العلم، وكتب العلم أمامك مفتوحة؟»
فابتسمنا جميعا، وأجابه المدخن: حقا، ولكن هاته كتب قانونية ليس إلا؟ ثم أعقب الرفيق كلمته بابتسامة فيها من السخرية شيء كثير.
ولكن صاحبنا الثقيل لم يفهمها أو لم يرد أن يفهمها، بل قال ضاحكا: «إذا فناولني سكارة» فلما ناوله قال: «بارك الله فيك» وما كان أغنى صاحبي عن دعواته. ثم أردف قائلا: «حقا إن التدخين جميل يدفع عن النفس ما يثقل عليها» وأتبع كلمته الذهبية بابتسامة بغيضة مستثقلة.
وانتهزت فرصة سكوته وتناولت الكتاب وأخذت أتلو، ولكن صاحبنا أخذ يتحدث من جديد مع بعض الرفقاء، فوضعت الكتاب ولبثت صامتا أصغي لحديثه الممل، وأعجب لروحه الثقيلة التي لا تفهم أنها نقمة سلطها الله علينا. ودخل في حديث طويل عن الوظيفة والمتوظفين، وعما نقرأ من دروس، وما لنا من مستقبل. ثم تساءل عن الرئيس الذي سيخلف رئيس الجمعية المتوفى. فأجابه أحدنا: «بأنه يشاع أنه سيكون فلانا. فأخذ يحاوره، ثم أخذ يسأل عن سكنى فلان، في أي شارع هو؟ وعن الشارع في أي قسم من العاصمة هو؟ وما عدد المنزل؟ وما هي صفاته؟ ولم يبق له إلا أن يسأل عن عرضه؟ وطوله؟ وكم فيه من طابق؟ وكم فيه من لبنة؟».
Page inconnue