وأتعبَ عندي من مطايا بقفرةٍ ... وبعدها منها شقةً وترحلا
حشًا يمتطيها الشوقُ في كلِّ ساعةٍ ... تقربها البلوى إلى الحتفِ منزلا
وأما مدام: فكانت جارية، وكانت للعباس بن الفضل مواصلة. فكتب إليها:
كوني بخيرٍ، وإنْ أصبحتِ في شغلٍ ... القلبُ قلبكِ أعيتْ دونه حيلي
لو كنتُ أحسنُ هجرًا ما هجرتكمُ ... أوْ كنتُ أعرفُ غيرَ الوصلِ لم أملِ
أقررتُ بالذنبِ، خوفًا من عقابكِ لي ... وقلتُ: ما الذنبُ إلا لي، ومن عملي
لما لحظتِ سوائي لحظَ مكتتم ... علمتُ أنكِ قد وفيتني أجلي
كتبتُ، والدمعُ في القرطاسِ منحدرٌ ... وإنْ شككتِ تبينيهِ في البللِ
فأجابته:
كم قد تعللتُ بالتسويفِ والأملِ ... وكم تجرعتُ من لومٍ، ومن عذلِ
وكم رجوتُ، إذا ما الدهرُ باعدني ... بأنْ أدالَ على قلبي، فلم أدلِ
لم يكفِ أن حزتَ نومي عن مسالكهِ ... فليسَ يطرقُ في ريثٍ، ولا عجلِ
إن كنتُ خنتكَ في عهدي مختالةً ... أو عمدَ عينٍ، أو استبدلتُ من بدلِ
فلا رأيتكَ يومًا إذًا ... عني بغير، ولا من أملي
أمسى كتابكَ مبلولا، وقد درستْ ... منه السطورُ، ورسمُ الدمعِ لم يزلِ
إذا بي، أو خنتَ خالصتي ... أو غبتَ عني، فذا أقصى عقابكَ لي
وكتب إليها أيضًا:
تبرمتُ بعذالي ... وبثِّ القيلِ والقالِ
فما يخطرُ من بعد ... كِ في الحبِّ على بالي
فكفي من تجنيكِ ... الذي هيجَ بلبالي
وعودي كالذي كنتِ ... لنا في الزمنِ الخالي
وإلا كانَ شكوانا ... إلى الشاهِ بنِ ميكالِ
فكتبت إليه:
بنفسي أنتَ من قالِ ... وبالأهلِ، وبالمالِ
إذا ما كنتُ أرعى ل ... كَ حبيكَ، وترعى لي
ولم تسألَ من واشٍ ... فما الشكوى إلى الوالي
وأما ريا: فكانت جارية لابن القراطيسي، وكانت شاعرة. أنشد السيد بن أنس التليدي:
وإذا ترعرعَ من تليدٍ ناشئٍ ... جعلَ الحسامَ ضجيعهُ في المسهدِ
فكتبت:
قومٌ لهم شرفٌ وعزٌّ تالدٌ ... يفنى الزمانُ وعزهم لم ينفدِ
الله خصَّ قديمهمْ وحديثهم ... دون البريةِ بالعلى والسؤددِ
أضحى يقرهمُ بكلِّ فضيلةٍ ... منْ كان يجحدهمْ، ومن لم يجحدِ
وتمامُ فخرهمُ إذا ما فاخروا ... يومَ التناصلِ بالنجيبِ السيدِ
وأما مخنثة: فكانت جارية لزهير. وقال ابن أبي خلصة: بعث يومًا زهير إلى أبي نواس فأحضره، وعرض عليه مخنثة، وكانت من أطرف الناس. فلما رآها قال:
للحسنِ فيهِ صنيعُ ... له القلوبُ تريعُ
فما إليهِ سبيلٌ ... ولا إليهِ شفيعُ
فقالت في وقتها:
أبو نواسٍ خليعٌ ... له الكلامُ البديعُ
وواحدُ الناسِ طرًا ... له أقرَّ الجميعُ
وقالت ترثي ابن مولاها، وقتل ببغداد مع الأمين:
أسألُ ناعيهِ، والذي شهدَ ال ... ليثَ عليهِ الكلابُ تقتتلُ
تنهشُ شلوًا، أعززْ عليَّ بهِ ... يسحبُ طورًا والمتنُ منخذلُ
أأنتَ أبصرتهُ يلابُ بهِ ... في أرضِ بغدادَ أيها الرجلُ
إنْ كنتَ أبصرتهُ كذاكَ فما ... ينجو شديدُ القوى، ولا فشلُ
فلو تراهُ عليهِ شكتهُ ... والموتُ دانٍ، والحربُ تشتعلُ
لخلتَ أنَّ القضاءَ في يدهِ ... أو المنايا في كفهِ رسلُ
كأنهُ آمنٌ منيتهُ ... في الروعِ لما تشاجرَ الأسلُ
فانظر، بالله، أيها المتصفح هذا الكتاب ما أحسن هذه المعاني العجيبة، والألفاظ المرققة العذاب! فما الذي أبقت هذه المرأة العبدة للرجال الأحرار؟.
وأما سكن: فكانت جارية لمحمود بن الحسن الوراق الشاعر. وكانت شاعرة مجيدة، حسنة النظر في العلوم. وهي القائلة تمدح أبا عدنان دلف بن أبي دلف:
أهدتْ لقلبكَ غصةَ التلفِ ... ودعتْ إليكَ دواعي الأسفِ
عاداتُ مقلتها إذا نظرت ... رشقُ القلوبِ بأسهمِ الشغفِ
كم من أسيرِ هوىً لمقلتها ... بادي الصبابةِ، ظاهر الكلفِ
وقفٌ على الأسقامِ مهجتهُ ... سمحُ المقادةِ، غيرُ منتصفِ
إنَّ المكارمَ بعدَ قاسمها ... ألقتْ أعنتها إلى دلفِ
1 / 62