ومن الأخوة الشعراء: بنو مرة القردي. كان بنو مرة عشرة، وهم أبو خراش، وعروة، وأبو جندب، والأبح، والأسود، وأبو الأسود، وعمرو، وزهير، وجناد، وسفيان. وامهم لبنى، وبها شهرتهم، يقال لهم: بنو لبنى. وذكر أن هؤلاء كلهم قالوا الشعر، وما اشتهر إلا ثلاثة، وسنذكرهم، ونذكر أشعارهم، وهم أبو خراش، واسمه خويلد، وعروة، وأبو جندب.
وكان أبو خراش شاعرًا، وأدرك الإسلام. فمن أجود شعره المختار، الذي لم يسبق إليه قوله يرثي أخاه عروه، وقد سلم ولده خراش:
حمدتُ إلهي بعدَ عروةَ إذ نجا ... خراشٌ، وبعضُ الشرِّ أهونُ من بعضِ
فوالله لا أنسى قتيلًا رزئتهُ ... بجانب قوسى ما مشيتُ على الأرضِ
بل إنها تعفو الكلوم، وإنما ... نوكلُ بالأدنى، وإن جلَّ ما يمضي
ولم أدرِ من ألقى عليه رداءهُ ... سوى أنهُ قد سلَّ عن ماجدٍ محضِ
ولما قتل عروة ألقى عليه رجل من دارم رداءه.
وقول طرفة:
أبا منذرٍ أفنيتَ، فاستبقِ بعضنا ... حنانيكَ بعض الشرِّ أهونُ من بعضِ
وقال دعبل:
وإذا انقضى همُّ امرئٍ، فقد انقضى ... إنَّ الهمومَ أشدهنَّ الأحدثُ
وقال أبو خراش من باقي تلك القصيدة يرثي عروة:
ولم يكُ مثلوجَ الفؤادِ مهبجًا ... أضاعَ الشبابَ في الربيلةِ والخفضِ
ولكنهُ قد نازعتهُ مخامصٌ ... على أنهُ ذو مرةٍ، صادقُ النهضِ
يقول: لم يكن مثقلًا مقيمًا في الدعة والأكل والشرب، ولكنه جاذبه الجوع، وكان إذا نهض بحقيقة لم يكذب. ثم وصف سرعة انهزام خراش من القتل، وحسن نجايته وأصحابه:
كأنهمُ يشبثون بطائرٍ ... خفيف المشاشِ، عظمهُ غيرُ ذي نحضِ
يبادرُ قربَ الليلِ فهو مهابذًّ ... يحثُّ الجناحَ بالبسيطِ، أو القبضِ
يقول: هؤلاء الذين يعدون خلف خراش كأنهم يتعلقون بطائر. ومهابذ: جاد مسرع.
فقال خراش ولده يذكر مفره وسرعة النجاة من بني خزاعة:
رفوني، وقالوا: يا خويلدُ لا ترعْ ... فقلتُ: وأنكرتُ الوجوهَ: همُ همُ
تذكرتُ ما أين المفرُّ، وأنني ... بعونِ الذي ينجي من الموتِ معصمُ
فوالله ما ربداءُ أو علجُ عانةٍ ... أقبُّ، وما إن بين رملٍ مصممُ
بأسرعَ مني إذ عرفت عديهمْ ... كأني لأولاهم من القربِ توأمُ
أوائل بالشدِّ الذليقِ، وحثني ... لدى المتن مشبوحُ الذراعينِ، خلجمُ
فلولا دراكُ الشدّ ظلت حليلتي ... لدى المتن في خطابها، وهي أيمُ
فتسخطُ، أو ترضى مكاني خليفةً ... وكادَ خراشٌ، يومَ ذاكَ، ييتمُ
وقل أبو خراش:
لما رأيتُ بني نفاثةَ أقبلوا ... يشلونَ كلَّ مقلصٍ خنابِ
فنشيتُ ريح الموتِ من تلقائهم ... وكرهتُ وقع مهندٍ، قرضابِ
أقبلتُ لا يشتدُّ شدي واحدٌ ... علجٌ أقبُّ، مسيرُ الأقرابِ
ورفعتُ ساقًا لا يخافُ عثارها ... وطرحتُ عني بالعراءِ ثيابي
وقال أبو خراش يرثي اخاه عروة:
لعمري لقد راعتْ أميمةَ طلعتي ... وإنْ ثواني عندها لقليلُ
تقولُ: أراهُ بعدَ عروةَ لاهيًا ... وذلك رزءٌ، لو علمتَ، جليلُ
فلا تحسبي أني تناسيتُ عهدهُ ... ولكنَّ صبري، يا أميمُ، جميلُ
أبى الصبر أني لا يزالُ يهيجني ... مبيتٌ لنا، فيما خلا، ومقيلُ
وأني إذا ما الصبحُ آنستُ ضوءهُ ... يعاودني قطعٌ عليَّ ثقيلُ
ألم تعلمي أن قد تفرقَ قبلنا ... خليلا صفاءٍ: مالكٌ وعقيلُ
ومن شعره:
وإني لأثوي الجوعَ حتى يملني ... فيذهبَ لم تدنسْ ثيابي ولا جرمي
أردُّ شجاعَ الجوعِ قد تعلمينهُ ... وأوثرُ غيري من عيالكِ بالطعمِ
مخافةَ أن أحيا برغمٍ وذلةٍ ... وللموتُ خيرٌ من حياةٍ على رغمِ
ومات أبو خراش زمن عمر بن الخطاب ﵁، بنهشة حية. فقال قبل موته:
لعمركَ والمنايا غالباتٌ ... على الإنسانِ تطلعُ كلَّ مجدِ
لقد أهلكتِ حيةَ بطنِ أنفٍ ... على الفتيانِ ساقا ذات فقدِ
ذكر أبي جندب بن مرة
قال: قتل رجل من بني قردة، يقال له ناصرة بن رباب بن مؤمل الأسود بن مرة أخي بني جندب، فقال أبو جندب يرثيه:
1 / 33