ففرجتُ همَّ النفسِ عني بحلفةٍ ... كمتنِ جوادٍ، شقَّ عنهُ جلالها
أخذ هذا المعنى بعضهم فقال:
خوفوني اليمينَ فارتعت منها ... كي يغروا بذلك الارتياعِ
ثمَّ أرسلتها كمنحدرِ السيلِ ... تداعى من المكانِ اليفاعِ
وأخذه الآخر فقال:
وقالوا: اليمين، فمنْ لي بذاكَ ... ياليتهم يطلبونَ اليمينا
فأمنحهمْ حلفةً لذةْ ... تنجي المدينَ، وتردي المدينا
وأخذه أخوه مزرد فقال:
إذا أحلفوني باليمينِ منحتهمُ ... عينًا، كسحقِ الأتحميِّ الممزقِ
وإنْ أحلفوني بالعتاقِ فقد درى ... دهيمٌ غلامي أنهُ غيرُ معتقِ
وإنْ أحلفوني بالطلاقِ رددتها ... كأحسنَ ما كانت كأنْ لم تطلقِ
وله التشبيهات الحسنة. فمن ذلك قوله:
رأيتُ، وقد أتى نجرانَ دوني ... وليلى دونَ منزلها السديرُ
بدالي بالعميمِ ضوءُ نارٍ ... تلوحُ كأنها الشعرى العبورُ
أخذ هذا المعنى كثير فقال:
رأيتُ وأصحابي بمكةَ موهنًا ... وقد لاحَ ضوءُ الكوكبِ المتصوبُ
لعزةَ نارٌ ما تبوخُ، كأنها ... إذا ما رمقناها من البعدِ، كوكبُ
قال الأصمعي: أول درهم أصبته من الرشيد مائة ألف درهم، أعطانيها على بيتي كثير هذين. وذاك أنه كنت في خدمة يحيى بن خالد في بعض أسفاره مع الرشيد. فنظر الرشيد ليلة إلى نار بعيدة، فقال ليحيى بن خالد: هل تحفظ في صفة هذه النار شيئًا، فقال: لا، ولكن معي رواية يقال له الأًصمعي، قال: تحضره. فلما وقفت بين يديه قال: انظر إلى هذه النار، فنظرت، قال: هل تحفظ فيها شيئًا؟ قلت نعم، وأنشدته البيتين، فاستحسنهما، وقال: ما أخطأت ما في قلبي من تشبيهها، وأمر لي بمائة ألف درهم.
وقد ذكرنا مزردًا أولًا، وأردنا بذكره قصيدة له نادرة، فذكرناها ها هنا على غير ترتيب. والقصيدة قوله:
صحى القلبُ من سلمى، وملَّ العواذلُ
وهي قصيدة منعوتة قد جمع فيها أِشياء مما يستجاد منها:
ومنْ يكُ معزالَ اليدين فانهُ ... إذا كشرتْ عن نابها الحربُ، خاملُ
وقد علمت شيبانُ ذبيان أنني ... أنا الفارسُ الحامي الذمار المقاتلُ
وأني أردُّ الكبشَ، والكبشُ جامحٌ ... وأرجعُ رمحي، وهو ريانُ ناهلُ
وعندي، إذا الحربُ العوانُ تلقحتْ ... وأبدتْ هواديها، الخطوبُ الزلازلُ
طوال القرا قد كادَ يذهبُ كاملًا ... جوادُ المدى والعقب، والخلقُ كاملُ
أجشّ صريحيٌّ كأنَّ صهيلهُ ... مزاميرُ شربٍ جاوبتها خلاخلُ
ومسفوجةٌ فضفاضةٌ تبعيةٌ ... وآها القتيرُ تجتويها المعابلُ
موشحةٌ بيضاءُ، دانٍ حبيكها ... لها حلقٌ، بعد الأناملِ، فاصلُ
وتسبغةٌ في تركةٍ حميريةٍ ... دلامصةٌ، ترفضُّ عنها الجنادلُ
وأملسُ هنديٌّ متى يعل حدهُ ... ذرى البيضِ لا تسأمْ عليه الكواهلُ
ومطردٌ، لدنُ الكعوبِ، كأنما ... تغشاهُ منباعٌ من الزيتِ سائلُ
أصمٌّ إذا ما هزَّ مارتْ سراتهُ ... كما مارَ ثعبانُ الرمالِ الموائلُ
وقد عن لنا أن نعود نذكر شيئًا من حديث ذي الرمة. لأنا ذكرنا سبب كنيته في الألقاب. ولم نذكره ها هنا إلا لما أردنا أن نذكر الأخوة من الشعراء، كما ذكرنا الشماخ وأخوته.
كان أبو عمرو بن العلاء يقول: ختم الشعر بذي الرمة. وسئل جرير عنه، فقال: بعر ظباء يفوح، ونقط عروس. أراد به بعر ظباء، يعني أول ما تأخذ بعر الظباء تفوح منه رائحة المسك، ثم يرجع إلى حالته. يعني شعر ذي الرمة أول ما يطرق السمع توجد له حلاوة، ثم لا.
ومن الفرزدق بذي الرمة، وهو ينشد شعره، فلما فرغ قال: كيف ترى شعري؟ قال: أنت شاعر. قال: فلم فضل علي غيري؟ قال: لأنك كثير البكاء على الدمن، وكثير الوصف لأبوال الأبل وذكر الديار البلاقع، فإذا صرت إلى الهجاء والمدح أكديت، وقيل لذي الرمة: إنما أنت رواية الراعي، ومنه تعلمت، فقال: ما مثلي ومثل الراعي، إلا مثل شاب صحب شيخًا، فسلك به طرقًا، ثم فارقه، فسلك الشاب بعده شعابًا وأودية لم يسلكها الشيخ قط.
وكان يقال: أحسن الجاهلية تشبيهًا امرؤ القيس، وأحسن الأسلاميين ذو الرمة. وروي عن ذي الرمة أنه قال: إذا قلت كان فلم أجد، فلا إنطلق لساني.
1 / 31