وأما الخطفي فهو حذيفة بن يدر بن سلمة بن عوف، وسمي الخطفي لقوله:
وطول رحال المطي اختلفا ... يرفعن لليل إذا ما أسدفا
أعناقَ حياتٍ، وهامًا رجفا ... وعنقًا، بعد الكلالِ، خيطفا
والخيطف: السريع. ومن شعر الخطفي:
عجبت لإرزاء العييّ لنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقولِ أعلما
وفي الصمت سترٌ للعييّ، وإنما ... صحيفة لبِّ المرءِ أن يتكلما
ذكر جرير ولده
وولد جرير: حرزة، وزكرياء، والصفاح، وسوادة، والثبجان، وأمهم خالدة بنت سعد بن أوس. ولها يقول:
تشكت أمُّ حرزة، ثمَّ قالت ... رأيتُ الموردين ذوي لقاحِ
وكذا يقول:
حيوا أمامة، واذركوا عهدًا مضى ... قبل التفرقِ من شماليلِ النوى
وبلال، ونوح، أمهما أم حكيم بنت سعد، من أهل الري، سباها قطري بن الفجاءة، فوقعت في يدي الحجاج، فوهبها لجرير، وفيها يقول:
لقد زدتِ أهل الريّ عندي ملاحةً ... وحببت، أضعافًا، إليَّ المواليا
إذا عرضتْ بالبين منها تعرضت ... لأمِّ حكيمٍ حاجةٌ في فؤاديا
وفيها يقول:
ما استوصف الناس من شيءٍ يروقهمُ ... إلا رأؤا أمَّ نوحٍ فوق ما وصفوا
كأنها مزنةٌ غراءُ رائحةٌ ... أو درةٌ ما يواري ضوءها الصدفُ
وشعراء الاسلام اربعة: جرير، والفرزدق، والأخطل، وكثير. وسئل الأخطل عن نفسه وعن جرير والفرزدق فقال: أنا أمدحهم للملوك، وأوصفهم للخمر، والفرزدق أفخرنا، وجرير أهجانا وأسبنا وأسهبنا. ويقال: الفرزدق ينحت من صخر، وجرير يغرف من بحر.
ومر الراعي في سفر فسمع إنسانًا يغني بشعر جرير:
وعاوٍ عوى من غير شيءٍ رميته ... بقافيةٍ إنفاذها يقطرُ الدما
خروجٍ بأفواهِ الرواةِ كأنها ... قرا هندوانيٍّ، إذا هزَّ صمما
فقال الراعي: لعن الله من يلومني إذا قلت: جرير يغلبني.
وسئل الأخطل عن جرير، فقال: دعوه، فإنه كان بلاء على من صب عليه، وما أخشن ناحيته، واشرد قافيته، والله لو تركوه لأبكى العجوز على شبابها، والشابة على أحبابها، ولقد هزوه فوجدوه عند الهراش نابحًا، ولقد قال بيتًا لأن أكون قلته أحب إلي مما طلعت عليه، وهو قوله:
إذا غضبت عليك بنو تميمٍ ... حسبت الناس، كلهمُ، غضابا
ويقال: إن جريرًا هاجى ثلاثين شاعرًا غلبهم، وأخباره كثيرة مسموعة، وقد تداولتها الألسن، فلا نذكر منها إلا لمعًا، وكذا من أشعاره نذكر ما يتمثل به.
ومن العجب أن أم جرير رأت في نومها كأنها ولدت جريرًا، والجرير: زمام النجيب، من سيور مضفورة، وكان الجرير مطويًا، فجعل أهله يأخذونه فينثرونه ويجعلونه قلائد في أعناق رجال لا تعرفهم. فخبرت أباه بذلك، فقال: لتلدن غلامًا يعد الناس بشر. فلما ولدت جريرًا سألته أن تسميه جريرًا، فكان منه ما كان.
وقال جرير: لا يقال للشعر شعرًا إلا أن يكون بعضه أخذًا برقاب بعض.
وقيل لمسلم: أي الشاعرين أفضل، جرير أم الفرزدق؟ فقال: الفرزدق يبني، وجرير يهدم. وقال: بيوت الشعر أربعة: فخر، ومدح، وهجاء، ونسيب. وجرير غلب في هذه كلها. ويريد بالفخر قوله:
إذا غضبت عليك بنو تميمٍ ... حسبتَ الناس كلهمُ، غضابا
ويريد بالمدح قوله:
ألستمْ خيرَ من ركب المطايا ... وأندى العالمينم بطونَ راحِ
ويريد بالهجاء قوله:
فغضَّ الطرفَ إنكَ من نميرٍ ... فلا كعبًا بلغتَ، ولا كلابا
ويريد بالنسيب قوله:
إنَّ العيونَ التي في طرفها مرضٌ ... قتلننا، ثمَّ لم يحيينَ قتلانا
يصرعن ذا اللبِ حتى لا حراكَ به ... وهنَّ أضعفُ خلق اللهِ أركانا
وقيل لبشار: من أشعر الثلاثة؟ فقال: لم يكن الأخطل مثلهما، ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه، وكان لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق. ولقد ماتت النوار فكانوا ينوحون عليها بشعر جرير، الذي رثى به أم حرزة، وهو:
لولا الحياء لعادني استعبار ... ولزرت قبرك، والحبيب يزارُ
ولقد أراكِ كسيت أجمل منظرٍ ... ومع الجمال سكينةٌ ووقارُ
لا يلبثُ القرناء إن يتفرقوا ... ليلٌ يكرُّ عليهمُ ونهارُ
وقوله:
فإن أكُ مجفوًا فأخسر صفقتي ... وإن أك متروكًا فللقوسِ منزعُ
1 / 12