الإمَامْ أَبِو عَبْد اللهِ مُحمَّد بن علي بن عُمر المِازري
٥٣٦ هـ - ١١٤١ م
المُعْلم بفوائد مسلم
الجُزء الأوّل
تقديم وتحقيق
فضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر
الطبعة الثانية
التونسية للنشر تونس
المؤسّسة الوطنية للكتاب الجزائر
المؤسّسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدّراسات بيت الحكمة
1 / 1
المازي (أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر)
المعلم بفوائد مسلم أبو عبد الله محمد بن عمر المازري:
تقديم وتحقيق محمد الشاذلي النيفر. -طـ ٢.
-تونس: الدار التونسية للنشر؛ ١٩٨٧ (تونس: التونسية للطباعة وفنون الرسم). -٥٩٢ ص.؛
٢٤ سم إ. ق. ٤٠٧/ ٨٧
جميع الحقوق محفوظة لدار التونسية للنشر
١٩٨٨
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
استهلال
الحمد لله الذي شرع لنا من الدين ما به صلاح العالمين، ويسرّ لنا سُبُل المعرفة، بما بيّنه مما هو لا يحتاج إلى صفة. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة: فإنه قد فرّج الله به كل أزمة، وعلى آله المكن لهم المودة، وأصحابه الأبرار الذين فرّج الله بهم كل شدة.
هذا وإن إظهار "المعلم" ستكون له آثار في التشريع الفقهي لما له من نظرات تسمو به لأنه انبنى على إبداء أفكار اجتهادية صحيحة مبنية على الروح الإِسلامية المتماشية مع السهولة والآخذة بعين الاعتبار لكل ما يحفظ للإِنسان أن يكون في إطار من أحكم الإِطارات وفيه يتمتع المجتمع بنظام يكفل كل وسائل الإِصلاح.
فـ"المعلم" في الحقيقة من هذه الناحية بهر الأنظار، واستوعب كثيرا من الأفكار، حتى أن ما كان له من إكمالات مثل إكمال القاضي عياض هي من نواح تتعلق بجوانب أخرى هي ثانوية عند الإِمام.
أما الناحية الاجتهادية في التشريع المبنية على الاستخراج من الكنز الثمين
1 / 5
السنة النبوية التي هي المصدر المَعين الثريّ في الاستنتاج من بيان الأسوة الأولى الرسول الكريم ﷺ فقد صرف لها الإِمام المازري عناية بالغة لم تفتقر إلى تكميل أساسي بل إلى ما هو من الإِفاضة من نبعه ذاته.
نال الحديث النبوي من الأصحاب الكرام اهتماما وتتبعا للدقيق والجيل، وهو مما امتاز به الإِسلام عن الديانات السماوية الأخرى إذ لم يحتفظ المتصلون بأصحاب الرسالات بالمحيطات النبوية حيث لم تتمكن رسالتهم حين الظهور ولم تتصل بالأنبياء المرسلين لأن رسالة موسى ﵇ عاشت في التيه، ورسالة المسيح ﵇ بلغت بوسائط.
أما الإِسلام فإن الصحابة حافظوا على الأطوار النبوية كلّها المتعلقة بنزول التشريع فلذلك حافظ الإِسلام على التشريع الإلهى صافيا نقيّا لم تكدره الشوائب.
فالأسوة النبوية لا توجد إلا في الإِسلام حيث تمتع الإِسلام بأنه الدين الوحيد الذي استطاع أن يظهر في مظهر دين ودولة، فما انتقل ﷺ إلا والإِسلام قائم الذات متمكن في الأرض.
بينما موسى ﵇ لم يلق من بني إسرائيل الأكفاء الذين يضطلعون بالأسس الدولية حتى يقوموا بأعباء دين ودولة بينما الإِسلام قد تهيأت له الأسباب في الهجرة إذ توفرت الدواعي للاضطلاع بإبراز الدين في أكمل الصور وأتمها.
فظهر الإِسلام بالمظهر الباهر الذي بوأ المسلمين مركز القيادة، وسهّل لهم أن يبلّغوا الرسالة مكتملة لأن تبقى خالدة في جدّة وحياة مستمرة.
وهذا المعنى الكامن في السنة النبوية وهي الروح التشريعية التي امتاز بها الإِسلام ركز عليها الإِمام المازرى في "المعلم" لأن من سبقه من شرّاح الحديث يتعلق بالجانب اللفظي أكثر بما يتعلق بالمعاني السامية.
1 / 6
فلهذا سيكون "المعلم" إبداء لما اختصت به السنة من أنها مصدر فريد للاجتهاد الإِسلامي الصحيح مما يدعو الفكر إلى أن يعرف ما في الإِسلام من نظام كفيل بالحياة الاجتماعية من كل جوانبها مما يعزّ وجوده في غيره.
وقد انصرف الجهد لأن يكون هذا التأليف في ثوب لائق به من حيث صحة النص، وتسهيل الوقوف على مسائله بإبرازها بصورة تتمثل فيها كل مسألة على حدة معرّفا بها مع ما يحتاجه تحقيق النصوص من عمل. ونرجو من الله أن يوفر مجهودنا المتطلباتِ بعون منه إن شاء تعالى.
ونخص بالشكر الجزيل المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات "بيت الحكمة" في شخص رئيسها سعادة الأستاذ أحمد بن عبد السلام، وكافة أعضاده لتوليها طبع كتاب "المعلم".
وإن الاطلاع على "المعلم" سيعزز شهرته التي أطبقت إفريقية والمغرب بقسميه الأوسط والأقصى، والأندلس، وحتى المشرق، ويتحقق ما يتمتع به هذا الفذ الشهير من أن إمامته إمامة حقة، وأن اختصاصه بها اختصاص عن جدارة وقيمة.
وبذلك يصير يعيش ييننا كما عاش في عصره بالإفادة بآرائه، وتدقيقاته التي اجتذبت الأفكار إليه بحيث لا تبقى شهرته شهرة تاريخية غير معززة بآثاره، وإن كانت الكثرة من تحريراته نقلتها مصادر كثيرة من حديثية وفقهية، حتى أن كتاب "المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب" لم يخل له جزء من أجزائه الاثني عشر من نقل عنه في عدة مناسبات، وكذلك غير "المعيار" من كتب المتقدمين.
لكن تلك التحريرات منقوصة، ثم إنها مفرقة ومشتتة بخلاف ما دوّن من إملائه لهذا الكتاب فإن فيه علاوة على الأمانة في النقل جمع الكثير من اجتهاداته العزيزة النظير بل عديمة المثال.
ويحق لتونس أن تكون فخورة بقيام المؤسسة الوطنية بأنها أصبحت تعيد
1 / 7
مجدها السالف في ظل حكومة فخامة الرئيس الجليل الحبيب بو رقيبة رئيس الجمهورية التونسية ومعالي الأستاذ وزير الشؤون الثقافية زكريا بن مصطفى.
ونسأله تعالى أن نكون موفقين في إبراز هذا الأثر الجليل في ثوبه الذي قمنا به بقدر المستطاع وأن يجعل عملَنا مقبولا عنده مفيدا لأربابه، معينا لطلابه إنه ولي الإِعانة ﷻ.
المحقق
شكر واجب
سهّل الله سبحانه إتمام الجزء الأول من المعلم طبعا والثاني قدم للمطبعة ليأخذ طريقه -إن شاء الله- إلى النشر، والثالث يتهيأ لأن يلتحق بالجزأين الأول والثاني وبه يتم الكتاب.
وتقديرا للمجهودات التي بذلها بعض الإخوان في الله نشكر كل من قدّم إعانة في إبراز الجزء الأول وخاصة فضيلة الشيخ محمد البشير المجدوب في تصحيح الكتاب وكذلك السيد الفاضل يوسف الذوادي في التصحيح والمقابلة فجازهما الله خير الجزاء إنه ولي الإعانة.
محمد الشاذلي النيفر
1 / 8
المازري
عصره
الدولة الصِّنهاجية بين التشيع والسنة (٣٦١ - ٥٤٣)
وأكبت حياة المازري الدولة الصنهاجية في أعقاب أيامها، وقد عاشت هذه الدولة في التراب الإفريقي طيلة قرنين إلا قليلًا رأت فيهما العز الباذخ، والسلطان الواسع، كما رأت فيهما أخيرا ذهاب السلطان، وذبول النفوذ، ونزو المتطلعين إلى السلطان واستبدادهم على الدولة.
والدولة الصّنهاجية ذات طابع خاص عاشته في حياتها حيث إنها تفرعت من غيرها وفي نفسها الأنفة من تلك التبعية لدولة غيرها تراها قامت على جهودها، ولكنها لما أعلنت بما هو في دخيلة نفوس رجالها لاقت عنتا من ذلك.
فهي الدولة الأولى المناهضة للتبعية بعد ذهاب الفدرالية الإِسلامية في ظل الخلافة، فإن كل الدول كانت تعيش في ظل الخلافة وهي أشبه شيء بالأم الجامعة لكل بنيها، وكانت الدول المتفرعة من الخلافة تتمتع باستقلال محدود، ونفوذ في مناطقها، ولكنها تخضع في أصول الروابط إلى الخلافة.
وحين ضعفت الخلافة وحتى قبل ضعفها استبدت عليها دول خرجت
1 / 9
عن نطاقها، وهي الدولة الأموية بالأندلس، والأدارسة بالمغرب الأقصى، والدولة الفاطمية بالمغرب ومصر وما دخل تحت نفوذها، وكانت الدولة الصنهاجية جناحا غربيا للدولة الفاطمية المرتكزة بمصر والتي كانت غير مقتنعة بملك مصر، وإنما كانت تطمع في الاستيلاء على العالم الإِسلامي كله وفي نشر مذهبها حتى يعتنقه المسلمون كلهم.
ميل الأفارقة إلى السنة:
سارت صنهاجة بالمصور بدون ردحا من الزمن تحت ظل الفواطم، وهم عاملون للتشيع إلا أن تمسك الشعب الإِفريقي بالسنة كان تمسكا شديدًا، لم تبرد حدته ولم تفتر قوته، فقد كانت المقاومة السلبية للسنة تظهر في مقاطعة أهل القيروان حضور الجمعات التي يُلعن فيها أصحاب رسول الله ﷺ (١) فتعطلت الجمعة دهرا بالقيروان ثم جاءت المقاومة الثانية في تتبع الرافضة، واشتعلت الشرارات ضدهم فكانت حومة بالقيروان تعرف بدرب المعلى فيها قوم يتسترون بالمذهب المذكور، فانصرف إليها العامة وابتدأت المقاومة لهم في سنة (٤٠٧) (٢).
ونشرح أسبابها البعيدة والقريبة لأنها مهدت لها عوامل متعددة منها ما هو من الفواطم أنفسهم، ومنها ما هو راجع إلى الصمود الإِفريقي.
تستر الفاطميين:
من أكبر أسباب اشتعال الفتنة مؤخرًا ضد التشيع هو أن بعض رجال الدولة الفاطمية أعلنوا بمذهبهم خلاف المتقدمين منهم فقد كانوا يتسترون ولا يُظهرون مذهبهم كما هو، وإنما كانوا يظهرون بعض الشيء مخافة أن يطَّلع الناس على مذهبهم فيثوروا عليهم فلذلك كانوا في تستُّر.
_________
(١) البيان المغرب لابن عذاري المراكشي: ج١ ص ٢٧٧.
(٢) البيان المغرب: ج١ ص ٢٦٨.
1 / 10
ويرجع تستر الفاطميين إلى شدة شكيمة الأفارقة فإنهم لم يقبلوا بالسنَّة بدلًا كلّفهم ذلك ما كلّفهم، ومع أنهم لاقُوا شدة وبلاء كبيرا من الفاطميين لم تلن لهم قناة، ولا رجعوا عن السنة. ولم ينقلب على عقبيه إلا قليل القليل من الذين استهوتهم الأطماع، ومالوا إلى الرتب التي أسندتها إليهم الشيعة.
ثم إن ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد لا تزال ماثلة أمام العيون، فهي ثورة من أكبر الثورات، وأشدها، وهي ثورة تغيير المواقف.
ومما أعان على اشتعال هذه الثورة وانتشارها، والتهابها التهابا كادت الدولة تعجز عنه أن أبا يزيد مخلد بن كيداد عرف كيف يستغل الموقف، فهو وإن كان من النكّارين لكنه كان لا يظهر مذهبه، ويزعم أنه يدعو إلى الحق، فرجا الناس منه الخير، والقيام بالسنة حتى رأوه رجل الخلاص، فلذلك خرج معه الفقهاء والعبّاد، وزاد في الإِقبال عليه أنه أمر الناس بقراءة مذهب مالك فخرج الفقهاء والصلحاء في الأسواق بالصلاة على النبي ﷺ، وعلى أصحابه، وأزواجه (٣).
وقابل الذي من أبي يزيد ما أظهره أبو القاسم القائم مما هو مخالف لكتاب الله تعالى واشتداده على من وقف في وجه دعوته من الأفارقة الشديدي الشكيمة.
ومن هذين العاملين كان اشتداد أمر أبي يزيد حتى كادت ثورته تقضي على ملك المهدية لولا إعانة جاءت من بعيد وهي اليد التي قدمها زيري ابن مناد الصِّنهاجي إلى القائم فإنه حمل الميرة إليه وهو محصور بالمهدية من قبل أبي يزيد.
وما همدت فتنة أبي يزيد إلا بعد أن ذاق الفواطم الأمرَّين، وعلموا أن
_________
(٣) البيان: ج١ ص ٣١٧.
1 / 11
السنة لا تغالب، وأنهم إذا أظهروا ما ينطوون عليه لم يروا إلا الحسام فضلا عن الإِصاخة لهم.
فكان الموقف بإفريقية موقف الشدة المتناهي، وهو ما جعل المعز يتخوف من الظهور بمذهبه الظهور الجليّ إلا أنه لما حل بمصر، وتمكن من ناصيتها، ورأى ضعف المقاومة هناك، وأنها ليست كالتي بإفريقية، فالصرامة التي ظهرت بإفريقية هي صرامة من نوع خاص من الذب عن السنة، تغير موقفه نوعا ما.
إلا أن المعز لم يعلنها دعوة صريحة كما حكاه ابن الأثير صاحب الكامل: "وكان المعز عالمًا فاضلًا، جوادًا، شجاعًا، جاريًا على منهاج أبيه من حسن السيرة، وإنصاف الرعية، وستر ما يدعون إليه إلا عن الخاصة، ثم أظهره وأمر الدعاة بإظهاره إلا أنه لم يخرج فيه إلى حد يذم به" (٤).
والظاهر أن إبداء الدعوة الصريحة إنما كان بعد فتح مصر، والتوثق منها، والوقوف على ضعف المقاومة من جندها، عكس ما كان عليه الأمر بإفريقية من سيَلان دماء، وإزهاق أرواح، ومجادلات عنيفة.
ويؤيد ما ذهبت إليه أن شاعره ابن هاني (٥) لم يصرح في أمداحه بالغلو إلا بعد فتح مصر، وسيّر المعز إليها، فأنشده قصيدته التي كانت تمثل الغلو في شخص الأمير الفاطمي: [الكامل]
مَا شِئْتَ لاَ مَا شَاءَتِ الأقدَارُ ... فَاحْكُمْ فأنت الوَاحِدُ القَهَّارُ
وَكَأنَّمَا أنتَ النَّبِيءُ مُحمّدٌ ... وَكأنَّمَا أنْصَارُك الأنْصَارُ
_________
(٤) كامل ابن الأثير: ج ٧ ص ٧٤.
(٥) محمد بن هانىء بن محمد بن سعدون الأندلسي ثم الإِفريقي اتصل في آخر أيامه بالمعز العبيدى، وتوفي قتيلًا ببرقة سنة (٣٦٢).
1 / 12
أنْتَ الذِي كانت تُبَشَّرُنَا بِهِ ... في كُتْبِهَا الأحْبَار والأخْبَارُ
هَذَا إمَام المُتَّقِينَ وَمَنْ بِهِ ... قد دُوّخ الطُّغْيَان والكُفَّارُ
هَذَا الَّذِي تُرْجَى النَّجَاة بِحُبِّه ... وبهِ يحط الإِصْر والأوْزَارُ
هَذَا الَّذِي تُجْدِي شَفَاعَتُهُ غَدًا ... حَقًّا وَتَخْمَد أنْ تَرَاه النَّار
إلى أن يقول له حين سيصير قطين مصر:
أمُعِزَّ دِين الله إن زِمَامَنَا ... بك فيهِ بَأوٌ (٦) جَلَّ واسْتِكْبَارُ
ها أنَّ مصر غَدَاةَ صِرْتَ قَطِينَهَا ... أَحْرَى لتحسُدهَا بكَ الأقْطَار (٧)
موقف أهل السنة من إظهار الدعوة بجلاء:
ولما تجلت الدعوة الفاطمية وأسفرت عن وجهها الحقيقي كانت بإفريقية مقاومة الفقهاء من المالكية الذين تصدَّوا لهذه الدعوة قد وقفت في وجهها، وهي مقاومة من نوع أجدى من حمل السيف وبذلك حالوا بينها وبين الشعب.
فمن المقاومة الأولى حين تأسيس الدعوة ما قام به ابن خَيْرون، فإنه عُذب من أجل أنه سُعِيَ به لدى عبيد الله المهدي، فقتل رفسا بأرجل السودان.
ولم يترك فقهاء القيروان أرضهم بل صمدوا عاملين للسنة بكل ما أوتوا من قوة وقد صرح بصبر أهل القيروان، وثباتهم ووقوفهم في وجه هذه الدعوة ابن ناجي في كتابه "معالم الإيمان".
"وجزى الله مشيخة القيروان: هذا يموت، وهذا يُضرب، وهذا
_________
(٦) البأو: العظمة والكبر.
(٧) تبيين المعاني ص ٣٦٥.
1 / 13
يسجن، وهم صابرون لا يفرون، ولو فروا لكفرت العامة دفعة واحدة" (٨).
ولما لم يفر أهل إفريقية ظهر رجال صرفوا جهودهم لإِقامة السنة سواء بالقيروان أو بغيرها مثل الشيخ ابن أبي زيد القيرواني الذي جاهد لإِحياء السنة بدروسه، وكتبه وماله؛ فالمذهب الشيعي ممدود الأطناب، وهو يؤلف وينشر فقه مالك، "فقد كان ذابّا عن مذهبه قائما بالحجة عليه، بصيرا بالرد على أهل الأهواء" (٩).
وأعانه على قبول أقواله صلاحه وورعه وعفته، ومتانة دينه، فاستثاق الناس أقواله، وأخذوا بطريقته، لأنهم رأوها طريقة لا شائبة فيها، فقد اجتمع فيه العلم والورع، والفضل والعقل. ولإِجل المحافظة على مذهب مالك ألف رسالته الشهيرة وكان تأليفه لها بإشارة من المؤدب محرز بن خلف الصديقي (-٤١٣).
ودفعه إلى تأليفها حرصه وحرص الشيخ محرز والرغبة منهما: "في تعليم الوُلدان أمور الديانة مما تنطق به الألسنة، وتعتقده القلوب، وما تعمله الجوارح: كالصلاة، وجملا من أصول الفقه وفروعه على مذهب مالك ابن أنس رحمه الله تعالى، وعلى طريقته كما يعلمون حروف القرآن، ليسبق ذلك إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه وما تُرجى لهم بركته، وتحمد لهم عاقبته" (١٠). وفعلا أجدت هذه الطريقة، فرسخت السنة في القلوب ولم تَجِدْ المذاهب الأخرى إلى إفريقية مدخلا.
_________
(٨) معالم الإِيمان: ج٢ ص ٢٠٠.
(٩) الدِّيباج ص ١٣٧.
(١٠) من مقدمة الرسالة لابن أبي زيد القيرواني التي نالت رواجا قليل النظير شرقا وغربا.
1 / 14
بما قدمه قلت جهود في التأليف والتدريس، فقد كان ذابّا عن مذهب مالك لا بالتأليف فيه خاصة، بل بما كان يقوم به من رد المطاعن والدفاع عن المذهب المالكي، فقد ألف كتابا خاصا في هذه الناحية وهو: كتاب "الذب عن مذهب مالك" (١١).
وأضاف إلى ذلك أنه قرر من ماله الخاص ما يستعين به الطلبة على مواصلة الدرس والتعلم بما يشبه اليوم المنح الطالبية فكان طلبته في بحبوحة من العيش الهنّي.
كان ﵀ من الأجواد وأهل الإِيثار والصدقة كثير البذل للفقراء والغرباء، وطلبة العلم: وكان ينفق عليهم، ويكسوهم، ويزورهم. فقد ذُكر: أنه وصل يحيى بن عبد الله المغربي حين قدِم القيروان بمائة وخمسين دينارا ذهبا ولم تقف إعانته عند الطلبة فحسب، بل كان يعين أهل العلم حتى لا ينشغل بالُهم بغير نشر العلم الصحيح، وبثّ السنة فقد جهز ابنة الشيخ أبي الحسن القابسي بأربعمائة دينار ذهبا (١٢)، وقال: كنت أعددتها من حين إملاكها لئلا ينشغل قلب أبيها من قبلِها.
وبعث إلى الفقيه أبي القاسم بن شبلون في مرضة مَرِضهَا بخمسين دينارا ذهبا (١٣).
_________
(١١) معالم الإيمان للدباغ، وابن ناجي.
(١٢) أي بما يقدر اليوم بستة ملايين وأربعمائة ألف مليم.
(١٣) أي بما يقدر اليوء بستة عشر من الملايين، وانظر معالم الإيمان: ج٣ ص ١٤١.
1 / 15
وبعث إلى القاضي أبى محمد عبد الوهاب البغدادي بألف دينار عينا (١٤) لأن القاضي كان يعيش في بغداد في ضائقة.
ويقابل امتزاج أهل السنة بإفريقية تعالِي الشيعة وتكالبهم على الأموال، فقد جاء في مناقب محْرَز بن خلف ما يأتي:
"وحدثني (١٥) أيضًا أن رجلًا أتى إليه (أي محرز بن خلف) قبل قتل المشارقة فذكر للمؤدب أنه يريد أن يتزوج، وليس معه شيء.
قال: فمازحه المؤدب وقال له: خذ الفَرْقَ (١٦).
قال: على أي شيء وأنا رجل فقير؟
قال: خذ الفَرْقَ على قمح ابن العظيم، وكان ابن العظيم هذا رجلًا من أكابر المشارقة وأعظمهم في ذلك الوقت.
فخرج الرجل من عنده، فقيل: افرق كما أمرك فإن الله تعالى اكرم من أن يكذب وليه. فأخذ الفرق على القمح وتزوج، فما كان إلا قليل حتى قتل الناس المشارقة، وفتحت مطامير ابن العظيم، وكان الرجل ينقل منها، ورد الفرق كما قال ﵁، وخزن عولته" (١٧).
_________
(١٤) وقد شرح القاضي عبد الوهاب في رسالة الشيخ ابن أبي يزيد القيرواني، وتوجد من شرحه نسخة بليبيا.
(١٥) أي حدث المؤلف للمناقب أبو محمد عبود بن غوث التاجني.
(١٦) الفرق مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصاع وفي المصباح الفرق بفتحتين مكيال يقال أنه يسع ستة عشر رطلا، وفي مختار الصحاح الفرق بالسكون مكيال معروف بالمدينة، وقد يحرك، والجمع فرقان.
(١٧) العولة المرة من العول وهو قوت العيال. وانظر كتاب المناقب تحقيق إدريس ص ١٢٤.
1 / 16
إنما ذهب هذا الرجل المريد للتزوج إلى المؤدب محرز لأنه يعرف أنه الوحيد الذي يمده بما يستعين به على زواجه، والمؤدب ليس من الأثرياء بخلاف ابن العظيم فإنه كان من الأثرياء ومع ذلك لم يذهب إليه لأنه لا يعينه للتكالب على جمع المال.
وزيادة على شحه كان يحتكر الطعام، ولو كان الناس في حاجة إليه، وربما لم يؤد زكاته.
ولهذا تعلق الناس بابن أبي زيد وأمثاله لأنهم لمسوا فيهم أنهم ليسوا دعاة لجمع المال باسم الدين، وإنما هم دعاة مخلصون. وما حصل لهم حصل من أوجه حلال لم يكن ليخصوا به أنفسهم، بل كانوا ينفقون بسخاء على الطلبة المزاولين للتعليم كما أنهم لم ينسوا الفقراء، فوجدوا فيهم الإعانة الكافية.
وكادت مواقف ابن أبي زيد تجلب له النقمة من رجال الدولة الصنهاجية المتغالين في الدعوة العبيدية، لولا تضامن مشيخة رجال القيروان.
ذكر القاضى عياض في مداركه في ترجمة أبى محمد عبد الله بن إسحاق المعروف بابن التبَّان (١٨):
"أن عبد الله المعروف بالمحتال صاحب القيروان شدد في طلب أهل العلم ليشرقهم (١٩)، فطلب الشيخ أبا سعيد بن أخي هشام، وأبا محمد التبان، وأبا القاسم بن شَبْلُون، وأبا محمد بن أبي زيد، وأبا الحسن القابسي ﵃، فاجتمعوا في مسجد ابن اللجّام، واتفقوا على الفرار، فقال لهم ابن التبان: أنا أمضي إليه وأكفيكم مؤونة الاجتماع، ويكون كل
_________
(١٨) ابن التبان كان من الراسخين في العلم والذابين عن السنة (٣٧١).
(١٩) التشريق هو المذهب العبيدي الشيعي.
1 / 17
واحد منكم في داره، أنا أمضي إليه أبيع روحي من الله دونكم لأنكم إن أتى عليكم وقع على الإِسلام وهن" (٢٠).
فلما اجتمع بعبد الله المحتال عرف كيف يأخذ الرجل وكيف يستهويه أولًا، فإنه لما دخل عليه قال المحتال: أبطأت علينا، وكان عنده الداعيان أبو طالب وأبو عبد الله، فأجابه ابن التبان بأنه كان في شغل يتعلق به، وهو أنه ألّف كتابا في فضائل أهل البيت، والساعة التي جاءه فيها أتاه بالمجلد.
ثم لما دخل معه في المناظرة أفحمهما، أي الداعيين، ودارت المناظرة بينهم أولًا في تفضيل أهل البيت، فكل ذكر أنه يحفظ حديثين ولحن حيث قال: أحفظ حديثان، فقال ابن التبان: أنا أحفظ تسعين حديثا.
يدل بدؤه بهذين الأمرين أنه عرف كيف يأخذهما مع صاحب القيروان حيث إنه نفى عن نفسه وعن بقية أصحابه أنهم أعداء أهل البيت، ثم إنه أظهر للداعيين أنهما جاهلان لأنهما يحفظان حديثين وهو يحفظ تسعين فشتان ما بينهما، وبينه (٢١).
ثم لما دخلا معه في المناظرة أفحمهما ودارت المناظرة بينهم أولًا في تفضيل عليّ على أبي بكر، فهما يريدان أن تكون الأفضلية لعليّ، وأهل السنة يفضّلون الشيخين وهما: أبو بكر وعمر، وقد أبكتهما بأن أبا بكر كان مع النبيء ﷺ في الغار، وثالثهما الله ﷻ، استدلالا بقوله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ (٢٢) وأجاب بهذا حين قال له عبد الله: كيف يكون أبو بكر أفضل من خمسة،
_________
(٢٠) المدارك ج٤ ص ٥٢١.
(٢١) الظاهر أنه إنما طلب من مشيخة القيروان أن يكفيهم المؤونة لأنه كان على استعداد لمثل هذا المقام.
(٢٢) (٤٠) التوبة.
1 / 18
وجبريل ﵇ سادسهم، فقال ابن التبان: أنا أستدل بالقرآن وأنت تستدلّ بأخبار الآحاد.
ودارت ثانيا في تفضيل عائشة على فاطمة ﵄ فأبى أولًا الدخول في ذلك، فلما قيل له لا بد استَدَلَّ على تفضيل عائشة بقوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ (٢٣)، وبعد اليأس منه بالنيل منه وغلبته في المناظرة قال أبو عبد الله أحد الداعيين: يا أبا محمد أنت شيخ المدنيين (٢٤)، وممن يوثق بك، ادخل العهد وخذ البيعة، فأجابه أبو محمد التبّان بقوله: شيخ له ستون سنة يعرف حلال الله وحرامه، ويرد على اثنتين وسبعين فرقة (٢٥) يقال له هذا، لو نُشِرتُ بين اثنين ما فارقت مذهب مالك. فلم يعارضه، وقال لمن حوله: امضوا معه (٢٦).
وكان ابن التبان حين دخوله على صاحب القيروان أفاده أنه أضعف الجماعة إيمانا حيث بين له أن إيمان بقية المشيخة مثل الجبال. فلا تزعزع
_________
(٢٣) (٣٢) الأحزاب.
(٢٤) في المدارك المطبوعة أنت شيخ المؤمنين والصواب ما أثبتناه كما في معالم الإيمان: ج٣ ص ١١٥.
(٢٥) أشار ابن التبان بقوله هذا بأنه يرد على اثنتين وسبعين فرقة إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه، والترمذي في جامعه، والنسائي في المنتقى، وابن ماجه في سننه عن أبي هريرة ﵁ وهو أن النبيء ﷺ قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وفي رواية أخرى أخرجها ابن ماجه، فواحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار".
في رواية أخرى أن الواحدة قال فيها النبيء ﷺ: "هي ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
(٢٦) المدارك ج٤ ص ٥٢٢.
1 / 19
إيمانهم الحوادث ولا يقف في وجههم شيء، وبذلك أيأسه من أن يطمع في إدخالهم في عهده، ولا أخذ البيعة منهم.
فإذا كان الذي هو أضعفهم يقينا لو نُشِر بين اثنين ما فارق مذهب مالك ﵁ فكيف بعد هذا يطمع في مناداتهم وعرضه عليهم ما عرضه على ابن التبان.
فهذا التضامن من مشيخة القيروان في رد اليد العادية أفسح المجال لابن أبى زيد وأضرابه في إقامة الحق، وتثبيت ما غرس من مذهب مالك.
وكانت وفاة ابن أبي زيد صاحب الأيادي البيضاء على السنة وبالأخص مذهب مالك سنة (٣٨٦).
ولولا أنه توفي قبل الثورة العارمة من أهل القيروان لناله من القتل والتعذيب ما نال غيره من الذين ساروا على غراره وتمسكوا بالمالكية ضد العُبَيْدية.
دور المقاومة:
إن الجو الذي خلَّفه ابن الحداد وابن أبي زيد والقابسي وأضرابهم جعل الشعب يذهب إلى تلك الثورة لأنه كان على السنة والفواطم أبدوا وجههم الحقيقي في الدعوة العُبَيْدية فانطلقت الشرارة الأولى في تلك السنة (٤٠٧).
وصنهاجة في تلك الفترة كانت بين عاملين عامل الولاء للدولة الأم، وهي الدولة الفاطمية، وعامل الخوف من الشعب الذي كان في غليان ضد العبيديين، ولهذا كانت صنهاجة أمام عاملين: عالم إرضاء العبيديين في مصر الذين لا يتهاونون بدعوتهم لأنها أساس ملكهم، وعامل إرضاء الشعب الإفريقي المتحمّس للسنة أشد التحمس.
فلهذا لما انتفضت إفريقية انتفضت كلّها على العبيديين بسبب إعلان الحاكم عن مذهبه الذي تغالى فيه أشد التغالي فإن من كان قبله من الأمراء
1 / 20
العبيديين كالمعز لدين الله (٣٤١ - ٣٦٥) والعزيز لدين الله أبي منصور نزار (٣٦٥ - ٣٨٦) كان فيهم تستر فلذلك كان الأفارقة مكتفين بالمقاومة السلبية لكن لما تولى الحاكم تغالى في كل أموره ومنها إظهار مذهب أهل بيته حتى أنه ادعى أنه روح الله بإخباره بالمغيبات، وكان ذلك بواسطة جواسيس بثّهم في البلاد ينقلون إليه الأخبار فيزفها للناس في قالب مغيبات فلذلك كان موقف صنهاجة متحرجا.
وكان امتداد مدة ملك الحاكم أكثر من عشرين سنة (٣٨٨ - ٤١١) وشره مستطير، وتظاهراته بمخالفة الدّين بينة واضحة، فدعا ذلك الأفارقة أن يقوموا بثورتهم على المتمذهبين بمذهب العبيديين، وعمت الانتفاضة المدن الإِفريقية.
وفي طليعة المدن الناقمة القيروان، وكان رأسَ علمائها أبو علي حسن ابن خلدون البلوي الذي كان شديدا على البدع والروافض، مغريا بهم، وكانت العامة تتبعه، ويستند منه أهل السنة إلى ملجأ ووَزَر. وضايق ذلك الرافضة فلهجوا بعدائه من قبل الشيعة:
كأنَّمَا ذِكْر الهوى عنده ... ذكرى ابن خلدون لدى الشيعة (٢٧)
فلما انتفضت القيروان أتى عامل القيروان ومعه جماعة إلى مسجد أبى علي يوم الخميس الثاني عشر من شوال من السنة نفسها سنة (٤٠٧) بعد صلاة العصر، وهو جالس، وعنده جماعة فاندفع رجال الوالي إلى أبي محمد ابن العرب فقتلوه، وهم يظنونه أبا علية، لأن هذا الأخير كان سِناطا (٢٨)،
_________
(٢٧) المدارك ج٤ ص ٦٢٤.
(٢٨) السناط بكسر السين، والسنوط والسنوطي بفتح أولهما، وبالضم في الثلاثة: الكوسج الذي لا لحية له أصلًا، أو الخفيف العارض ولم يبلغ حد الكوسج، من القاموس وشرحه.
1 / 21
فلم يظنوه صاحب المجلس. وبعد قتلهم للمذكرر خرجوا، فلما عرفوا أنه ليس أبا علي رجعوا وتعاوروه بسكاكينهم وجرحوا جماعة ممن في المسجد، فحمل أبو علي إلى داره وبه حشاشة فتوفي في ليلته.
وارتجت المدينة، وثارت الصيحة من نواحي القيروان، واشتغل الناس عن أبي علي بسبب النهب، واحتراق الأسواق، والاستيلاء على أموال التجار.
وبسبب هذا الهيعة أراد العامل بالقيروان إرضاء الناس فجاء برجلين وقال: إنهما القاتلان لأبي علي فقتلهما.
وفي مقتله يقول ابن الوارق:
مُضَرَّجٌ بِدَمِ الإِسْلاَمِ مُهْجَتُه ... مِنْ بَيْنِ أحْشَاءِ دينِ الله تُنْتَزَعُ (٢٩)
إن الصناهجة أرادوا القضاء على الانتفاضة ولكن لما غلبهم الأمر أظهروا أن مقتل أبي علي ابن خلدون ليس من الحكومة وإنما هو افتيات من ذينك الرجلين المقتولين ظاهرا بدمه، والله أعلم هل هناك سبب موجب للقتل غير قتل ابن خلدون أو ليس هناك سبب حقيقي، والمقطوع به أنهما بريئان من دم أبي علي ابن خلدون.
جنوح صنهاجة إلى السنَّة:
وبهذا ندرك أن الدولة الصنهاجية أصبحت عاجزة عن تلافي الأمر وليس سبب الانتفاضة قاصرا على روح العامة، بل من رجال السلطة من كان يثير العامة فإن الانتفاضة المذكورة كان العامل بالقيروان الذي قامت في أيامه تلك الانتفاضة وهو منصور ابن رشيق يمشي كأنه يسكّن الناس، وهو يشير إلى العامة بالزيادة فلم يقدر السلطان على ضبط الأمور فولى عاملا آخر فتعذر
_________
(٢٩) المدارك: ج٤ ص ٦٢٦.
1 / 22