Problèmes de la civilisation moderne
معضلات المدنية الحديثة
Genres
قلما يستطيع الباحث أن يلم بالآثار الفردية التي يخلفها نابغة كبير في حالات عصره، وعلى الأخص إذا رمى إلى تحديد تلك الآثار من ناحية الفكرة العلمية، فإن الفكر كتيار الكهربائية أو كقبس الضوء أو كشعاع فياض من أشعة الكون، لا نعرف مصدره على وجه التحقيق، ونعجز دائما عن تحديد آثاره التي يخلفها في نفوس الأفراد. أما إذا أردت أن تبلغ الحد المستطاع من تحديد تلك الآثار فارجع إلى القياس الاجتماعي، فإنك في هذا الميدان وحده يمكنك أن توازن بين حالات أجلى ظهورا وأبين صورا.
على أن مهمة الباحث تزداد وعورة إذا أكب على درس الآثار التي يخلفها عقل إنسكلوبيذي تشعبت نواحيه وتفرقت طرقاته وكثرت منعطفاته، فأين يقع في تلك المفاوز الكثيرة على المصدر الذي بعث إلى الحياة بتلك الصور الخالدة المشوبة بروح اليقين، المكسوة بحلل البقاء والخلود؟ لا مرية في أن الوقوع على ذلك المصدر هو المرمى الذي يرمي إليه كتاب التراجم جميعا، غير أن قليلا منهم من استطاع أن يصل إلى ذلك السر الدفين. ولست بطامع في أن أقع على مصدر ذلك الضوء الذي بعث به أستاذي الدكتور صروف في نواحي الشرق العربي وقد أظلمت جنباته وادلهمت طرقاته فأنار السبل للغادي والساري، وأزاح الحجب عن خفي ما أنار لغيرنا السبيل. أما مهمتي فلا أعتقد أنها تتجاوز تصوير تلك الآثار تصويرا يمكن أن نتعقب به النتائج التي خلفها عمل الدكتور الفقيد في عالمي الاجتماع والفكر.
غير أن هذا لا يفوت علي أن ألم ببضعة آثار أخرى خلفها لنا عمله العظيم في نواح تقل أو تزيد علاقتها بالناحية الاجتماعية على حسب المقتضيات وظروف الحالات التي تقوم في المجتمع بين آونة وأخرى، لهذا نتكلم في تلك الآثار واحدا بعد آخر لنحددها على قدر المستطاع. (2-2) الترجمة العلمية
بعد أن انقطعت صلة العالم العربي بالترجمة، وكانت في العصور الأولى مبدأ تلك النهضة الكبيرة التي استمدت من السريانية في مدارس نصيبين والرها وأديرة آسيا الصغرى ومصر والعراق وحران، وأنبتت صلة اللغة العربية بكل لغات العالم تقريبا، وظل المؤلفون والكاتبون قرونا طويلة عيالا على ما كتب الأوائل وما نقل المترجمون. وبعد أن انصرف الشرق العربي كله إلى الاشتغال بالآداب وحدها اشتغالا لم يكن له من قاعدة أو أسلوب اللهم إلا أسلوب الفطرى، أسلوب التقرير دون التحليل، وبعد أن كادت تفتر العزائم حتى عن هذه الأساليب الأولية لكثرة ما لاكتها الألسن وتناولتها به الأقلام من نقل وتغيير، وبعد أن دار الفكر العربي حول دائرة لا يخلص إلى نهاية شوطها حتى يبدأ الشوط ثانيا؛ اتجهت العقول إلى تلك الضجة الكبيرة التي قامت حول مذهب العلامة الكبير داروين، وقد بدأها بنشر مذكراته التي قرئت أمام جمعية لينيوس ثم نشرت في «اللانسيت» وكانت النواة التي اجتمع من حولها الكتاب الخالد «أصل الأنواع». وكان لذلك الاتجاه الجديد أثر عظيم في الشرق، بل أثر لا يمحوه كر الأيام والدهور، أثر أقل ما فيه أنه أخرج عجلة الفكر الشرقي عن دائرتها المحدودة التي كانت تدور فيها فزلت عنها إلى ميدان فسيح مترامي النواحي متسع الجنبات، ذلك ميدان العلم البيولوجي الذي أعتقد بحق أنه محور التقدم العالمي وأن لا ارتقاء لأمة من الأمم أدبيا وعلميا واجتماعيا بغير التوافر على درسه وتطبيق عملياته وتفهم نظرياته العميقة. وكان دكتورنا الكبير أكبر ركن من أركان هذه النهضة الكبيرة، ويدا من أقوى الأيدي التي استقوت على عجلة الفكر فألوت بها عن سمتها الأول وخرجت بها عن قضيب الدائرة القديمة الحديدي فأفلتت تطير في عالم أثيري من الفكر الحديث. على أن الناس في الشرق لم يقدروا حتى اليوم مقدار النتائج التي سوف تترتب على تلك الدفعة التي دفعت بنا فيها تلك اليد القوية، ولا إلى أي حد سوف نبلغ من أطراف ذلك التيه البعيد.
قد يتساءل البعض ما هي تلك القوة التي تزودت بها تلك اليد القادرة على أن تحول عجلة الفكر العربي عن دائرتها القديمة؟ وما هو السر الذي جعل مفتاح العلم يدور مرة أخرى في قفل ذلك الباب الذي أكل الصدأ جوانبه منذ أبعد العصور؟ ولست أجد من شيء هو أهون عندي من الجواب، أما السر فهو تلقيح الأفكار القديمة البالية بأفكار جديدة، وتغيير الأساليب القديمة بأساليب حديثة، وقتل العادات العتيقة التي عكف عليها الفكر بعادات تلائم مقتضى الزمان والمكان. أما الوسيلة فشيء أبسط من هذا كثيرا، وتنحصر في تفهم الجديد من المبتكرات العلمية والفنية والعقلية ونقلها بالترجمة إلى عالم يجهلها. على أننا لا ننسى هنا أن أبسط أشياء هذا العالم هي أكبر معضلاته كما أن في أبسط ذراته تكمن أعظم قواته، أليس هذا وحده بكاف لأن يخلد دكتورنا الفقيد؟ (2-3) العلوم البيولوجية
علم البيولوجيا هو علم الحياة، أو العلم بما هي الحياة. وهذا العلم الحديث، إذا استثنينا الرياضيات والفلك، يكاد يكون العلم الوحيد الذي تربي عملياته على نظرياته بمقدار ما يربي المحيط الزاخر على النهير الصغير، لهذا كان أثره في العالم كبيرا على حداثة عهده.
ومن أعجب ما يقع عليه الباحث المتعمق من طبيعة هذا العلم أن تأثيره في الاجتماع بالذات ثانوي إذا قيس بتأثير فروعه التي تشعبت منه، فالعلم بما في الحياة وما هي الحياة وما هي الكروموسومات وما هي النواة وكيفية التلقيح وما يترتب على كل هذه الأبحاث العلمية من النتائج؛ لا يقاس مثلا بالآثار التي تخلفها في الذهن مباحث علم الحيوان أو التاريخ الطبيعي أو الوراثة أو الحفريات أو الجيولوجيا وغيرها من فروع علم الحياة، تلك العلوم التي تترك أمامك الدنيا والعوالم والحياة كمصور جغرافي لا تستقرئ فيه كيف قامت الإمبراطوريات وكيف دالت ولا كيف ثارت الشعوب وكيف هدأت عاصفتها ولا كيف تكونت المدنيات وكيف انحلت لا غير، بل تقرأ فيها من صور الجمال والعلم ومن ألوان الفن والعظات ما تسكن إليه نفسك سكونها إلى صورة الكون ميدانها والطبيعة فنانها الأعظم.
يقول أرسطوطاليس: «في الشئون العملية ليس الغرض الحقيقي هو العلم نظريا بالقواعد، بل هو تطبيقها، ففيما يتعلق بالفضيلة لا يكفي أن يعلم ما هي، بل يلزم زيادة على ذلك رياضة النفس على حيازتها واستعمالها.» وهذه القاعدة يصح تطبيقها على علوم الحياة كما صح تطبيقها عند أرسطوطاليس على فنون الأخلاق، فليس يكفي في علوم الحياة أن يحوز الإنسان علما بقواعدها، بل يجب أن يتعمق فيها ليحوز ذلك التصور الواسع الذي لا يجعل هذه العلوم قواعد جامدة فقط، بل يعطيك من العالم ونظامه فكرة فنية أساسها الجمال الذي يصدر عن المحسوسات والمرئيات، ويزيدك في الحياة حبا ويزودك فيها بقوات عظمى تستخدمها لترقية النوع الإنساني.
يتبادر إلى ذهن البعض أن العلوم العملية، ومنها علم الحياة بفروعه، هي أشبه الأشياء بالجوامد التي لا تبعث في النفس روعة ولا تخلق فيها جمالا، بل قد يذهبون إلى أبعد من هذا، هم يصورون العلوم بالصخور الصلدة التي تتكسر عليها أمواج الأدب الذي يشبهونه بمياه البحر الناعمة اللطيفة. ولكن الحقيقة الواقعة على الضد من هذا، الحقيقة أن في جوف تلك الصخور الصلدة عالما من الجمال، لا يمكن بحال أن يصل إلى تصويره الأدب مهما ارتقت فنونه ومهما تعددت أساليبه، إنما البلوغ إلى هذا العالم الفني العظيم وقف على أساليب العلم وحدها، وفي حدسي أن هذه الأساليب لا بد من أن يكون لها من الأثر البعيد في الآداب ما لا نستطيع تقدير مداه، وإن كنا على يقين من أنه تأثير سوف يبلغ مدى قصيا من تغير الفكر الإنساني في الحياة.
ولا أستطيع بحال من الأحوال أن أدعي أن هذه الصورة قد قامت في عقول الناس عندما بدأ الدكتور صروف يدافع عن مبدأ النشوء والارتقاء واحدا فردا منذ أكثر من نصف قرن من الزمان. وهل تعرف ماذا يفهم من نصف «قرن»؟ يفهم منه أن روح التعصب كانت لا تزال بعيدة التأثير في العقول، وكان الجامدون لا يزالون ملتصقين بجدران الزمان يسندون ظهورهم إلى جملة من المذاهب العتيقة التي أخذت لبناتها تتهدم لبنة بعد أخرى، وكان في يدهم قوة التقاليد ينوءون بها على العلم وأهل العلم. وكانت المعركة لا تزال حامية الوطيس بين داروين وأنصاره هربرت سبنسر وهكسلي من ناحية، ومستر سان جورج ميفارت والأسقف ويلبرفورس من ناحية أخرى، ومن حول هذه المعركة دارت معارك أخرى في ألمانيا وفرنسا، بل لا تزال المعركة دائرة حتى اليوم في أمريكا، وليس في أمريكا وحدها، بل في إنكلترا أيضا، فإن المعركة التي دارت وتدور اليوم حول كتاب الصلاة المقرر في الكنيسة الإنكليزية والأثر الذي خلفه خطاب سير أرثر كيث، لا تزال أصداؤها ترن في آذاننا.
Page inconnue