Problèmes de la civilisation moderne
معضلات المدنية الحديثة
Genres
ونحن إذا شعرنا اليوم ونحن نكتب في مذكرات بطل الثورة الأولى شعورا كاملا بأنه ليس في مستطاعنا أن نقضي في أي الأحزاب أدنى إلى الحق وأيها أقرب إلى الصواب حكما يرضي نزعات العلم الحديث وموحيات الأسلوب اليقيني الصرف، ونحن بعد لما نبعد عن عهد عرابي إلا نصف قرن من الزمان، فكيف يمكن أن نحكم على حادثات أعرق من هذا قدما وأشد إيغالا في أحشاء الزمان؟
البطل الماثل أمامنا اليوم هو السيد أحمد عرابي الحسيني المصري، قائد الثورة المصرية سنة 1882، وأول من رفع لواء القومية المصرية في وجه العناصر الأجنبية التي استبدت بالبلاد وأرهقت أهلها وناءت عليهم بقوة الاستعمار، تهضم حقوقهم وتستعبدهم استعبادا. تخرج بهذا الرأي إذا أنت فرغت من قراءة الجزء الأول من مذكراته المطبوعة الذي أهدانيه صديقي عبد السميع بك عرابي. والخائن الذي يتمثل أمامك في بضعة آراء حوطت شخصيته بكثير من الأشياء والفكرات الخيالية الغريبة، تلك الآراء التي أذاعها بطبيعة الحال الحزب المقاوم لإرادة عرابي في ثورته؛ هو بعينه بطل القومية وأول من قال بأن مصر للمصريين دون غيرهم من شعوب الأرض قاطبة.
ما أثرت عليه في هذه العقيدة جامعة الدين التي كانت تربطه بالترك والجركس، ولا رابطة السياسة التي كانت تربط مصر بدولة بني عثمان، ولم يبهره زخرف المدنية الأوروبية ولا بهرجها الكاذب، فكان رجال الجيش والإدارة من غير المصريين سواسية في نظره، هم جميعا عنده بمنزلة الدخيل المستعمر الذي يمتص دم بلاده امتصاصا ولا تهزه نحوها أية عاطفة من الوطنية ولا يحركه شعور قومي. وما أنت في كل ذلك بمحتاج إلى دليل تستخلصه من الحوادث ولا برهان تستقرئه من بين الآراء المتضاربة، فإنه يكفي عندك أن تقرأ ما أشار إليه السيد أحمد عرابي باشا من المديح في الضباط المصريين من قواد الجيش المصري، وأنهم لجديرون بمثله في كثير من ظروف التاريخ؛ لتشعر شعورا صادقا يوحي إليك دائما بأن مصرية عرابي كانت مصرية كاملة النواحي متلائمة الأطراف محبوكة على حب عشيرته وتقديس قوميته، وما هو بمسئول مباشرة من بعد هذا عن النتائج التي خبأها له ولمصر القدر، لأن أرقى النزعات الإنسانية من الجائز أن تنتج أسوأ الشرور وأبلغ المصائب، وعكس ذلك قد يتفق أن يكون صحيحا في كثير من الوجوه. ومن الجائز أن يكون عرابي قد خدع، وأي إنسان لم يخدع في هذه الدنيا؟
ألم نركن إلى فرنسا في بدء مقاومتنا للاحتلال بعد سنة 1890 فلوحت فرنسا لإنجلترا تلويحا، ثم لم تلبث الدولتان أن اتفقتا علينا سنة 1904 ونحن بعد من خديو مصر إلى أصغر سياسييها شأنا مخدوعون بفرنسا وبمقدرة فرنسا وشرف فرنسا ... وما إلى ذلك من الخيالات الموهومة؟ فلو أن مصر تبدلت من السلام الذي ساد ربوعها في العقد الأخير من القرن التاسع عشر بثورة حاطمة ومضت في ثورتها واثقة بفرنسا، أيكون في قدرتك أن تعرف أي النتائج كان من الممكن أن تترتب على هذا الوهم الشائع؟ لا مشاحة أنك تعجز عن ذلك عجزك عن أن تعرف في أي الجهات خدع عرابي. على أنه لو كان قد خدع في كل شيء فإن ضميره لم يخنه في مصريته يوما، ولم يتحرك فيه عرق واحد ضد قوميته برهة واحدة. وكفى لمن يرفع لواء القومية المصرية فخرا أن ينتزع سر هذه القومية من جوف أبي الهول القابع في صحراء مصر، بعد أن احتوتها جوانبه الصخرية الصماء ثلاثين قرنا من الزمان حيث تركت نسيا منسيا.
يخص كثير من الكتاب لدى بحثهم الأسباب والنتائج التي قامت من أجلها أو أدت إليها الثورة الفرنسوية، منقبين في حنايا التاريخ القديم والحديث، راجعين بالأسباب إلى أزمان بعيدة قد تفصل عرابي عن عهده نصف قرن ونيف، أو ذاهبين بالنتائج إلى مدى قصي بعيد، وما هم في الحالتين إلا في خطأ مبين، ذلك لأننا نعتقد أن الثورة قد خلقت فجأة، وأنها لم تتكون إلا في قلب عرابي. نعم، إني لا أنكر أن الأسباب تتكون خلال الزمان تدرجا، ولكن هل يمكنك أن تعرف لأي الأسباب هي لا تؤتي نتائجها إلا في زمان محدود، سائل نفسك لماذا لم تقم ثورة القومية المصرية قبل عرابي، ألم تكن الأسباب قائمة من قبله؟ ألم تكن الحالات التي قبرت القومية المصرية واقعة بالفعل قبل عرابي بقرون عديدة من الزمان؟ ونحن إن مضينا قانعين بأن أسباب الثورة قد تكونت خلال أزمان بعيدة عن عهد عرابي، فإن الثورة الحقيقة لم تقم قياما فعليا إلا في قلبه وحده، ومن الجذوة التي اضطرمت نيرانها بين جوانحه فاستنارت بها بقية القلوب.
قامت الثورة في قلب عرابي متأججة قوية، وما هبت رياح الحوادث من حوله إلا لتذكي نيرانها وتبعث بلهيبها المتسعر المضطرم في أنحاء البلاد، وما كان هو على جهل بما يحف مركز مصر السياسي من منازع الاستعمار ورياحه المتناوحة، فإنه قد أنحى على بيع أسهم قناة السويس وعلى من باعها بلومه، وما نسي يوما أن المحافظة على الأجانب ومصالحهم تكأة قوية يدفع بها الخطر الأجنبي، وما غفل عن أن الامتيازات الأجنبية افتئات على حقوق مصر وانتزاع لاستقلالها من بين جنبيها. غير أنه لم يحسب للقوة والمطامع الإنجليزية حسابا ولم يجعل لها وزنا، والغالب أنه ارتكن في ذلك خطأ على فرنسا وعلى تركيا، عالما أنهما لن تسمحا لإنجلترا أن تلج الشرق من بابه فتتحكم قوتها في مصالح الدنيا ومن فيها، ولكن على الضد من هذا الرأي سارت الحوادث، وعلى العكس منه مضت ظروف الدنيا. وأنت بعد حتى اليوم لا تعرف كيف رضيت فرنسا أن تثبت إنجلترا قدمها في مصر، ولا كيف قنعت تركيا بأن تترك درة تاجها نهبا لمطامع الاستعمار الإنجليزي.
ارجع في كل ذلك إلى الأسباب القريبة منك الواقعة في جوك ولا تتلمس لذلك أسبابا بعيدة تلجأ فيها إلى النظريات التاريخية العقيمة، فكما أن الثورة المصرية لم تقم إلا في قلب عرابي، كذلك لم يقم الخوف من التدخل في المسألة المصرية بعد أن اغبر جوها إلا في قلب عبد الحميد أمير المؤمنين - رحمه الله وغفر له - وكيف يمكن أن يرسل عبد الحميد الأناني المستبد جيشا تركيا إلى مصر الثائرة في سبيل حقها المهضوم ليعود إليه مسمما بروح الحرية والدستور؟ ذلك هو السبب الأوحد الذي قام في رأس الطاغية المستبد وحال بينه وبين أن يدرك مصر من خطر الوقوع في يد إنجلترا، لا حوادث السياسة ولا دسائس «دوفرين» ولا مهارة «ماليت» ولا شيء في الدنيا بأجمعها غير هذا، وإلى أي حد كانت تذهب مهارة هؤلاء لو أن هذه المهارة قد لاقت في تركيا قلوبا مشبعة بقوة الإيمان في حق الحرية من الحياة وفي حق الشعوب من الوجود والبقاء؟ أما في فرنسا فإنك لا تجد من سبب إلا سلامة القلب البالغة من السذاجة مبلغ البلاهة في الاكتفاء بوعود الأسد البريطاني المنقلب شاة وادعة، حتى إذا ما تمكن من فريسته انقلب أسدا تارة أخرى.
حول فكرك البعيد القصي باحثا وراء الأسباب الخفية، وقلب صفحات التاريخ من الغزو الفرنسوي إلى محمد علي الكبير إلى معاهدة سنة 1840 وما تقدم ذلك من الحوادث، وتمعن في عصر إسماعيل وفي الوزارة الثنائية وفي البعثات المالية؛ فإنك لا تلمس في كل هذا إلا ظاهر الحياة ولا تقع إلا على العرض دون الجوهر، ولن تقع على الجوهر الكامن في جوف الطبيعة البشرية إلا في قلب عرابي الثائر المصري وأنانية عبد الحميد العاهل التركي وبلاهة فريسنييه الوزير الفرنسوي. •••
الفاصل الزماني بين الثورة الفرنسوية وبين الثورة المصرية قرن واحد من الزمان، وهو عهد قصير في عمر الأمم. ومن غريب ما ترى في حوادث مصر التاريخية أن نتائج الثورة الفرنسوية لم تلحق إيطاليا إلا في منتصف القرن التاسع عشر، ولم يبزر بزرها في مصر إلا في أواخره. فكأن فكرات الحرية وحقوق الإنسان قد احتاجت إلى قرن كامل من الزمان لتتم هجرتها من فرنسا إلى مصر، فما أبطأ الفكر الإنساني في تقبل الآراء الحديثة، وما أسرعه في العودة دراكا إلى تقاليده الموروثة!
على أنك لا تعجب أن تحركت في نفس عرابي عوامل القومية، ولكنك لا تعرف أية علاقة لهذه النزعة بالفكرات الديمقراطية الدستورية وبحق الأمم في تقرير شكل الحكم الذي تمضي خاضعة له. لا نشك في أن بين الفكرتين؛ فكرة القومية وفكرة الحرية الديمقراطية، علاقة وآصرة، ولكن تدلنا حوادث التاريخ على أن أقرب ما يستعان به على حماية القوميات حكومات تستمد من الشعوب التي تمثل تلك القوميات، وما أشك مطلقا في أن الفكرة الدستورية التي قامت في رأس عرابي كانت مستمدة مباشرة من الفكرات الفرنسوية.
Page inconnue