Problèmes de la civilisation moderne
معضلات المدنية الحديثة
Genres
لا يدلك على المعنى الحقيقي الذي ينقله اصطلاح «آخر زمن» مثل وقوفك على حوادث أطلق عليها هذا الاصطلاح، ولقد استجمع «نورداو» أمثالا اقتطعها من المجلات الفرنسوية التي تتبع قراءتها عامين كاملين، وإليك بعضها: (1)
قسيس يحاكم لأنه نال بالسب من راعي الكنيسة العام. تنتهي الإجراءات فينتهز الرهبان إخوانه هذه الفرصة ليوزعوا على مخبري الجرائد في المحكمة دفاعا أعد المتهم منه نسخا من قبل، ولما أن يلزم بغرامة يستدر أكف الناس من طريق الاكتتاب فيجمع عشرة أضعاف الغرامة، ثم يطبع كتابا يبرر به عمله، فيحبوه بكل ما وصل إليه من عبارات التأييد، ومن ثم يطوف أنحاء البلاد عارضا نفسه في كل كنيسة أمام جمهور أخذته الرغبة في مشاهدة رجل الساعة ووحيد الدهر، فلا تفوته فرصة الطواف عليهم بصحاف الاستجداء! فهو قسيس آخر زمن. (2)
أرسلت جثة السفاح «برانزيني
» بعد تنفيذ حكم الإعدام لتشرح، فيقطع رئيس البوليس السري جزءا كثيرا من جلد الرجل لأنه كان موشوما؛ ليصنع منه علبا للفافات التبغ ومحافظ لبطاقات الزيارة له ولبعض أصحابه! فهو موظف آخر زمن. (3)
رجل أمريكي يحتفل بزفافه في معمل غاز، ثم يستقل وعروسه «بالونا» أعد من قبل، ثم يبدأ شهر العسل بين السحاب! فهذا عرس آخر زمن. (4)
ملحق في السفارة الصينية ينشر تحت اسمه مؤلفات ذات قيمة في اللغة الفرنسوية، ويفاوض المصارف المالية في شأن قروض عظيمة لحكومته، ويأخذ من المصارف مقادير كبيرة من النقود لنفسه قبل أن يتم العقد، ثم يظهر من بعد ذلك أن الكتب من تأليف سكرتيره الفرنسوي، وأنه خدع المصارف المالية! فهو سياسي آخر زمن. (5)
فتاتان من فتيات الأسر الكبيرة، صديقتان في التعليم، جلستا تتحدثان، فتتنهد إحداهما تنهدة عميقة فتسألها الأخرى: «ما السبب؟» فتجيب: «إنني أحب راؤول، وراؤول يحبني»، فتقول رفيقتها: «إنه شاب جميل حسن البزة والصورة. ولماذا تشعرين بحزن؟!» «نعم، لأنه لا يملك شيئا، وليس بشيء، وأبواي يريدان أن يزوجاني من البارون، وهو رجل بادن أصلع الرأس قبيح الوجه»، فتقول لها رفيقتها: «حسن، تزوجي من البارون بدون لغط، ثم عرفيه براؤول»! فهن فتيات آخر زمن.
أمثال هذه الحالات تدلنا كيف يفهم هذا الاصطلاح في مهد نشأته، وتلك أمثال من الخبائث المخبوءة وراءه، وهي تدل في أوسع معانيها على التحرر من النظامات التقليدية الموروثة تخلصا عمليا تاما. أما التحرر من آثار التقاليد فلا يقوم له من معنى في أذهان الآخذين بآداب «آخر زمن» أبعد من إطلاق الأهواء من إسار العقل والأخلاق؛ لتمضي جامحة في الطريق التي تسلم بها إلى الناحية الحيوانية في الإنسان.
من الآخذين بوحي «آخر زمن» أنانيون قست قلوبهم وفتنتهم موحيات عقول نكث فتلها إسفاف النزعات القائمة من حولهم، فهم لا يقيمون لإخوانهم في الإنسانية وزنا إلا بمقدار ما يعود عليهم من نفع في مشاركتهم الحياة، ويطئون بأقدامهم كل الحوائل الأدبية القائمة بين النفس الإنسانية وبين التطوح مع قواسر المطامع الأشعبية وحب الزخارف الدنيا. ومنهم متبرمون بالدنيا متهاونون بالحياة، لا يأنفون من تسويد النزعات السفلية التي إن عجزوا عن ردعها بوازع من الفضائل، أخفوها وراء ستار من الختل والمخادعة والرياء. ومنهم مؤمنون بالدين، غير أنهم يحاولون التخلص من المذاهب الفضلى، فيرتطمون في التسفل إلى إنكار ما بعد الحسيات، آخذين بما توحي به إليهم فلسفة الظواهر الكونية.
ومنهم حسيون يجردون الفن عن معاني المثالية والخيال، فيخرج من يدهم هيكلا مواتا لا يحدث من روعة ولا يبعث من انفعال. ذلك في حين أن الكل مجمعون على ضرورة التخلص من النظام الموضوع الثابت الدعائم، وهو في الواقع نظام لا ينكر منكر أنه أرضي المنطق آلافا من السنين، ولم يحل بين الفن الناضج وبين إبراز صور اجتماعية أخلاقية فيها كثير من بواعث الجمال.
Page inconnue