Problèmes de la civilisation moderne
معضلات المدنية الحديثة
Genres
إن المحور الذي تدور حوله رحى التطفل في جماعات العمال الحديثة ينحصر في العمل على طلب الجراء أو الأجر المحدود بإرادة المنتج من غير تدبر في قيمة العمل الذي ينتجه العامل. ولا يجد دكتور فريمان من صعوبة في أن يظهر لك كيف يقنع العامل بأن يمتص دمه من جهاته الأربع، لا لشيء إلا ليرضي المنتج نزعات الخاملين الذين فقدوا القوة على العمل والابتكار وتزودوا من الحياة بقوة المال، تلك الجموع البيروقراطية التي لم تخلق في المجتمع إلا لتبدد ما تخرج اليد العاملة من ثمرات.
يمضي العامل طوال عمره عاملا على أن يرضي ذوق غيره لا أن لا يرضي ذوقه، هو يعيش إذن لغيره لا لنفسه، وهو يجهد نفسه دائما لدرس أحط ناحية من نواحي النفس الإنسانية، ناحية الضعف بشيء خاص ينتجه ليربح المنتج أضعاف ما ينال العامل من عمله، وبهذا يخلق جو من التطفل على صفات الإنسان مستمدا من إرضاء نزعاته الخاملة وشهواته الدنيئة، يعيش عليها العامل والمنتج كلاهما عيش تطفل وخمول، لا عيش جد وابتكار حقيقي. وأنت أينما وليت وجهك باحثا في صور الإنتاج الصناعي، لا ترى إلا هذه النزعة فاشية في كل ما تنتج اليد العاملة، فالإنتاج اليوم عبارة عن إخراج كميات كبيرة ترضي من المستهلك أحط نزعاته، لا عبارة عن إخراج صفات في المنتجات ترضي ذوق العامل وفيها من القيمة بقدر ما يؤخذ تلقاءها نقدا، وعلى الجملة تستطيع أن تقول بحق: إن مصنوعات العصر الحاضر نتاج لفكرة ثابتة في رأس المنتج يدفع العامل على تنفيذها قسرا عنه، قوامها استخدام المشاعر الدنيئة والشهوات السافلة من طريق الإغراء سعيا لابتزاز أموال الجماهير، والسرقة من طريق أخذ كميات من النقد لا توازيها صفات المصنوعات المبذولة فيها، وهذه بحق صورة من أحط صور التطفل الاجتماعي لا تتناول آثارها تبديد الثروات والحطام لا غير، بل يتناول أثرها إفساد اليد العاملة المنتجة بما يحط من مستواها، بل ومن مستوى الجماعة التي تعيش فيها. •••
على أنني لا أعلم كيف ترك الدكتور فريمان صحافة العصر الحاضر دون أن يصف لنا ما فيها من نزعات التطفل الاجتماعي التي بلغت في كل الأمم المتمدينة أقصى دركات الانحطاط والإسفاف، وعندي أن ما يظهر في صحافة العصر الحديث من صور التطفل البشع لأبلغ أثرا في النيل من ترابط الجمعيات الإنسانية من كل عوامل التطفل الأخرى، على ما هي مجهزة به من مهيئات الهدم والتخريب، وما من شيء في الصحافة الحديثة إلا وفيه من دم التطفل قطرة تفيض أو عرق ينبض. وعلى الرغم من أن الصحف سلاح حديث تذرعت به جماعات المدنية الحديثة للدفاع عن مصالحها، وعلى الرغم من أن المبدأ التي خلقت له الصحافة يبعد جهد البعد عن جو التطفل على تعدد صوره واختلاف ألوانه؛ فإن ما غرس في طبع الإنسان المتمدين من منازع الجشع الاجتماعي - البيلونكسيا - كما يدعوه الأستاذ مولر ليير، لم يبق للصحافة من حياة إلا إذا مضت متطفلة على جسم المجتمع القائم من حولها. وأنت إذا رأيت الصحافة الحديثة على هذا النحو من الحاجة إلى التطفل لتعيش ماديا، فهل لك بعد هذا إلا أن تعتقد بأن كل ما هو كائن من حولك طفيليات تعيش هائمة في الطبيعة على وجهها ولا هادي لها إلا البحث عن جسم تغزوه أو جيب تسلبه، وأنت بعد لا تعرف على من تقع نواتج هذه النزعات، إلا على تلك الكتلة الصماء التي تكونها وحدات بشرية مفكرة مدركة وندعوها إصلاحا بالمجتمع الإنساني.
إن أقرب ما ترى من صور التطفل في الصحافة الحديثة بحثها وراء ما يرضي نزعات قرائها، مهما بلغت هذه النزعات من الانحطاط والدناءة. وبعد فهل ترى من الصحف، لا في مصر وحدها بل في أنحاء العالم كله، ما هو أروج من تلك الصحف التي تنشر صور الغانيات مظهرة لبعض جمالهن مستغوية بذلك الشيب والشباب من طريق التطفل على نزعاتهم وشهواتهم النكداء؟ وبعد فهل ترى في عالم الصحافة أروج من تلك الصحف التي تروي القصص مقذوفا به في كل ناحية من نواحي الدنيات، مظهرة لك من الإنسانية صورة لم يخلقها إلا فكر واضع القصص، ولم يقم في ناحية من نواحي العالم لها من مثال صحيح؟ على أن في المبالغة في وصف المبادئ العليا من الخلق الإنساني لمنحدر تنحدر فيه الأخلاق وآداب السلوك إلى حيث تخرج عن طورها الذي يجب أن تقف عنده، وإلى حيث تصبح وهما وخيالا. خذ لذلك أمثال التضحية التي تقرؤها في قصص المجلات والصحف، وسائل نفسك بعد أن تقرأها: هل هذا حقيقة مثال الخلق الإنساني؟ وهل هذه الأمثال يمكن تطبيقها على حالات واقعة بالفعل؟ وأنت لا تلبث أن ترى أنك في عالم من الخيال لا في عالم من الحقيقة. وبهذا وبكثير من أمثاله يفسد المجتمع وتسبح الجماعات في جو من الخيال الصرف لا أثر له في تقويم خلق ولا في غرس فضيلة.
أما إذا نظرت في الصحافة هذه النظرة، ومضيت تتأمل في كثير من صور التطفل التي تظهر لابسة الثوب الصحفي الحديث، وعدت بنظرك إلماما إلى الحالات القائمة في سياسة الشعوب الحديثة وبين جدران دور النيابة؛ فإنك لا تجد أقوى من عاملين تكاتفا على التغرير بالجماعات ليعيش ممثلوها تطفلا على أعناق الجموع البشرية: سياسي العصر الحديث وصحفيه، كلاهما يرضي نزعة واحدة، هي نزعة القبض على خناق الجماهير ليستعبدها وليعيش متطفلا عليها تطفلا لا يكفل لها من شيء ولا يسوق بها إلى نتيجة، اللهم إلا إلى الانحلال والفناء المحتوم.
الوظيفة التي قامت من أجلها الصحافة إرشادية صرفة، هي قوة للإرشاد والتعليم وإذاعة المعارف، لا ابتغاء إرضاء الناس، ولكن ابتغاء إرضاء الحق والضمير. إذن لا يبحث الصحفي فيما يرضي الجماهير، ولا فيما يرضي الأحزاب، ولا فيما يوافق ذوق الناس، ولا فيما يرضي نزعاتهم الهوجاء؛ إلا ويكون قد خرج عن وظيفته ليعيش متطفلا على شهوات الجمعية يرضيها بالقول لترضيه بالحطام. فهل في صحافة العصر الحديث برمتها من شيء يدل على أنها ظلت خلال عصر من العصور أمينة للمبدأ الذي من أجله وجدت والتي لا يجب أن توجد إلا له؟ (2-5) الانحطاط الضمامي
نترك عالم الصحافة وعالم العمل بما فيهما من صور التطفل الاجتماعي لنعود إلى الدكتور أوستن فريمان، لنمضي وإياه في بحث آخر غير التطفل تناول به انحطاط الإنسان المتمدين عن الإنسان المتوحش، فقال:
إذا قارنت بين عبد من عبيد أفريقيا المتوحشين وبين رجل إنجليزي أفسدته عوامل المدنية الحديثة، وجدت أن الثاني أقل كفاءة من الأول، وجدت أنه يميل إلى الكسل والبطالة، وفيه نزعة إلى البله وضعف العقل، فضلا عما فيه من العجز وعدم القدرة على العمل اليدوي، وهو على الجملة فاقد المران والفن، بل جاهل بكل صنوف المعارف العامة جهلا كاملا. أما الهمجي الأفريقي فعلى العكس من هذا تجده فرحا يميل إلى المجانة منشرح الصدر راضيا قانعا، وهو فوق ذلك على علم بطبيعة الحيوانات والنباتات التي تعيش في محيطه، وله إلمام ببعض مبادئ الدين التقليدية وأساطير آبائه وعادات القبائل التي يعيش معها، وله اطلاع على بعض مبادئ الموسيقى، فضلا عن مرانه اليدوي واكتفائه بقوة يده وابتكاره عن مساعدة غيره من الناس له في حاجات حياته، فإنه يستطيع أن يبني بيتا وأن يرفع سقفا وأن يحصل على غذائه وأن يعده إذا كان غير معد للتغذية، ويمكن أن يولد نارا بلا ثقاب وأن ينسج خيطا مغزولا وأن ينسج ألياف القطن ويهيئ منها ثوبا يرتديه، وقد يصنع كل أدواته التي يحتاج إليها وأن يصلح ما يفسد منها بيده. أما من الوجهة الطبيعية فهو قوي البنية، ممشوق القوام، سريع الحركة، قادرا على العمل، نشيط الحصاة.
إن ازدياد عدد السكان عند دكتور فريمان ظاهرة تتصل ببقاء الأطلح من الناس اتصالا وثيقا، وأنه ما من مؤثر من مؤثرات المدنية الحديثة بأبلغ من الإنتاجية الميكانيكية أثرا في خلق تلك الحالات التي تساعد على بقاء الطالحين وإفناء الصالحين اجتماعيا. أما كل ما يمكن أن تجمع من كتاب دكتور فريمان من وصف لتأثير الميكانيكية الحديثة على مجتمع العصر الحاضر، ففي استطاعتك أن تقف عليه إذا ما قرأت قوله:
إن ميكانيكية الإنتاج الحديثة بما تؤثر به على الإنسان وعلى بيئته، عامل من العوامل المضادة لسعادة الجماعات الإنسانية؛ إنها قد قضت على الابتكار الصناعي وبدلت الإنسانية منه بمجرد إنتاج بائر مكدود، كما أنها جردت أعمال الإنسان عن صفات الرقي والفن ونزلت بمستواها، إنها هدمت قوة الوحدة الاجتماعية وبدلت الإنسان منها بانحلال اجتماعي وتناحر بين الطبقات بلغ درجة تهدد المدنية الحديثة بالزوال والفساد، إنها مزقت تكوين المثل الأعلى من الجماعات الإنسانية؛ إذ وضعت أساس نظامها على قاعدة لا يبذل فيها سوى الفرد ولا يخسر بها سوى الفرد، إنها زودت الإنسان الطالح اجتماعيا بقوة سياسية يستخدمها في سبل تضر بالصالح العام؛ إذ يستطيع أن يخلق بها نظامات ومعاهد من أخطر ما أحدثت المدنية من أسلحة الهدم والتقويض، وإنها بما تؤيد من منشطات الحروب إنما تحدث عاملا قويا يهدم من قوة الإنسان الطبيعية ويفني من مهيآتها ويذهب بالحضارة والثقافة إلى حيث العدم الصرف؛ فهي بذلك لا تشابه في الحياة من شيء إلا تلك الأجسام المضادة للحياة التي تعيش متطفلة على غيرها، تلك التي لا تذهب بالأجسام التي تغزوها إلا إلى الفناء الصرف وإلا إلى العدم المطلق. (3) خاتمة البحث - نقد وتقرير
Page inconnue