Problèmes de la civilisation moderne
معضلات المدنية الحديثة
Genres
على أنه إن كان في القرن التاسع عشر من قوة وحدت بين المؤثرات التي انبثت فيه، فإنها لم تظهر طافية على وجه الحياة، بل ظلت دفينة في أعماق الطبيعة البشرية. والمعضلة التي أخذنا على عاتقنا أن نبلغ إلى حلها بسبب، قد ظلت مستترة، وكذلك الغرض الذي قضينا مجاهدين في سبيل إبرازه، فإنه لن يظهر سافرا غير مقنع، إذن نعتقد أنه غرض يمكن أن يدرك من طريق الاستنتاج وحده، فلا نستطيع له تحديدا ولا حصرا، وعلى هذا نوقن بأن الغرض الذي من أجله عشنا وشقينا وجاهدنا - أي في القرن التاسع عشر - لم يظهر لمشاعرنا تاما بينا، كما ظهر للذين عاشوا خلال عصر الإصلاح البروتستانتي أو عصر الثورة الفرنسوية، وإلا لما سقنا بأنفسنا لولا هذا الأمر إلى فلسفة «اللاشاعرية» و«المجهول»، ولما انتهى القرن التاسع عشر مختتما بالتساؤل: «أمن قيمة لهذه الحياة؟»
هذه الصورة التي صور بها العلامة «مرتز» عالم الفكر وتهوشه وقلقه في عصر الانقلاب الحديث؛ لها صورة تقابلها ولا تقل عنها تهوشا واختلاطا في عالم الاجتماع. على أن هاتين الصورتين على بعد ما بينهما من منازع الأسباب تلتقيان في أنهما نتاج لثورة الانقلاب التي خرج بها الإنسان من حياة القرون الوسطى. وكذلك لا نغفل عن أن نخرج من هذه المقارنة بنتيجة أظن أنها صحيحة من وجوه كثيرة، فكما أننا لا نستطيع أن نقع على نقطة ارتكاز نبدأ منها سفرا طويلا نقضيه في التأمل من تاريخ الفكر الحديث، كذلك لا يحتمل أن نعثر على نقطة ارتكاز نتخذها أساسا للبحث في الحالات الاجتماعية القائمة من حولنا، ذلك لأن كلتا الثورتين؛ الثورة الفكرية والثورة الاجتماعية، لا تزالان قائمتين، ولم تنجل غمرتهما عن نظام محدود يمكن الحكم على تأثيره في مستقبل الإنسان حكما ثابتا.
نعود بعد هذا إلى الدكتور فريمان، فنراه يقول:
إن المدنية التي تقدمت مدنية الإنتاج الميكانيكي قد تركت بيئة الإنسان غير مدخولة بشيء جديد يفسد جوها، غير مغزوة بعامل من عوامل الفساد، فلم يدخل في تلك البيئة عنصر جديد يشوه مظاهرها، كما أن مخزوناتها ظلت غير منقوصة، وثرواتها حفظت تامة كاملة. على أن مدنية العصور الأولى مهما كان فيها من صور الانعكاس على حياة الإنسان، فإن هذه الصور لم تزد إلا مضاعفات جعلت الأرض أكثر صلاحية لعيش الإنسان ورفاهيته.
لقد شهد القرن الفارط انقلابا عم أثره كل الحالات، فإن الإنسان في عصر الإنتاج اليدوي قد عاش منتجا من خيرات بيئته، في حين أن عيشه في عصر الإنتاج الميكانيكي محمول على رأس المال، إن الآلة المنتجة عنصر لا بقاء له بغير الفحم والحديد، ذلك في حين أن كل الإحصائيين يعتقدون أن كمية الفحم المخبوء في باطن الأرض لا تكفي العالم ألفا من السنين، بفرض أن العمل على استخراجه قد تنتابه فترات إضراب تكف فيها الأيدي عن إخراجه إلى سطح الأرض، وكذلك الحال في الغابات، فإنها آخذة في الزوال بنسبة سريعة لتزود الجرائد والصحف على الأخص بما تحتاج إليه من ورق الطبع، نزيل اليوم هذه الغابات من سطح الأرض لنتبدل من ذلك الفردوس الناضر بمدن للإنتاج تضعف فيها الإنسانية وتذبل دوحتها، نجتث الغابات العظيمة لنصدر الجرائد، في حين أن نظرة هدوء واستسلام قد تكون في فكرنا، إذا ما أشرفنا على غابة من الغابات، كفاءة نقتدر بها على أن ندرك من الطبيعة عظة؛ هي أدنى إلى نفع الإنسان من كل ما تحشى به جرائد العالم من دروس تفيض بها رءوس القائمين بتحريرها من سقط الكلام، وثيب من القول.
تتجلى مظاهر الإنتاجية الميكانيكية الحديثة في تلك المدن الوخمة القذرة التي امتلأت جنباتها بمعامل الإنتاج تجللها غابات باسقة من المداخن البشعة المنظر، حيث ينبت تحت أصولها جموع من المنازل المتلاصقة تسكنها جموع محشودة من أقذر ما أخرجت عصور التاريخ من بني آدم وحواء، وقد ارتفع فوق رءوسهم نقع كثيف من الدخان الأسود يشبع هواءها الفاسد بفضلات من الفحم تزيده فسادا، وقد تطمو موجة ذلك النقع في الفضاء أميالا ليفسد صفاء الريف الذي يحوط المعامل الإنتاجية. ولو صح ذلك الرأي الفلسفي الذي يريد أن يثبت أن الجمال صفة من صفات الخالق، وأن بارئ الأشياء لا يبغض من شيء بقدر ما يبغض بشاعة المنظر ودمامة الخلق وقبح التركيب، فإن دكتور فريمان لا يشك في أن مدنيتنا الحديثة هي من أبغض ما أبرز الفكر الإنساني إلى الله.
ويحصر الدكتور فريمان مؤثرات الإنتاجية الميكانيكية على جماعات المدنية الحديثة في ستة أشياء:
الأول:
القضاء على الفنان القديم الذي كان يعتمد على مهارته الذاتية وقوة ابتكاره، والتبدل منه بعامل نصف ماهر أو عاجز كل العجز، يقضي زمانه عبدا لآلة تدور بلا اختيار منه أو منها.
الثاني:
Page inconnue