قال الشيخ أبو حاتم سهل بن عثمان السجستاني
ذكر أبو عبيدة، وأبو اليقظان، ومحمد بن سلام الجمحي، وغيرهم أن أطول بني آدم عمرا الخضر، واسمه خضرون بن قابيل بن آدم ﵇.
وقال ابن إسحاقي، حدثنا أصحابنا، أن آدم ﵇ لما حضرته الوفاة جمع بنيه، وقال لهم: يا بنيّ، إن الله منزّل على أهل الأرض عذابا، فليكن جسدي معكم بالمغارة، حتى إذا هبطتم فابعثوا بي، وادفنوني بأرض الشام. فكان جسدهم معهم.
فلما بعث الله تعالى نوحا ﵇ ضمّ ذلك الجسد، وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض، زمانا فجاء نوح ﵇، حتى نزل ببابل، وأوصى بنيه الثلاثة، وهم سام، ويافث، وحام، أن يذهبوا بجسده إلى المكان الذي أمرهم أن يدفنوه فيه.
فقالوا: الأرض وحشة، ولا أنيس بها، ولا نهتدي الطريق، ولكن نكفّ حتى يأمن الناس، ويكثروا، وتأنيس البلاد، وتجفّ.
وقال لهم نوح ﵇: إن آدم قد دعا الله أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة؛ فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي دفنه، وأنجز الله له ما وعده، فهو يحيا إلى ما شاء الله أن يحيا.
وعاش نوح النبي ﷺ ألفا وأربعمائة وخمسين سنة؛ ذكر ذلك بن أبي زياد علي ابن أبي عياش العبدي عن أنس قال، قال رسول الله ﷺ: لما بعث الله نوحا إلى قومه بعثه وهو ابن خمسين ومائتي سنة، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وبقى بعد الطوفان خمسين سنة ومائتي سنة، فلما أتاه ملك الموت قال، يا نوح يا أبا كُبر الأنبياء، ويا طويل العمر، ويا مجاب الدعوة، كيف رأيت تادنيا؟ قال: مثل رجل بنى له بيت، له بابان، فدخل من واحد، وخرج من الآخر.
وقد قيل دخل من أحدهما، وجلس هنيَّة، ثم خرج من الباب الآخر.
قالوا: وكان أطول الناس عمرا بعد الخضر لقمان بن عاديا الكبير، عاش خمسمائة سنة وستين سنة، عاش عمر سبعة أَنسر، عاش كل نسر منها ثمانين عاما، وكان من بقية عاد الأول.
حدثنا أبو حاتم قال، قال أبو الجنيد الضرير، أخبرنا بذلك الحسين بن خالد، عن سلام، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن محمد بن إسحاق وغيره، فأما غير الحسين، فذكر أنه عاش ثلاثة وخمسمائة سنة؛ واله أعلم أي ذلك كان.
" وكان من وفد عاد الذين بعثهم إلى قومهم إلى الحرم ليستسقوا لهم، وكان أعطى من العمر عمر سبعة أنسر، فجعل يأخذ النسر الذّكر، فيجعله في الجبل الذي هو في أصله، فيعيش النسر منها ما عاش، فإذا مات أخذ آخر، فرّباه حتى كان آخرها لُبَد، وكان أطولها عمرا، فقيل: طال الأبد على لُبَد.
وقال ذلك لبيد بن ربيعة الجفري من بني كلاب:
ولقد جرى لُبد، فأدرك جريهُ ... ريبُ الزَّمان وكان غيرَ مثقَّلِ
وقال لبيد أيضا:
لما رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادمَ كالفقير الأعزلِ
من تحته لقمان يرجوا نهضَهُ ... ولقد رأى لقمان ألاَّ يأتلي
وقال الضَّبِّى:
أوَ لم ترَ لُقمان أهلكه ... ما أفتاتَ من سنةٍ وَمِن شهرِ
وبقاء نسرٍ كلما انقرضت ... أيامه عادت إلى نسرِ
وقال الأعشى:
لنفسكَ إِذا سبعة أنسرِ ... إذا ما مضى نسر خلوتَ إلى نَسرِ
فَعًمِّرَ حتى خالَ أنَّ نَسوره ... خُلود وهل تبقى النفوس على الدهرِ؟
وقال
لأدناهُنَّ إذا حلَّ ريشه ... هلكت، وأهلكت ابن عادٍ، وما تدري
قال، وأعطى من السمع والبصر على قدر ذلك، وله أحاديث كثيرة.
وقال الذبياني:
أَمست خَلاءٍ وأَمسى أَهلُها احتملوا ... أخنَى عليما الَّذي أَخنى على لُبَدِ
قال أبو حاتم: أَخنى، أَفسَد.
قالوا: وكان من بعد سطيح، وُلِد في زمن السَّيل العرم، وعاش إلى ملك ذي نواس، وذلك نحوا من ثلاثين قرنا، وكان سكنه البحرين؛ وزعمت عبد القيس أنه منهم؛ وتزعم الأزد أنه منهم؛ وأكثر المحدثين يقولون، هو من الأزد، ولا ندري ممن هو، غير أن ولده يقولون: إنهم من الأزد.
قالوا: وكان المعافر بن يعفر بن مرّ بعد هذين، فمات، فلما حضره الموت حفروا له حفيرة، وبنوا له بيته " يعني قبره " فأخذ صخرة فكتب فيها:
1 / 1
أنا المعافر بن يعفر بن مر ... ولست من ذي يمنٍ بَقُرْ
لكنَّني مضريُّ حُرْ يقول: لست منهم ذا أصل، يقول: أنا يماني الدار.
وأنشد لطرفة:
فتناهيتُ وقد صابت بِقُرْ
فوجد في زمن سليمان بن داود، فكشف عنه، فوجد فيها " في الحفيرة " ووجد عبده الكتاب.
وقالوا: خرج رجل من قريش قبل مخرج النبي ﷺ، فركب البحر، فانكسرت سفينته، فوقع قي جزيرة في أرض لا يرى بها أنيسا، فبينا هو يط وف في تلك الجزيره إذا هو بشيخ كبير مجتمع العلم، فقال: من أنت؟ قلت: رجل من العرب.
قال: من أيّ العرب؟ قلت: رجل من قريش.
قال: بأبي وأمي قريش، وأين مساكنها اليوم؟ قلت: بمكة.
قال: فهل خرج محمد بعد؟ قلت: وما خروج محمد؟ قال: فقص علىّ كيف يكون خروجه، وأخبرني أنه نبي، وأنه سيخرج، فإذا خرج فأتّبعه وقص أمره، ثم قال لي: أعالم أنت بمكة؟ قلت: نعم.
قال: فهل تعرف مكانا يقال له " المطابخ "؟ قلت: نعم.
قال: أفتدري لم سُمِّىَ المطابخ؟ قلت: لا.
فقال: إن جيشين منا تواعدوا للقتال، فنزل أحدهما شرقي الجبل، ونزل الآخر غربيه، فنحرنا فيه الجُزُر من جانبيه جميعا، فسميَ بنا المطابخ.
ثم قال: هل تعرف مكانا بمكة يقال له " القعيقعان "؟ قلت: نعم.
قال: فهل تدري لم سمىَّ قيقعان؟ قلت: لا قال: فإنت لما خرجنا من المطابخ للقتال، فاجتمعنا بذلك الجبل، فاقتتلنا فيه، وقعقعوا السلاح، سميناه قعيقعان.
ثم قال: هل تعرف فيها بقعة يقال لها " فاضِحُ " قلت: أجل، نعم.
قال: فهل تدري لم سمى فاضحا؟ قلت لا.
قال: فإننا تناجزنا، فاقتتلنا قتالا فضح بعضنا بعضا، فسميناه فاضحا.
ثم قال: هل تعرف فيها موضعا يقال له " أَجياد "؟ قال: قلت، نعم.
قال: فهل تدري لم سمى أجيادا؟ قلت: لا.
قال: فإنا لما أتيناه على جريدة خيل، فاقتلعت فيه الخيل، ليست فيها رجّالة، سمى أَجيادا لجياد الخيل.
ثم انصرف عني إلى الروضة.
فقلت: يا عبد الله، سألتني فأخبرتك، فأخبرني، من أنت؟ فألتفت إلي، فقال مجيبا:
كأَن لم يكن بين الحجون إلى الصَّفا ... أَنيس، ولم يسمُر بمكَّة سامرِ
بلى، نحن كنَّا أَهلَها، فأَزالنا ... صروف الَّليالي والجدود العواثُرِ
فظننا أنه الحارث بن مضاض الجرهمي، مدّ له عمره إلى ذلك اليوم؛ وبعضهم يقول، شيخ من جرهم.
قالوا: وكان من أطول من كان قبل الإسلام عمرا رُبَيع بن ضبيع بن وَهْب ابن بغيض بن مالك بن سعد بن عدىّ، ابن فزارة، عاش أربعين وثلاثمائة سنة، ولم يُسلِم.
وقال لما بلغ مائتي سنة وأربعين سنة:
أصبح منيِّ الشَّبابُ قد حَسَرَا ... إِن ينأَ عنيَّ فقد ثوى عُصُرا
ودعَّنا قبل أَن نودَّعه ... لمَّا قضى من جماعنا وطرا
ها أَنذا قبل آملُ الخلود وقد ... أَدرك عقلي ومولدي حُجُرا
أَبا مِرىِْ القيس هل سمعت به ... هيهات طال ذا عُمُرا
أَصبحت لا أَحمل السلاح ولا ... أَملك البعير إِن نَفَرَا
والذئب أَخشاه إِن مررت به ... وحدي وأَخشى الرياح والمطرا
من بعد ما قوة أُسرُّ بها ... أَصبحت شيخا أُألج الكبرا
وقال لما بلغ مائتي سنة:
أَلا أَبلغ بنىّ بنى ربيع ... فأَشرار البنين لكم فداء
فإِني قد كبرت ودق عظمي ... فلا تشغلكم عنِّى لبنساءُ
وإنَّ كنائنى لنساء صدق ... وما آلى بنىَّ وما أَساءوا
ويروى: وما أَلى، والتألية، التقصير: ومن قال، وما آلى، فالمعنى، ما أقسموا ألا يبروني.
حدثنا أبو حاتم قال، حدثنا أبو الأسود النوجشجاني، عن العمرى، عن أبى عمرو الشيباني قال، سألني القاسم بن معد عن قوله: ما آلى بنيّ وما أَسأَءوا.
قلت: أَبطئوا.
قال: ما تركت في المسألة شيئا.
ورجع إلى بقية الشعر:
إِذا كان الشتاء فادفنوني ... فإنّ الشَّيخَ يهدمُهُ الشتاءُ
فأَما حين يذهب كُّلُّ قُرٍ ... فسربالٌ خفيف أَو رداءُ
إِذا عاش الفتى مائتين عاما ... فقد أَودى المسرَّةُ والفتاءُ
1 / 2
ويروى، فقد ذهب التخيل والفتاء؛ والفتاء مصدر الفُتى.
وقالوا: إن معاوية أتى برجل من جرهم، فقال: ما أسكنك هذه البلدة؟ فقال: خرج قومي من مكة، فخرج أبي نحو الشام، فلم أزل فيها.
قال: كم أتى عليك؟ قال: أربعين ومائة سنة.
قال: فمن أنت؟ قال: من جرهم.
قال: كذبت، لست منهم.
قال: فكيف تسألني إذن؟ قال: كم أتى عليك من الزمان؟ قال: كالذي أتى عليك.
فظن معاوية، أنه يعني هلكه، فقال كذبت.
قال: فكيف رأيت الدهر؟ قال: سنبات بلاء، وسنبات رخاء، ويوم شبيه بيوم، وليلة شبيهة بليلة، يهلك والد، ويخلف مولود، فلولا الهلالك لامتلأت الدنيا، ولولا المولود لم يبق أحد.
قال: فهل رأيت أُميّة؟ قال: نعم، يقود ذكوان عبده.
فقال: كف، فقد جاء غير ما ذكرت.
قال: فأي المال أفضل؟ قال: عين خرَّارة في أرض خوَّارة.
قال: ثم مَه؟ قال: فرس في بطنها فرس، يتبعها فرس، قد ارتبطت منها فرسا.
قال: ثم مه؟ قال: عد' أيام السنة ضأنا أَضمن لصاحبها الغنى.
قالوا: وعاش الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة ابن تميم عمرا، ثم مات في آخر الزمان، وقد كان له حَمّام بالحيرة، فقال الأضبط:
يا قوم، من عاذري من الخدعَة ... والمُسىُ والصبح لا فلاح معه
ما بالُ من غيَّه مصيبُكَا ... لاتملك من أَمره الَّذي وزعه
حتى إِذا ما انجلت عمايتُهُ ... أَنحى عليه، وأَمره فجَعَه
وصِل وصال البعيد ما وصَل ... حبلَ، وأَقص القريبَ إِن قطعَه
واقبل من الدَّهر ما أتاك به ... من قَرَّ عينا بعيشه نَفَعه
قالوا: وعاش الستوغر بن ربيعة بن كعب ثلاثا وثلاثمائة سنة، وقال قوم، ثلاثمائة وثلاثين سنة، وقال في ذلك:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وعمِرتُ من عدد السنين مئينا
رئة حدتها بعدها مائتان لي ... وعمرتُ من عدد الشهور سنينا
هل ما بقى إِلا كما قد فاتنا ... يومٌ يمرُّ وليلةٌ تحدونا
بقى، يريد، بقى، وهي لغة. وأنشد:
اقاذعتُ كعبًا ما بقيتُ وما بقى
وقال المفضل: عاش زمانا طويلا، وكان من فرسان العرب في الجاهلية، وكان رجل من فتيان قومه يجلس إِليه، وكان لذلك الرجل صديق، يقال له، عامر، وكان الفتى يقول لعامر، إن امرأة المستوغر صديقة لي، وهو يطيل الجلوس، فأحب أن يجلس معه، حتى إذا أراد القيام تثاءبت، ورفعت صوتك بالثَّوباء حتى أسمعوا أنصرف من عندها من قببل أن يفجأَنا ونحن على حالنا تلك.
وإنما كان الفتى صديقا لأم عامر، فأراد أن يشغله بحفظ المستوغر، فيخالف الفتى إلى أم عامر، فيكون معها، حتى إذا سمع التثاوب يخرج.
فظن المستوغر لعامر وما يصنع، فاشتمل على السيف، وجلس حتى إذا لم يبق غيره وغير عامر قال: ألا ترى والذي أحلف به، لئن رفعت صوتك لأضربنّك بالسيف فسكت عامر، فقال له المستوغر: قم معي.
فقاما إلى بيت المستوغر، فإذا امرأته قاعدة بزينتها، فقال: - هل ترى من بأس؟ قال: ما أرى بأسا.
قال المستوغر: فانطلق بنا إلى أهلك فانطلقا، فإذا هو بالفتى متبطنا أم عامر معها من ثوبها.
فقال له المستوغر: انظر إلى ما ترى؛ ثم قال: لعلَّني مضللَّ كعار.
قال أبو حاتم: وإنما المثل: حسبتني مضللا كعامر، فذهب قوله مثلا.
وإنما سمى المستوغر لأنه قال في الشعر:
ينشُّ الماء في الرَّبلات منها ... نشيش الرَّضف في اللَّبن الوغير
والعافية خلف من الواقية، وستساق إلى ما أنت لقٍ. أراني غنيا ما دمتُ سويّا، إن رمت المحاجزة فققبل المناجزة، عاداك من لاحاكَ، خلِّ الوعيد يذهب في البِيد، إِنَّك لا تبلغ بلدا إلا بزادٍ، لا تسخر من شيٍْ فيحور بكَ، إنك ستخالُ ما لا تنالَ " يريد أنك ستتمنى ما لا تقدر عليه، والمعنى، أنك تظنّ كل يوم أنك تبقى إلى غد، وتظن الغد أنك تبقى إلى بعد الغد، وذلك ما لا يكون ".
1 / 3
ربَّ لائم مليم، لا تهرف بما لا تعرف، وإذا تكلَّفت غيَّ الناس كنت أغواهم، ليس من القوة التورط في الهوَّة، وإلى أِمِّه يخرج من لهف، جدَّك لا كدَّك، اسع بجدٍ أو دع، إنَّ بعد الحول أولا، وإن مع اليوم غدا، وإن أخاك من آتاك " يريد واتاك "، ومن يطل ذيله ينتطق به، إن أَخا الظُّلم أَعشى ياليل، ومن حظَّك موضع حقَّك، لا تُلزم أخاك ما ساءك، ومن خير خَيرَ أن تسمع بمَطَر، وناصح أخاك الخبر وكن منه على حذر، ولِّ الثُّكل غيرك فإن العقوق ثكل من لم يثكل، ومن لك بأخيك كلِّه، والتَّجردُّ لغير نكاح مثله، ولا تكوننّ راضيا بالقول، الحرسُ يلهمُ العِرض " يريد يأكله "، لا تحمدنَّ أَمة عام اشترائها، ولا فتاة عام هدائها، ولا تلم أخاك ما آساك.
قالوا: وجمع أكثم بن صيفي بنيه، فقال: يا بنيّ، قد أتت عليّ مائتا سنة، وإني مزودكم من نفسي؛ عليكم بالبرِّ فإنه ينمي العدد، وكفُّوا السنتكم فإن مقتل الرجل فكَّيه، إن قول الحق لم يدع لي صديقا، وإنه لا ينفع من الجزع التَّبكيَّ، ولا مما هو واقع التَّوقِّى، وفي طلب المعالي يكون الغرر " ويقال: يكون العَوَرَ "، الاقتصاد في السعي أَبقى للجمال، ومن لا يأسى على ما فاته ودَّعَ بدنَه، ومن قنع بما هو فيه قرَّت عينه، التَّقدَّم قبل التَّندُّم، أن أُصبح عند رأس الأمر أُحبُّ من أن أُصبح عند ذنبه، لم يهلك من مالك ما وعظك، ويل لعالم أَمرٍ من جاهله، الوحشة ذهابُ الأَعلام " أي العظماء "، ويتشابه الأمر إذا أقبل، فإذا أَدبر عرفه الأحمق والكِّيس، عند الرخاء حمق، والجزع عند النازلة آفة التجمل، ولا تغضبوا من اليسير فإنه يجني الكثير، لا تجيبوا فيما لا تسألون عنه، ولا تضحكوا مما لا يضحك منه، تناءوا في الديار ولا تباغضوا، فإن من يجتمع يتقعقع عمده " أو عُمُدُه، يقالان جميعا " ولقد رأيت جبلا مطلا تزايله حجارته، ولقد رأيته أَملس ما فيه صدع، أَلزموا النساء المهانة، ولنعم لهو الحرَّة المغزل، وأَحمق الحُمق الفجور، وحيلة من لا حيلة له الصبرُ، إن كنت نافعي فورِّ عن عينك، إن تعش تر ما لم ترَ، قد أقرّ صامت، المكثار كحاطب الليل، ومن أَكثر أَسقط، والسَّروُ الظاهر الرَّياش، لا تبوُلُوا على أَكمة، ولا تفشوا سرًا إلى أَمةٍ، من لم يرج إلا ما هو مسوجب له كان قمنا أن يدرك حاجته، ولا تمنعنكم مساويْ رجل من ذكر محاسنه.
حدثنا أبو روق، قال، حدثنا أبو عمر بن خلاد عن محمد بن حرب الهللي قال، قال أكثم بن صيفي لولده: يا بنيّ، لا يغلبنكم جمال النساء عن صراحة النسب فإن المناكح الكريمة مدرجة للشَّرف.
قال أبو حاتم، قالوا، وكان من أمر رياح بن ربيعة ذي ذراريح التميمي أنه أخذ عبدا يقال له، المج، وأَمه يقال لها، الصبغاء، وإبلا لابن أخ لأكثم، فبعث إليه أكثم مالك بن نويرة، وهو ختن رياح على ابنته، فدفع إليه ما كان أخذ منه، وأبطأ عليهم. فبعث إليه أكثم المكفَّف بن المُسّضيح؛ فلما توجه من عنده قيل له، قد انطلق، فليأتينّك بالإبل والعبد والأمة.
فقال أكثم: فتى ولا كمالك.
قال أبو حاتم: هذا مثل للعرب معروف.
فلما قدم علليه مالك قال: صرَّح الأمر عن محصنه.
فدفع إليه مال ابن أخيه، فقال: أقصر لما أبصر، وهذا خبر إِن كان له أثر، وفي الجريرة تشرَكُ العشيرة، ورب قول من صول، والحُرّ حرّ وإن مسَّه الضُرّ، وإذا أفرع الفؤاد ذهب الرُّقاد، هل يهلكنَّي فقد مالا يعود، وأعوذ بالله أن يرميني امرؤ بدائه، ربّ كلامٍ ليس فيه اكتتام، حافظ على الصَّديق ولو في الحريق، وليس من العدل سرعة العذل، وليس بيسير تقويم العسير، وإذا أردت النصيحة فتأَهَّب للظَّنَّة، ولو أنصف المظلوم لم يبق فيينا ملوم، متى تعالج مال غيرك تسأَم، وغثُّك خير من سمين غيرك، لا تنطح جمَّاء ذات قرنٍ، وقد يبلغ الخضم بالقضم، وقد صدع الفراق بين الرِّفاق، واستأنوا أخاكم فإن مع اليوم أخاه، وكلُّ ذات بعل سئيمُ، وقد غلب عليك من دعا إليك، والحرُّ عزوف " أي صبور " لما يبتلى، ولا تطمع في كل ما تسمع.
قالوا: وأشار أكثم يوم الكلاب على بني تميم حين سارت إليهم مذحج بأجمعها، فقال:
1 / 4
استشيروا، وأَقلوا الخلاف على أمرائكم، وإياكم وكثرة الصياح في الحرب، فإن كثرة الصياح من الفشل، وكونوا جميعا فإن الجميع غالب، والمرء يجز لا محالة، تثبتوا ولا تسارعوا، فإن أَحزم الفريقين أَركنهما، ورب عجلة تهب ريثا، وتنَّمروا للحرب، واّرعوا الليل، واتخذوه جملا، فإن الليل أَخفى للويل، ولا جماعة لمن اختلف.
قال: وغزا أكثم، فأسر الأَقياس ونهيكا، وأخذ أهليهم وأموالهم، فقال لبني أخيه، وهم ثلاثة، الكلب، والذئب، والسَّبع بنو بني عامر، وعامر أخو أكثم؛ وكان أكبرهم الكلب وكان شرهم، فدفع الأقياس ونهيكا وأهليهم إلى الكلب. ووضع الأموال على يدي الذئب، وقال: إذا أطلقتهم فادفع إليهم أموالهم وردوها عليهم.
فانطلق الكلب إلى الذئب فأخبره أنه قد أطلقهم، فأكل منا، فبلغ أكثم، فقال: نعم كلب في بؤس أهله، ومن استرعى الذئب ظلم، لا ترجعن عن خير هممت به، إنك لن تخبأَ للهر إلا سالكه.
قال، وقال أبو زيد: ما تخبأ للدهر يسلكه وربما أعلم فأَدعُ.
تشجُّ بيد وتأسو بأخرى، ودَّك من أَعتبك، وحسبتك من شرّ سماعه، لا تكلف الهول فإن العاشية تهيج الآبية ولا فقر منَّا يهدي غمام أَرضنا، ليس الحلم عن قدم، وكن كالسَّمن لا يخمُّ.
قال الكلب: وما أنا برادِّها حتى يمدحوني.
فقال قيس بن نوفل:
أَنت السَّدى وابن النَّدى إِن رددتها ... وجدُّكَ صيفى وخالك أَكثمُ
فقال: كفى بهذا عارا ينسب الرجل إلى أمه، فرجع إلى فخده قالوا: وجمع أكثم قومه، وسار حتى انتهى إليهم، فقال: يا حامل، اذكر حلا.
فقال أبو حاتم: أَلمثلك يا عاقد أذكر حلا؟ حسبُك ما بلَّغك المحَّلا، ربُ أَكلة تمنع أَكلات، وربما ضام قبل أن يسام، وإنما اتخذت الغم من حذر العاريَّة، ولو لذا عويت لم أَعوِ.
قال: فحلف عليه السبع، ليردَّنها، وليطلقَّنها، ثم لا يقيم ببلد عليه فيها.
فشخصا، وأتى الذئب أ، يتبعهما.
وقال أكثم: يا بنّي، لا حكمة، ولا تكونوا كالكلب، أحبَّ أهله إليه الظاعن، أرى الكيس نصف العيش، ولا تعنفوا طلبا لرزقة، ولا دواء لمن لا حياء له، وفي كل صباح صبوح، واذلل للحق تعزز، ولا تجر فيما لا تدري، وفي الاختبار، وكل ما يذل يحمد، وإنما يمسك من استمسك، وكاد ذو الغربة يكون في كربة، والمنيّة تأتي على البقية، واستر سوءة لما تعرف فيك، والذئب مغبوط بذي بطنه.
قالوا: وكتبت جهينة ومزينة وأَسلم وخزاعة إلى أكثم، أن أحدث إلينا أمرا نأخذ به، فكتب إليهم: لا تفرقوا في القبائل فإن الغريب بكل مكان مظلوم، عاقدوا الثَّروة، وإياكم والوشائظ " قال أبو حاتم، وهم الحشو من الناس " فإن الذلَّة مع القلَّة، جازوا أخلاقكم بالبذل والنَّجدة، إن العارية لو سُئلت، أين تذهبين؟ لقالت، أبغي أهلي ذما، مت يتبّع كل عورة يجدها، والرسول مبلِّغ غير ملوم، من فسدت بطانته كان كمن غصّ بالماء، ولو بغيره غصّ أجارته غصَّته، أشراف القوم كالمُخِّ من الدابة فإنما تنوء الدابة بمخَّها، وأشد القوم مئونة أشرافهم، وهم كحاقن الإهالة، من أساء سمعا أساء إجابه، والدّال على الخير كفاعله، والجزاء بالجزاء والبادئ أظلم، والشَّر يبدوه صغاه، وأهون السَّقي التَّشريع.
قالوا: والشَّر يبدوه صغاره، وأهون السَّقي التَّشريع.
قالوا: تنافر القعقاع، وخالد بن مالك بن سلم النهشلي إلى أكثم بن صيفى، أيهما أقرب إلى المجد والسؤدد، فقال: سفيهان يريدان الشر، ارجعا فإن أبيتم فإني لست مفضِّلا أحدا من قومي على أحد، كلَّهم إلى الشرع سواء.
وخلا بكل واحد منهما يسأله الرجوع عما جاء له.
فلما أبيا بعث معهما رجلا إلى ربيعة بن حذار الأسدي، وحبس عنده إبلهما، وكان تنافرا مائة لمائة، فقال: انطلقا مع رسولي هذا، فإنه قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضا عالمها، الرفق حسن الأناة ومواتاة الأولياء، واللوم منع السَّداد وذَّم الجواد، والدِّقَّة منع السير، وطلب الحقير، والخرق طلب القليل وإضاعة الكثير، صادق صديقك هونا ما عسى أن يكون عدوَّك يوما ما، وعاد عدوَّك هونا ما عسى أن يكون صديقك يوما.
قال: فنفر ربيعة القعقاع على خالد، وقال: ما جعل العبد كربِّه.
فرجع خالد مغضبا، فإذا هو براع لبني أسد، فسأله، فأخبره الخبر، فقال الراعي: الحق بأكثم فإن أخذت الإبل وإلا فقد هلكت.
1 / 5
فجاء إلى أكثم فادّعاها، وسأله الإبل، فقال أكثم: حتى يأتيني رسولي.
فخرج من عنده مغضبا حتى أتى بني مجاشع وبني نهشل فقال: أتغلبني أُسيد على مالي؟ فخرجوا، فركبوا إليهم، فخرج إليهم أكثم في قومه، فردّهم.
وقال في ذلك:
أُنبئتُ أنَّ الأقرعين وخالدا ... أرادوا بأَن يستنقصوا عزَّ أَكثما
" ويروي: يستهضموا؛ وقيل: يستبعضوا "
فعضَّ بما أبقيت خواتن أُمِّهِ ... بعمدٍ أَرادوا أَن أُذمَّ ويغنما
" أي: ويغنم خالد ".
وزعموا أنه قال أيضا:
سأَحبسها حتَّى يبين سبيلها ... ويسرحها تحدي إِلى الحيَّ أَسلم
ويمنعها قومي ويمنعها يدي ... وجرداء من أهل الأفاقة صلدمُ
قال: أصاب النعمان أساري من بني تميم، فركب إليه وفودهم، وفيهم أكثم بن صيفي حتى انتهوا إلى النَّجف، فلما علوه أناخ أكثم بعيره، وقال لأصحابه: ترون خصيلتي؟ قالوا: رأينا ما ساءنا.
قال: قلبي مضغة من جسدي، ولا أظنَّه إلا نحل كما نحل سائر جسدي، فلا تتَّكلوا على في حيلة ولا منطق.
فقدموا الحيرة، فأقاموا نصف حول.
ثم شخص النعمان إلى القطانة، فأقام بها نصف حول.
فلما انفضت الوفود، ولم يبقى منهم إلا اليسير قام أكثم، فأخذ بحلقة الباب، ونادى:
يا حمل بن مالك بن أهبان ... هل تبلغنَّا ما أقول النعمان
إنَّ الطَّعام كان عيش الإنسان ... أهلكتني بالحبس بعد الحرمان
من بين عارٍ جائع وعطشان ... وذاك من شرِّ حباء الضِّيفان
فسمع النعمان صوته فقال: أبو حيدة وربّ الكعبة، ما زلنا نحبس أصحابه حتى تفحَّشناه.
ثم أذن لهم.
فلما دخلوا قال: مَرْحبًا بكم، سَلُوني ما شئتم إلا أُساري عندي.
فطلب إليه القوم حوائجهم؛ وأبي أكثم أن يسأله.
فقيل له: ما يمنعك؟ قال: قد علم قومي أني من أكثرهم مالا، وجئنا لأمرٍ قد نُهينا عنه.
فقال النعمان: ما أراهم إلا سيغنمون، وتخيبُ.
قال ذلك لهم ثلاثا، يقول النعمان مثل مقالته، ويقول أكثم مثل مقالته، ثم أذن له في الرابعة في القول.
فتكلم أكثم، فقال: " أَبَيتَ اللَّعْنَ، قد علم قومي أني من أكثرهم مالا، ولم أسأل أحدا شيئا، إن المسأَلةَ مِنْ أَضعف المكسَبَةِ، وقد تجوع الحرَّةُ ولا تأكل بثدييها، إن من سلك الجدد أَمن العثارَ، ولم يجر سالكُ القَصْدِ، ولم يعم على القاصد مذهبه، من شدّد نفَّر، ومن ترَاخَى تألَّفَ، والشرُ التَّغافل، وأحسن القول أوجزه، وخير الفقه ما حاضرْت به ".
فقال النعمان: سل حاجتك.
فقال: ناقتُكَ برحلها، وخلعتك، وكلُّ مكْروبٍ بالقطقطانة والحيرة عرفني.
قال: ذاك لك.
فركب ناقته في كُسْونه، ثم نادى، يا أهل السجن، إن النعمان قد جعل لي من عرفني.
قالوا: كلُّنا يعرفك، أنت أكثم بن صيفي.
ثم فعل مثل ذلك بالحيرة، فأخرجهم، ثم قال:
ثَوَيْنَا بِالْقَطَاقِطِ مَا ثَوَيْنَا ... وَبالْعَبْرَيْنِ حولا ما نَرِيمُ
وأُخبر أهلنا أَن قد هلكنا ... وقد أعيا الكواهن والبسومُ
وآسانا على ما كان أوس ... وبعض القوم ملحيٌّ ذميمُ
فقلت لهم، أيا قومي أبانت ... فكونوا النَّاهضين بها، وقوموا
بوفدٍ من سراة بني تميم ... إلى أمثالهم لجأَ اليتيمُ
فإنَّكم لأَن تكفوه أهل ... عليكم حق قومكم عظيم
وإنَّكمُ بِعقوة ذي بلاءِ ... وحقُّ الملك مكشوف عظيمُ
قال: وكتب ملك هجر، أو نجران إلى أكثم أن يكتب إليه بأشياء ينتفع بها، وأن يوجز.
فكتب إليه:
1 / 6
" إن أحمق الحمق الفجور، وأمثل الأشياء ترك الفضول، وقلة السَّقط لزوم الصواب، وخير الأمور مغبَّة ألاَّ تني في استصلاح المال، وإياك والتبذير فإن التبذير مفتاح اليؤس، ومن التواني والعجز نتجت الهلكة، وأحوج الناس إلى الغنى من لا يصلحه إلا الغنى - وأولئك الملوك -، وحبُّ المديح رأس الضياع، وفي المشورة صلاح الرعية ومادة الرأي، ورضا الناس غاية لا تدرك، فتحرَّ الخير بجهدك، ولا تحفل سخط من رضاه الجور، ومعالجة العقاب سفهٌ، وتعوَّد الصَّبر، لكل شيءٍ ضراوة، فضرِّ لسانك بالخير، وتوكَّل بالمهمّ، ووكِّل بالصغير، وأخِّر الغضب فإن القدرة من ورائك، وأقل الناس في البخل عذرا أقلُّهم تخوُّفا للفقر، وأقبح أعمال المقتدرين الانتقام، جاز بالحسنة، ولا تكافئ بالسَّيِّئة، فإن أغني الناس عن الحقد من عظم خطره عن المجازاة، وإن الكريم غير المدافع إذا صال بمنزلة اللئيم البطر، من حسد من دونه قلّ عذره، ومن حسد من فوقه فقد أتعب نفسه، من جعل لحسن الظَّنِّ نصيبا روَّح عن قلبه، وأصدر به أمره ".
وكتب الحارث بن أبي شمر الغسَّاني ملك عرب الشام إلى أكثم بن صيفي بن رباح، أن هرقل نزل بنا، فقامت خطباءُ غسّان فتلقَّته بأمر حسن، فوافقه، فأعجب به، فعجب من رأيهم وأحلامهم، وأعجبني ما رأيت منهم، ففخرت بهم عليه، فقال: هذا أدبي فإن جهلت ذاك فانظر، هل بجزيرة العرب مثل هؤلاء حكمة، وعقولا، وألسنة.
فكتب إليه أكثم: " إن المروءة أن تكون عالما كجاهل، وناطقا كَعييّ، والعلم مرشدة، وترك ادّعائه ينفي الحسد، والصَّمت يكسب المحبَّة، وفضل القول على الفعل لؤم، وفضل الفعل على القول مكرمة، ولم يلزَّ الكذب بشيء إلا غلب عليه، وشرّ الخصال الكذب، والصَّديق من الصِّدق سمِّىَ، والقلب يتّهم وإن صدق اللسان، والانقباض من الناس مكسبة للعداوة، والتقرُّب من الناس مجلبة لجليس السُّوءِ، فكن من الناس بين المنقبض والمسترسل، وخير الأمور أوساطها، وأفضل القرناء المرأة الصالحة، وعند الخوف حسن العمل، ومن لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من علمه زاجر " أي لم يحفل بمرشد "، ومن أهمل نفسه أمكن عدوَّه " أو قال تمكن من عدوه " على أسوأ عمله، وفسولة الوزراء أضرُّ من بعض الأعداء، وأوَّل الغيظ الوهن ".
قالوا: وكتب النعمان بن المنذر إلى أكثم، وذكر ملك من ملوك فارس رجال العرب وعداوة بعضهم لبعض، وحالهم في بلادهم، فقال الفارس: هذا لخفّة أحرمهم، وقلّة عقولهم.
فكتب إلى أكثم أن اعهد إلينا أمرا نعجب به فارس ونرغبهم به في العرب.
فكتب أكثم: " لن يهلك امرؤ حتى يضيِّع الرأي عند فعله، ويستبدّ على قومه بأموره، ويعجب بما ظهر من مرؤته ويغترّ بقوَّته، والأمر يأتيه من قومه، وليس للمختال في حسن الثناء نصيب، والجهل قوة الخرق، والخرق قوة الغضب، وإلى الله تصير المصائر، ومن أتى مكروها إلى أحد فبنفسه بدأ، إن الهلكة إضاعة الرأي، والاستبداد على العشيرة يجرُّ الجريرة، والعجب بالمروءة دليل على الفسولة، ومن اعترّ بقوته فإن الأمر يأتيه من فوقه، لقاء الأحبة مسلاة للهم، من أشرّ ما لا ينبغي إعلانه ولم يعلن للأعداء سريرته سلم الناس عليه، والعيُّ أن تكلَّم يفوق ما تسدّ به حاجتك، وينبغي لمن عقل ألا يثق بإخاء من لم تضطرّه إليه حاجة، وأقلُّ الناس راحة الحقود، ومن أتى على يديه غير عامد فأعفه من الملامة " أو اللائمة "، ولا تعاقب على الذنوب إلا بقدر عقوبة الذنب فتكون مذنبا، ومن تعمد الذَّنب لم تحل الرحمة دون عقوبته، والأدب رفق، والرفق يمن، والخرق شؤم، وخير السخاء ما وافق الحاجة، وخير العفو ما كان مع القدرة، ومن سوء الأدب كثرة العتاب، ومن اغترّ بقوَّته وهن، ولا مروءة لغاشّ، ومن سفه حلمه هان أمره، والأحداث تأتي بغتة، وليس في قدرة القادر حيلة، ولا صواب مع العجب، ولا بقاء مع بغيٍ، ولا تثقنَّ بمن لم تختبره ".
أخبرن أبو ورق قال، حدثنا أبو حاتم قال، وذكر ابن الكلبي، عن عيسى ابن لقمان، عن محمد بن حاطب الجمحي قال: عاش ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم ابن عمرو بن هصيص مائتي سنة، ولم يشب شيبة قط، وأدرك الإسلام فلم يسلم.
وقد اختلف في إسلامه، فقالت نائحته بعد موته:
من يأمن الحدثان بعد ... ضبيرة السهميِّ ماتا
سبقت منيته المشيب ... وكان ميتته افتلاتا
1 / 7
فتزودَّدوا لا تهلكوا ... من دون أَهلكم خفاتا
قال وعاش ذويد بن نهد أربعمائة سنة وستا وخمسين سنة، فلما حضره الموت قال:
أَلقى غليَّ الدهرُ رجلا ويَدا ... والدَّهر ما أصلح يوما أَفسدا
يُفسد ما أَصلحه اليوم غدا وقال أيضا:
يا رب نهبٍ صالحٍ حويتُهُ ... وربَّ حَسَنٍ لوَيتُهُ
اليوم يبني لدويد بيتُهُ ... لو كان للدَّهر بلى أَبليتُهُ
أَو كان قرني واحدا كفيتُهُ
ثم مات مكانه.
قالوا: وجمع بني عند الموت، فقال: " أوصيكم بالناس شرَّا، لا تقبلوا لهم معذرة ولا تُقيلُوهم عثرة، أوصيكم بالناس شرا، طعنًا وضربا، قصروا الأعنَّة، اشرعوا الأسنَّة، وارعوا الكلأ وإن كان على الصَّفا، وما احتجتم إليه فصونوه، وما استغنيتم عنه فأَفسدوه على من سواكم، فإن غشّ الناس يدعوا إلى سوء الظن، وسوء الظن يدعوا إلى الاحتراس ".
وأوصى نهد بن زيد بنيه فقال: " يا بنيّ، أَوصيكم بالناس شرا، كلموهم نزرا، واطعنوهم شزرا، ولا تقبلوا لهم عذرا، ولا تقيلوهم عثرة، وقصروا الأعنَّة، واشحذوا الأسنَّة تأكلوا بذلك القريب، ويرهبكم البعيد، وإياكم والوهن فيطمع فيكم الناس ".
قال أبو حاتم، وذكر ابن الجَّصاص أن محصَّن بن عتبان بن ظالم الزُّبيديّ عاش مائتي سنة وستا وخمسين سنة، قال وهو من سعد العشيرة، وقال:
ألا يا أَسم إِنيَّ لست منكم ... ولكنَّي امرأ قومي شعوبُ
دعاني الدَّاعيان فقلت إيها ... فقالا: كلًّ من ندعو يجيبُ
أَلا يا أَسم أَعيان الرُّكوبُ ... وأَعيتني المكاسب والُّهوبُ
وصرتُ رزيَّة في البيت كلًاّ ... تأَذَّى بي الأَباعدُ والقريبُ
كذاك الدَّهرُ والأيَّام غول ... لها كلِّ سائمةٍ نصيبُ
وعاش دريد بن الصَّمة الجشمي، من جُثم بن سعد بن بكر، نحوا من مائتي سنة، حتى سقط حاجباه على عينيه، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وقتل يوم حنين كافرا، وإنما خرجت به هوازن تتيَّمن به.
وقال دريد:
فإن يكُ رأسي كاثَّغامة نسلُهُ ... يطيف بي الولدان أَحدبَ كالقردِ
رهينة قعرِ البيت كلَّ عشيَّةٍ ... كأني أُرقَّي أو أُصوَّبُ في المهد
فمن بعد فضل من شباب وقوَّة ... وشعر أَثيثٍ حالك اللون مسودِّ
وأنه لما كبر أراد أهله أن يحبسوه، فقالوا: إنا حابسوك وما نعوك من كلام الناس، فقد خشينا أن تخلط فيروى ذلك الناس علينا، ويرون منك عارا.
قال: أَوقد خشيتم ذلك مني؟ قالوا: نعم.
قال: فانحروا جزورا، وأصنعوا طعاما، وأجمعوا إلى قومي حتى أحدث لهم عهدا.
فنحروا جزورا، وعملوا طعاما، ولبس ثيابا حسانا، وجلس لقومه، حتى إذا فرغوا من طعامهم قال:
1 / 8
" اسمعوا مني، فإني أرى أمري بعد اليوم صائر لغيري، وقد زعم أهلي أنهم خافوا على الوهم، وأنا اليوم خبير بصير، إن النصيحة لا تهجم على فضيحة، أما أول ما أنهاكم عنه فأنهاكم عن محاربة الملوك، فإنهم كالسَّيل بالليل، لا تدري كيف يأتيه، ولا من أين يأتيك، وإذا دنا منكم الملك واديا فاقطعوا بينكم وبينه واديين، وإن أجدبتم فلا ترعوا حمى الملوك وإن أذنوا لكم، فإن من رعاه غانما لم يرجع سالما، ولا تحقرن شرا فإن قليله كثير، واستكثروا من الخير فإن زهيده كبير، اجعلوا السلام محياة بينكم وبين الناس، ومن خرق ستركم فارقعوه، ومن حاربكم فلا تغفلوه، وروا منه ما يرى منكم، واجعلوا عليه حدَّكم كلَّه ومن تكلَّم فاتركوه، ومن أسدى إليكم خيرا فاضعوا له، وإلا فلا تعجزوا أن تكونوا مثله، وعلى كل إنسان منكم بالأقرب إليه، يكفي كلُّ إنسان ما يليه، وإذا التقيتم على حسب فلا تواكلوا فيه، وما أظهرتم من خير اجعلوه كثيرا، ولا ير رفدكم صغيرا، ولا تنافسوا السؤدد، وليكن لكم سيِّد، فإنه لابد لكل قوم من شريف، ومن كانت له مروءة فليظهرها، ثم قومه أعلم، وحسبه بالمروءة صاحبا، ووسعوا الخير وإن قلَّ، وافنوا السرَّ يمت، ولا تنكحوا دنيا من غيركم فإنه عار عليكم، ولا يحتشمنَّ شريف أن يرفع وضيعه بأياماه، وإياكم والفاحشة في النساء فإنها عار أبدٍ وعقوبة غدٍ، وعليكم بصلة الرحم فإنها تعظم الفضل وتزين النسل، وأسلموا ذا الجريرة بجريرته، ومن أبى الحق فاعلقوه إياه، وإذا عييتم بأمر فتعاونوا عليه تبلغوا، ولا تحضروا ناديكم السَّفيه، ولا تلجوا بالباطل فيلجّ بكم ".
قالوا: وعاش ابن حممة الدوسي، واسمه كعب، أو عمرو، أربعمائة سنة غير عشر سنين، فقال:
كبرتُ وطال العمر حتَّى كأنَّني ... سليم أَفاع، ليلة غير مودع
فما الموت أَفناني ولكن تتابعت ... عليَّ سنون من مصيف ومربَعِ
ثلاثُ مئين قد مررن كواملا ... وها أنذا أَرتجي مرَّ أَربعِ
وأصبحت مثل النَّسرِ طارت فراخه ... وإِذا رام تطايرا يقلن له وقع
أُخبِّرُ أَخبار القرون الَّتي مضت ... ولا بدَّ يوما أَن يطار بمصرعي
وقلوا: وعاش كهمس بن شعيب الدوسي أربعين ومائة سنة، فقتله تأَبَّط شرا الفهمي.
وكهمس الذي يقول:
أَلا ربَّ بهب يخطر الموت دونه ... حويت وقرنٍ قد تركت مجدَّلا
وخيلٍ كأسراب القطا قد وزعتها ... بخيل تساقيها ثمالا متمَّثلا
ولَّذات عيش قد لقيت وشدَّة ... صبرت لها جاشي ولم أكُ أَعزلا
ومستلحم فيه الأسنَّة شرَّع ... دعاني أَن يصاب ويقتلا
سعيت إِليه سعي لا وهن القوى ... ولا عاجز لا يستطيع التحللا
فنفَّست عنه الخيل وانتشت نفسه ... وقد عاين الأبطال أَخول أَخولا
وقد عشت حتّى مللت معيشتي ... وأَيقنت حقَّا أَن سأَلقى الموكلا
وألا نجاة لا مريء من منيَّةٍ ... ولو حلَّ في أَعلى شماريخ يذبلا
قالوا: وعاش مصاد بن جناب بن مرارة من بني عمرو بن يربوع بن حنظلة ابن زيد مناة أربعين ومائة سنة، وقال:
ما رغبتي في آخر العيش بعد ما ... أكون رقيب البيت لا أتغيب
إذا ما أردت أَن أَقوم لحاجة ... يقول رقيب حافظ، أين تذهب
فيرجعه المرمى به عن سبيله ... كما ردَّ فرخ الطائر المتربب
وقال أيضا:
إنَّ مصاد بن جناب قد ذهب ... أَدرك من طول الحياة ما طلب
والموت قد يدرك يوما من هرب
وقال أيضا:
للموت ما نغذى وللموت قصرنا ... ولا بد من موت وإن نُفس العمرُ
فمَن كان مغرورًا بطول حياته ... فإنِّي جميل أَن سيصرعه الدَّهر
فليس بباق إِن سأَلت ابن مالك ... على الدهر إلا من له الدَّهرُ والأَمرُ
قالوا: وعاش مسافع بن عبد العزَّى الضَّمري ستين ومائة سنة، وقال:
جلست غديَّة وأَبو عقيل ... وعروة ذو النَّدى وأبو رياح
1 / 9
كأنَّا مضرحيَّات برضوى ... ينأَونَ إِذا ينأَونَ بلا جناح
يرانا أَهلنا، لا نن مرضى ... فنكوى أو نُلدُّ ولا صحاح
ولا نروي العضال إذا اجتمعنا ... على ذي دلونا، والحفر طاح
يقول: ضعفنا فلا نقدر على الاستسقاء. طاح مملوء وقال مسافع حين ضجر به أهله:
لعمرُ كما لو يسمع الموت قد أتى ... لداع على برءٍ جفته العَوائدُ
به سقم من كل سقمٍ وخبطه ... من الدَّهر أَصغى غصنه فهو ساجد
إذا مرَّ نعش قيل نعش مسافعٍ ... ألا لا بودي لو بني لي لاحدُ
يظنون أني بعد أَوَّلَ ميَّت ... فأبقى ويمضي واحدٌ ثمَّ واحدُ
فقالوا له لمَّا رأَوا طولَ عمره ... تأتَّ لدار الخُلد، إنَّك خالدُ
غضاب عليَّ أَن بقيت وإِنَّني ... بودِّي الَّذي يهوون لو أَنا واجدُ
" أضمر الهاء، يقول، لو أنا واجده ".
قالوا: ومن المعدودين في المعمربدين من قضاعة زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بم عوف بن عذرة بن زيد الله بن رفيدة بن كلب بن وبرة، عاش أربعمائة سنة وعشرين سنة، وأوقع مائتي وقعة، وكان سيدا مطاعا شريفا في قومه؛ ويفد قال، كانت فيه عشر خصال، ولم يجتمعن في غيره من أهل زمانه: كان سيد قومه، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطيبهم - والطب في ذلك الزمان شرف -، وحازى قومه - والحزاة الكُهّان -، وكان فارس قومه، وله البيت فيهم، والعدد منهم.
فبلغنا أنه عاش حتى هرم وغرض من الحياة، وذهب عقله، فلم يكن يخرج إلا ومعه بعض ولده، أو ولد ولده.
وأنه خرج ذات عشيّة إلى مال له ينظر إليه، فأتبعه بعض ولده، فقال له: ارجع إلى البيت قبل الليل، فإني أخاف أن يأكلك الذئب.
فقال: فقد كنت، ما أخشَّى الذئب.
فذهبت مثلا.
ويقال: إن هذا هو خفاف بن عمير السُلَميّ، وهو ابن ندبة السُّلمىّ قال أبو حاتم: وذكر ابن الكلبي أن هذا مما حفظ عن من تثق به من الرواة.
وقد ذكر لقيط أيضا نحوًا من الحديث؛ وذكر أن زهيرا عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة.
حدثنا أبو حاتم قال: وقال العمري، أخبرني محمد بن زبار الكلبي عن أشيخه من كلب قالوا، كان زهير بن جناب قد كبر حتى خرف، وكان يتحدث بالعشي بين القلب - يعني الآبار - وكان إذا انصرف الليل شق عليه.
فقالت امرأته لميس الأَراشيّة لبنها خداش بن زهير: - اذهب إلى أبيك حتى ينصرف فخذ بيده فقده.
فخرج حتى انتهى إلى زهير، فقال: - ما جاء بك يا بنيَّ؟ قال: كذا وكذا.
قال: اذهب.
فأبى؛ وانصرف تلك الليلة معه.
ثم كان من الغد، فجاء الغلام، فقال له: انصرف.
فأبى.
فسأل الغلام، فكتمه، فتوعَّده، فأخبره الغلام الخبر، فأخذه، فاحتضنه، فرجع به.
ثم أتى أهله، فأقسم زهير بالله، ألا يذوق إلا الخمر حتى يموت.
فمكث ثمانية أيام، ثم مات.
وقال ابن لقيط، وابن زبّار، وغيرهما، قال: ورواية ابن أَتمُّهنَّ.
جدَّ الرحيل وما وقفت ... على لميس الأراشيّة
ولقي ثواني اليوم ما علقت ... حبال القاطنيه
حتَّى أُودِّها إِلى الملكِ ... الهمام بذي الثَّويَّه
قد نالني من سبيه ... فرجعت محمود الحذيَّه
" قال أبو حاتم: ويقال أولها كما أخبرنا أبو زيد الأنصاري عن المفضَّل "
أَبنيَّ إِن أَهلك فقد ... أَورثتكم مجدا بنيَّة
وترَكتكم أَولاد سنا ... داتٍ، زدناكم وريَّه
كلَّ الّذي نال الفتى ... قد نلته إلاَّ التحيَّة
كم من محيَّا لا يوا ... زيني ولا يهب الدَّعيَّة
ولقد رأيت النَّار للسلاف ... توقد في طميَّة
ولقد رحلت البازل الوجناء ... ليس لها وليَّ
ولقد غدوت بمشرف الطرفين ... لم يغمز شظيَّه
فأصبت من حمر القنان ... معا، ومن حمرِ القفيَّه
1 / 10
ونطقت خطبة ماجد ... غير الضعيفة والعييَّه
فالموت خير للفتى ... فليهلكن وبه بقيَّه
من أّن يرى تهديه ولدان ... المقامة بالعشيَّه
" ويروى ":
ممن أَن يرى الشَّيخ البجال ... وقد يهادى بالعشيَّه
" البجال ... الذي يبجِّله أصحابه ويعظّمونه ".
وقال زهير بن جناب حين مضت له مائتان سنة من عمره: لقد عمِّرت حتَّى ما أُبالي أَحتفى في صباحي أو مسائي
وحقَّ لمن أَتت مائتان عام ... عليه أَن يملَّ من الثَّواءِ
شهدت المخطئين على خزازٍ ... وبالسُّلاَّن جمعا ذا زهاء
ونادمت الملوك من آل عمرٍ ... وبعدهم بني ماءٍ السَّماء
قال أبو حاتم: التي ذكر امرأة؛ وهي بنت عوف بن جثم بن هلال النَّمريَّة، قال، فنادمت بنيها، وهي أم المنذر بن النعمان. ويعنى بآل عمرو بني عمرو آكل المرار؛ والمرار بنت حارٌّ، يتقلص منه مشفر البعير إذا أكله.
قال، وقال أيضا زهير، وسمع بعض نسائه تتكلم بما لا ينبغي لامرأة تتكلم عند زوجها، فنهاها، فقلت له: اسكت، وإلا ضربتك بهذا العمود، فوالله ما كنت أراك شيئا، ولا تعقله.
فقال عند ذلك:
أَلا يا لقوم لا أرى النَّجم طالعا ... من الَّليل إِلاَّ حاجبي بيميني
مُعزِّبتي عند القفا بعمودها ... يكون نكيري أَن أَقول ذريني
أَمينا على سرِّ النِّساء وربَّما ... أَكون على الأَسرار غير أَمين
وللموت خير من حداج موطَّأ ... مع الظُّعن لا يأتي المحلَّ لحين
" المعزَّة التي تقوم عليه وتطعمه كما يطعم الصَّبيّ؛ وذكر الأصمعي، المعزّبة هي التي تحفَّه وترفُّه " وقال زهير بن جناب:
ليت شعري والدَّهر ذو حدثان ... أَيُّ حين منيَّتي تلقاني
أَسبأت على الفراش خفات ... أَم بكفَّي مُفجَّعٍ حرَّان
ويروى: مفجَّع كأنه قُتل له قتيل.
قال أبو حاتم، وذكر الكلبي أن زهير بن جناب أوقع بالعرب مائتي وقعة. فقال الشَّرقّي بن القطامي خمسمائة وقعة.
والشرقي ضعيف.
حدثنا أبو حاتم قال، وزعم هشام بن محمد عن أبيه محمد بن السائب قال، سمعت أشياخا الكلبين يقولون، عاش زهير بن جناب أن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن مرة بن مالك بن حمير مائتي سنة.
فلم تجتمع قضاعة إلا عليه، وعلى رزاح بن ربيعة بن حرام بن ضنَّة بن عبد كبير ابن عذرة بن سعد، وهو هذيم بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة؛ ورزاح، ودحنّ أخوا قضىّ بن كلاب لأمه.
وكان زهير على عهد كليب بن وائل، وقد كان أسر مهلهلا، ولم يكن في العرب أنطق من زهير بن جناب، ولا أوجه عند الملوك، وكان لشدة رأيه يسمى كاهنا.
قال أبو حاتم: وذكر أصحابنا عن هشام قال، وكان زهير قال، ألا إن الحيّ ظعن.
فقال عبد الله بن عليم بن جناب: ألا إن الحي أقام.
فقال زهير: ألا إن الحي أقام فقال عبد الله: إلا إن الحي ظعن فقال زهير: من هذا المخالف علىّ منذ اليوم؟ قالوا: هذا ابن أخيك عبد الله بن عليم.
فقال: شر الناس للعمِّ ابن الأخ، إلا لا يدعُ قاتل عمه.
وأنشأ يقول:
وكيف بمن لا أستطيع فراقه ... ومن هو إن لا تجمع الدار لاهف
أَمير خلاف إِن أَقم لا يقيم معي ... ويرحل وإن أَرحل يُقم ويخالفُ
قال: ثم شرب زهير الخمر صرفا أياما حتى مات.
وشربها أبو براء، عامر بن مالك بن جعفر حين خولف صرفا حتى مات، وشربها عمرو بن كلثوم التغلبي صرفا حتى مات؛ ولم يبلغنا أن أحد من العرب فعل ذلك إلا هؤلاء.
قالوا: وعاش زهير حتى أدركه من ولد أخيه أبو الأحوص، وعمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب.
قالوا: وكان الشرقي بن قطامى يقول: عاش ابن جناب أربعمائة سنة.
قال، وقال المسيَّب بن الرِّفل الزهيري من ولد زهير بن جناب:
وأَبرهة الَّذي كان اصطفانا ... وسوَّسنا وتاج الملكِ عالي
1 / 11
وقاسم نصف إِمرتَهِ زُهيرا ... ولم يك دونه في الأمر والي
وأَمَّره على حيَّى مَعدٍ ... وأَمَّره على الحِّي المعالي
على ابني وائل لهما مهينا ... يردُّهما على رغم السبال
بحبسهما بدار الذُّلِّ حتَّى ... أَلمَّا يهلكان من الهزال
قال: وعاش هبل بن عبد الله بن كنانة الكلبي، وهو جدُّ زهير بن جناب ابن هبل بن عبد الله سبعمائة سنة حتى خرف، وغرض منه أهله.
فقالوا: إن بني بنيه، وبني بناته وبني أخيه كانوا يضحكون منه، ومن اختلاط كلامه، وأن نفرا من قومه يقال لهم بنو عبدود بن كنانة جلسوا يوما عنده، فأكثروا التعجب منه، ولم يكونوا في الشرف مثله، منهم جبيل بن عامر بن عوف بن كنانة، وحجل بن عمرو بن عوف بن كنانة، وهما من كلب، ولم يكونا مثله، ولا مثل ولده في الشرف.
فقال هبل بن عبد الله:
ربَّ يوم قد يرى فيه هبل ... ذا سامٍ ونوالٍ وَجَذل
لا يناجيه ولا يَخلو بِهَل ... عبدُ وُدٍ وجبيل وحجَل
" بِهَل، يريد به، واللام زائدة ".
وقال حاطب بن مالك بن الجلاس النهشلي يذكر طول عمر هبل:
كأنَّك ترجوا أَن تعيش ابن مالكٍ ... كعيش هُبَل، لقد سفهت على عَمدِ
وماذا تُرجِّى من حياة ذليلة ... تُعمِّرها بين الغطارفة المُردِ
وأنتَ لقي في البيت كالَّرال مُدنفٌ ... وقد كنت سبَّاقا إلى غاية المجد
وللموت خير لامرئٍ من حياته ... يدبّ ديبا في المحلَّة كالقرد
فلو أَنَّ شيئا نال خلدا لناله ... حليف النَّدى عمرو سليل أَبى الجعد
فتى كان سبَّاقا إلى كل غاية ... يبادر فتيان العشيرة للحمد
قالوا: وكان عمرو سليل أبي الجعد خال حاطب، وهو عمرو بن الحميس بن الجعد ابن رقبة بن لوذان، أَحد ثور أَطحل، وكان سيدا شجاعا، جواجا، قتله أنس ابن مدرك الخشعمي.
قالوا: قال عمارة بن عوف العدواني، ثم أحد بني وابش، وعمِّر خمسين ومائتي سنة، وكان كاهنا أدرك عمر بن الخطاب أول ما ولى، وهو شيخ قد ذهب بصره، وخرف، وأولع بالهذيان، يقول، أقروا ضيفكم.
وهو الذي يقول:
تقول لي عمرةُ ... تهذي به في السِّرِّ والجهرِ
قلت لها، والجودُ من شيمتي ... آمُرُكم في العسر واليسر
بضيفكم إِنَّ له حرمةً ... فاقروا ضيوفي قحد الجزرِ
وارعوا لجار البيت ما قد رعى ... قبلكم ذاك بنو عَمرِو
قوموا لضيفٍ جاءكم طارقا ... وجاركم بالنَّيِّ والخمرِ
قال أبو حاتم: من قال النَّيَ مفتوحة النون أراد الشَّحمَ، ومن قال النَّيَ بالكسر أراد اللحم الطري.
وذببَّوا من رام جيرانكم ... بالسَّوء بالبتر وبالسُّمرِ
واخشوشنُوا في الحرب إن أُوقدت ... بكل خطَّى وذي أَثرِ
" ذو أثر يريد السيف، يراد به لبمأثورة؛ والأثر هو الفرند الذي فيه ".
ولا تهرُّ الموت إن أَقبلت ... خيل تعادي سننَ الدَّبرِ
فربَّ يومٍ قد شهدت الوغى ... بسابح ينقضُّ كالصَّقرِ
أَقدُمُ قوماٍ سادةٍ ذاذةً ... بيضا عن القخر
" ويروى: يحامون عن النَّجر، وهو الأصل ".
لما احتووه جالدوا دونه ... وطار أَقوام من الذُّعرِ
فذاك دهر، ومحار الفتى ... في غير شك مظلم القعر
أَو طعنة تأتي على نفسه ... فهَّاقة تأبى على السَّبر
" يريد جياشة، لا يرد دمها الفتل ".
عُمِّرت دهرا ثمَّ دهرا وقد ... آمل أَن آتي على دهرِ
فإن أَمت فالموت لي خيرة ... من قبل أَن أَهذي ولا أدري
خمسون لي قد أكملت بعدما ... ساعد لي قَرنان من عمري
" قرنان مائتا سنة، ويروى دهران من عمري ".
1 / 12
قالوا: وعاش تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفضى بن دُعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار ابن مَعد خمسمائة سنة حتى أَخلق أربعة لُحُم حديد، وكان من دهاة العرب في زمانه.
فبلغنا أنه بعث بنيه ذات يوم في طلب إبل له ظلَّت، فهبت ريح بعدما خرجوا من عنده شديدة، وذلك في الشتاء، فقال لامرأته، أمَّ بنيه: انظري من أين هبت الريح.
فنظرت، ثم قالت: من مكان كذا وكذا.
فقال لها: أَخنتيني في بنيّ أم لا؟ فقالت لا والله ما خنتك فيهم.
فقال: ويحك، والله إني لأعلم أنها ريح تُدهدي البعر، وتعفوا الأثر فلا يعرفون منطلقا، وإنها لتسوق مطرا فلا يعرفون أَثرا، فإن رجعوا فإنهم بنيّ، وإياي أشبهوا، وإن مضوا فلن تريهم أبدا، وقد خنتني فيهم، ووالله لأقتلنَّكِ إذن قبل أن يرجعوا.
ثم لم يزل ليلة أجمع ما ينام وما تنام امرأته حتى إذا كان عند طلوع الفجر رجع أحدهم، فقال له أبوه، تيم الله: - ما ردك؟ قال: هبت ريح تدهدي العر، وتعفوا الأثر، وتسوق المطر فلم أر منطلقا. فتتابعوا على مثل مقالته كلَّهم، ورجعوا إلى أبيهم، فسرَّ بذلك، وقال: أنتم بنيَّ حقا، وإياي أَشبهتم.
فلما حضره الموت أمر بنيه أن يحفروا قبره بمكان يقال له " حضن ".
وقال في ذلك:
ها ذاك تيم الله يبني بيته ... بحضن حياته وموته
وكان الذي ولى كبرته من بنيه هلال، وبنو هلال بن تيم الله أقل بني تيم الله عددا، وأَخملهم ذكرا.
فقال في ذلك الأخنس بن عباس بن خنسا بن عبد العزى بن هلال بن تيم الله ابن ثعلبة:
حملنا الشَّيخ تيم الله عودا ... وكان وليَّ كبرته أَبونا
ولم يك طبُّ أَعمامي عُوقا ... ولكنا كفينا ما ولينا
جزيناه بنعمته علينا ... وأَطرفناه حتى مات فينا
" أطرفناه ابتدأناه بالنعم ".
قالوا: وعاش سويد بن خذاق، من عبد القيس بن أفضى بن دعمى بن أسد ابن ربيعة بن نزار مائتي سنة.
وقال في ذلك:
كبرتُ، وطال العمر حتَّى كأَنَّما ... رمى الدهر مني كل عضو بأَهزعا
غنمت بعيري شيخ من سئلت به ... فتاة بني من كان أَزمان تُبَّعا
قالوا: وقال عطاء الكلبي: عاش الجشع بن عوف بن جذيمة، من عبد القيس مائتي سنة حتى هرم، وملَّ الحياة، وهان على أهله.
فقال في ذلك: حتَّى متي الجشعم في الأحياء ليس بذي أيدٍ ولا غناء هيهات ما للموت من دواء قالوا: وعاش مجمِّع بن هلال بن خالد بن مالك بن هلال بن الحارث بن هلال ابن تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل مائة سنة وتسع عشر سنة.
فقال في ذلك:
إن أُمسِ شيخا قد بليت فطالما ... عمرتُ، ولكن لا أَرى العيش ينفع
مضت مائة من مولدي فنضيتها وعشر وخمس بعد ذاك وأربع
فيا رب خيل كالقطا قد وزعتها ... لها سبل، فيه المنيَّة تلمع
شهدت، وغُنمٍ قد حويت ولذَّةٍ ... أَصبت، وماذا إلاَّ تمتُّعُ
قالوا: وعاش عمرو بن ثعلة من عبد القيس مائتي سنة.
وقال في ذلك حين كبر، وهان على أهله:
تهزَّأت عرسي واستنكرت ... شيبي، ففيها جنف وازورار
لا تكثري هزءا، ولا تعجبي ... فليس بالشيب على المرء عار
عمرك، هل تدرين أَنَّ الفتى ... شبابه ثوب عليه معارُ
قال أبو حاتم: وزعم عطاء بن مصعب الملط الأحمر وضع هذا البيت الآخر.
وعاش أنس بن مدرك الخشعمي بن كعيب بن عمرو بن يعد بن عوف ابن حارثة بن سعد بن عامر بن تيم الله بن مبشِّر بن أَكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن أَفتل، وهو خشعم أنمار بن بجيلة بن عمرو بن لحيان مائة وأربعا وخمسين سنة، وكان سيد خشعم في الجاهلية وفارسها، وأدرك الإسلام فأسلم.
وقال في كبره:
إذا ما امروء عاش النيدة سالما ... وخمسين عاما بعد ذاك وأربعا
تبدَّل مرَّ العيش من بعد حلوه ... وأَوشك أَن يبلى وأَن يتسعسعا
ويأذى به الأَدنى، يرضى به العبدا ... إذا صار مثل الرَّي أَحدب أَخضعا
رهينة قعر البيت ليس بريمه ... لقى ثاويا لا يبرح المهد مضجعا
1 / 13
يخبِّر عن من مات حتى كأنَّما ... رأى ذا القرنين أو رأَى تبَّعا
قالوا: وعاش ذو جدن الحميري الملك ثلاثمائة سنة.
وقال في ذلك:
لكلِّ جنب اجتنبا مضطجع ... والموت لا ينفع منه الجزع
اليوم تجزون بأعمالكم ... كلُّ امرئ يحصد مما زرع
لو كان شيء حتفه ... أفلت منه في الجبال الصدع
وقال أيضا: يا إجتنا مهلا ذرينا ... أَفي سفاء تعذلينا
يا إجتنا تستعتبينا ... فلا وربك تعتبينا
يوم يغيِّر ذا النَّعيم ... وتارة يشقى الحزينا
إنَّ المنايا يطلَّعن ... على الأناس الآمنينا
فيدعنهم شتَّى وقد ... كانوا جميعا وافرينا
قالوا: عاش عبد اله بن سبيع الحميري مائة وخمسين ستة.
وقال في ذلك:
أَراني كلَّما هرَّمتُ يوما ... أَتى من بعده يوم جديد
يعود شبابه في كلَّ فجر ... ويأبى لي شبابي لا يعود
قالوا: وعاش مرداس بن صبيح بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد، من مذحج مائتي سنة وثلاثين سنة.
وقال في ذلك:
أَعاذلتي، دعي عذلي فإنَّ ... أتتني عن حجور منديات
" وحجور بطن من همدان، منهم معيوف بن يحي ".
قوافي قد أَتتني من بعيد ... فما أدري أَزور أَم ثبات
فإن تكُ كذبة من قوم سوء ... فما تزدهيني المعذرات
فإني قد كبرت ورقَّ عظمي ... وأَسلمني لدى الدَّهر الهنات
مرازي قد تنوب وطول عمر ... تثوب لها الهموم الطَّارقات
أَدبُّ على العصا لم يبق إلاَّ ... لسان صارم عضب حتات
فلا يغرركم كبري فإنِّي ... كريم، ليس في أمري شتات
قال أبو حاتم: وأظن البيت الأخير ليس منها.
قالوا وعاش عمرو بن ربيعة، وهو لحىّ بن حاثة بن عمرو بن عامر بن حارثة الغطريف بن ثعلبة بن أمرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد؛ وعمرو بن لحى هذا هو أبو خزاعة غير ولد أَفضى بن حارثة بن عمرو بن عامر.
قالوا: وقد يقال أنه لحى بن قَمعة بن خندف بن مضر.
قالوا: وبلغنا أن رسول الله ﷺ قال: " أول من بحر البحيرة ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، وغير دين أبيه إسماعيل ﵇ عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف أبو خزاعة، فكأني أنظر إليه يجرَّ قصبه في النار، وأَشبه ولده به أَكثم بن الجون ".
فقال أكثم - وكان قاعدا -: يا رسول الله، بأبي وأمي، هل يضرَّني الشبّضه؟ قال: " لا يضرك كان كافرا، وأنت مسلم ".
عاش ثلاثمائة سنة، فكثر ماله وولده حتى بلغنا - والله أعلم - أنه كان يقاتل معه من ولده ألف مقاتل.
قال أبو حاتم، قالوا، وعاش فيما ذكر ابن الكلبي عن أبيه، أوس بن حارثة ابن لام بن عمرو بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن لوذان ابن رومان بن خارجة بن سعد بن جندب بن فطرة بن طّيء، وهو جُلهمة بن أُدد ابن زيد بن يشجب بن عريب بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ، وهو عبد شمس ابن يشجب بن يعرب، وهو قحطان بن عابر، وإلى قحطان تجتمع قبائل اليمن كلها.
عاش مائتي سنة وعشرين سنة حتى هرم، وذهب سمعه وعقله، وكان سيد قومه وفي بيتهم؛ فبلغنا أن بنيه أرتحلوا، وتركوه في عرصتهم حتى هلك فيها ضيعة؛ وهم يُسبُّون بذلك اليوم.
وفي ذلك يقول الأسحم بن الحارث، أحد بني طريف بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن لوذان بن رومان من جديلة طيء.
أتاني بالمحلَّة أَنَّ أَوسا ... على شظنان مات من الهزال
تحمل أهله واستودعوه ... خسيَّا من نسيج الصُّوف بالِ
تظلُّ الطَّير تعفوه وقوعا ... ألا يا بوسَ للشيخ المذال
" السيّ الصوف الذي لم يجزّ إلا مرة واحدة، وكان الإعراب بالياء، ولكن لغة طيء أن يقولوا: رأيت زيد، فيحذفون الألف، وشظنان أرض ترك الشيخ بنوه بها ".
1 / 14
قالوا: وعاش عديّ بن حاتم الطائي بن عبد الله بن حشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أحزم، وهو هزومه بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو ابن الغوث بن طيء مائة وثمانين سنة، فلما أَسنّ استأذن قومه وطاء يجلس عليه في ناديهم، وقال، إني أكره أن يظن أحدكم أنيّ أرى لي عليه فضلا، ولكني قد كبرت ورقّ عظمي.
فقالوا: ننظر.
فلما أبطأوا عليه أنشأ يقول:
أَجيبوا يا بني ثعل بن عمرو ... ولا تكموا الجواب من الحياء
فإنِّي قد كبرت ورقَّ عظمي ... وقلَّ اللَّحم من بعد النَّقاء
وأَصبحت الغداة أريد شيئا ... يقيني الأرض من برد الشتاء
وطاء يا بني ثعل بن عمرو ... وليس لشيخكم غير الوطاء
فإن ترضوا به فسرور راضٍ ... وإن تأبوا فإنيِّ ذو إباء
سترك ما أردت لما أَردتم ... وردُّك من عصاك من العناء
لأنِّي من مساءتكم بعيد ... كبعد الأرض من جوِّ السَّماء
وإني لا أكون بغير قومي ... فليس الدَّلو إلاَّ بالرِّشاء
فأذنوا له أن يبسط في ناديهم، وطابت به أنفسهم، وقالوا، أنت شيخنا وسيدنا وابن سيدنا، وما فينا أحد يكره ذلك ولا يدفعه.
قالوا: عاش عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني ثلاثمائة سنة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام فلم يسلم، وكان منزله الحيرة، وكان شريفا في الجاهلية.
وقال:
لقد بنيت للحدثان بيتا ... لو انّ المرء تنفعه الحصون
رفيع الرأس أَجوى مشمخرا ... لأنواع الرِّياح به حنين
وقال يذكر من كان معه من ملوك قومه الذين مضوا:
أَبعدَ المنذرين أَرى سواما ... تروَّح بالخورنق والَّدير
تحاماه فوارس كلِّ حيّ ... مخافة أَغضف عالي الزَّئير
وبعد فوارس النعمان أرعى ... رياضا بين مرَّة والفير
وصرنا بعد هلك أبى قبيس ... كجرب الشَّتاء في يوم مطير
تقسَّمنا القبائل من معدّ ... علانية كأَيسار الجزور
وكنا لا يرام لنا حريم فنحن كضرَّة الضَّرع الفخورنؤَدِّي الخرج بعد خراج بصري وخرج بني قريظة والنَّظير
كذاك الهر دولته سجال ... فيوم من مساة أَو سرور
قالوا: وخرج بقيلة في ثوبين أَخضرين، فقال له إنسان: ما أنت إلى بقيلة؛ فسمى بقيلة بذلك، واسمه ثعلبة بن سُنين.
قالوا: وعاش عدي بن واع بن العقي، الحارث بن مالك بن فهم بن غنم ابن دوس بن عبد الله، من الأزد، ثلاثمائة سنة، فأدرك الإسلام، وأسلم، وغزا.
وقال في ذلك:
لا عيش إلاَّ الجنَّة المخضرَّة ... من يدخل النَّار يلاق ضرَّه
وقال:
أَعلم أَنَّ كلَّ فتى مرَّة ... للتراب أَو بيت من الجندل
ذلك مكروه وأدعى، فإن ... أُحمل على الثِّقلة لا أَثقلُ
قالوا: وعاش شريح بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان بن سلمة، وهو الضَّباب بن الحارث بن كعب بن مذحج عشرين ومائة سنة فيما ذكر ابن الكلبي عن أبي مخنف، قال: أخبرنا أشياخنا من بني الحارث قالوا: ثم قتل في ولاية الحجاج بن يوسف مع ابن أبي بكرة: فقال وهو يرتجز قبل أن يُقتل:
قد عشت بين المشركين أَعصرا ... ثُمَّتَ أَدركت النَّبيَّ المنذرا
وبعده صدِّيقه وَعَمرا ... ويوم مهران ويوم تسترا
والجمع في صفَّيهم والنَّهرا ... هيهات ما أَطول هذا عُمرا
قالوا: وعاش شرية بن عبد الجعفيّ من ججُعفيّ بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد بن مذحج ثلاثمائة سنة، وأدرك الإسلام.
حدثنا أبو حاتم قال: وذكر الكلبي قال: سمعت أبا بكر بن قيس الجعفيّ يذكر عن أشياخه، وقد ذكره غيره وقالوا: وهو شرية بن عبد الله الجُعفيّ، وقال في زمن عمر بن الخطاب، وهو بالمدينة: لقد رأيت هذا الوادي الذي أنتم به وما به قطرة ولا قصبة ولا شجرة مما ترون، وأدركت أخريات قومي يشهدون بمثل شهادتكم، يعني يقول " لا إله إلا الله " ومعه ابن له يهادي به في شجار، قد خرف، فقيل له: يا شرية، ما بال ابنك قد خرف وبك بقيّة؟
1 / 15
قال: أما والله ما تزوجت أُمه حتى أتت على سبعون سنة، وتزوجتها ستيرة عفيفة إن رضيت رأيت ما تقربه عيني، وإن تأتَّت لي حتى أرضى، وإن ابني هذا تزوج امرأة فاحشة بذيَّة، إن رأى ما تقرّ به عينه تعرضت له حتى يسخط وإن سخط تلغَّبته حتى يهلك.
ثم قال شرية: وأحلف لا يبنز ثوبي واحد ولا اثنان، وإني بالثلاثة معذور.
قال أبو روق: حدثنا الرياشي قال، حدثنا الأصمعي قال، مرَ رجل بقوم يدفنون ميتا ورجل يقول:
احثوا على ديسم من برد الثَّرى ... قدما أَتى ربَّكَ إلاَّ ما ترى
قال: فقلت له، من هؤلاء؟. فقال: هذا ابني، وهذا بنوه.
قالوا: وعاش عبيد بن شرابة الجرهمي ثلاثمائة سنة، وقال بعضهم، مائتين وعشرين سنة، إلا أَنا نظن أنه عاشها في الجاهلية، وأدرك الإسلام، فأسلم؛ وقدم عل معاوية بن أبي سفيان.
فبلغنا أن معاوية قال له: أخبرني، كم أتى عليك؟ قال: مائتان وعشرون سنة.
قال: ومن أين علمت؟ قال: من كتاب الله.
قال: ومن أي كتاب الله؟ قال: من قول الله ﵎ (وجعلنا اللّيل والنَّهار آيتين، فمحونا آية الليل، وجعلنا آية النَّهار مبصرة، لتبتغوا فضلا من ربكم) فقال له معاوية: وما أدركت؟ قال: أدركت يوما في أثر يوم، وليلة في أثر ليلة متشابها كتشابه الحذف يحدوان بقوم في ديار قوم يكذبون، وما يبيد عنهم ولالا يعتبرون بما مضى منهم، حيُّهم يتلف، وملودهم يخلف، في دهر قد تصرف أيامه، تقلَّب بأهلها كتقلبها دهرها، بينا أخوة في الرَّخاء إذا صار في البلاد، وبينا هو الزيادة إذ أدركه النُّقصان، وبينا هو حرّ إذا أصبح فيئا لا يدوم على حال، ولا تدوم له حال، بين مسرور بمولود ومحزون بمفقود، فلولا أن الحيّ يتلف لم يسعهم بلد، ولولا المولود يخلف لم يبق أحد.
قال معاوية: يا عبيد، أخبرني عن المال، أية أحسن في عينك؟ قال: أحسن المال في عيني، وانفعه غناء، وأقلُّه عناء، وأبعده من الآفة، وأجداه على العامة عين خرارة في أرض خوارة، إذا استودعت أَدَّت، وإن استحلبتها درَّت فأفعمت، تعُولُ ولا تُعال.
قال معاوية: ثم ماذا؟ قال: فرس في بطنها قد ارتبطت منها فرسا.
قال معاوية: فأي النَّعم أحب إليك؟ قال: النَّعم لغيرك يا أمير المؤمنين.
قال: فلمن؟ قال: لمن فلاها بيده وباشرها بنفسه.
قال معاوية: حدثَّني عن الذهب والفضة.
قال: حجران إن أخرجتهما نفذا، وإن خزنتهما لم يزد.
قال معاوية: فأخبرني عن قيامك وقعودك، وأكلك وشربك، ونومك، وشهوتك للباءة.
قال: أما قيامي فإن قمت فالسماء تبعد، وإن قعدت فالأرض تقرب؛ وأما أكلي وشربي إن جعت كلبت، وإن شبعت بهرت؛ وأما نومي فإن حضرت مجلسا حالفني، وإن خلوت أَطلبه فارقني؛ فإن بذلت لي عجزت وإن مُنعت غضبت.
قال معاوية: فأخبرني عن أعجب سيئ رأيته.
قال: أعجب شيء رأيته، أني نزلت بحي من قضاعة، فخرجوا بجنازة رجل من عذرة، يقال له، حُريث بن جبلة، فخرجت معهم حتى إذا واروه انتبذت جانبا عن القوم، وعيناي تذرفان، ثم تمثلت شعرا كنت رويته قبل ذلك:
يا قلب إِنَّك في أسماء مغرور ... اذكر، وهل ينفعك اليوم تذكيرا؟
قد بحت بالحب ما تخفيه ... حتَّى جرت بك إطلاقا محاضير
تبغي أمورا فما تدرس أَعاجلها ... خير لنفسك أَم ما فيه تأخيرُ
فاستقدِرِ الله خيرا، وارضينَّ به ... فينما العسر إِذا دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مُغتبطا ... إِذ صار في الرَّمس تعفوه الأعاصير
حتَّى كأَن لم يكن إلاَّ تذكرُّه ... والدَّهرُ أيَّة ما حالٍ دهارير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحِّ مسرور
وذاك آخر عهد من أَخيك إِذا ... ما المرء ضمنَّه اللحد الخناسير
الخنسير والجمع الخناسير، ويقال الخناسرة، وهم الذي شيعوا الجنازة.
فقال رجل إلى جانبي يسمه ما أقول: يا عبد الله، من قال هذه الأبيات؟ قلت: والذي أحلف به، ما أدري أني قد رويتها منذ زمان.
1 / 16
قال: قائله الذي دفناه آنفا، وإن هذا ذو قرابته أَسرُّ الناس بموته، وإنك للغريب الذي وصف تبكي عليه. فعجبت لما ذكر في شعره والذي صار إليه من قوله، كأنه كان ينظر إلى موضع قبره.
فقلت: إن البلاء موكَّل بالمنطق قالوا: وعاش سيف بن وهب بن جذيمة بن عمرو بن ثعلبة بن حيان بن ثعلبة، وهو جرم، وإنما سمى بجرم لحاضنة كانت له تسمى " جرما " مائتي سنة فيما ذكر ابن الكلبي عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، وهو من بلى، ثم من بني العجلان عن أشياخه.
وأما ابن الكلبي فقال: عاش ثلاثمائة سنة، وقال في ذلك:
أَلا إِنَّني عاجلا ذاهب ... فلا تحسبوا أنَّه كاذب
لبست شبابي فأَفنيته ... وأَدركني القدر الغالب
وصاحبني حقبة فانقضى ... شبابي، وودَّعني الصَّاحب
وخصم دفعت، ومولى نفعت ... حتَّى يثوب له ثائب
وجارٍ منعت، وفتق رتقت ... إِذا الصدع أَعيا به الشَّاعب
قالوا: وعاش عامر بن خوين بن عبد رضا بن قمران بن ثعلبة بن عمرو بن حيان " ابن ثعلبة "، وهو جرم بن عمرو بن الغوث بن طّيء مائتي سنة.
وقال في ذلك:
ماذا أُرجى من الفلاح إِذا ... قنِّعت وسط الظَّائن الأول
مستعنزا أَطرد الكلاب عن الظِّلِّ ... إِذا ما دَنَونَ للحَمَلِ
وقال:
المرء يبكي للسَّلا ... مة، والسلامة لا تُحسُّه
أَو سالم من قد تثنَّى ... جلدُهُ وابيضَّ رأسُهُ
أَو دبَ هرمٍ وأَو ... دي سمعُهُ وانفَّق ضرسه
أَودي الزمان بأَهله ... وبأَقربيه فقلَّ أُنسُه
قالوا: وعاش الحارث بن مضاض الجرهمي، من جدهم الأكبر، وهو جرهم بن قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن نوح ﵇ أربعمائة سنة.
وهو االقائل:
يا أَيها الحيُّ المقيمونا ... هُبُّو، فيوشك يوما لا تهبُّونا
إِذا قال ركب لركب سائرين معا ... لا بدَّ أن تسمعونا أَو تُغنُّونا
حُثُّو المطىَّ وأَرخوا من أَزمَّتها ... قبل الممات، وقضُّوا ما تقضُّونا
كنَّا أُناسا كما أَنتم فغيرَّنا ... دهر فسوف كما كنَّا تكونونا
قد مال دهر علينا ثمَّ أَهلكا ... بالبغي منه، فكلُّ النَّاس يأسونا
يا أَيها النَّاسُ سيروا إِنَّ قصركُمُ ... أَن تُصبِحوا ذات يوم لا تسيرونا
وقال أيضا:
كأَن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أَنيس، ولم يسمر بمكَّة سامر
بلى، نحن كنَّا أَهلها، فأَزالنا ... صروف اللَّيالي والجدود العواثر
قالوا: وعاش جعفر بن قرط العامري ثلاثمائة سنة، وأدرك الإسلام، فقال:
لم يبق يا خذلة من لِداتي ... أَبو بنين لا ولا بنات
من مسقط الشَّمس إلى الفرات ... إلا يُعدُّ في الأموات
هل مشترٍ أَبيعُهُ حياتي وعاش عباد بن أنف الكلب الصيداوي، من بني أسد عشرين ومائة سنة، وقال:
عمرت، فلمَّا جزت ستينَ حجَّة ... وستين، قال الناس: أَنت مفنَّدُ
فقلت لهم بالله هل تنكرونني ... وهل عابني إِلاَّ السَّخا والتَّمجُّدُ
" السخاء ممدودة، والراوية: إلا النّى واالتمجد ".
وإِنِّي جواد الكف سمح بما حوت ... يداي من المعروف لا أَتلدَّدُ
أَجود وأَحمي المستجير من الرَّدى ... إِذا عرَّد النكسُ الأحمُّ الألنددُ
ويوما ترى الأبطال من خوف شرِّه ... سكارى، عليهم غبيَة تتردَّدُ
شهدت فجليت البلايا وأَوقعها ... بأَسمر نحو المبتغى الشَّرَّ يقصد
ورزق كمستدمي الغزال سبأتُهُ ... لفتيان صدق رفدهُم ليس ينفذ
فقلت لهم عُلُّوا وتلك مطيَّتي ... بكفِّي عضب مشرفيّ مهنَّدُ
ففادت وقام الطَّاهيان فأَوقدوا ... بعلياء نارا حمُّها ليس يبرُدُ
1 / 17
فلمَّا اشتفوا منها وأَدبر وحشُهُم ... صببت لهم صهباء في الكأس تزبد
وقلتُ لهم إِنَّي حميل بمثل ما ... رأَيتهم طوال الدَّهر لا أَتزيَّدُ
ففادت أي بردت وماتت، ويروى فكاست، يعني قامت على ثلاث قوائم الأوق الشدة، يقال، إنه لذو أوق.
قال أبو روق، وقال الرياسي: رأى رجل في المنام رجلا مسرفا على نفسه، فسأله عن حاله، فقال، ما لقيت بعدكم أَوقة.
وحشهم جوعهم؛ ويقال بات فلانا وحشا.
الحميل، والكفيل، والضَّمين، والصَّبير، والزعيم سواء.
قالوا: وعاش عامر بن الظرب العدواني مائتي سنة، وكان حكما للعرب.
وفيه يقول ذو الإصبع العدواني:
ومنَّا حكم يقضى ... فلا ينقض ما يقضى
وهي أبيات.
وإنما قيل له ذو الإصبع، لأنه كانت له في رجله إصبع زائدة، وكان من أمره، أن وَجًّا، وهو وادي الطائف، وهو حرم الطائف الذي حرمه رسول الله ﷺ فلا يصطاد صيدها، ولا يختلي خلاؤها، وكان ثقيف، وهو قسّ بن منبِّه باليمن، أبو رغال فصدّقه، فأخذ شاته اللَّبون، وترك الأخرى، فأبى ثقيف أن يتركها، وقال، فيها قوتي، فأبى أن يتركها، فرماه ثقيف، فقتله، ثم لحق بالطائف فوجد فيها ظربا شيخا كبيرا، فأخذه، فقال، لتؤمنَّني أو لأقتُلنَّك، ثم لتنزلني أّفضل أرضك منزلا، فآمنه، وأنزله.
فلما جاء عامر ابنه قال له: ي أَبتاه، من هذا؟ قال: هذا رجل تبوَّا وادينا بغير حمد أَحد.
فقال عامر بن ظرب:
أَرى شعرات على حاجبيّ ... نبتن جميعا تؤاما
أظلّ أُهاهى بهنَّ الكلاب ... أَحسبهنّ صوارا قياما
أهاهي أزجرها، أقول هأْهَاْ.
وأَحسب أَنفي إِذا ما مشيت ... شخصا أَمامي رآني فقاما
قال أبو حاتم، وذكر أصحابنا عن الشعبي أن ابن عباس قال، قضى عامر بن الظرب العدواني، من جديلة قيس، على العرب بعد عمرو بن حممة الدَّوسي، فأتى عامر بخنثى له، ما للرجل وما للمرأة، فأشكلت عليه، فأقام أربعين يوما لا يقضى فيه بشيء، فأتته أمة سوداء تسمى " خصيلة "، فقالت: يا أيها الشيخ، أفنيت علينا ماشيتنا؛ وإنما أَفناهنَّ أنه كان يذبح لأصحاب المسألة كل يوم شاة.
فقال: ويلك، إني أتيت في أمر لا أدري أصعِّد فيه أم أصوِّب.
فقالت: وما ذاك؟ قال: أتيت بمولود له، ما للرجل وما للمرأة.
قالت: وما يشقّ عليك من ذلك؟ أتبعه المبال، أقعده، فإن كان يبول من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن كان يبول من حيث تبول النساء فهي امرأة.
قال - وكان كثيرا ما يعاتب الأمة في رعيتها إذا سرحت - فقال، أسيئي يا خصيل أو أحسني فلا عتاب عليك، قد فرَّجتها عني.
فلما أصبح قضي بالذي أشارت.
فلما جاء الإسلام شدّد القضية، فصارت سنّة في الإسلام، يعني الإسلام شدّدها.
قالوا: وعاش عامر مائتي سنة، وقالوا، ثلاثمائة سنة.
قال أبو حاتم، ذكروا ذلك عن مجالد عن الشَّعبيّ؛ قال أبو روق، وحدثناه الرياشيّ، قال، حدثنا عمر بن بكير عن الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشهبي قال، كنا عند ابن عباس، وهو في ضفَّة زمزم يفتي الناس إذ قال أعرابي، أفتيت الناس فأفتنا.
قال: هات.
قال: أرأيت قول الشاعر المتلمّس:
لذي الحلم قبل اليومِ ما تقرعُ العصا ... وما علِّم اْلإنسان إلاَّ ليعلما
قال ابن عباس: ذاك عمرو بن حممة الدَّوسيّ، قضى على العرب ثلاثمائة سنة، فكبر، فألزموه السابع من ولده، فكان معه، فكان الشيخ إذا غفل كانت الأمارة بينه وبينه أن تقرع العصا حتى يعاوده عقله، فذلك قول المتلمس اليشكريّ من بكر ابن وائل: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا قال ذو الإصبع العدوانيّ بعد ذلك بدهر:
عذير الحيّ من عدوا ... ن كانوا حيَّة الأرضِ
بغى بعضهم بعضا ... فلم برعوا على بعض
ومنهم كانت السَّادا ... ت والموفون بالقرض
وهم بلغوا على الشَّحنا ... ءِ والشَّنآن والبغض
مبالغ لم ينلها النَّا ... س في بسط ولا قبض
وهم إن ولدوا أشبوا ... بسرِّ النَّسب المحض
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
يعني عامر بن الظَّرب.
أشبى الرجل إذا شبّ ولده.
1 / 18
فلما كبر عامر وتخوّف قومه أن يموت اجتمعوا إليه، فقالوا له، يا سيدنا وشريفنا، أوصِنا.
فقال: " يا معشر عدوان، كلفتموني تعبا، إن القلب لم يخلق، ومن لك بأخيك كلِّه، إن كنتم شرَّفتموني فقد التمست ذلك منكم، وإني قد أريتكم ذلك من نفسي، وأنّي لكم مثلي، افهموا عني ما أقول لكم؛ من جمع بين الحق والباطل لم يجتمعا له وكان الباطل أولى به، وإن الحق لم يزل ينفر من الباطل، ولم يزل الباطل ينفر من الحق، لا تفرحوا بالعلق ولا تشمتوا بالزلّة، وبكل عيش يعيش الفقير، ومن ير يوما ير به، وأعدّوا لكل أمر قدره، قبل الرِّماء تملأُ الكنائن، ومع السفاهة الندامة، والعقوبة نكال وفيها ذمامة، فلا تذموا العقوبة، واليد العليا معها عافية، والقود راحة لا عليك ولا لك، وإذا شئت وجدت مثلك، إنَّ عليك كما أَنّ لك، وللكثرة الرُّعب وللصبر الغلبة، من طلب شيئا وجده، وإلاّ يجده يوشك أن يقع قريبا منه.
فيا معشر عدوان، إياكم والشر فإن له باقية، وادفعوا الشر بالخير يغلبه، إنه من دفع الشرَّ بالشرِّ رجع الشرُّ عليه، وليس في الشرِّ أسوة، ومن شبقكم إلى خير فاتبعوا أثره تجدوا فضلا، إن خالق الخير والشر وسعهما، ولكل يد منهما نصيب.
يا معشر عدوان، إن الأوّل كفى الآخر، فمن رأيتموه أصابه شر فإنما أصابه فعله، فاجتنبوا ذلك الذي فعله؛ يا معشر عدوان، إن الشرّ ميّت، وإنما يأتيه الحيّ فيصيبه، ومن اجتنب الشرّ لم يثب الشرُّ عليه؛ يا معشر عدوان، إن الخير عزوف ألوف، ولم يفارق الخير صاحبه حتى يفارقه ولن يرجع إليه حتى يأتيه؛ يا معشر عدوان، ربُّوا صغيركم، واعتبروا بالناس ولا يعتبر الناس بكم، وخذوا على أيدي سفهائكم تقلل جر أثركم، وإياكم والحسد فإنه شؤم ونكد، وإن كلَّ ذي فضل واجد أفضل منه، ومن بلغ منكم خطَّة خير فأعينوه واطلبوا مثلها، ورغِّبوه في نيّته، وتنافسوا في طريقته، ومن قصّر فلا يلومنّ إلا نفسه، وإني وجدت صدق الحديث طرفا من الغيب فاصدقوا تصدَّقوا.
" يقول من لزم الصدق وعوّده لسانه وفِّق فلا يكاد يتكلم بشيء يظنّه إلا جاء على ظنّه ".
وإنّي رأيت للخير طرقًا فسلكتها، ورأيت للشرّ طرقًا فاجتنبتها، وإني والله ما كنت حكيما حتى تبعت الحكماء، وما كنت سيِّدكم حتى تعبّدت لكم، إن الموعظة لا تنفع إلا عاقلا، وإن لكلّ شيء داعيا، فأجيبوا إلى الحق وادعوا إليه وأذعنوا له " يريد ذلُّوا للحق ".
وكان من حديث عامر أنه زوّج ابنته فعمة ابنة عامر ابن أخيه عامر بن الحارث ابن ظرب، وقال لأمها، وهي ماوية بنت عوف بن فهر حين أراد البناء بها: " يا هذه، مُري ابنتك فلا تنزلن فلاة إلا معها ماء، وأن تكثر استعمال الماء فلا طيب أطيب منه، وإن الماء جعل للأعلى جلاء وللأسفل نقاء، وإياك أن تميلي إلى هواك ورأيك فإنه لا رأي للمرأة، وإيَّاي ووصيّتك، فإنه لا وصيّة لك، أخبري ابنتك، أن العشق حلوٌ، وأن الكرامة المؤاتاه، فلا تستكرهنّ زوجها من نفسها، ولا تمنعه عند شهوته، فإن الرضا الإتيان عند اللذة، ولا تكثر مضاجعته فإن الجسد إذا ملّ ملّ القلب، ومريها فلا تمزحنّ معه بنفسه، فإن ذلك يكون منه الانقباض، ومريها فلتخبأ سوءتها منه، فإنه وإن كان لا بد من أن يراها فإن كثرة النظر إليها استهانة وخفة ".
فلما أدخلت الجارية عليه نفرت منه ولم ترده.
فأتى ابن أخيه العمَّ، فشكا ذلك إليه، فقال له عامر: " يا ابن أخي، إنها وإن كانت ابنتي فإن لك نصيبًا مني " أو قال، فإن نصيبك الأوفر مني " فاصدقني، فإنه لا رأى لمكذوب، فإن صدقتني صدقتك، إن كنت نفَّرتها فذعرتها، فاخفض عصاك عن بكرتك تسكن، وإن كانت نفرت منك من غير إنفار فذلك الداء الذي ليس له دواء، وإلا يكن وماق ففراق، وأجمل القبيح الطلاق، ولم نترك أهلك ومالك، وقد خلعتها منك بما أعطيتها، وهي فعلت ذلك بنفسها.
فزعمت علماء العرب أن هذا أول خلع كان في العرب وثبت في الإسلام.
وكان من حديث عامر بن الظَّرب أيضا، أنه كان يدفع بالناس في الحج، وذلك أنه كان وقومه طلبوا أن يجيزوا من ورد عليهم من تلقاء محلّتهم ببطن وجّ، وكان طريق أهل السَّراة، وهم أزد شنوءة، فدخلوا على صوفة، فكانوا يجيزون عدوان يوما، وصوفة يوما، وكان الذي يتولى إجازة الحج من عدوان أبو سيّارة العدوانيّ " هكذا أملاه أبو حاتم، وليس بمستو العدواني "، فقال:
1 / 19
يا ربَّة العير ردِّيه لمرتعه ... لا تظعني فتهيجي النَّاس بالظَّعن
أضحت أيادي بني عمرو مجلَّلة ... تمَّت بلا كدر فيها ولا منن
ثواب ما قد أتوه عندنا لهم ... الشُّكر منَّا لما أسدوا من الحسن
فأجاز أبو سيّارة العدوانيّ بالناس أربعين سنة على عير له، حتى إن كانت العرب لتضرب المثل به فتقول: أصحُّ من عير أبي سيَّارة.
قال: فبينا عامر يدفع بالناس إذ بصر به رجل من ملوك غسّان فأعجبه نحوه فكلّمه، فإذا أحكم العرب وأحلمهم، قولا، وفعلا، وفعلا. فحسده الغسّانيّ، وقال في نفسه، لأفسدنَّه.
فلما صدر الحاجّ أرسل الملك إلى عامر، أن زرني حتى أتَّخذك خَّلا، وأحسن حباءك، وأعظِّم شرفك.
فأقبل عامر على قومه، فقال، ماذا ترون؟ قالوا: نرى ألا تردَّ رسوله، اشخص، ونشخص معك، فتصيب من رفده ونفعه، ونصيب معك، ونتَّجه بجاهك. فخرج وخرج معه نفر من قومه.
فلما دخل بلاده تكشف له رأيه وأبصر أنه قد أخطأ، فجمع إليه أصحابه، فقال: " ألا ترون أن الرأي نائم والهوى يقظان، وقد يغلب الهوى الرأي، ومن لم يغلب الهوى بالرأي ندم، وعجلت حين عجلتم عليّ، ولئن سلمت لا أعود بعدها لمثلها، وإنا قد تورّطنا في بلاد هذا الرجل، فلا تسبقوني بريث أمر أقيم عليه، ودعوني ورأيي وحيلتي لكم ".
فقدم على الملك، فضرب له قبّة ونحر له جزورا.
فقال له القوم: قد أكرمنا كما ترى، وما وراء هذا خير منه.
فقال: لا تعجلوا، فلكلّ عام طعام، ولكل راع مرعى، ولكل مراح مريح، وتحت الرًّغوة الصريح.
فمكثوا أياما، ثم أرسل إليه الغساني، قد رأيت أن أجعلك الناظر في أمر قومي، فإني قد رضيت عقلك وأتفرغ للذَّتي ومركبي، فما رأيك؟ فقال: أيها الملك، ما أحسب أن رغبتك فيّ بلغَّتك أن تجعل لي ملكك، فقد قبلت إذ وليتني أمور رعيّتك وقومك، وإن لي كنز علم، وإن الذي أعجبك من علمي إنما هو من ذلك الكنز، أحتذى عليه وقد خلّفته خلفي، فإن صار في أيدي قومي علم كلُّهم مثل علمي، فأذن لي حتى أرجع إلى بلادي فآتيك به، فإن صرت بهذا العلم إلى بلدك أبحته ولدك وقومك حتى يكونوا كلهم علماء.
وكان الملك جاهلا، فطمع أن يقطع أصل العلم من عندهم، ويصير لقومه دونهم. فقال له الملك: قد أذنت لك بتعجيل الرَّجعة.
فقال له عامر: إن قومي أَضنَّاء بي، فاكتب لي كتابا بجباية الطريق فيرى قومي طمعا يطيب أنفسهم عني، واستخرج كنزي، وأرجع إليك.
فكتب له بذلك.
فعاد إلى أصحابه، فقال: ارتحلوا.
فقالوا تالله ما رأينا وافد قوم قطُّ أبعد عن نوال، ولا أحيد عن مال.
قال لهم: مهلا، فإن أفضل الرزق الحياة، ولها يراد الرزق، وقال، ليس على الرزق فوت، وغنم من نجا من الموت، ومن يرد باطنا يعيش واهنا، " يقول من لم ينظر في المتعقِّب عاش واهنا ضعيفا، والباطن ها هنا المتعقّب والنظر في العاقبة ".
ولو أخذ في لومكم لاتبعت قولكم، ويل أمِّ الآيات والعلامات، والنظر والاعتبار، والفكر والاختبار.
ثم قدم على قومه، فقال: ربَّ أَكلة تمنع أَكلات، وسنة تجبر سنوات ثم أقام، فلم يعد.
وكان من حديث عامر بن الظرب أيضا أنه خطب إليه صعصعة بن معاوية ابنته، فقال: يا صعصع، قد جئت تشتري مني كبدي، وأكرم ولدي عندي، منعتك أو بعتك، النكاح خير من الأَئمة، والحسب كفاء الحسب، والزوج الصالح يعدّ أبا، قد أنكحتك خشية ألا أجد مثلك، يا معشر دوس: " قال، وقال أكثر أصحابنا يا معشر عدوان ": خرجت كريمتكم من بين أَظهركم من غير رغبة عنكم، ولكنه من خطّ له شيء جاءه، ربّ زارع لنفسه ما حاصده غيره، ولا قسم الظوظ ما أدرك الآخر مع الأول شيئا يعيش به، ولكن رزق آكل من آجل وعاجل، إن الذي أرسل الحيا أنبت المرعى ثم قسمه " أي حفظ "، وكلاَّ لكل فم بقلة، ومن الماء جرعة، ترون ولا تعلمون، ولن يرى ما أصف لكم إلا كلُّ قلب راع، ولكل رزق ساع، ولكل خلق خُلق، كَيس أو حُمق، وما رأيت شيئا قطّ إلا سمعت حسَّه ووجدت مسَّه، وما رأيت شيئا خلق نفسه، وما رأيت موضوعا إلا مصنوعا، وما رأيت جائيا إلا ذاهبا، ولا غانما إلا خائبا، ولا نعمة إلا ومعها بؤس، ولو كان يميت الناس الداء لأعاشهم الدواء، فهل لكم في العلم العليم؟ قيل: وما هو؟ فقد قلت فأصبت، وأخبرت فصدقت.
فقال: أرى أمورا شتى، وشيئا شيئا حتَّى.
1 / 20