Le Fondateur de l'Égypte Moderne
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة
Genres
107
فهذه الأعمال كانت كلها ملموسة، بحيث إنها تبرر امتعاض بالمرستون من حكم الباشا وتقوي الضرورات السياسية بالاعتبارات الإنسانية.
كما أنه لا يمكن عدلا أن يلقي اللوم كله على عاتق السلطان بسبب عناده وعدائه للباشا؛ فإن الاقتراع للعسكرية كان يمكن أن يراعى فيه جانب العدل فيما لو خفف الموظفون من وطأة جشعهم وميلهم إلى الاضطهاد والظلم، ولا ندحة عن القول هنا بأن الباشا فيما يتعلق بهذه المسألة قد ورطته أحلامه السياسية إلى اتباع سياسة تذكر الإنسان بأنه حاكم تركي أولا ثم هو بعد ذلك مستبد عادل، ولكنا إذا تركنا جانبا قوة ما لجأ إليه من الوسائل، فلا يمكن القول بأن المقصود والغاية من تجييش الجيوش كانت كلها سيئة؛ إذ لم يكن من سبيل آخر لإنهاض عزيمة رجال ظلوا يرسفون في قيود العبودية قبل إنشاء الهرم الأول، ولم يخطر لأحد منذ الفتح العربي أن يستخدمهم في أعمال القتال، بل لقد ظلوا قانعين طيلة تلك القرون بحرث الأراضي والحقول وحمل الأثقال وتحمل الضرب وإطاعة الأمر والتناسل تاركين لأعقابهم هذا الميراث المؤلم. وكذا بلغ هلعهم من أن يخطفهم مشايخ القرى ويسحبوهم للانخراط في سلك جيوش الباشا إلى حد أنهم كانوا يستهينون بقطع أحد الأصابع وخلع الأسنان ورمد الأعين، ولكن امتناعهم عن التشبه بالرجال لا يمكن أن يحمل الإنسان على توجيه اللوم للباشا؛ لأنه أكرههم على ذلك التشبه.
ولم يقف الإصلاح عند هذا الحد، فلقد أجمعت كلمة من شهدوا الحالة في مصر على أن النظام الجديد كان أقل عنتا للأهالي عن نظام الجنود الأجانب المأجورين، بمعنى أنهم لم يتركوا وراءهم أي أثر من آثار التخريب، ولم يكن زحفهم بالبلاد مصحوبا بآثار التدمير؛ لأنهم لم يجتازوا الأقاليم المصرية كما لو كانوا يخترقون بلاد العدو على نحو ما كان يفعله الجنود الأجانب المأجورون.
وبالجملة لم يكن ما أوجده الباشا من التأسيسات العسكرية مجرد مظهر من مظاهر السلطة مضى في تنفيذها بلا مبالاة لرغبات رعاياه. كلا؛ بل كانت - والحق يقال - وسيلة من وسائل التعليم وضربا من ضروب الإصلاح الإداري.
ومع أن القضاء كان في حاجة ماسة إلى الإصلاح إلا أنه كثيرا ما عرض إلى مسائل لم يكن من المستطاع مداراتها بالعنت العاجل.
بل كان أشد ما يكون ارتباطا بالشريعة الغراء، بحيث لم يستطع الباشا مساسه أو التعرض له إلا بمنتهى الحذر.
ولقد كان المفتي هو المرجع الأعلى في كل ما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق، وبالأخص مسألة الميراث.
وكان تعيين هذا المفتي سنويا بواسطة الباب العالي أحد بقايا مظاهر السيادة العثمانية على مصر. ولما كان هذا الموظف الكبير يبتاع منصبه هذا من الباب العالي نفسه فلم يكن ينتظر من المفتي أن يكون نزيها في تطبيق العدالة ولا حريصا في اختيار من يشغلون مناصب القضاء تحت إشرافه؛ ولذا كان محمد علي شديد الارتياب في ذمة هؤلاء القضاة ونزاهتهم، وقد نصح إحدى الأسر بعد أن دب دبيب الخلاف بين أعضائها بأن يعقدوا الصلح فيما بينهم وألا يلتجئوا إلى القاضي خيفة أن يقعوا في براثنه فلن يقتصر الضرر على أحدهم فقط، بل سيلحقهم جميعا وتدور عليهم الدائرة ويخرجون من التحكيم بصفة المغبون، بينما يفوز القاضي بنصيب الأسد.
على أن الباشا وإن لم يسعه التدخل مباشرة في دائرة أولئك القضاة إلا أنه بذل ما في وسعه لتحديد نتائج أعمالهم؛ فلقد أنشأ في كل من الإسكندرية والقاهرة محكمة جديدة لا تتقيد بقيود الشريعة الإسلامية، وقد جعل أعضاء هاتين المحكمتين من رجال التجارة بدلا من رجال الدين وعهد إليهما بفض المشاكل التجارية، وبخاصة ما يجد منها بين المسلمين والمسيحيين. على أن هذا الأمر الذي استلفت الأنظار في تكوين هاتين المحكمتين أن الأعضاء المسلمين فيهما لم تكن لهم الأغلبية؛ فمثلا كانت محكمة الإسكندرية مركبة من تسعة أعضاء بينهم أربعة مسلمون، والخامس فرنسي، والسادس يهودي، والسابع والثامن من المسيحيين السوريين، والتاسع من الرعايا اليونانيين.
Page inconnue