مدخل
1 - أنوات
2 - نفس الكلام
3 - تفاحة الخطيئة
4 - الحقيقة
5 - الصدفة والضرورة
6 - الصحاري القادمة
7 - الروح الثالثة
8 - ماذا لو
9 - لغة البدء
10 - الجنة
11 - الفصل الخامس
12 - الصراخ
13 - السرد الكبير
14 - الشك المنهجي
15 - من كوكب آخر
16 - كتاب
17 - الطبيعة
18 - الموسيقى
19 - أسود البحر
20 - الحدث
21 - الشر
مدخل
1 - أنوات
2 - نفس الكلام
3 - تفاحة الخطيئة
4 - الحقيقة
5 - الصدفة والضرورة
6 - الصحاري القادمة
7 - الروح الثالثة
8 - ماذا لو
9 - لغة البدء
10 - الجنة
11 - الفصل الخامس
12 - الصراخ
13 - السرد الكبير
14 - الشك المنهجي
15 - من كوكب آخر
16 - كتاب
17 - الطبيعة
18 - الموسيقى
19 - أسود البحر
20 - الحدث
21 - الشر
مثل ذئب يعوي تحت القمر
مثل ذئب يعوي تحت القمر
نصوص شعرية فلسفية
تأليف
محمد الفاهم
مدخل
تأتي هذه النصوص باعتبارها ممارسة كتابية تجريبية، تطمح إلى الوقوف على الحدود بين الفلسفة والأدب، كأجناس عرف عنها أنها مستقلة عن بعضها البعض، على الأقل ضمن النظرية النقدية الكلاسيكية. إنها كتابة تهدف إلى عبور الحدود التي أقامتها هذه النظرية بين المفهوم والاستعارة، الحقيقة والجمال، الوضوح والغموض، الدلالة الحاضرة والدلالة المؤجلة؛ لذلك فهي تحاول الاشتغال بشكل تركيبي. إنها أدب مكتوب بطريقة فلسفية، وفلسفة مكتوبة بطريقة أدبية، أو بطريقة أخرى تقدم نفسها هذه النصوص كممارسة جديدة للفلسفة، وكإبداع جديد للممارسة الكتابية. لقد حاولت أن أعبر جماليا عن المفهوم، وأن أرفع الجمال إلى درجة الفكرة.
من الناحية النظرية يمكن أن نقول بأن مفهوم الكتابة المركبة، يمتح من المفهوم الذي بلوره إدغار موران في مجال الدراسات الفلسفية، حول ما يعرف بالفكر المركب
La pensées complexe . وهو الفكر الذي أراد له صاحبه - كما هو معروف - أن يتجاوز الفكر التبسيطي الذي يضع حدودا، وجدرانا فاصلة بين المعارف، مدعيا أن كل معرفة تتميز بهويتها الخاصة وبمقولاتها الثابتة. من هنا الإعلاء من قيمة الوضوح والنظام والأصل، بينما الفكر المركب على العكس من ذلك، يؤكد على الدور الكبير الذي تلعبه الصدفة والتحول واللااستقرار في تشكيل طبيعة المعرفة. فالفكر المركب ما هو إلا هذا الحوار الدائم والتفاعل المستمر واللانهائي للمعارف البشرية.
1
إذا كان هذا الأمر يحدث في الفلسفة، فلماذا لا نتحدث أيضا عن الكتابة المركبة
L’écriture complexe
في مجال الإبداع. إن المفاهيم ترحل من خطاب إلى آخر، وهذا هو ما يضمن انفتاح المعرفة وتطورها، وكما قال إدغار موران: «إن المفاهيم تسافر، ومن الأفضل لها أن تسافر مع علمها أنها تسافر. من الأفضل لها ألا تسافر بشكل سري.»
2
لماذا إذن يظل الأدب بعيدا عن هذا الأمر، وهو الذي كان سباقا لتناول هذه الظاهرة من خلال مفاهيم أصبحت الآن شهيرة، كالتناص وتكسير البنية، وما وراء النص، وغيرها من المفاهيم التي تهدف إلى فتح النص، والدفع به نحو ضفاف كانت مستبعدة منه في الماضي.
الكتابة المركبة، أو ما يمكن أن نسميه أيضا بالسرد التعددي المفتوح على التنوع والتعدد، نوع من الكتابة التي تحاول تجاوز التصنيف الكلاسيكي للأجناس الأدبية؛ إذ ليس ثمة حدود بين الأدب والفن والفلسفة والشعر والأسطورة والدين، بل وحتى العلم والإبيستمولوجيا، فالكتابة المركبة تعكس التعقيد
La complexité
والتداخل والتبادل الموجود بين هذه الأجناس.
مع ذلك علينا ألا نخلط بين السرد الكبير، والسرديات الكبرى
Les Meta récits ، فهذه الأخيرة كما هو معروف انصب عليها نقد جان فرونسوا ليوطار. إنها مجموع الخطابات المغلقة التي تدعي امتلاكها للمعنى والحقيقة مثل الميتافيزيقا والحداثة. أما السرد الكبير فهو نوع من الكتابة المفتوحة، المعانقة لتعدد الحياة، إذ إن الحياة نفسها ما هي إلا سرد كبير، بدأ منذ فجر التاريخ، وما زال مستمرا إلى يومنا هذا، ونحن نعيشه على شكل مرويات صغرى تبدأ بميلادنا وتنتهي بموتنا.
كان هذا هو المشروع الذي خاضه أدب ما بعد الحداثة؛ من خلال العمل على تكسير القوالب الجمالية الموروثة من الحداثة، القائمة على وحدة العمل، وبنية السرد الثابتة، والهيمنة المطلقة للسارد، إلى غيرها من الثوابت التي ميزت الأدب الحديث. لم يعد للسرد الما بعد حداثي أية علاقة بالطابع الوصفي السعيد الذي ميز السرد الكلاسيكي. إنه سرد قلق متقطع يشكك باستمرار في القيم التي أنتجتها الحداثة. من هنا نفهم الرغبة في تجاوز البلاغة الجاهزة، واستثمار الكتابة الشذرية، والعبارات الومضية، والتناص والزبينغ
The ZAPPING ، والتشتت واللعب، إلى غيرها من التقنيات التي عرف بها الأدب الما بعد حداثي.
إن الأفكار الواردة في هذه المقدمة القصيرة، ما هي إلا بذور تتطلب العناية بها أكثر. لم يكن الهدف الدخول في تنظيرات موسعة، بل فقط تقديم مؤشرات ضرورية لموقعة التجربة، والتعبير عن القناعات الأساسية التي تتحكم فيها. وتبقى للقارئ كامل الشرعية في التأويل والنقد، واكتشاف طبيعة الدلالات والمعاني الثاوية خلف هذا «السرد الفلسفي». فالكتابة كممارسة إبداعية، قد لا تنصاع لحدس الكاتب وإرادته. من هنا يفترض السرد المتعدد بالضرورة قراءات متعددة، وكل الأمل هو أن تصادف هذه النصوص قارئا نبيها، لا يتوقف عند مجرد الانطباعات العابرة، أو يمارس عليها هذه الموضة السائدة اليوم من النقد الأخلاقي الجاهز، وإنما قارئا يغوص بحلم ولذة جمالية فيها.
أنا مدين في إنجاز هذا الكتاب لساعات النت الطويلة، لليل والأرق، والقهوة السوداء التي كانت تعدها زوجتي. كما أشكر كل الأصدقاء الواقعيين والافتراضيين، الذين ظلوا يسعدونني بتعليقاتهم وتشجيعاتهم بضرورة إخراج هذا العمل إلى الوجود. وأخص بالذكر في هذا السياق الأستاذ الفاضل عبد الحميد الزفري الذي تفضل بالمراجعة والتدقيق اللغوي، فله كل الشكر والامتنان.
القصر الكبير، المغرب
31 / 5 / 2014م
الفصل الأول
أنوات
أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك. يا له من سلاح دمار شامل أوصى به سقراط. لقد جربت مرارا النزول إلى أعماق ذاتي، أتساءل دوما، من هذا الشخص الذي يتحدث داخلي، أو كما قال الفلاسفة: ما هذه الأنا؟ لكنني على العكس منهم تماما، لم أعثر على أي تفكير، بل بالعكس بمجرد طرح السؤال تنفتح أمامي علبة باندورا، أشعر برعب كبير كمن يطل على حافة العدم، فأعود سريعا إلى الوراء محاولا محو آثار هذا السؤال من ذهني.
يبدو أنني لا أستطيع أن أستمر في الحياة إلا من خلال نسيان هذه الجرثومة بأعماقي التي اسمها «الأنا». أحيانا هناك أصوات كثيرة تتصاعد داخلي لا أعرف كيف أضع لها حدا، بعضها من طبيعة بشرية، وبعضها الآخر حيوانية بدون شك، وثمة أصوات أخرى لا أدري حتى كيف أصنفها.
أعرف أنني لن أنتصر على هذه الأصوات إلا لحظة مماتي، آنذاك سوف تخرس إلى الأبد وسأرقص منتصرا عليها. أما الآن فأنا أتمسك بعدم الاقتراب من هذا الثقب الأسود كي لا يبتلعني ، وحين يثقل علي الأمر لدي بعض الخطط التي أتحايل بها على نفسي، منها مثلا ركوب حافلة والذهاب معها إلى حيث تشاء وتنتهي مسيرتها، لا أسأل السائق عن وجهتها إلا بعد أن نقطع نصف الطريق.
أو يمكنني أيضا أن أستلقي على ظهري، وأترك الشمس تلفح وجهي، هكذا مثل قط كسول أظل لساعات وساعات أحدق في الفراغ دون أفكار أو أحاسيس، الشيء الوحيد الذي أسمح لنفسي بممارسته هو التخيل، نعم أتخيلني ولدت في حياة أخرى في كوكب آخر، أو في كينونة مغايرة لهذه الكينونة، قد أولد مثلا ضفدعا، أو أسد بحر، أو عنكبوتا ضخما، أو شجرة معمرة، أو ربما أيضا محاربا ضمن جنود جنكيز خان، أو كاهنا شامانيا في أراض مجهولة لا أعرفها.
وماذا لو كنت قد ولدت سفاحا، أو ملكا، أو قرصانا بعين واحدة ويد حديدية معقوفة، احتمالات الوجود ترعبني، أعزي نفسي بالتشبث بأن هذه الحالة التي أوجد عليها الآن هي «أحسن العوالم». من يدري ربما هذا أفضل ما في جعبة القدر فعله لي؟
يا ربي! ما هذه الأقوام التي تتحدث داخلي، أي طبول وبخور تتصاعد من باطني، ما هذه الهوية غير المتطابقة أبدا التي أنا عليها. كلا لم أكن أملك أي وجه قبل أن أولد، ولن أحتفظ أيضا بأي وجه بعد أن أموت، اعذرني أيها الموقر ديكارت، أنا أنوات.
الفصل الثاني
نفس الكلام
أمطار شديدة تهطل هذا الصباح تتمرغ فوق التراب بشكل مهيب، كان الجو يبدو كما لو أنه حدث مناخي غير مسبوق، أحسست أن لدي رغبة قوية في الكتابة كما لو أن هذا الفيض المائي الذي يجري خارجا عليه أن يجد ما يماثله، فيض آخر له شكل لغوي تعبيري ومجازي، غير أنني حينما دخلت أعماقي وحاولت كتابة شيء ما لم أعثر على أية أفكار تستحق التعبير عنها. بدا لي أنني لا أقول إلا الشيء نفسه، مع اختلاف طفيف، نفس الكلام يتكرر دوما. سواء عشت اليوم أو بعد ألف سنة أخرى، أو حتى إلى نهاية الزمان، فإن نفس المقول سيقال بما فيه هذا الكلام ذاته الذي أكتبه الآن.
كمن يجعل النجم دليله فوق البحار، رغم أن الفكرة جلية وواضحة، بدت لي في غاية الغموض والغرابة. ما الجديد إذن؟ الأمر يشبه لعبة فيديو، رغم أننا نخسرها ونموت فيها باستمرار، يمكننا إعادتها إلى ما لا نهاية.
هكذا بدا لي الوجود برمته، نتكلم حتى نخفي أننا نقول الشيء ذاته، لكن الشيء ذاته، يعود لكي ينتصب من جديد في كلامنا.
ما هو الاختلاف إذن؟ هذا المطر الذي يسقط لقد سبق له أن سقط مرارا وتكرارا، هذه الشمس التي ستشرق غدا أو بعد غد ربما، لقد أشرقت على ذلك الجد الذي لا أعرفه في غابر الزمان الأومو إيريكتوس
OMO Erectus ، أو على تلك الجدة التائهة في السهول الواسعة للخفر الأفريقي، لوسي. كما ستشرق غدا أو ستمطر أيضا، على ذلك الحفيد البعيد الذي لا يعرفني في المستقبل البعيد.
أي صفاء ذهني أكثر من هذا؟ حياتي برمتها مثل طبعة جديدة لكتاب قديم، كل ما أتمناه هو أن يكون في حلة جديدة مزيدة قليلا أو منقحة ربما. هذا هو كل هامش الحرية الذي يمكن أن أحلم به، مشروع حياتي الخاصة، إذا جاز لي استعمال الكلمات العزيزة على سارتر. العثور فقط على هذا التنقيح، هذه الإضافة.
هكذا أنا، نسخة جديدة لعبارة قديمة، أفكاري ليست لي، لغتي تتحدثني، حياتي في مجملها تمتد في المساحة الفاصلة بين الصمت واللانهاية. أنا مثل رياح الأشواق فوق بحر الأحزان.
الفصل الثالث
تفاحة الخطيئة
أحيانا فقط بدافع حب الفضول أتساءل ماذا لو لم أولد، ماذا كانت ستكون الحياة من دوني، هل كان سيحدث تغيير ما، ما الذي يحمله وجودي الخاص للوجود العام؟ هل كانت صدفة الميلاد هذه التي أنا عليها الآن ضرورية؟
ولكن لا علي، ما دمت قد جئت إلى هذا العالم؛ فلأحاول أن أصنع شيئا ما بحياتي البائسة. يكفي فقط أن أتبع هذا النور إلى حيث يقودني، ولكنني لن أمنع نفسي مع ذلك من ممارسة لعبة التفكير، كما لو أن التفكير بالنسبة لي هو مجرد رياضة ذهنية ليس إلا، شكل من أشكال خلط أوراق اللعب، رمي للنرد بغرض الوقوف على الاحتمالات الممكنة. أو لنقل نوع من الهذيان الواعي.
أتساءل مثلا عن قصة هذه التفاحة التي صنعت تاريخ الوجود البشري، هل كان من الضروري منعها على أبينا آدم؟ ولماذا يتم منعها عنه إذا كان الله العلي القدير، المطلع على كل خبايا الأمور يعرف جيدا أن آدم لن يستطيع منع نفسه عنها؟ بل هل كان من الضروري أصلا أن توجد هذه الشجرة هناك حتى يمد يده إليها؟ وماذا كان يفعل إبليس اللعين هذا، في الفردوس وهو المطرود منه؟
ولكن ما هذه التفاحة العجيبة المصقولة بأنفاس الرب؟ تفاحة البلور والغبش، ها هي ذي تعود من جديد؛ لكي تسقط كدمعة سماوية، فوق أحلام نيوتن الأبدية، هذه التفاحة مع ذلك هي نفسها الفاكهة التي آكلها ويأكلها طفلي الصغير، ألم يكن من الأجدر على الأقل تحريمها فقط للتذكير بقصتها الرمزية هذه؟ لقد عادت هذه التفاحة من جديد؛ لكي تجذبنا نحو جنتنا الأولى، حيث لا تزال الشجرة هناك.
أحب أحيانا أن أذهب مع هذه الميتافيزيقا المباشرة، أو الاستعارة البيضاء كما يمكن أن يسميها البعض. أنا أعرف أن الوجود ورطة، شرك لا خلاص منه أبدا حتى في العالم الآخر، ولكنني مع ذلك سعيد بهذه الورطة، طبيعتي تحب الأسرار وأكبر سر هو طبيعتي.
الفصل الرابع
الحقيقة
من أنت يا أنا؟ أيها الكائن داخلي.
أيها الغريب الذي لا يريد أن يبتعد عني؟
يبحث الإنسان عن الأسرار، لكن أكبر سر يحمله بين جوانبه. أتصور أحيانا في النهايات القصوى للزمان، وبعد أن تخرج الحقيقة من البئر حاملة سياطها، ما الذي يمكن أن تقوله للبشرية، أي سر سينكشف أخيرا، أي ضوء سينير الظلمات؟ ذلك الصوت البعيد القادم من وراء العوالم الخفية، ما الذي يمكن أن يخبرني به؟
تبدو لي الحياة أحيانا كما لو أنها ليلة واحدة طويلة تنامها البشرية، وستستيقظ في حلم آخر، زرقة في داخل زرقة. الحقيقة منيعة عن الجنس البشري، لكنها دائما تحدق إلينا بجفون مفتوحة . أحتاج الكثير من التفكير للتعمق في الحقيقة، لكن القليل من الكلمات قادرة على قول ما هو أساسي، وما هو أساسي هو أنني أفضل الحياة على الحقيقة، أفضل الوجود على الفكر، أفضل الإحساس بالغيوم على فهم الغيوم.
التأجيل بالنسبة لي يعني التشبث بالحياة، رفض الحقيقة. أعتقد أنه من رحمة القدير بنا أنه منحنا هذه النعمة: التيه، القدرة على النسيان، التأجيل الدائم لمواجهة الحقيقة.
هكذا أمضي تحت المطر الخفيف في الشارع الطويل الذي يفصل الثانوية عن المنزل، من هنا إلى هناك تزدحم الأفكار في ذهني، كما لو أن رأسي يشبه محطة لا تتوقف عن الحركة. تؤلمني الوجوه العابرة في سطحية الحياة، في الضمور اللاإنساني لمعنى الحياة المعاصرة. ما هو مؤسف هو أن اللامبالاة أصبح لها طابع قومي. البلادة الألفية هذه هي أولى علامات الانحطاط البشري الأخير. هذا هو زمن الكينونة الحرجة.
في المساء عندما أكون في المزرعة، أندس في بركة الحزن، في العمق الباطني للأشياء، كل الأشياء لها ما تقوله لو تمكنت فعلا من الكلام. الكلب الذي يتعقبني، ما الذي كان سيقوله لو عبر عن وجوده؟ القط الغارق في تأملاته، أشجار التين المنتصبة هناك بكل بهاء. يظهر لي أن كل شيء في هذا العالم يتكلم لغة خاصة به. الطبيعة كلها محرومة من التعبير، لكنها ليست محرومة من اللغة. واللغة هي البئر المدهشة التي تخرج منها المعاني، إنها عطاء السماء في هذا العالم. السعادة بالنسبة لي تتمثل في جرعات الإحساس، كلما توقفت عن التفكير وانغمست في بواطني أكون قريبا من ذاتي، قريبا من تلك الأفكار التي ليس مصدرها الفكر، بل مصدرها الشعور. أجلس لساعات تحت شجرة التين في صمت كلي حتى بيني وبين نفسي. أريد أن أترك الأشياء تأخذ فرصتها في الكلام، أن تفصح هذه الشجرة عن شعرها الخاص، أن أستبطن التأملات العميقة لهذا القط الممدد في بهو المنزل، أن أترك العصافير تنشد فلسفتها الخاصة، فلسفة بدون «أنا» مفكرة، بدون مفاهيم أو حجج منطقية.
لو كانت حياتي ستئول برمتها إلى الزوال لما كانت هناك أية مشكلة، لكنني مع ذلك هنا، تحت هذا المطر الخفيف الذي يداعب وجهي. هدوء الصباح اللامعبر عنه، النعومة التي لا يمكن نقلها إلى كلمات. يبدو لي أن أعظم فلسفة لن تظهر أبدا إلى الوجود، وأجمل قصيدة لن يتمكن أي شاعر من كتابتها. سيظل دائما هناك معنى غائب، جمال غير معبر عنه، لن تطلع عليه أية امرأة من البشر. الحقيقة النهائية هي أنني لن أصل أبدا إلى الحقيقة.
الفصل الخامس
الصدفة والضرورة
كيف يمكنني أن أفكر في مصادفات الحياة، فيما هو غير قابل للتفكير، لا يمكننا أن نفكر في الصدفة بالضبط؛ لأنها صدفة، شيء غير متوقع. حياتي برمتها سلسلة لا نهائية من الصدف بدءا من ذلك الحيوان المنوي الذي كنته، والذي استطاع أن يركب القطار السريع إلى هناك حيث كانت الحياة تنتظرني، إلى الصدفة التي جعلتني أعبر كل تلك البرك الداكنة لطفولتي، المليئة بالفقر والملح ويرقانات الوحدة.
وأخيرا صدفة قطار آخر جمعني بزوجتي، ماذا لو لم أركب ذلك المساء؟ ماذا لو كنت قد تأخرت وفوت الموعد؟ هل كان سيحلق هذان العصفوران فوق رأسي؟
يقال إن الصدفة إذا تكررت أصبحت ضرورة، لكن الشيء الوحيد الذي يتكرر في حياتي هو السهاد والأرق، حياتي نشيد من أناشيد عمق الليل، أعيش في انتظار صدفة أخرى، ورقة يانصيب قد أجدها بين الكتب، أو بين الأصدقاء، أو بين الحيوانات والدواجن التي تكبر في مزرعتي.
أو ربما قطار آخر، أزرق هذه المرة، الصدفة التي لا بد منها، الضرورة التي لا يريد أحد الاعتراف بها، النفق المظلم نحو الأبدية.
بالحواس أحلم، وبالحلم أعيش، واقفا هنالك، ألوح للقطارات وهي تمضي في كل الاتجاهات.
الفصل السادس
الصحاري القادمة
لقد نظرت في البركة، ولكنني لم أر وجهي.
بل روحي هي التي كانت غارقة هنالك.
إلى أين أنا أمضي هكذا، مثل جنازة ضائعة في الصحراء؟
الطقس المتقلب اليوم يجعل ذهني يتأرجح بين النور والظلام، كما السماء المترنحة بين الإشراق وزخات الأمطار المفاجئة، التي لا أعرف من أين تأتي ولا إلى أين تذهب . روح الإنسان تتفاعل مع ضوء السماء ومع نور الطبيعة. حينما تعتم الشمس، تعتم روحي كذلك. وحينما يكون هنالك إقمار في الليل، يحدث إقمار آخر داخلي.
هكذا هو الأمر إذن، النظام هو حركة الفوضى، والفوضى هي مآل النظام. كل الأشياء تجري نحو الأمام، وكأنها تبحث عن انتظامات ممكنة، أو انهيارات محتومة.
الورود، ابتسامات الأرض سرعان ما يطالها التحلل، الأنهار والجداول تجري هي كذلك نحو ضفاف لا مرئية، أنفاسي بدورها تسبقني نحو الغد. رمال كل شيء رمال، ما الذي سيتبقى في النهاية غير هذه الصحراء الكونية حيث لا شيء يمكنه أن يترك أثرا؟ نعم الحقيقة هي اللاأثر، الشواش، التحلل الجميل لكل ما هو جميل.
لقد أحببت أنا أيضا تلك البيضة الأورجوانية التي تعود لطائر أزرق من الجنة، لكنني الآن وحيد، أخطو في زبد البحر، وأتنفس عبق الريح، أفكر في لا أحد ولا أحد يفكر في. هذا هو قدر الحب، كل عاشق ولهان، يبدأ كملاك بأجنحة وارفة، وينتهي كدودة تحت القمر.
كلا، أفكر فيك أنت يا صغيرتي، آه اسمعيني أيتها الإنسانية، أرجوك يا صديقتي لو أمكنني أن أقول بصدق ما الذي سيكون عليه العالم في الألفية الثالثة. الريح ستصير رمالا، والرمال ستصبح رذاذا من نار، المعرفة برمتها لن تكون سوى مجرد ملاحظة عابرة في صحراء الحقيقة، أما الحب فهو الخدر الذي شعرنا به من وخز الحياة.
لماذا كان ينبغي أن تبتسم الأرض، أن تحلم، وأن تحب هي أيضا؟ لماذا كان على الغروب أن يكون جميلا؟ على الحب أن يكون وارفا؟ لماذا على الحقيقة أن تكون واعدة؟ هل كان كل هذا يستحق العناء؟ أيتها الإنسانية الهائمة في طرقات السماء. لقد أمعنت التفكير في كل شيء حتى في البراغيث والهوامات، وعقدت الآمال على كل شيء، على الألم والموسيقى، على البهجة والغموض، السياسة والضوضاء، الفلسفة والطفولة، الدين والحسرة، العلم والفرص الممكنة ... ولكن ما الذي تبقى لك الآن غير الصدى الحزين لتلك الحفلة الكتومة التي اسمها الحياة؟
هل هنالك أحد ما في الأفق؟ أي نهر غامض يجري تحت وسادتي؟ أية ملائكة أخرى ستسقط من السماء؟ الشيء الوحيد الذي نعرفه هو أن ما حققناه ضاع في النسيان، انهار داخل فوضى الحياة، أما ما لم نحققه فهو ينتظرنا هنالك في جمال اللحظة. ما من قول يمكن أن ينهي التفكير في هذا الأمر. لتكن صلاة إذن بدون كلمات، للإله الصامت هناك، للإنسانية المرتجفة، للصحاري القادمة. آه أيتها الإنسانية، يا أختي الفانية! ضجيج الواقع لا يحتمل، وحده صمت المقابر يعلمنا معنى الحياة.
الفصل السابع
الروح الثالثة
الشر القادم في الجهات الأربع، الشر الجميل يتقاطر ها هنا. الآن يولد آدم الثاني، البشر الجدد الآتون من وراء مجد الفولاذ. يتغير لون الحليب ويصير كالشمع. أسقط في الصمت، أسقط في المدى الواسع للصمت. ما يخيفني الآن ليس الموت بل رفض الموت. أريد أن أطرق الباب الذي لم يطرقه أحد، أن أتحدث اللغة التي لم تسمعها أذن بعد، لغة القرزبيل
1
فوق الحور الأبيض. أن أسترق السمع لما يقال في الجحيم. تعرفون هذا، الشعر هو لغة الملائكة، والشاعر هو ملاك الجحيم.
ماذا توشوشين أيتها الريح في أذني، هل أقول هذا أيضا؟ النسر الإمبراطوري لن يحلق مجددا فوق مدينة التلال السبع،
2
هذا صنيعكم وليس صنيعي، ولكنه المآل الحزين للروح. الإنسانية الآن بدون نبض، بدون رعشة أو قلق. يقلق البحر ولا نقلق نحن، تحزن الريح ولا نحزن نحن. حجر يتأمل الحجر، تمضي الإنسانية فوق الحديد إلى الأرض التي لم يعد بها إله من قبل.
لماذا لا أقبل ضعفي وأستكين مع الراوند في الحقول والسهول؟ أن أسير مع الشيهم، تحت أشجار القيقب والتنوب.
الفكر هو الأفق، والشعر هو أفق الأفق، كيف يمكنني أن أحسب هذا أيضا داخل أرقام ومعادلات؟ كيف يمكنني أن أعترض على شروق الشمس، وعلى حلول الظلام، وهل بإمكاني أن أقول لا لغرابة السمندل أو وداعة فرس النبي. هكذا هو الأمر؛ لأنه هكذا هو الأمر. الإنسان الذي لا يشقى ولا يتألم، البعيد عن الحيرة والغموض هل يمكن أن يظل إنسانا؟
الأشباه في كل مكان، الحياة مشطورة اليوم بين شهقة الورد وزفير الحديد.
كلا لم أشرب من هذه الطنابير المحملة برزايا المادة، كلا لم أدخل بئر التجارب التي لا تطلع بحسنات أفضل، ولكنني أرفعك، أنت يا نخب العالم القديم، يا يوم مولدي وزهرة آلامي الدائمة، للذين يكتبون أناشيد الموت القادمة، جالسين تحت راية العقاب الأكبر، والذين يستقبلون رسائل العالم الآخر، تحت سنوات أشد سوادا من ساعة الصفر الكونية، لا الماضي يمضي، ولا الحاضر يحضر، وحده المستقبل يولد في أحشاء الآلات. والروح نفسها محشورة في رقائق السيليكون، بينما الموت يصفر في كبد النهار.
إنها مناخس قديمة كانت بسبب مبدأ عدم التناقض، والرغبة في منع الصدفة من اعتلاء المنصة. كل الأشياء فقيرة ومتغايرة، لكنها صارمة في تركيزها ومثابرتها. البحر بسيط لكنه لغز في حد ذاته، الريح بسيطة وفقيرة لكنها لا تسقط ثوبها. تحقق الطبيعة كمالها فرحة بالنقص الدائم في الزمان.
الفصل الثامن
ماذا لو
التفكير محنة كبيرة.
عندما أنظر في قدر الإنسان وفيما بعد الإنسان.
أصير مثل ذئب يعوي تحت القمر.
يمكنني أيضا أن أرقص، في مدينة المليون حلم
1
على أنغام ريح لطيفة طيبة، أدور وأتمايل كموشور يخترقه الضوء، الفراشات ترتوي من دموعي، والحمام يلقط الحب تحت قدمي. ما الذي أدركه أو أملكه الآن؟ لا ذاتي ولا العالم، ولا ذاتي في العالم، ولا العالم في ذاتي. أنا كتلة من عدم الفهم البشري. أكبر مجهول بالنسبة لي هو ما يظن الناس أنهم يعرفونه حق المعرفة. الناس مثلا يفرقون بين الجامد والحي، بينما الأمر يختلط علي، إذ ما من جامد، يبدو لي كل شيء حي. أعظم حكمة عندي هي القدرة على تأمل الحياة فيما هو ميت، والموت فيما هو حي. الآخرون أيضا يظنون أنهم يعرفون ذواتهم، ولكن أية غرابة أكبر من أن نحمل هذه الروح، كيف يمكن أن نضع البحر في جرة؟ ثم إن الناس يرون أنهم أسياد ها هنا. في نظري من هذا الذي يستطيع أن يدعي أنه مقيم؟ كلنا مشردون عابرون في هجير الحياة. جئنا لكي نذهب من جديد. تبدو الحيوانات أسعد حظا منا، على الأقل هي كائنات خلقت من أجل العيش في الطبيعة، أما الإنسان فهو كائن غريب عنها، يظهر كما لو أنه ليس في موطنه الحقيقي. إن الإنسان يعيش في الطبيعة، ولكن بطريقة غير طبيعية تماما. لم يخلق الإنسان لكي يكون إنسانا، وإنما هو الذي يقرر ذلك.
ماذا تطلب مني أن أبوح به أكثر من هذا؟ أنت تعرف أيضا أن كل ما هو جميل سيصبح يوما ما بشعا ومخيفا. كل ما هو جميل سيبتلعه يوما ما جوف العدم.
ولكنها مسألة معروفة يا صديقي، وقد تعلمنا عبر مر الزمان كيف نتحايل عليها. الحضارة برمتها ما هي إلا التفاف على الحقيقة التي ترميها السماء أمام وجوهنا وهي الموت. الكتابة أيضا تحايل على الزمان، نحن نفكر ونكتب حتى ننسى أننا كائنات فانية، نفعل ذلك كي نصنع الخلود لأنفسنا ولو كان عابرا. نبني الحضارة، نخترع ونفكر، ونقول الشعر لأننا نريد أن نختبئ من حقيقة الموت، إذ أي لج آخر يمكن أن نغمد فيه أرواحنا؟
ولكن، يا أشعث الرأس أيها المسكين الذي يعتقد أنه من خلال إدراك حقيقة الموت، يمكن أن يدرك حقيقة الحياة. استقم الآن في جلستك؛ لأن ما سأقوله لك قد لا تقوى على حمله العظام اللينة لجمجمتك. المشكلة برمتها تتلخص في كلمتين: ماذا لو، ماذا لو تمكن الإنسان في يوم من الأيام من إدراك الخلود، سواء بمساعدة العلم، أو في حياة أخرى بتدخل المشيئة الإلهية؟ هل سنعتبر أن كل معاناة الجنس البشري ستنتهي، بالخلود الأرضي الذي يعدنا به العلم، أو بالخلود السماوي الذي يبشرنا به الله؟
عليك أن تعرف أن النعم لا تعطانا إلا في المر، سواء في هذه الحياة أو في حياة أخرى. لن نكون حكماء دون معرفة هذا الأمر، كل من عبر هذا الدرب يعرف هذا، فلماذا البكاء على اللانهاية؟ العصور معادن يا أختاه! هناك العصر البرونزي، والعصر الحديدي، والعصر الذهبي ... أما عصرنا هذا فهو الوحيد الذي لا يوجد معدن خاص به يميزه؛ لذلك ندعوه عصر الفراغ، وإذا أمكنني أن أختار له مادة أخرى يعرف بها؛ فسأقول عصر القار والإسمنت. البشرية تستحم وسط قفار الروح، بينما غيوم الله تسافر كدمامل في السماء، والأرض المثقلة بالأحزان، تواصل عرجاء دورانها الواسع حول اللانهاية. أنا مع ما يقال ومع ما لا يقال، فوق الماء وتحت السماء. مع ما يرى ومع ما لا يرى، لعين البشرية الواهنة. مع ما يدرك، ومع ما لا يدرك لعقل الإنسان الذي يشبه عقل قرد فوق القمر.
كيف يمكن أن يكون ما يستبعدك هو ما ينقدك؟ اسمع صوت هذا العواء القادم من وراء الجبال، اسمع للسماء وهي تتجهم بحدقتها الواسعة، للبحر الغاضب وهو يضرب قبضته على الشاطئ. يا أختاه! نحن غرقى الليل، إخوة القدر، سكارى النور، ولدنا في سرير الظلام، أطفال النجمة السابعة. انظر، انظر عميقا في الأفق سترى ملائكة سودا يرتدون ثيابا من سخام، ويحملون اللوح الأخير لقباب السماء.
ماذا يوجد فوق رءوس البشر غير الأسرار؟ الدودة الفضية داخل الهياتم تعرف أنه ليس عليها أن تطير حتى تسقط في الهاوية. هل ستتبعني وراء استعاراتي؟ أنت الذي عشت طوال حياتك تخاف من الواقع ومن الحلم معا، ستجد نفسك في هذا اللج المظلم للملح الأسود. فعندما يحكم الأموات الأحياء، كل ما يتبقى لهؤلاء فعله هو تسريع موتهم؛ كي يلتحقوا بملكوت أسيادهم. ولكنني لن أستسلم أو أطأطئ الرأس سوى لليراع في يدي. ماذا تفضلون؟ أن تكونوا ظلالا للجبال السامقة، أم صخرة في المنحدر؟
أنت تعتقد إذن أنك ستتخلص من شرطك الإنساني، وستقبض الثمن الإلهي على آلامك ومعاناتك هناك في العليين، وأننا سنتعرف على أنفسنا بطريقة أفضل ولربما يكون سر الوجود برمته قد انجلى أمام ناظرينا. اسمح لي أن أذكرك بذلك السؤال المرعب: ماذا لو؟ ماذا لو قام الإنسان مثلا بخطيئة أخرى أفظع من الأولى؟ الجنة هي الوجود بلا خطيئة، ولكن هل هذا ممكن، ماذا يوجد فيما وراء هذه الحقيقة؟ هذه هي المهمة التي لا تنتهي، هذا هو شرك الوجود وفخه، لقد سبق أن جربنا هذا الأمر؛ إذ إن قلب الإنسان مليء بالضلال، إنه شيء نعرفه جميعا. انظر حتى الحيوانات لا تعرف هذا الضلال، الذئاب مثلا طيبة مع بعضها البعض، وحده الإنسان الذي يمكن أن يكون ذئبا حتى للذئب، وليس فقط لأخيه الإنسان كما قيل.
ماذا لو في هذه اللحظة بالضبط اصطدم أبو فيس
2
بالكرة الأرضية، وأحدث دمارا هائلا؟ أو ظهر نيميسيس
3
الجبار، وأدى إلى جعل المياه تغلي في أعماق الآبار؟ ماذا لو في هذه اللحظة انفجر عرق في رأسي، أو توقف نبض قلبي؟ ما المانع في أن يحدث هذا لي وقد حدث مرارا لغيري؟ ماذا لو تحرك ذلك المؤشر الخفي الذي يربطني بأناي العميقة، فلم أعد أتعرف على نفسي، ثم أخذت أجري في كل الاتجاهات، وأنا ألطم خدي عساي أستعيد أناي؟ من يضمن لي أن غدا ستشرق الشمس، وأن أساسات بيتي ستظل قائمة في مكانها؟ وماذا لو ظهر فيروس قميء صغير وقفت البشرية عاجزة أمامه؟ أو تراجع القمر إلى الوراء واختفى نهائيا من ليالينا،
4
هل سيبقى هنالك من ضريح يحج إليه الشعراء؟
الحياة شبيهة ببيت عنكبوت، مشدود إلى خيطين رفيعين، هما الرعب والرجاء.
أختاه!
هذا هو منتهى ما يمكن أن يقال أو يدرك. باطل هذا الليل، وباطلة هذه المدينة تحت صفرة الحديد، طبول قادمة من بعيد، طبول تدق لحنا منفردا، بدأت البشرية بالبراءة وستنتهي بالبراءة. بكائيات فوق المنحدر وفي الزوايا الخفية حيث يتقاطع الرمل مع الماء. هنالك نموت، وفي اليد تذبل الزهرة نموت، كما لو كنا أجنة بلا أرحام نموت. هكذا إذن يا ألمي الإنجازات العظيمة ستظل بدون إنجاز.
الفصل التاسع
لغة البدء
بدأ الكون بالصمت وسينتهي بالصمت. ما جدوى الكلام إذن؟
هل هو كابوس وسط حلم، أم حلم وسط كابوس؟ كيف يمكن للإنسان أن يحلم نفس الحلم على مر الزمان؟ منذ طفولتي وإلى الآن، أرى نفسي وقد انقلب بي السرير؛ كي أغوص في عمق لا قرار له، حيث لا شيء يمكن أن أتشبث به أو أمسكه، مجرد سقوط على شكل تحليق، أو تحليق على شكل سقوط. شكل من أشكال السفر خارج الزمان والمكان. لقد نمت في الحياة، واستيقظت في الحلم.
كلا، الأمر لا يتعلق لا بكرامات ولا بمعجزات، لم أسر فوق ماء، ولم تكلمني أية حوريات، بل بحقيقة أكثر حقيقة من الواقع ومن المحسوس. نعم هذا هو ما حدث بالفعل، أردت أن أتكلم، لكنني وجدت نفسي فقدت تحكمي في اللغة، الكلمات تخرج بشكل حر، وكأنها تعلن عن وجودها وميلادها الخاص. كلما أردت النطق بكلمة تخرج كلمة أخرى. ما هذا الذي يحدث، أي ورطة جديدة أوقعت نفسي فيها؟
ولكن ما حاجتي لهذه اللغة؟ فأنا على أي حال لن أموت بدونها. الكلمة تحجب حقيقة الشيء، الكلمة هي جدار بيننا وبين حقيقة العالم. الطيور فوق الأشجار موجودة منذ الأزل، وهي تنشد دون كلمات، وكذلك غناء الحيتان، ومواء القطط. ولكن هل هذه الحيوانات واعية بذاتها؟ هل تعبر عن ذاتها من خلال ما تصدره من أصوات؟ ومن أدراني أنا ربما تملك وعيا خاصا بها، وعيا غير بشري.
ثم بدأت أدرك أنني أتحدث عن أشياء غير موجودة، فحدود اللغة تتجاوز حدود الكون، هذا هو مكر اللغة، ما أقوله أقوله دائما بلساني، ولكن في لغة أخرى. كل كلام هو هروب نحو الأمام، نحو لغة مفقودة ومعنى غائب. أصبت بسيلان لغوي، لا أتحكم في أي شيء، بالكاد أراقب شهيقي وزفيري.
هل يمكن للغة أن تقول كل شيء؟ الجواب على ما أعتقد هو لا، ولكن مع ذلك هذه هي المهمة المستحيلة للشاعر، إنه يصارع طيلة حياته من أجل تطويع الكلمات؛ كي يتمكن من قول كل شيء. البعض يقضي في منتصف الطريق وله شرف المحاولة، البعض الآخر يذهب بعيدا في الأمر ويستمر بعناد، ولكن دون جدوى. أما القلة الباقية وهي معدودة على رءوس الأصابع، فهي تلامس هذا الكل، أو على الأقل تقترب وتشير إليه، ولكنها تفعل ذلك بعد أن تكون كل الكلمات قد نفدت منها، ولم يتبق لها إلا الصمت.
وماذا لو كنت مثل سليمان أعرف لغة الطير وغمغمة الحيتان؟ قد تكون كل مهمة الفكر هي كشف الحجاب عن هذه اللغة البدئية التي تتحدث بها الطبيعة، اللغة السابقة على اللغة. يقال إن كل الحيوانات ستتمكن من الكلام في الجنة، سنعيش جميعا نفس الإحساس بالحياة، نفس الوعي الكوني للولادة في النور. ترى ما الذي يمكن أن تكونه لغة الجنة هاته؟ كلام الماء والهواء. ولكن الآن في هذه القاعة الفسيحة، قاعة الانتظار التي اسمها الحياة، هناك صيرورة من الألم تسري على كل الحيوانات، جانب ميت من الحياة التي تعيشها. لكم هي مسكينة هذه الكائنات، يظهر كما لو أنها مسخت وحرمت من القدرة على الكلام. لا ينبغي أن نقول إنها لا تتكلم، وإنما الصحيح هو أنها تعاني من الحبسة في النطق
L’aphasie . سأظل إذن أتكلم إلى أن تنفد الكلمات، وعندها سأتابع بزقزقة الطيور، وهي ترحل مع الريح. سأفكر إلى أن يتوقف الفكر تماما، فأواصل بنقيق الضفادع في ليالي الشتاء العميق، أو أكتفي بتأمل العالم كسحلية كبيرة، تقف فوق رمال المستحيلات.
الفصل العاشر
الجنة
ما أكتبه ليس إلا مجرد طيف لما أفكر فيه.
ما أفكر فيه انعكاس بعيد لحلم عميق يستحيل تذكره.
التفكير الحقيقي لا بد أن يكون نوعا من البوح، شيء ما تقوله بخجل وإذلال ميتافيزيقي في الشفق الداخلي للروح، كأنه اعتراف من الذات تجاه نفسها قبل أن يكون تجاه الآخرين. أفكر بطريقة لا منطقية، لكنها مع ذلك ليست مضادة للمنطق، أفكر فيما يوجد قبل الفكر. أحب كذلك بإحساس سابق على العاطفة في النقطة التي يختلط فيها الشجن مع الحزن. دائما أدفع فيالق الكلمات كي تعبر فوق الجسور الخشبية المعلقة عاليا، على امتداد جزيرتين غير منظورتين. وأنا في كل هذا، مثل من يعيش بين صرختين، مشدود لما يوجد قبل البداية، منجذب لما تخفيه النهاية.
اليوم تحت الشجرة المباركة التي لم تطرح هذه السنة إلا بضع زيتونات معدودات، نزل علي ذلك الإلهام المفاجئ، كوحي بدون كلام فقط برغبة مأزومة في تجاوز حدود الذكاء الذي يفرضه علينا العقل. ذلك أن العقل على ما يبدو لي، يمكن أن يصبح أحيانا حاجزا أمام الحقيقة.
كان هناك بعض الحمام يطير ويحط فوق الأشجار، حمام وديع كوداعة هذه اللحظة الباردة. الحمام هو روح الأرض ورغبتها في البوح، كل الهديل الذي تصدره ما هو إلا تعبير عن أحاسيس تختفي وراءها أفكار ما. ثمة حمامة تقترب من قدمي غير عابئة بي باعتباري إنسانا، ربما نظرت إلي كما لو أنني حمامة من نوع آخر، أو شجرة. تعمدت أن أبقى هادئا حتى لا أزعجها، هذه الحمامة المسكينة التي بعد أن تمضي أيامها المعدودة على الأرض ستذهب إلى الجنة؛ إذ لا يوجد مكان آخر يليق بهذه الكائنات الوديعة غير الفردوس. ثم كيف يمكن أن تكون الجنة جنة بدون حمام؟ قد أتفهم وضع الفئران والأفاعي، بل وحتى التماسيح والذئاب، فما الذي يمكن أن يفعله الفأر في الجنة سوى أن يفسد علي سعادتي؟
فصاحتي اللغوية تخونني في مثل هذه الأمور الدقيقة، ولكن على ما يظهر لي: مصير كل الكائنات واضح؛ الحمام في الجنة، والفئران في جهنم.
أم أنكم تعتقدون العكس، هل يمكن أن تكون هناك فئران طيبة، سيغفر الله لها، وحمام خبيث يرسله إلى النار؟
لو كان الأمر يعود لي لرغبت في عدم معاناة كل الكائنات، حتى العناكب الذئبية التي أرتعب من مجرد رؤيتها. لم لا أفكر في جنة خاصة بالغوريلات؟ ربما يكون هنالك حل، العوالم كثيرة كما تقول نظرية تعدد العوالم. ومرة بين الفينة والأخرى، بعد أن يصيبنا السأم من جنتنا نذهب لزيارة جنة القطط من باب الترويح عن النفس؛ إذ لا يمكن أن نكون سعداء في الجنة إلا إذا كنا أحرارا، والحرية الأولى تكمن في البحث عما يوجد وراء الجنة.
ليست هناك نهاية للصيرورة حتى في العالم الآخر، هذا شيء جربه آدم جيدا. الآن يفكر بنو الإنسان في الفردوس باعتباره لغز الوجود، لكن غدا عندما سنبعث هناك - إذا شاءت الأقدار ذلك - سنكتشف أن اللغز الأكبر كان هو هذه الحياة التي عشناها.
لن أفتقد مطلقا الذباب والصراصير، ولن أطالب بزيارة جنتها؛ فهذه الكائنات تزعجني بشكل شخصي، ولكنني سأصاب بأسى كبير إن لم تضم الجنة قطبا ثلجيا تتزحلق فوقه طيور البطريق، وتسبح على ضفافه الدلافين. الأكثرية في هذه الحياة تعيش كما لو أنها تقوم بإنجاز واجب مدرسي، القليل من الناس من يعرف حقا أن الحياة تنزع منا الحياة، إنها حاجز بيننا وبين أنفسنا. لي الحق في الهذيان وفي الحلم. المشكلة الكبرى بالنسبة لي هي بماذا يمكن أن يحلم الإنسان عندما سيكون في الجنة؟
الفصل الحادي عشر
الفصل الخامس
هل يمكن للأشجار أن تعيش بلا طيور، هل يمكن للطيور أن تحلق بلا سماء؟ ما بال الإنسان إذن، هل يمكنه أن يكون إنسانا دون سفينة تحمله للبحار البعيدة، دون شراع يغرق به في الليل، أو مطر يبلل شفتيه؟
وإذا زالت الأشجار وأقفرت السماء من الطيور، يفقد الليل غموضه وتصبح الحياة كالهجيرة، هل يمكن للإنسان أن يتحمل الرياح الشاحبة والأسماك العليلة؟ الجدار يقترب يوما عن يوم، فارغا من أي إحساس يرتفع الماء الذي لم يعد ماء. أركض، كما لو كنت شيخا حكيما من قبيلة الدوغون،
1
باحثا عن الهواء البارد خلف الصخرة الباردة، عن النجم المنسي وراء الكوكب الدوار، بينما السماء تقطر صديدا وسخاما، عارية تماما، عارية من كل أغطيتها. هل أضحك أم أبكي على سيرك الحياة هذا؟ وراء كل هذه الجلبة التي دامت آلاف السنين، لكنها انتهت عند النفير الثالث.
في نهايتك نهايتي أيها الثعلب الطيار
2
على الطريق. لو كان لي أن أعتذر للورد عن رعونتي، وللفراشات عن خيانتي، وأن أركع جاثيا سبع مرات فوق العشب للوعول والخيول، هل كنت لأكفر عن كل ذلك وأصير مع الطيبين. أسير جنبا إلى جنب مع قرود المكاك وضفادع المستنقعات الطينية، نغني جميعا للشمس، متجهمين للفصل الخامس، جميعا كما لو كنا عائلة واحدة، تجمعنا نفس القرابة الدموية. رحلة الكائنات في نهر الحياة.
سامحينا أيتها الأفعى المجلجلة، وأنت، يا ابن العم أيها الحوت الأزرق في البحار المنسية، الآن فقط نحلم حلمك. وأنت أيتها الزرافة يا أمنا البعيدة أقبل جبهتك المقدسة، أقبل جباهكم كلكم، يا صنيع الله فوق البسيطة. لا أعرف هل كان خطأ الرياضيات المتعجرفة، أم الولادة العسيرة لصخب الحديد؟ الآن يرتفع صرير الليل، نقف صامتين هنالك نرقب الفجر وهو يتثاءب فوق الأرض القديمة الشائخة. آه، أيتها الأرض أنت لست ملكا لنا ولكننا لا نعلم ذلك، الخيول الجامحة تحت المطر ليست ملكا لنا، ولكننا أيضا لا نعلم. الإنسانية برمتها شبيهة بقرية نمل في كومة تراب سرعان ما تعلوها حشائش الزمان.
الفصل الثاني عشر
الصراخ
أستغرب دائما من هذا الكائن العجيب الذي اسمه اللغة، هذا الكون اللانهائي في الكون اللانهائي، كيف وجدت هذه اللغة؟ وكيف تطورت حتى أصبحت ما هي عليه الآن؟!
يسبح بي خيالي بعيدا وراء السحب الكثيفة لما وراء التاريخ، إلى هؤلاء الأسلاف الذين انحدرنا منهم، كيف كانوا يتواصلون ويتكلمون مع بعضهم البعض؟ بدون شك إنهم كانوا يصرخون ويضربون صدورهم كما تفعل القردة، يا للمأساة لو كان علينا أن نفعل مثلهم اليوم، يا للألم والحسرة إذا كان علي أن ألطم رأسي مرارا وتكرارا، كما يفعل الطفل الصغير الذي لم يتعلم الكلام بعد، حتى أعبر عن رغبة ما أو عن فكرة باطنية.
كيف يمكننني مثلا أن أعبر عن الحب أو الإعجاب؟ هل سأعلق نفسي في شجرة وأظل هناك متدليا منها كغصن منكسر الليل كله؟! أم أسبح في اليم بعيدا إلى أن أختفي وأعانق الأفق؟
والقرف والملل، كيف يمكنني أن أقوله هو أيضا بدون لغة، هل أشق الشريان السباتي، أم أقف عاريا كما ولدتني أمي وسط عيد غفير بالناس. ما السبيل للتفكير في الحرية والتعبير عنها في غياب اللغة؟ قد لا تكون لي طريقة أخرى سوى أن أصنع لنفسي كوخا في البرية، وأكتفي بمطاردة الوحيش، حاملا هراوة غليظة أو حجارة مسنونة.
يبدو كما لو أن اللغة نعمة، أو نور نزل من السماء، ولماذا الاستغراب؟ كل الأنوار تنزل من السماء. ليس للغة بداية أو نهاية وكذلك السماء. يجب على الإنسان أن يتكلم ويتكلم باستمرار؛ حتى لا ينطفئ هذا النور داخله، كمثل ذلك الذي يريد أن يحافظ على جذوة نار مشتعلة، عليه أن يذكيها دائما بالمزيد من الحطب.
هذه هي اللغة، لهب يشتعل في صدورنا. هكذا هي المسألة في مجملها، خلقت اللغة من النور، والأفكار من الهواء - رءوسنا دائما معلقة هناك في السحب - أما المشاعر والعواطف فهي الماء الذي يجري بينهما.
نحن نتكلم حتى لا نصرخ، ولا نلطم صدورنا ورءوسنا، ولكن في العمق اللغة هي كذلك صرخة، الصرخة ذاتها التي كان يطلقها أسلافنا في الليل البهيم للبشرية، نحن ما زلنا بدورنا نصرخ، وإن كان بطريقة أخرى، نصرخ بواسطة اللغة، نستغيث وننادي الأعماق بالكلمات.
يا إلهي، الآن عرفت ما هذا الشيء الذي ندعوه باللغة، الكلمات صرخات والجمل أنين، الكلام جذوة مشتعلة بين الأضلع الاثنى عشر. اللغة صرخة مديدة عبر الزمان المديد.
الفصل الثالث عشر
السرد الكبير
هناك شعور لا زمني طوال حياتي، لم أعرف بتاتا كيف أصفه، ولا كيف أسميه. أنا مثل «حوام السهول»
1
الذي لا يستطيع أن يرى الطريدة إلا إذا رأى المشهد الطبيعي ككل، لا أستطيع أن أجزئ، أو أفصل الأشياء عن بعضها البعض، الحياة بالنسبة لي حساء من المكونات غير المتمايزة والمترابطة بخيوط عنكبوتية من الصعب تبينها، كل مكونات الحياة ما هي إلا أخلاط.
أنا من هذه الناحية فاشل على المستوى الكانطي، ما دمت غير قادر على وضع أي حدود بين الخطابات والكيانات. كيف يمكنني أن أرى النجوم دون أن أرى السماء والليل والبحر والأبدية جنبا إلى جنب؟ كيف يمكنني أن أدرك نفسي دون أن أدرك الناس الآخرين الذين أعرفهم، والذين لا أعرفهم إلى أن أصل إلى حدود البشرية وما وراء حدود البشرية؟
كل مكونات العالم موضوعة في سلسلة لا نهائية من الترابطات، الحياة عبارة عن سرد كبير، وإذا كان هناك من قلق فلسفي؛ فلن يكون سوى إدراك طبيعة هذه الكلية السردية، تقديم وصفة شاملة لهذا الحساء في مجمله.
الآن وأنا في منتصف العمر أو يزيد، أعتبر أن مجمل الحكمة التي تعلمتها طوال هذه السنين، هي أن الحياة يمكن التعبير عنها على شكل اختلاط معمم للأشياء، تجاور كلي للمعارف. كنت دائما أحلم بكتابة متون يصعب على الآخرين تصنيفها؛ لأن في داخلها يتحرك هذا الحساء المكون من العلم والفلسفة والدين وباقي الفنون والمعارف الأخرى. في هذه الحدود التي تلتقي فيها الحكمة مع الدين، والجمال مع العلم، والموسيقى مع الصمت، والفنون التشكيلية مع كينونة الضوء.
لا أعرف بالضبط ماذا يمكن أن أسمي هذا النص الخارق، المتن الذي «يبرشم»
2
كل المعارف الإنسانية. أعرف، قد يقول البعض أن هذا هو الحلم القديم بالكلية والمطلق، نعم، قد تكون الحياة كلية ولكنها كلية لا نهائية، فمن هذا الذي بإمكانه أن يدعي القدرة على وضع خاتمة لهذا السرد العجيب؟!
لدي شعور بأن الانحطاط الحضاري بدأ مع ميلاد التخصصات، لدينا اليوم متخصصون في كل شيء بدءا من النجوم النيوترونية وإلى غاية الكلاب السلوقية، وإذا كان لديك مأتم هناك متخصصون حتى في البكاء والعويل، وآخرون يقفون على أبواب المحاكم متخصصون في شهادات الزور، جاهزون للعمل متى طلبهم أحدهم.
هكذا لدينا اليوم مزق من المعرفة، أما المعرفة ذاتها فقد ضاعت، مزق من الحياة، أما كلية الحياة فقد تبخرت، لدينا السنوات التي تمضي وليس الزمان، لدينا فيض هائل في المعلومات وليس الحقيقة، تراكم كبير في خطابات الحب، وليس الحب ذاته.
لطالما حلمت بهذا الطرس المعرفي، طرس الحياة أريد أن أضرب ابن عربي كمعامل أسي في معادلة شروندنغر، وأن أستخرج الدوران المغزلي للمادة من رقائق مولانا جلال الدين الرومي، أن أسرد المطلق الهيجيلي على طريقة ألف ليلة وليلة، أن أحلم مستيقظا وأمشي جالسا، أن أكون عالما ومتصوفا، فيلسوفا وشاعرا، نبيا ومجنونا.
الفصل الرابع عشر
الشك المنهجي
الشك المنهجي لطالما بدت لي هذه واحدة من أكبر تناقضات العقلانية الديكارتية، كيف يمكنني أن أشك وأكون منهجيا ومنظما؟ كيف أشك وأظل عقلانيا؟ جربت هذا مرارا، لكنني وجدت أن الشك والمنهج لا يجتمعان لدي، كما لو أنه بفعل التفكير يمكنني أن أسيطر على الشك. أنا على العكس ما فكرت أو شككت إلا وأجد نفسي هائما في صحراء ليلية بدون نجوم. الشك هو معاناة روحية، قبل أن يكون قضية ذهنية معرفية .
أقصد أن التفكير المتولد عن الشك لا يربطني بوجودي الخاص، بل يدفعني بعيدا عن هذا الوجود الضيق والمحدود الذي أمثله. أصير مثل «مالك الحزين» في غابة خريفية كثيفة الأشجار، أو مثل سمكة انحصرت عنها مياه البحر وظلت حبيسة بركة صغيرة. لا أشك أو أفكر إلا وأكتشف المأساة، مأساة فكري، مأساة الفكر الذي لا يريد أن ينفذ إلى الحياة، حياتي أنا ووجودي أنا.
أن أشك بطريقة منهجية، يا للهول! كيف سأصبح إن حققت هذا الفعل، بل كيف سيكون عليه حالنا جميعا إن كنا نفكر ونشك بنفس الطريقة. السيبورغ نفسه قد يرفض ذلك ما دام فيه بقية من إنسانية.
كما لو يطلب مني مثلا أن أحب بطريقة منهجية، أو أحلم باتباع قواعد مضبوطة، الشيء الوحيد الذي يمكن أن أقوم به بطريقة منهجية في هذه الحياة هو التثاؤب بانتظام قبل الذهاب إلى النوم.
الفصل الخامس عشر
من كوكب آخر
هنالك ثلاثة أقمار تحيط بي: الحرية، والشعر، والحكمة، أما الشمس التي تنير نهاراتي فهي الروحانية. الروحانية القلقة والمتوترة، فليكن الله في عوني، أنا مثل أشجار تحلم بالطيور، مثل مطر يبحث عن ريشة فنان، الاستعارة التي لم تعثر بعد على الكلمات المناسبة. آه لو كنت إسبانيا لكنت الناي الغامض في الخريف الناعس. ولو كنت فرنسيا لفضلت أن أكون عطرا، أو حتى نظرية فلسفية على ناصية الشارع. أما لو كنت اسكندينافيا فحتما سأكون قلبا دافئا يعطف على سمكة الحب قرب مدفأة مفتوحة على الشاطئ.
وأخيرا لو كنت مغربيا؛ لصرت الشحوب الذي يعلو قطعة الأثاث العتيقة، الاخضرار فوق آنية النحاس، المهد الذي تربى فيه كل أطفال الحي، وها هو يباع من جديد في دكان الخرداوات، آلة الخياطة القديمة التي تملكها أرملة ضاع زوجها في الصحراء.
لكن مع ذلك أعتقد أنني أمير ياباني أو بنغالي من سلالة منقرضة كانت تعمل في الخيمياء، والسفر عبر الزمان. كم من ميتة متها، وكم من حياة عشتها؟
هكذا أنا الحزن المسافر إلى بلدان الله البعيدة.
الصفير الأخير لعصفور يحتضر.
الحلم الذي لا سرير له.
الشمس الضائعة في القفار المجهولة.
غير أنه من المحتمل ألا أكون من هذا الكوكب، بل من كوكب آخر يوجد بين النجوم البعيدة للمرأة المسلسلة. هنالك حيث لا توجد يابسة، بل فقط بحر واحد ممتد على مدى البصر، من كنت حينما لم أكن، في كوكب الغيوم الذي يحلم بالحياة القادمة إليه. هناك الكثير من الإمكانات؛ كي أكون على غير ما أنا عليه، الحرية هي جوهري الوحيد. أضحك إذ أحزن، وأبكي عندما يفرح الآخرون.
تعالي إذن، يا أختاه، نركب فوق الحصان المجنح، إنني مجرد إغفاءة للضرورة.
تعالي نجرب الحياة خارج الزمان، خارج المرئي وخارج المكان.
تعالي نغط أنفسنا بأوراق الشجر، ونجر مع الريح.
تعال أيها الإنسان الصغير، ألق نظرة على هذه المدن الفارغة، وجع الريح خلف الأبواب الموصدة.
آه! يا إلهي لكم أحببت الأموات الذين مضوا، والفانين الذين ما زالوا ينتظرون.
نعم، جملة طويلة تضم كل الحروف وتقال بنفس واحد، هذا بالضبط هو ما أفكر فيه كوصية لي في اللحظات الأخيرة.
الفصل السادس عشر
كتاب
الأرض تدور حول الشمس.
الشمس تدور حول المجرة.
المجرة بدورها تدور حول الله.
أما الله فهو يدور حول اللانهاية.
أنا أفكر في اللانهاية، أسكن قبو الحياة، وأدور مع هذا الكوكب التعيس.
في لا مركز ألف من السماوات، وألف من الشموس المضيئة.
آه أيتها الإحساسات الكبرى، أيها الشعور العظيم، يا ألق الذات في عيد الحياة، أيها الفهم الذي لن أدركه، والحب الذي لن أعيشه. لقد نظرت دائما إلى الحياة كمثل تلك الزهور التي تتفتح في نبات الصبار، حيث يعيش العمر كله من أجل إدراك هذه اللحظة، الفريدة والوحيدة في حياته، والتي لن تتكرر مرة أخرى. نعم الحياة هي ثمرة نضجت مع الدهر، وإذا كان كل هذا الظلام قد اعتصر في الوجع الطويل للكون من أجل بلوغ هذه الغاية: أن يتفتق النور في القمم العالية؛ فذلك لأننا نحن فاكهة الكون، حتى وإن كانت هذه الفاكهة أحيانا تصاب بالعطن، تسقط قبل السقوط في الوديان الجافة للكآبة. ولكن الحياة تستحق أن تعاش، وتستحق أن تروى، وتستحق أن نقرع رءوسنا في بهائها المطلق من أجل الفهم أو الإحساس. هكذا أفكر فيما هو غير موجود، وأوجد فيما لم أفكر فيه قط.
تلك النجمة هناك أحمل بذورها في دمي، ذلك الكوكب الساطع في عمق الليل صنع البريق الذي يلمع في ذهني. أنا إذن من هذا الكون والكون مني. ولدنا في الغور السحيق للسماء في زمان يوجد ما وراء الزمان. ولكن من له أن يقول لي إن كان من الممكن سبر المصير الأعلى لهذا الشعاع المهاجر لضفاف السماوات البعيدة، أو من أين ينبع الماء بين النجوم؟ تلك الغمامة الباردة والجميلة فوق السهول الخضراء. حياتي تشبه غمامة تمضي في حلم الله، ظل حميمي في ضيعة منسية تسكنها عصافير شاردة، يقوم بحرسها حكيم طاعن في السن، طوال اليوم يقرأ كتابا ضخما عنوانه: «الحياة السرية لدودة القز الكونية».
الفصل السابع عشر
الطبيعة
أداري هذه الروح العالقة في الجسد.
أداري هذا الجسد العالق في حبال الزمان.
ومثل سفينة عتيقة مضطجعة فوق الرمال.
أضطجع أنا أيضا مع هذه الساعات المفزوعة من تاريخ الكون.
أتذكر سفاحا روسيا قال مرة بعد أن سئل عن السبب الذي دفعه إلى قتل كل هذا العدد من الأطفال: «أنا خطأ من أخطاء الطبيعة البشرية.»
هكذا كان فيلسوفا في ساعاته الأخيرة، وهو يمد رأسه داخل الأنشوطة. كلنا نصبح فلاسفة في آخر المطاف، نولد فلاسفة ونموت فلاسفة. قد نشعر بالشفقة على هذا الشخص، ما حيلته؟ إنه شذوذ عن القاعدة، مثل بضاعة لم تكتمل جيدا في مصنع الحياة. ولكن يا ترى من باب التفكير الحر: كم مرة أخطأت الطبيعة؟ إنها تفعل ذلك يوميا: في حالة الزلازل والبراكين والفيضانات ... هذه هي عادتها. ربما السواء هو الشذوذ. «الإنسان الطبيعي» هو شذوذ من الطبيعة. إننا نكافح داخل الحياة من أجل الحياة، نصلح عمل الطبيعة، الطبيب يقوم بذلك بمباضعه ومشارطه، لكن حتى الحلاق يعرف كيف يصلح ما تفسده الطبيعة عن طريق موسى الحلاقة.
هكذا نمضي في الحياة راضين بتقبل الضربات أحيانا ، بتلمس الطريق مثل أعمى في الصحراء، أو مثل أطفال غرباء نزلوا من البعد الرابع عبر بوابات العالم الآخر، واقفين بين حيرة النور وقلق الليل. نعم الحياة هي المرض الذي نسعد به جميعا.
ليس الإنسان هو فقط من يبحث عن خلاصه، حتى الطبيعة تفعل ذلك، وإذا كان الإنسان يبحث عن خلاصه عبر الإيمان أو عبر المعرفة والإبداع، فإن الطبيعة لها أسباب أخرى لتحقيق هذا الأمر. ذلك هو أنينها الذي لا يفهمه غير الشعراء. عندما يسقط الليل فوق الغابة، عندما تصيح الريح صيحتها الكبرى هنالك في البحار البعيدة أو الأراضي الطرية، تخرج الخليقة وهي تتنهد من تحت قشرة الأرض حزينة لكن بعذوبة، متألمة لكن بصمت. الضوضاء الهادئة، الألم المكتوم، العواء والنحيب، النعاس العذب، كل شيء نعسان في الطبيعة، كل شيء يحاول أن يستيقظ وأن يوجد. كل وجود هو محاولة وجود، ضعيفة هي الطبيعة على عكس ما يقال الريح ضعيفة، الطيور واهنة، الأرض برمتها مسكينة، وهي تحاول أن توجد في البطء الشديد للدوران السماوي.
أقطع تلك المسافات التي تفصلني عما ينبغي قوله، لكن المسافات تزداد اتساعا كلما أوشكت على الاقتراب. أي قول هذا يمكنه أن يستنفد القول؟ أية لغة يمكنها أن تحيط باللغة؟ يا صهوة الريح، يا شجر العزاء البشري، أعطوني الكأس التي شربتها الأرض كي تصبح رسولة للعشب. آه لكم! أحب الريح وكتب المطر والخريف، وأناشيد الموت التي تذهب صاعدة مع الأنين، حيث العصافير باردة ووحيدة، مثل الأشجار والنجوم والأطفال.
آه يا إلهي! لكم هو ثقيل هذا الصمت!
آه يا إلهي! لكم هو عميق هذا الليل!
الفصل الثامن عشر
الموسيقى
صبيحة رطبة نزلت على المدينة من السهول المجاورة، الشوارع شبه فارغة إلا من بعض المارة. حالة غير عادية في هذه المدينة المعروفة بازدحامها. إنه البرد من يجعل الناس يلازمون بيوتهم، البرد الشديد والحرارة المفرطة ضد الطبيعة الإنسانية. الحياة بمجملها تدين للاعتدال الكوني.
نزلت على طول الشارع، وأنا أستمتع برؤية ما لم أعتد على رؤيته؛ وجوه صغيرة نضرة، وجوه شابة عذبة ذاهبة إلى مدارسها ، وجوه قرويين وقرويات أتعبها الزمان، تقف في انتظار فرصة عمل قد تأتي وقد لا تأتي، وجوه أخرى ذات معالم حادة، علمتها الحياة طبائع التكيف مع الشر، وجوه حمقى وبلهاء ما زالوا مكومين في صناديق ورقية تحت باحات المتاجر ورفوف المباني.
ناعم هذا الصباح الذي تجري فيه أقدار الناس فوق غمام المدينة. مضيت إلى نهاية الشارع أتأمل الحياة التي عشتها والحياة التي لن أعيشها غارقا في تجاويف الفكر، وفي معنى المصير ومصير المعنى. صوت سماوي قادم من وراء جدران المركز الثقافي البلدي أيقظ سباتي اللذيذ. كان صوتا نسائيا حنونا مصحوبا بنقرات حزينة تنزل كالدموع على مفاتيح آلة البيانو. موسيقى أندلسية، عزف منفرد مما وراء العصور. أحسست كعادتي في هذه الحالات بتقلصات في معدتي، وبدموع ممزوجة بضباب الروح تحت الأشجار الخضراء الضخمة التي تظلل الحب الذي أنتظره.
لو كان بإمكاني أن أصعد الدرج، وأن أعبر البهو الطويل إلى غاية الصالة العتيقة حيث يوجد البيانو العتيق، لو كان بإمكاني أن أضع قبلاتي الرقيقة فوق كل أصبع من أصابع هذه السيدة، ربما قد أتحول إلى شمس في قلبها، أو إلى لحن ضائع لم تعرف بعد أنه ضاع منها. أقطع كل الصحارى والبراري كي أكون هرا ودودا تحت سريرها.
الموسيقى هي عطر الله، بكاء الملائكة وأنين السماء على مأساة الوجود البشري. في البدء كانت الموسيقى وليس الكلمة كما يقال، الإنسان يصرخ قبل أن يتكلم. هي الجسر الذي يحملنا نحو السماء. حتى المجنون نفسه لا يستطيع أن يحافظ على هدوئه عند سماع أنين الكمان. ليس الحس المشترك هو الأعدل قسمة بين الناس بل الموسيقى. إنها أعدل قسمة بين كل الكائنات، الحيتان في البحار الباردة تغني، الطيور والحباحب تؤنس وحدتها في حقول الصيف. الكون كله يهتز كما تقول نظرية الخيوط الوترية. كل شيء له صوت بما فيه الصمت ذاته.
الموسيقى هي ميتافيزيقا كل الناس. إنها العربة الإلهية التي تحمل الجميع نحو البعيد، نحو التماعات القدر. لو أمكن لأفلاطون أن يستمع لإغور سترافينسكي
Igor stravinsky
أو حتى للصرخات الحنونة لنساء الأطلس، لوضع نظاما آخر لجمهوريته غير ما نعرفها عليه. لو قدر أيضا لأرسطو أن يستمتع بالصوت الدافئ لمغنية الفادو أماليا رودريغيز؛ لما عرف كيف يميز بين عالم ما فوق القمر وعالم ما تحت القمر. فشلت الفلسفة في أن تجعل كل الناس فلاسفة، أما الموسيقى فقد حققت ذلك. كل إنسان يصبح فيلسوفا بالقوة وبالفعل، عندما يسمع الألحان القادمة من مملكة الأرواح العليلة التي بناها كلاوس شولز
klaus schulze .
خمرة الروح هذه القادمة إلي من داخل الصالة العلوية للمركز الثقافي البلدي التي تقطر من أصابع الحب. دعيني سيدتي أصعد الدرج وأستريح فوق هذه الغيوم. دعيني أطير كالعصافير كي أختبئ بين شفتيك، أن أحملك على القارب، وأجدف بك نحو الجزيرة غير المنظورة، بينما تجلسين أنت وتداعبين نعومة الماء بأصابعك الناعمة. أكون بذلك قد تعمقت في شسوع المصير البشري، وفي الكون الذي هو أنت وعالمك. ولكن وا أسفاه! أيتها الجميلة خلف البيانو، حتى الموسيقى ذاتها لا يمكنها أن ترتق سقطة الزمان التي نعيشها.
الفصل التاسع عشر
أسود البحر
آه! هذا لا يكفي، لا يكفي أبدا، أن أقول تلك الكلمة التي لا تسقط في الخريف.
أمضي بعيدا بعيدا في الشاطئ الطويل، باحثا عن الأصداف الضائعة للحب. ليست لي حديقة منسية، ولا حتى كرسي مهمل تحت شجرة قديمة. الحياة هي الأضواء الداخلية التي أحياها في باطن الأرض، وفي عتمة كل ما هو موجود. الريح الباردة التي تهدهد أوراق الشجر، الفاكهة التي تنضج بهدوء وكأنها تحلم، البيضة الضعيفة في الخم والدجاجة التي تقوم بحمايتها ناسية أنها دجاجة.
تماما كما ترفع تلك الحجارة من ضفاف النهر، حيث توجد مستعمرة من اليرقات غارقة في سبات حي، كذلك رفعت الجزء المرئي من الكون، فوجدت الحياة الأخرى التي ترقد في استسلام عذب لقدر الكون.
ماذا يمكن أن أحلم به؟ الحب لقد أذبته في ملح البحر، الحب ذاته الذي لا يقوى قلبي عليه؛ لأنه منهك من الجمال، أحببت الحجارة الباردة التي ستوضع فوق قبري، أحببت الحب الذي لن أعيشه أبدا، عندما يريد هذا الليل أن يحرك وسادته، ومثل سمك علق بالشص علقت أنا أيضا بالأمل، ولكن الأمل طويل وغامض، مثلما هو الانتظار ومثلما هو الليل، لقد غرقت في الظلام.
ما أفكر فيه يستحيل تمثله وجعله موضوعا للتفكير، أنا موجود لكنني أفكر فيما هو غير موجود. عندما أمر حافي القدمين في الشاطئ الطويل الذي يربط البحر بالمحيط، على امتداد هائل لمسافة روحية، قبل أن تكون جغرافية. الحقائق كلها تتجسد في الليل على شاكلة نسيم بحري، وصدفات مغلقة فوق الحجارة. من أكون أنا يا إلهي في هذا الكون الفسيح الذي خلقته على حافة الأبدية؟! من كان يعرف حقا ماذا يوجد في تلك المخططات السماوية؟ أي رعب أو أي جمال سيرتفع شاهقا؟ ثم ها أنا ذا أبكي على هذا الشاطئ، مثلما تبكي أسود البحر وهي تزحف وديعة، لكن حزينة أيضا بالسيلان الرطب الذي ينزل من فمها. لقد نسيت ما كنت إياه، لكنني أعرف فعلا ما سأكون عليه: ثغاء هذه القطعان الضجرة لأسود البحر، إنني أعيش وأتخيل وأبكي وأضحك، سيان عندي، والكل أسرار، كل شيء أسرار في الحديث الذي دار بيني وبين قطيع أسود البحر.
الفصل العشرون
الحدث
أنا على حافة شيء ما لا أعرفه بالضبط، أو إنني أعرف ولكنني أخاف أن أسميه، فالأشياء عادة ما تصبح موجودة بالفعل من خلال تسميتنا لها. الشيء الوحيد الذي أعرفه حقا أنني غير متأكد مما إذا كان هذا المنحدر سيقودني إلى السفح أم إلى القمة. لا أعرف ما ينتظرني هناك في الضفاف الأبدية لحافة الزمان. تجربة حب ستتبخر فيها أنفاسي أم تحلل للخلايا الباقية من دماغي؟
مأساتي الكبرى لطالما بحثت لها عن لغة تصوغها، لكن هيهات. كل ما بوسعي أن أقوله إنني أسكن هذا الجسد الذي لازمني لمدة طويلة. حوالي أربعين سنة وأنا أدور مع هذا الكوكب حول الشمس، في هامش صغير داخل المدى اللبني لمجرة من بين المليارات من المجرات التي يضمها هذا الكون. وأنتظر أن يحدث شيء ما، حدث خارق يعيد لي وللبشرية جمعاء السؤال الأساسي حول ما فقد ، وما هو في طريق الفقدان. لا أقصد حربا أو احتراقا نوويا، ولا حتى ترقية إدارية أو بذلة وحذاء جديدا. ولكن حدثا من طبيعة خاصة لا أعرفها بالضبط. ربما أن أبكي الليل كله دون انقطاع، وفي الصباح عندما تجف الدموع أعوضها بضحكات هستيرية.
أنا كذلك في انتظار ولادة غامضة لكائن غامض، أتمنى لو كنت نوستراداموس أو أي نبي آخر كي أستوضح جليا هذا السر، ولكنني أعرف أن القادم لا يوزع الرحمات، فالنحل لا يريد أن يستقر في مزارعنا، ونجم الشعرى اليمانية لا يلوح في الأفق. لا أريد النظر في وجه هذا الكائن، أريد أن أغرق في الفجر أن أومن بالنور. أعرف أنه من أجل هذا الفجر، القصبات الحزينات في الوادي الحزين ينتحبن، بجعات الصيف يغنين نشيد الأسى، ومع شروق الشمس يصعد الغمام، كبحر من الرماد أو النار يمد النهار مرة أخرى مديته، وفي البعيد خلف الوادي الحزين تحترق المراكب وتتحلل آخر أشجار البلح.
وإن تقمصت روح فراشة، أو سكنت قلب أسد، أو جسد حوت ضخم يجوب بحار الصين الباردة؟ هل أكون بذلك قد غادرت نطاق الإنسانية؟ هل يكون هذا هو الحدث المنتظر؟ ألا تجعل هذه الفكرة الحدود بين ما هو إنساني وما هو حيواني ملتبسة؟ الألوهية حاضرة في كل مكان، فيما هو قريب وما هو بعيد، في صدوع الحياة وفي ندى النجوم.
ارتفاع درجة الحرارة يأتي بهوام لا تحتمل، هناك البق والبرغوث والقمل، أما الذباب فهو أكبر حشرة مشاغبة فوق هذا الكوكب. ها هو ذا في هذا الصباح يسلي نفسه بممارسة طنينه البليد فوق رأسي. يترك المطبخ وبهو الشقة، وكل الغرف الفسيحة ويتقصد عنوة عزف سيمفونيته فوق أذني، مهما طردته يعود مجددا. أتساءل أحيانا ما الجدوى من خلق هذه الحشرة الكريهة؟ وما الدافع إلى خلق كل هذه الوحوش الكاسرة في غابر الزمان؟ الديناصورات الضخمة والتيرانوصورات والتنانين المحلقة، التي كان بإمكانها أن تقتنص فيلا بكامله بمخالبها، وتصعد به إلى رأس الجبل كي تلتهمه. لقد أدى اختفاء هذه الكائنات العملاقة إلى ظهور الإنسان ، ولولا ذلك النيزك الذي أبارك ساعة الطالع السعيدة التي صدم فيها كوكب الأرض؛ لما كنت هنا الآن مستغرقا في هذه التأملات «اللاميتافيزيقية».
وهذا الذباب أيضا كيف لي أن أدرك سر وجوده، وأنا لم أدرك حتى سر وجودي الخاص؟ فيم يفيد وجوده وجودي سوى أن يفسد علي لذة النوم في هذا الصباح. ألا يمكن أن يؤدي اختفاؤه إلى ظهور مخلوقات أخرى؟ وأي كائن يمكن أن يعقب اختفاء الإنسان كذلك؟
أتوسل إليك أيتها الذبابة انشري طنينك في مكان آخر. دعيني أغرق في عذرية هذا الحلم. الحدث بالنسبة لي هو أن أنام كما ينام الأطفال، وأستيقظ كما تستيقظ الحياة، وهي تضع مشيمتها على الشاطئ.
الفصل الحادي والعشرون
الشر
أروض نوائب الحياة كما تروض الأسود، أعيش دائما في حالة ترقب انقضاضها علي. أروض الساعات والأيام كما يعزف الحاوي للأفاعي والأحناش؛ كي ترقص على أذنابها. أروض الحظ السيئ والنحس لعلي لا ألاقيه عند منعطف الزقاق الألف للمدنية التائهة. عندما أمد ذراعي مشيرا للأفق أخشى ألا أستعيدهما. بالتفكير فيما يستعصي على التفكير قد أترك ذهني هنالك وأعود بدونه. برؤية ما لا يطوله بصر الإنسان، قد أجازف برؤية ما لا ينبغي لعين الإنسان أن تراه. هكذا ينام جسدي وتستيقظ روحي، تغفو روحي ويظل جسدي واقفا هنالك.
من الجميل أن يفكر الإنسان كما يحلم، وأن يحلم كما يفكر. سخونة الجو تجعلني مخمورا بدون خمرة، كتلة لحمية معجونة بالكسل والتعب. أسلي نفسي بافتراضات هائمة كنوع من التفكير غير المشروع، الذي لا نبوح به إلا لأنفسنا مخافة اتهامنا بالجنون. هكذا افترضت أنه لو امتلك الإنسان قوة تفوق كل ما يمكن أن يحلم به يوما ما. لا أقصد قوة وحوش السينما الأمريكية، الرجل الوطواط والمرأة التي تشبه العنكبوت الأرملة، ولا حتى القوة التي نجدها في الأساطير عن طاقية الإخفاء والعصا السحرية أو مصباح علاء الدين، ربما قوة أخرى أكبر من القوة ذاتها، قدرة بحجم السماء والأرض، فعل يجعلنا نتحكم في السكون والحركة، في البدء والصيرورة، فيما هو موجود وفيما يمكن أن يوجد، آلة زمان تعيد ترتيب وقائع الحياة.
ماذا إذن؟ هل سأختار الموت أو الحياة؟ الوجود أو العدم؟ أن أقدح عود الثقاب في «البيضة الكونية»
1
أم أفضل السكون على ضجيج الخلق؟
قد تكون افتراضات لا مجدية ما دام أنها تهرب نحو تخوم لا مجدية. ولكن في حاضر الحياة وحدها ما الذي يمكن أن تحققه هذه القوة؟ ما هو أول قرار أو فعل يمكن أن أقوم به لو كان لي مثل هذه القدرة؟ خاتم سليمان أو صولجان الحكيم؟ هل أبدأ بشيء استعجالي أكثر من غيره، كأن أجمع كافة الأسلحة الموجودة على الأرض، البيضاء والحمراء والصفراء، وأرمي بها في مكان بعيد لا تطوله يد الإنسان؟ الثقب الأسود أو مجرة أندروميدا. وماذا لو قام الأشرار بصنع أسلحة جديدة؟ ذلك أن ضلال الإنسان لا ينتهي، تلكم مسألة معروفة منذ قديم الزمان. ألا يمكن أن يكون أخطر سلاح يدفع الإنسان نحو الاقتتال هو المال، اعتقادا منهم أنهم سيتمكنون في الأرض وسيصبحون سعداء أكثر بواسطته؟ ألا يتوجب علي أن أفعل كما أراد ذلك النبي غير المتوج حينما طاف على الأمصار محررا المادة من جشع الروح؟
ولكن الشر كان هنا بدون سلاح وبدون أموال. كانت المأساة تسكن أعماق قلب الإنسان، السلاح والمال هما مجرد وسائل يستعملها الشر لبلوغ غايته، لكن الشر ذاته لا تعوزه وسيلة؛ كي ينتشر على الأرض حتى بدون أن يلفت النظر إليه، بدون أن يظهر كشر.
المشكلة ليست فيما هو خارجي ولكن فيما هو داخلي، في الطبيعة البشرية ذاتها. ربما يتوجب علي المرور على طاولات المقاهي واحدة واحدة وأجمع الوقت المهدور كي أبني به كونا آخر، أو أخلق كائنات من طبيعة مغايرة، لا تعرف معنى التعب أو اليأس أو الملل.
أعرف ذلك. أنا أشبه رجلا يمشي حافي القدمين فوق الجمر والنار، وهو يحمل البيضة الشقية للفكر البشري، أو مثل شامان يقرع أجراس المدائن البعيدة. أنظر جهة القمر هنا حيث يتمزق الليل، من تكون أنت أيها الليل، أيها الوجه الثالث مثقلا بالحديد تمر فوق القلب ؟ من تكون كي تمضي بلا معنى الحياة نحو العتبة الأخيرة للامعنى الموت؟
Page inconnue