أن الثورة العرابية ابتدأت في مصر في 6 فبراير سنة 1881م، وابتدأت الثورة المهدية في السودان في 12 أغسطس سنة 1881م أيضا، كأنما الثورتان كانتا على ميعاد، فلما اختل الأصل - وهو مصر - اختل الفرع - وهو السودان - ومن سوء الحظ أن حكمدار السودان وقتئذ كان رءوفا باشا، وهو رجل خلو من الكفاءة والتدبير؛ إذ لو كان على شيء منهما لقضى على ثورة المهدي في السودان في إبانها. فقد أبلغه رئيس كبير موثوق به - وهو السيد محمد الشريف أكبر مشايخ الطرق في السودان - أمر هذا المدعي، وحذره عاقبة الإهمال، فلم يأبه لقوله، ولم يستيقظ من سباته! حتى أرسل إليه هذا المفتون كتابا يدعوه فيه إلى الدخول في شيعته والإيمان به، وبدلا من أن يرسل إليه عقب ذلك من يقبض عليه في الحال ، أرسل من ينصح له، فرده خائبا، ثم بعد لأي وتردد أرسل إليه تجريدة صغيرة أوقع بها المهدي، وهزمها شر هزيمة، فكان هذا أول وهن أصاب هيبة الحكومة في السودان؛ فقد انتشر خبر هذه الواقعة في جميع أنحائه، وتناقل الرواة حديثها بغلو كبير، وعدتها العامة من المعجزات التي تدل على صدق محمد أحمد في دعوى المهدية، ثم جرد عليه تجريدات أخرى كان نصيبها نصيب الأولى، فانحطت كرامة الحكومة في عيون أهل السودان، وصدقوا دعوى المهدي.
ولما بلغت هذه الأخبار السيئة الحكومة عينت عبد القادر حلمي باشا بدلا من رءوف باشا، وحسنا فعلت؛ فإن هذا الحكمدار الجديد أظهر همة عالية وكفاءة نادرة في قمع الثورة بعدما استطار شرارها واستفحل أمرها، وكان قد طلب من الحكومة عشرة آلاف جندي، ولما لم تجبه إلى طلبه لارتباكها بالثورة العرابية، جند من أهالي السودان جيشا صغيرا دربه بنفسه، وضم إليه ست أورط كانت في السودان الشرقي، وحمل بهذا الجيش الصغير على الثوار، فقهرهم وشتت شملهم، ورفع الحصار عن حامية سنار، فهدأت الحال، وخمدت جذوة الثورة، ولم يبق في يد المهدي سوى مديرية واحدة هي مديرية كردفان، ولا من أتباعه العصاة في النواحي سوى نفر قليل في الجزيرة بقيادة زعيم لهم يدعى أحمد المكاشف.
فأنت ترى أن عبد القادر حلمي باشا بجيشه الصغير استرجع السودان أو كاد، ولو أرسل إليه الجيش الذي أرسل إلى هكس، لتم على يديه استرجاع السودان بدون عناء، ولكن عندما وصلت هذه الأخبار السارة إلى مصر، وكان ذلك في أوائل سنة 1883م وقد احتلها الإنجليز، وأصبح في يدهم تصريف أمورها؛ صدرت الأوامر بعزل عبد القادر باشا لهذا السبب المقلوب، في الوقت الذي قال في حقه المهدي في إحدى خطبه: ليس بين رجال الحكومة التي أناوئها رجل كعبد القادر، كثير الدهاء والحيل مع الشجاعة؛ مما يجعلني أضرع إلى الله أن يكفيني وأصحابي شره. وإنني أحتم على كل المؤمنين الذين دخلوا في دعوتي أن يجتنبوا القيام في الجزيرة بأي مشاغبة تضطرهم إلى الوقوف في ساحات الحرب مع عبد القادر باشا، وأوصيهم بكتمان دعوتي وعدم الظهور بها في الجزيرة ما دام عبد القادر باشا متوليا على السودان، وليواظب كل أصحابي على رفع أصواتهم بعد كل صلاة بهذه الدعوة: «اللهم يا قوي يا قادر، اكفنا شر عبد القادر.»
وقد كتب عبد القادر باشا بعد عودته من الخرطوم تقريرا وافيا للحكومة بما يجب عليها عمله، وملخصه: عدم تسيير حملة على المهدي في كردفان، والاكتفاء بإقامة الحصون على حدودها، وحصر المهدي فيها حتى تنضب منها موارد اليسار القليلة التي لا يمكن أن تقوم بنفقات الملتفين حوله، فلا يمضي زمن حتى يشعروا بالضيق، فيطلبوا الخلاص من جور المهدية، ولا سبيل لهم إلى نيل هذا الغرض إلا بمظاهرة الحكومة وموالاتها، فيسهل عليها حينئذ قهر المهدي بقوة يسيرة.
هذا كان رأي عبد القادر باشا، ولكن حكومة ذلك الوقت التي عزلته بسبب ما أظهره من الكفاءة وأحرز من الانتصار، ليس من المعقول أن تعمل برأيه، فضربت بتقريره عرض الحائط، وعينت بدلا منه علاء الدين باشا، فتولى علاء الدين باشا ولكن حصرت سلطته في الإدارة الملكية، وجعل سليمان نيازي باشا قائدا عاما، وهكس باشا رئيسا لأركان حربه، وأرسل إلى السودان بقيادته جيش وصل إلى الخرطوم في مارس سنة 1883م، وهو مؤلف مما يأتي:
ألاي رقم 1 مشاة تحت قيادة الميرلاي سليم عوني بك
عدده
2400
ألاي رقم 2 مشاة تحت قيادة الميرلاي السيد عبد القادر
عدده
Page inconnue