L'Égypte et le Levant, passé et présent
مصر والشام في الغابر والحاضر
Genres
قال كرد علي: «ورأت مصر والشام أنهما إذا ألفتا حكومة واحدة تصبحان دولة قوية يرهب بأسها.» ثم إنه من الواجب أن نقول إنه لولا مجيء جيوش مصر الطولونية إلى الشام لإنقاذها من خطر القرامطة في أواخر القرن الثالث لكانت الشام واقعة تحت شر مستطير، ولكن بفضل الجيوش المصرية خلصت الشام ومصر من القرامطة الباطنيين الأشرار دهرا طويلا بعد أن كاد نفوذهم يقوى بممالأة طائفة من غوغاء الشاميين لهم. وهكذا سكنت البلاد واطمأنت بفضل جيوش مصر، ولكن يظهر أن بغداد لم يرقها هذا الأمر، فهي إنما تريد مصر والشام خالصين لها من أي نفوذ آخر، فأخذت تدبر الدسائس وتعمل على القضاء على الدولة الطولونية، حتى توفقت فقضت عليها سنة 292ه بعد عمر طوله نحو أربعين سنة لقيت بلاد الشام ومصر فيه كل خير وهناء. وما إن قضي على الدولة الطولونية حتى بعث خليفة بغداد المعتضد محمد بن سليمان الكاتب فاستولى على دمشق، ثم سار نحو مصر وقضى على أبناء الطولونيين وقتلهم، وهم نحو عشرين إنسانا ذبحهم بين يديه كما تذبح النعاج، وأشخص من استباقهم منهم إلى بغداد. وقد ظنت بغداد أنها قد استصفت ملك الشام ومصر، ولكنها لم تلبث أن فوجئت بدولة أخرى استقلت بأمر الشام ومصر معا، تلك هي الدولة الإخشيدية، ولا عجب فإن الاضطراب الذي كانت فيه الدولة العباسية كان من مستلزماته أن تنفصل مصر والشام عن بغداد لسوء الإدارة المركزية وفساد رجالها. والدولة الإخشيدية وإن كانت أقل من الدولة الطولونية نشاطا عمرانيا وإتقانا إداريا، فإنها كانت تفضل بكثير دولة بغداد، وأول من جمع بين الشام ومصر من الإخشيديين هو محمد بن طغج الإخشيد وكان ذلك سنة 323ه، ومحمد هذا كان جد بارع في إدارته وسياسته مقداما حازما حسن التدبير، وكذلك كان ابناه أنوجور وعلي ومولاه كافور، وقد سيطروا جميعا على القطرين الشامي والمصري، وأصبحت البلاد في عهد كافور على خير حال عيشا وهناءة وعلما، ولا عجب فقد كان كافور - كما قال الذهبي - يدني الشعراء ويجيزهم، وكان تقرأ عنده كل ليلة السير وأخبار الدولة الأموية والعباسية، وكان كريما كثير الخلع والهبات خبيرا بالسياسة فطنا ذكيا جيد العقل داهية. وكان يهادي المعز صاحب المغرب ويظهر ميله إليه، وكذا يذعن بالطاعة لبني العباس، وكان وزيره أبو الفضل جعفر بن الفرات راغبا في الخير وأهله، وممن كان في خدمته من العلماء أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي صاحب الزجاج، وكان يداوم الجلوس غدوة وعشية لقضاء حوائج الناس ...
وصفوة القول أن البلاد كانت في عهده على أحسن حال، ولما توفي اجتمع الأولياء وتعاقدوا وتعاهدوا ألا يختلفوا، وكتبوا بذلك كتابا وعقدوا الولاية لأحمد بن علي الإخشيدي، ودعوا له على منابر الشام ومصر والحجاز، وجعلوا التدبير لأحمد بن عبيد الله بن طغج والوزارة لابن الفرات، وكان ذلك سنة 357ه. ولما قويت حركات الباطنية في الشام ذهب الحسن بن عبيد الله بن طغج إلى الشام بنفسه ليقضي على حركاتهم، فهزموه واستولوا على الشام، ثم لما رجع إلى مصر وجد أن الجند الأتراك قد ثاروا على ابن الفرات، وطالبوه بمال لا قدرة له عليه، وقاتلوه ونهبوا داره ودور أهله وحاشيته، وكتب بعضهم إلى المعز الفاطمي يستدعونه، رأى الحسن بن عبيد الله بن طغج كل أولئك فهدأ الأمور، ثم اضطر إلى العودة إلى الشام، وبينما هو فيها بلغه خبر وصول عساكر المعز الفاطمي صحبة جوهر الصقلي واستيلائه على مصر، وهكذا انقضت الدولة الإخشيدية بعد أن حكمت مصر والشام أربعا وثلاثين سنة. وما لبث الفاطميون قليلا في مصر ينظمون أمورهم حتى بعثوا بالجيوش إلى الشام لفتحها، وكان على رأسها الأمير جعفر بن فلاح العبيدي، فذهب إلى دمشق وحارب الحسن بن عبيد الله بن طغج وأسره ومهد البلاد. وقد لقيت الشام في هذه الفترات عنتا كبيرا من القرامطة ، ولكن الخلفاء الفاطميين كانوا دائما يطردونهم عن أهلها، ولم يكن القرامطة وحدهم هم الذين يفسدون البلاد، بل كان هناك الروم الذين كانوا يوقعون بشمال البلاد، وكان سيف الدولة بن حمدان يقف أمامهم في حياته، فلما هلك وخلفه ابنه أبو المعالي استخف به نقفور ملك الروم وطمع في السيطرة على الشام كله، ولكن المصريين لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا العدو القوي، فأرسلوا أبا محمود بن جعفر بن فلاح إلى الشام في عسكر يقال إنه عشرون ألفا، فدخل دمشق وغادر الروم أرض الشام سنة 364ه بعد أن كانوا قد سيطروا عليها وعلى بعلبك وصيدا وبيروت وجبيل فخربوها ونهبوها.
وقد قضى الشام فترة في القرن الرابع هي من شر فترات حياته، فقد كان يتنازعه كل من الفاطميين والعباسيين أو ولاتهم كالحمدانيين والعقيليين، وقد كان الفاطميون شديدي الحرص على استبقاء الشام تابعا لمصر لما بين البلدين من العلاقات، وقد بذلوا في ذلك شيئا عظيما وجيشوا جيوشا كثيرة، حتى إن الخليفة العزيز الفاطمي سار مرة بنفسه على رأس سبعين ألفا لاستخلاص الشام من القرامطة وولاة العباسيين، ولما وصل الرملة من أرض فلسطين قاتله القرامطة وأفتكين غلام عضد الدولة البويهي وكان يومئذ متغلبا على الشام، فخذلهم العزيز وهرب أفتكين فجعل العزيز لمن أحضره إليه ألف دينار، فأحضره مفرج بن دغفل العقيلي إلى العزيز، فكرمه وأنعم عليه وأخذه معه إلى مصر واستبقاه فيها إلى أن مات معززا. وأما صاحب القرامطة فلاطفه العزيز أيضا وأعطاه الأموال والرياش وطلب إليه أن ينصرف من الديار الشامية إلى الأحساء، وهكذا كان. ولم يبق أمام الفاطميين خصوم أقوياء يدفعونهم عن الشام إلا الحمدانيين.
ولما مات أبو المعالي بن سيف الدولة وخلفه ابنه أبو الفضائل، رأى العزيز أن الوقت قد حان لاستصفاء الشام وإنقاذه من الاضطراب الذي كان فيه والتذبذب بين الدولتين، فسير جيشا قويا إلى حلب وعليه منجوتكين، ووقع القتال بينه وبين الحمدانيين في أفامية - قلعة المضيق - سنة 382ه، فانهزم الحمدانيون، ثم دخل منجوتكين حلب فاستعان أبو الفضائل بباسيل ملك الروم على المصريين ، فكتب باسيل إلى نائبه في أنطاكية أن ينصر أبا الفضائل بجيش لجب، فلما علم المصريون بذلك عبروا العاصي وفاجئوا الروم قبل أن يفاجئوهم، وقهر المصريون الروم وهزموهم وأرجعوهم إلى أنطاكية وأكثروا فيهم القتل.
قال الأنطاكي: «قتل من الروم في هذه الوقعة التي دعيت «وقعة المخاضة» سنة 384ه زهاء خمسة آلاف، وسار المصريون إلى أنطاكية ففتحوها ثم رجعوا إلى حلب.» وكادت الجيوش المصرية أن تسيطر على الشام جميعه لولا أنها أصيبت بمصيبة أزعجتها، ألا وهي طمع منجوتكين وخروجه على الخليفة الفاطمي وإعلانه الاستقلال بالشام لما رأى من فوزه العظيم، فأرسل الخليفة إليه جندا هزموه وأعادوا الشام إلى الحظيرة الفاطمية كما فصل ذلك ابن مسكويه في تاريخه.
ومن الحوادث المزعجة التي جرت في الشام في تلك الفترة ثورة أهل صور سنة 387ه بقيادة ملاح اسمه علاقة، فقد ثار هذا على الفاطميين وضرب السكة باسمه وكتب عليها «عز بعد فاقة للأمير علاقة»، وقد أرسل إليه الخليفة المصري أسطوله لتأديبه، فاستجار علاقة بملك الروم وقد أنفذ إليه هذا عدة مراكب فالتقى الأسطولان المصري والرومي، فهزم الروم وكتب النصر للأسطول المصري. فأنت ترى في هذه الحقبة القصيرة من الزمن استنجاد رجلين اثنين بالروم على بني جنسهما ليستمتعا بالملك ونشوته. وفي عهد الحاكم بأمر الله ثار الأعراب سنة 404ه بقيادة المفرج بن دغفل بن الجراح على الشام، وفتكوا بأهله وبأميره المصري علم الدولة، وأقاموا متغلبين عليه فأفسدوا البلاد وهرب كثير من أهلها النصارى إلى بلاد الروم واللاذقية وأنطاكية، ولم تسكن البلاد إلا بعد أن عاد إليها المصريون وأعادوا إليها السكينة والطمأنينة.
وفي عهد الحاكم بأمر الله أيضا سنة 421ه سار أرمانوس ملك الروم إلى الشام كما يقول ابن المهذب المعري، وقد جاء معه لغزو الشام ملوك الفرنجة جميعا مثل ملك البلغار وملك الروس والألمان والخزر والأرمن والبلجيك والفرنج في جمع عظيم يزيد على ستمائة ألف مقاتل، فقاتلهم المصريون والشاميون جميعا وهزموهم وغنموا منهم ما لا يحصى، وأسروا جماعة من أولاد الملوك، ويظهر أن هذه الغزوة هي غزوة صليبية أرادت أوروبا توجيهها على البلاد الشامية. وقد أصاب الشام في عهد الحاكم ما أصاب مصر من العنت والاضطراب، فكما أنه خرب كنائس مصر كذلك خرب كنائس دمشق والقدس، ونقض بعض الكنائس بيده وأمر بأن تعمر مساجد للمسلمين وأمر بالنداء؛ من أراد الإسلام فليسلم ومن أراد الانتقال إلى بلاد الروم كان آمنا إلى أن يخرج.
وقد خرج كثير من الشاميين إلى بلاد الروم، ثم عاد الحاكم فبنى كنائس النصارى. وفي عهد الحاكم هذا انتشر المذهب الدرزي في البلاد الشامية، وكان دعاة الباطنيين قد ملئوا البلاد وسيطروا على الشام. وفي عهد الظاهر بن الحاكم ثار المرداسيون وحسان بن الجراح واستولوا على أكثر بلاد الشام، فأرسل إليهم الخليفة جيشا مصريا على رأسه القائد أنوشتكين الدزبري، فأعاد إلى البلاد هدوءها وأدخلها في الحظيرة المصرية من جديد. وقد ظل أنوشتكين إلى عهد المستنصر بن الظاهر أميرا على الشام إلى أن مات سنة 433ه، فعادت البدو إلى الثورات وقضت البلاد عهدا مشئوما تملكها فيه البدو والأعراب والروم، ولم تسكن حتى عاد إليها المصريون بقيادة مكين الدولة الحسين بن علي، فهدأ الأمور وعقد الاتفاقات مع الروم. وفي سنة 446ه نقض الروم عهدهم مع صاحب مصر المستنصر، وكانوا تعهدوا بأن يبعثوا إليه أربعمائة ألف أردب من الغلال بسبب القحط في مصر، فجهز المستنصر جيشا عظيما على رأسه مكين الدولة الحسين بن علي ونودي في مصر وسائر البلاد بالغزو والجهاد إلى بلاد الروم، وكانت وقائع كثيرة كانت الغلبة فيها للمصريين والشاميين. ولما عظم نفوذ مصر في الشام طمعت في السيطرة على بغداد والعراق، فتم لها ذلك وخطب للمستنصر الفاطمي على منابر بغداد بمعاونة أبي الحارث أرسلان التركي البساسيري (سنة 451ه)، ثم كان أن قتل البساسيري وقطعت الخطبة من بغداد وبقي سلطان مصر محصورا في الشام وما إليه، ولكن ما لبث نفوذ مصر أن أخذ يضعف في الديار الشامية أيضا لضعف الدولة في مصر نفسها، ووقعت فتن كثيرة بين الجند المصري والشاميين. والحق أن الخلفاء المصريين قد ضعف أمرهم بعد موت الحاكم، ولولا ظهور سيدة القصور - ست الملك - وقيامها بالأمر خير قيام، لدالت الدولة منذ عهد بعيد، ولكنها بحكمتها وسياستها أعادت للملك غضارته بعد أن أصيب في أواخر عهد الحاكم بما هو معروف مشهور. ولما جاء ابنه الظاهر حسنت الأحوال قليلا لأنه كان مستقيما حسن الإدارة، ثم لما جاء ابنه المستنصر عاد الاضطراب من جديد وأخذت البلاد تئن من سوء الإدارة وكثرة تغير العمال وتسلط الروم والمتغلبة بين حين وآخر. والحق أن الملك الفاطمي أخذ ينحسر ظله عن الديار الشامية بعد عهد المستنصر، والسبب في ذلك ضعف الفاطميين عسكريا وإداريا؛ فإن جيشهم بعد أن كان في عصر المعز والعزيز يزيد على المائة ألف مقاتل، قوي حتى قيل إن أرض مصر لم يطأها جيش بعد جيوش الإسكندر أكثر من جيوش المعز الفاطمي.
أقول إن هذا الجيش القوي أصبح هزيلا في عهد المستنصر، فتمزق شمل الملك العظيم الذي سيطر على المغرب ومصر والشام والحجاز في عهد، واكتفى المستعلي بأن يسيطر على مصر وبعض نواحي الشام. قال الذهبي: وفي أيامه وهنت دولتهم وانقضت دعوتهم من أكثر بلاد الشام، واستولى عليها الأتراك والفرنج، ونزل الفرنج على أنطاكية وحصروها ثمانية أشهر سنة 491ه، وأخذوا المعرة والقدس سنة 492ه، ومنذ هذا الحين سيطرت الفرنج على البلاد الشامية وبسطوا نفوذهم عليها، وأخذوا يعملون على السيطرة على مصر نفسها، ولولا ظهور البطل نور الدين محمود بن زنكي وصلاح الدين يوسف بن أيوب لقضى الفرنجة على مصر والشام قضاء مبرما. ولما سيطر الفرنجة على كثير من مدن الشام ضاق أهله ذرعا بهم واستغاثوا بمصر أن تنجدهم، وأنى لها بذلك وبلادها هي في الفوضى غارقة. قال القاضي الهروي من قصيدة يستغيث بالمصريين مما حل بالشام:
مزجنا دماء بالدموع السواجم
Page inconnue