L'Égypte et la civilisation islamique
مصر والحضارة الإسلامية
Genres
وأصبحت مصر في العصر الحديث المركز الثقافي في العالم الإسلامي، ونبغ من رجالها الشيخ محمد عبده الذي يعد من أعظم الفقهاء المسلمين نفوذا في العصور الأخيرة، وإليه يرجع الفضل في إزالة العوائق التي كانت تشل حركة الإسلام، وتمنعه من التجديد على أساس تحكيم العقل، فأطلق الهمم لتعمل على التوفيق بين الإسلام والحياة الجديدة في العالم الإسلامي المتأثر بالثقافة الغربية. وكان للشيخ محمد عبده الفضل في إدخال العلوم الحديثة في الأزهر، وفي تفسير الإسلام تفسيرا جديدا، لا يقطع صلته بماضيه، ولا يقعده عن مسايرة النهضات الحديثة. والحق أن الأستاذ الإمام وتلاميذه من بعده عملوا كثيرا في هذه السبيل، وانتشر نفوذهم في العالم الإسلامي كله، فبعث فيه نهضة فكرية مباركة. ومن خير ما كتب بإيجاز في شرح مدرسة الشيخ محمد عبده ما كتبه المستشرق الإنجليزي الأستاذ جب في كتابه «وجهة الإسلام»، وإلى القارئ نبذة منه منقولة عن الترجمة العربية للأستاذ محمد عبد الهادي أبو ريدة (ص48-49):
غير أن الأفكار التي تأسست عليها كلية عليكرة (الجمع بين الإسلام والرقي العلمي الحديث) أخذت تدب أيضا في نفوس أهل السنة في مصر، ولكنها هنا نزعت نزعة أعظم خطورة، وأوسع شمولا للجماعة الإسلامية في جملتها، لم تكن هذه النزعة أقل من محاولة تأويل العقائد الإسلامية من جديد، وصوغها بما يتلاءم مع الفكر الحديث، ولكن الذين قاموا بهذا لم يكونوا من العلمانيين المثقفين ثقافة أوروبية، بل قام به جماعة من الفقهاء الإخصائيين. وإذا أردنا أن نفهم الخطورة التامة لهذه الحركة ولوسائلها يجب أن نلقي نظرة عجلى على إحدى مميزات منهج علم الفقه الإسلامي، لقد رأينا أن الإسلام الأول خرج من جزيرة العرب مرنا بعض المرونة، وأنه قضى قرنين أو زهاءها عاملا على تكييف نفسه مع البيئات التي حل فيها، وعلى وضع تفاصيل علومه الفقهية، وقد بلغ هذا الأمر كماله بفضل جهود العلماء والفقهاء الذين أقر لهم الجميع بالقدرة على الاجتهاد، أو استنباط أحكام حاسمة في مسائل العقائد والأحكام، ومتى صدرت هذه الأحكام اعتبرت غير قابلة للتغيير، ثم أخذ باب الاجتهاد يضيق تدريجيا إلى أن انتهى إلى مسائل قليلة الخطر، حتى إذا ما بت في أمرها أغلق باب الاجتهاد نهائيا، ومن ذلك الحين لم يكن لعالم عند أهل السنة مهما ارتفع شأنه أن يدعي لنفسه لقب مجتهد (أما عند الشيعة، فإن النابهين من علماء الدين لا يزالون يحملون هذا اللقب حتى اليوم).
وظل أهل السنة ما يقرب من عشرة قرون يسيرون في حياتهم الدينية «بالتقليد»، أعني بمقتضى أحكام السلف المتقدمين، كانت هذه العقيدة هي موضوع الجدل بين الأحرار من فقهاء مصر الذين ذهبوا يؤكدون أن تغير ظروف الحياة، وأن النزعات الفكرية الجديدة يجعلان اطراح مجرد التقليد، وفتح باب الاجتهاد من جديد أمرا محتما، ويؤكدون أن تنافر الإسلام مع الفكر الحديث إنما يعزى إلى ما يحيط به من المذاهب الجدلية البالية للعصور المتوسطة، وأن الإسلام - على عكس ذلك - إذا فهم حق الفهم في صورته الأصلية فإنه يكون على تمام الوفاق مع نتائج البحث العلمي الممحصة، بل إنه ليكون أكثر توافقا مع تلك النتائج من أي نظام ديني آخر. وقد وجدوا زعيما عظيما في شخص الشيخ محمد عبده (المتوفى سنة 1905م) الذي يعد من أشهر الشخصيات المحترمة في تاريخ الإسلام الحديث، والذي جذبت إليه شخصيته ومواهبه طائفة كبيرة من المعجبين به، وأكسبت الحركة أتباعا كثيرين لا في مصر فحسب، ولكن في البلاد الإسلامية الأخرى.
ولنعرج الآن على نصيب مصر من النواحي الأدبية والعلمية من الثقافة الإسلامية. والحق أن مصر كانت لها منذ البداية مكانة خاصة عند المسلمين، إذ إنها ذكرت في عدة مواضع في القرآن، وفي الأحاديث، وهي فضلا عن ذلك موطن مارية القبطية زوج النبي - عليه السلام. وقد كانت بعض الأحاديث التي تنسب إلى النبي عن «فضائل مصر» نواة لفصول في هذا الصدد كتبها المؤرخون والمؤلفون المصريون في العصور الوسطى، بل قد ألف فيه بعضهم كتبا مستقلة، ومنها كتاب «فضائل مصر» الذي ألفه عمر بن محمد الكندي لكافور الإخشيدي، والذي ينسب خطأ في بعض الأحيان إلى أبيه محمد الكندي صاحب كتاب «ولاة مصر وقضاتها».
على أننا نذهب إلى أن أكبر نصيب لمصر في الثقافة الأدبية الإسلامية إنما هو ما كتبه المصريون في التاريخ. والحق أنه ليست هناك أمة إسلامية أخرى تستطيع أن تفخر بمثل ما خلفه المصريون من دراسات في تاريخ بلادهم، وأنظمتها السياسية. والمؤرخون المصريون في العصور الوسطى لم يكتبوا في التاريخ السياسي، وفي التراجم فحسب، بل فاقوا سائر الكتاب المسلمين في دراسات الخطط والآثار، التي يعتبر المقريزي بطلها الممتاز.
ولعل شهرة المقريزي ترجع قبل كل شيء إلى كتابه «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار»، فهو على رأس المراجع الأساسية لمن يشتغلون بتاريخ مصر وآثارها، ونظمها في العصر الإسلامي.
ومن المؤلفين المصريين الذين كتبوا في الخطط ابن عبد الحكم، والكندي، وابن زولاق، والقضاعي، والأوحدي، ثم اقتفى أثرهم في العصر الحديث علي مبارك باشا في كتابه «الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة»، والأستاذ محمد كرد علي بك في كتابه: «خطط الشام»، وهو وثيق الصلة بمصر لما كان بين البلدين من اتحاد سياسي في العصر الإسلامي.
وقد أنجبت مصر عددا وافرا من المؤرخين، وحسبنا أن نذكر ابن الحكم، وابن الداية، والكندي، وابن زولاق، وابن أبي أصيبعة، وابن الراهب القبطي، والعماد الأصفهاني، وأبا شامة، وابن واصل، والقفطي، وابن خلكان، وابن شداد، والذهبي، والمقريزي، والعيني، وابن تغري بردي، وأبا الفدا، والسخاوي، وابن إياس. ولا ننسى في هذه المناسبة أن مصر كان لها أثر ظاهر في حياة ابن خلدون، فقد ولي القضاء بها، وكتب فيها الجزء الأكبر من كتابه في التاريخ، ثم توفي بعد أن أقام بها زهاء عشرين عاما.
وقد نبغ من علماء اللغة العربية في مصر طاهر بن بابشاذ الذي تولى ديوان الإنشاء في العصر الفاطمي، وكان إمام عصره في النحو، وكذلك ابن بري، وابن الحاجب، وابن مالك الطائي. وكان ابن منظور صاحب «لسان العرب» من رجال ديوان الإنشاء بمصر في عصر المماليك، وكان للمصريين طريقة أدبية في البلاغة، ومذهب يختلف عن المذهب الفلسفي أو الكلامي الذي اتخذ في سائر الأقطار العربية،
5
Page inconnue