ولقد مررنا بمدن كثيرة، وقد استوقف نظرنا من بينها مدينة متهدمة خربة، لم نر من آثارها إلا أكوام الحجارة والتراب، ولقد قال لنا الدليل: إن تلك الخرائب كانت مدينة من أجمل مدن القطر، بل وكانت عاصمة لأحد الملوك، غير أنه آمن بآلهة جديدة، وحاول أن ينشر ديانته الحديثة، فعمد إلى الآلهة القديمة، وهدمها وخرب معابدها، ليمحو آثارها ويبعد عن الأذهان اسمها.
وأخيرا - بعد سفر طويل - لاحت لنا عن بعد أبنية عظيمة على شاطئ النيل، ثم تبين لنا أنها مدينة عظيمة، لم نر لها نظيرا فيما رأيناه من مدن الأرض.
ولما اقتربت السفينة من المدينة، ميزنا أمامنا مدينتين في الواقع؛ فعلى الشاطئ الشرقي للنيل تقوم مدينة الأحياء؛ بأسوارها المرتفعة، وأبراجها العالية، ومعابدها العظيمة، وصفوف منازلها التي لا يرى لها أول ولا آخر، من قصور النبلاء إلى أكواخ الفقراء.
أما على الشاطئ الغربي فتقع مدينة الأموات، ولم يكن بها قصور ولا شوارع، وكان السكون يخيم عليها، والهدوء يشملها، ولا يستطيع الناظر إليها إلا أن يشعر بالخشوع والحزن والكآبة.
ولقد رأينا فيها تلالا ممتدة، بها فتحات كثيرة متراصة، تظهر كخلايا النحل؛ هذه هي قبور طيبة، حيث يرقد أمواتها من سنين لا عداد لها.
وفي المكان الفسيح الممتد ما بين النيل والتلال الغربية توجد هياكل متتابعة يخيل للناظر أن ليس لها حصر، وبعض هذه الهياكل متين الجدران، سليم البنيان، عظيم الحجم، والبعض الآخر واهي الأساس، متهدم الجدران، لم يبق منه إلا أثر ضئيل.
وكانت إذا سقطت أشعة الشمس عليها، انعكست مرسلة في الجو أسلاكا من ذهب، وقرمزا يبهر العين.
أخذت سفينتنا تقترب من الشاطئ لترسو هنالك؛ وبذلك تكون قد انتهت رحلتنا.
ولقد أتى نحوها في الحال ضباط الجمرك المصري في قوارب ليفتشوا أمتعتنا، وليجمعوا منا ما يجب دفعه عليها. ولقد جلسنا نراقبهم بجذل وسرور؛ لأن مظهرهم كان غريبا عنا كل الغرابة، فهم يختلفون عن ملاحينا ذوي اللحى المرسلة والمعاطف ذات الألوان الكثيرة، إذ يحلق المصريون لحاهم وشعورهم، وبعضهم يضع على رأسه شعرا مستعارا، ويطلقونه مسترسلا حتى الأعناق، ولا ريب أنهم يتكبدون تعبا جما في تنسيقه وتمشيطه، وسواهم يرتدي ملابس من الكتان قصيرة «أشبه برداء الجند السكسونيين».
أما رئيس الضباط فيرتدي معطفا أبيض جميلا فوق ردائه السكسوني، وحول وسطه منطقة ذهبية لها أهداب طويلة تكاد تلامس ركبتيه، وفي يده اليمنى عصا طويلة، لا يتأخر عن إلهاب ظهر أحد أتباعه بها إذا قصر في تأدية واجباته.
Page inconnue