Histoire de l'Égypte sous le règne du Khédive Ismaïl Pacha
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Genres
فلما شاد (عباس الأول) قصره المشهور في الصحراء الشمالية فوق الظاهر - فتسمت تلك الصحراء العباسية، باسمه - فكر، هو أيضا، في توزيع المياه على القاهرة، وتسيير فرع كبير منها إلى ذلك القصر، وكلف بالعمل لينان بك، ثم ضم إليه لامبير بك والمسيو بوديسو، فوضعوا المشروع وأفاضوا في تفصيلاته، وقدروا نفقات تنفيذه بمبلغ 3669334 فرنكا؛ وبدءوا يسوون الأرض، ويخطون تصميمات الشوارع التي عزموا على تسيير مواسير المياه تحتها، ولكن العمل لم يخط إلى الأمام خطوة، ووقف حيثما ابتدأ.
فأراد (سعيد) أن يبدي هو أيضا اهتماما فيه، فأجاز، على فم ساباتييه، القنصل الفرنساوي العام، لفرنساوي يقال له: الميسو كردييه، بوضع مشروع جديد للغاية عينها غير الذي سبق لعباس باشا المصادقة عليه، فأسس كردييه هذا شركة لذلك الغرض وباشر الأعمال التمهيدية لتمام المشروع، ولكن الاهتمام لم يتعد هذا الحد؛ لأن صعوبة التنفيذ كانت جسيمة.
ولا يخفى أن تعذر وجود الماء يوجب تراكم القذارة، حتما، وعدم التمكن من رش الأحياء إلا نادرا، وأمام منازل الموسرين، فقط على أيدي الرجال المعروفين بالسقائين.
فشوارع القاهرة - قاهرة عهد المماليك وعهدي الفرنساويين و(محمد علي) وقد كانت ضيقة ضيقا جعل سير العربات فيها أمرا مجهولا إلى اليوم الذي قدمت فيه لإبراهيم بك الكبير عربة من فرنسا على سبيل الهدية (ومع ذلك فإن القوم هناك لما رأوا، بعدها بقليل، الجنرال بونابرت يتجول في أحياء مصر وبولاق بعربة تجرها ستة جياد استغربوا الأمر جدا ودهشوا له) - وكانت معوجة، قليلة التمهد، تزدحم الأخطار فيها بسبب ازدحام الأقدام في مضايقها - كانت، إذا، تربة كثيرة الغبار ، وتنجم عن انعقاد ذلك الغبار، الكثير المكروبات، في الهواء، نفس المضار الناجمة عن انعقاد نظيره في الإسكندرية، وبما أن ما كان يجري في الثغر من أمور مخالفة للقواعد الصحية ومسببة للأوبئة وداعية لانتشارها، كان يجري بكيفية أوسع، وعلى قياس أكبر في مصر القاهرة، لزيادة اتساع هذه عن ذاك، وبعدها عن البحر الملح؛ أي: عن أعظم مصادر الهواء النقي، كان انتشار الأمراض والحميات الخبيثة والأوبئة سهلا فيها؛ وفتكها بالأهالي ذريعا، وقد ترقب بعضهم حركتها؛ فاتضح له أن الطاعون على الأخص، كان يعاود العاصمتين كل عشر سنوات، ويجتاح عددا عظيما من سكانهما.
فلما وطن (إسماعيل) عزمه على الاقتداء بأغسطس قيصر وناپليون الثالث، وأقبل على تنفيذ ذلك العزم بهمته المعتادة التي لم تعرف الملل ولا الكلل، يزيدها نشاطا، ما كان يعتقده من صحة في قول أحد أولياء الله في عهد جده، وهو «إن هذه الأسرة المحمدية العلوية، ما دامت مقبلة على التشييد والبناء كان الملك والعز مضمونين لها، فإذا أقلعت عنهما أو توانت فيهما، تلاشت أو اضمحلت» رمى إلى إصابة غرضين: (الأول) إدخال ما يمكن إدخاله من الإصلاحين الاجتماعي والصحي على قاهرة المعز لدين الله، مع إبقائها على ما هي عليه من ذاتية تجعل العصور الوسطى، بفروسيتها، وتقواها الخشنة الخالصة واتجاه الصناعة والفن فيها نحو ما يلعب بالتصور، مع استمراء الذوق لذاته الحقيقية: وتجعل موصوفات روايات ألف ليلة وليلة، أيضا حاضرة أمام المخيلة، كأن الأجيال لم تمر وتتوال، وكأن تلك العصور لا تزال حية حاضرة؛ و(الثاني) إنشاء قاهرة أخرى غربيها يدعوها العصران، الحاضر والمستقبل «قاهرة إسماعيل» وتختص دون الأولى، بإعجاب القلوب، وتلذذ الأعين، بشوارعها الفسيحة، الظليلة، ذات الأرصفة الأمينة؛ وميادينها الواسعة، الجميلة ذات الفسقيات الزاهرة؛ وقصورها الفخمة، النبيلة، المقامة على أحدث طراز عصري؛ وبساتينها الزاهية، المتنوعة فيها النباتات الغريبة، وملاعبها الفاخرة، المتلألئة بالأنوار ليلا؛ وأحيائها الطلقة الصقيلة، القائمة الصحة على حراستها، بدل الأبواب القديمة.
فأقبل، أولا، يزيل ما بقي شمالي قاهرة المعز من أكوام قذرة؛ ويطمر ما لم يزل غير مطمور من مستنقعات وبرك تبعث كريه الروائح؛ وينظف ما بين بابي الفتوح والنصر، وقلعة الكبش، والسيدة زينب، من شوارع وأزقة ودروب وأسواق، بتعميم الكنس والرش فيها، ومنع ثورة الغبار وكل مخالف للقواعد الصحية ثم اختط ما بين الظاهر وباب الحديد، الشارع المدعو الآن بشارع الفجالة؛ واختط ما بين باب الحديد والأزبكية الشارع الذي أطلق عليه اسم كلوت بك؛ لا لتكريم الطبيب الفرنساوي عالي الهمة، منشئ مدرستي أبي زعبل والقصر العيني الطبيتين، والذي يعد بحق أبا الطب الحديث بمصر فحسب، ولكن للدلالة، بنوع أخص، على أن الإصلاح الصحي سيسير من شمالي المدينة إلى جنوبها؛ ويتناول بذراعيه شرقها وغربها، ثم اختط جنوب الأزبكية بشرق، إلى القلعة، الشارع الفخم الذي أطلق عليه اسم جده العظيم، إشعارا بأن القلعة، وإن بناها صلاح الدين، فإنما أصبحت تعرف بمحمد علي؛ لأن دولته قامت فيها، وشمس حياته توارت في المقام المشيد على جبينها، فأصبح السبيل إلى ذلك الحصن سهلا أمينا، بعد أن كان الوصول إليه عن الطريق، التي يتبعها المحمل سنويا، منه إلى الحسينية، وعرا كثير التعرجات، والمنعطفات، والمضايق.
ولما عاد سنة 1867 من زيارته لمعرض باريس، وقد أخذت بلبه التحسينات الجارية في العاصمة الفرنسية على طريقة هوسمن الشهير، أقدم على الأزبكية؛ فقلبها رأسا على عقب؛ وطلب من بستاني فرنساوي، أن يعملها له على شاكلة حدائق تلك العاصمة فكيفها ذلك البستاني تكييفا بديعا، وتصرف في الترعة التي كانت دائرة حولها والبحيرة التي كانت داخل السد الذي بناه (محمد علي) تصرفا جميلا؛ وإذا بما كان مجرى لمياه راكدة، وصفوف أشجار لا نظام لها، وبحيرة أقرب إلى المستنقع منها إلى بساط يقر العين النظر إليه، قد تحول إلى بستان على مثال الپرك منسو بباريس وخرج إلى الوجود، نزهة من أنزه المنتزهات، ومكانا بديعا يخلب الألباب، تنيره الأنوار الغازية، وتزينه الفسقيات الناثرة الماء في الأعالي، لؤلؤا ساطعا، والمغائر الصناعية، المنحدر منها الماء بخرير تلذ به الأسماع، إلى بحيرة صافية، تجري الأسماك فيها ملونة.
وأقبل على الحي المحيط به؛ فجعل ينتزع ملكية منازله الخشبية التي كانت للأقباط مقابل تعويضات يدفعها إليهم، ويزيل تلك المساكن العتمة، ويهب الأرض التي كانت قائمة عليها هبة إلى من شاء التعهد بإقامة مبان فخمة عليها، تتفق مع عظمة القاهرة الجديدة المراد إنشاؤها.
فكان أكبر أولئك المتعهدين شأنا، وأكثرهم مالا وإقداما، الدوق أوف سيوذرلاند فإنه ما فتئ يقيم، في حي الأزبكية هذا، القصور والفنادق؛ ويعدل، ويكيف الموجود منها فيه حتى بلغ به إلى ما نراه الآن عليه، من العظمة والرونق والجمال.
فاتخذه (إسماعيل) محورا لعظمته؛ وبعد أن أوصله بالموسكي شرقا، تحول إلى غربية؛ فأزال ما كان يعرف بباب الجنينة - وهو باب كان قائما على مدخل ذلك الحي، في منتهى الطريق الواصلة ما بينه وبين بولاق - واختط إلى جنوبيه بميل نحو الغرب الأحياء البديعة المعروفة الآن بأحياء التوفيقية وعابدين والإسماعيلية؛ بعد أن أقام، في طرف الأزبكية الجنوبي، المسرحين الفخمين المضارعين في الجمال، والجلال والأبهة، مسارح أوروبا وهما المسرح الجديد والأوبرا، وأنشأ، أمام هذه، الميدان الفسيح الأرجاء المنظم الزوايا، المزري بميدان ڨندم ذاته الشهير في باريس: وفي هذا الميدان الآن تمثال لأبيه البطل الهمام؛ تجلى (إبراهيم) فيه، فارسا صنديدا، يتطاير البرق من عينيه، وقائدا بصيرا، تكسوه المهابة ويظلله الجلال؛ كما تجلى، حقا، لعسكره المصري المعجب به، وللعسكر العثماني المأخوذ رعبا منه، يومي قنية ونزيب، وقد كان هذا التمثال في عهد (إسماعيل) بميدان العتبة الخضراء أنزله العرابيون أيام الحوادث العرابية، ثم بعد أن سكنت تلك الفتنة نصب في ميدان الأوبرا حيث هو الآن.
Page inconnue