L'Égypte sur deux tiers de siècle
مصر في ثلثي قرن
Genres
القومية واللغة
«إن القضاء على لغة أمة قضاء على قوميتها»
ماكس نوردو
إذا صورت القومية جسدا فاللغة روحها، وإذا انفصل الروح عن الجسد فارقته الحياة.
وقد صدقت شواهد التاريخ، ولم يكذب نذيره للناس ألا يناموا عن لغتهم خشية أن تفنى فتفنى قوميتهم معها، في التاريخ شواهد الصدق، فهو يقول: إن أول ما يكون هلاك اللغة أن يتخللها دخيل لغة أخرى، فيحمل معه إلى نفوس أهلها طبائعا غير طبائعهم، وعادات غير عاداتهم، وآدابا غير آدابهم، تمكنها منها تلك الألفاظ السهلة السيالة التي تخالط لغتهم الأهلية، وكلما قوي هذا الدخيل انبسطت به الألسنة، واعتادت معانيه الأذهان، فتنقبض اللغة الأهلية شيئا فشيئا، ثم تذوب أمام غلبته، وهنالك تودع الأمة قوميتها وتقابل قومية جديدة لا تبصر فيها تاريخا خاصا، ولا خلقا خاصا ، ولا وطنية خاصة.
أين قوميات الأمم القديمة والحديثة التي هضمت لغتها معدات اللغات الزاحفة عليها؟ أين قومية هنود أمريكا وأهل المستعمرات الأوربية من وسط أفريقيا؟ وأين قومية «المغاربة» من أبناء «زنانة» و«كتامة» وورثة «القرطاجيين»؟ وأين قومية غير هؤلاء ممن كانوا قديما وحديثا أصحاب وطن عزيز الجانب ووطنية ناهضة الجناح؟ لقد هضمتها أيدي الغالبين حين هضمت لغاتهم لغاتها، وإنك لتحتال بكل حيلة لترى خيط الصلة بين من يسكنون تلك البقاع اليوم وبين آبائهم الأولين، فلا ترى ذلك الخيط؛ لأنهم كانوا أمما روحها اللغة فانتسخت لغاتهم فمسخوا أمما أخرى. ثم بادت لغاتهم الجديدة فمسخوا مرة ثانية، هكذا يروي التاريخ وتصدق روايته، وإنه ليحدثنا أيضا أن الفاتحين إنما يغلبون الأمم ويخضعونها بسلاحين: اللغة والسيف.
أصبحت اللغة العربية لغة مصر، ومضت عليها القرون الطويلة فصارت وعاء لآداب الأمة وعاداتها وأخلاقها وتاريخها، وصارت قوام شخصيتها ومساك جنسها وصارت لسانها في التأليف والكتابة والمخاطبة، وفي كل حاجة للغة فيها وساطة، ولعل اللغة العربية أقوى اللغات على الذيوع وبسطة السلطان، وأقدرها على الثبات والظفر بالفوز على أحداث الزمن، أما قوتها على الذيوع فلأنها لغة دين بجانب أنها لغة قومية، ولغة الدين لا تحتاج إلى شيء يعينها على إخضاع غيرها من اللغات متى أقبلت النفس على هذا الدين، وأما أنها قادرة على الثبات فلأن لها من بقاء القرآن آخر الدهر نصيرا شديد البأس بجانب القومية وهي النصير العام، وإنك لتدرك مقدار أثر الدين في حفظ اللغة العربية إذا سمعت هذه الدعوى المقلوبة:
قال اللورد دفرين في تقرير خاص بالتعليم في مصر وضعه سنة 1882: «وأخال أن أمل التقدم ضعيف ما دامت العام تتعلم اللغة العربية الفصحى التي هي لغة القرآن».
على رغم أن للأمة المصرية من لغتها تلك القوة وهذا الثبات، فقد وجدت هذه اللغة في وطنها خلال ثلث القرن الأخير ما لا يجده الخصم من خصمه، ولكن الأمة لم تكن تخضع لما يفسد عليها لغتها ثم ينتهي بفنائها، بل كان كل سهم يرمى به القلب اللغة يجد دواء عاجلا يرد عليها العافية أكثر مما كانت، ويعيد إليها البهجة أعظم مما فقدت، ويزيدها تمكينا، ويزيد نهضتها صعودا، وسوقها رواجا، ولا ريب أن لغة الأمة تمشي الآن بين صفوف من الجلال لم تكن تمشي بينها من قبل.
ظهرت مخاصمة اللغة الوطنية في دور الحكومة فأغفل أمرها في المخاطبات ووضع التقارير وتأليف القوانين واللوائح، ولم يبق لها ظل إلا فيما لا بد منه لإبلاغ الأمة ما تريد الحكومة أن تبلغها من أعمالها، والحكومة مصرية والوطن مصري، واللغة العربية لغة الحكومة الرسمية الوطنية، ولغة الوطن التي لا عوض عنها، ولكن حكومتنا عاشت ثلث قرن تقابل لغتها الرسمية بوجه عابس، وتصافحها بيد مقبوضة، كانت الحكومة تعدل عن لسانها الرسمي إلى لسان آخر أجنبي، ولا نعرف حكومة وطنية لها لغة خاصة تفعل ذلك إلا حكومتنا.
Page inconnue