L'Égypte sur deux tiers de siècle
مصر في ثلثي قرن
Genres
قال المستر «أرثر هور» مكاتب جريدة «التيمس» في الشرق الأوسط في أولى مقالاته التي كتبها عن «الاضطراب في مصر»: «فلما انتصرنا في الحرب فوجئنا بعصيان أيقظنا من النوم، وظهر لنا أن المصريين لا يحبوننا ولا يريدون الانتفاع بنا».
كذلك قال هذا الكاتب، وفي قوله معنى يدل عليه مفهوم عبارته، فكأنه أراد أن يقول: إن العصيان لم يكن منتظرا لأنهم فوجئوا به؛ أي إن المظنون بل المعتقد كان خلافه، وقد كان هذا العصيان عاما، وكان مفاجأة، فلا بد أن يكون الشعور بأسبابه الطبيعية عاما أيضا، ولا بد أن يكون الذين فوجئوا به على خطأ في جهل أسبابه أو تجاهلها؛ إذن: لم يكن الفلاح الذي كان شديدا في هذا العصيان راضيا ولا مطمئنا، ولم يكن يجد من نعمة التمتع بحرية الوطن بديلا.
بل يدل المفهوم على معنى أكبر من هذا المعنى، ففي العبارة ما ظهر من أن المصريين لا يحبون معارضيهم السياسيين، ولا يريدون الانتفاع بهم فكأن عدم الحب كان خفيا على هؤلاء المعارضين من قبل، وكأنهم يريدون أن يقولوا الآن: إن ما زعمناه من أن الفلاح حامد شاكر، وأن نور التقديس يسطع في جوانب نفسه كان زعما باطلا.
ولا نظن المستر «أرثر هور» يرى بعد هذا أن يكون الحب ضربا من ضروب الطاعة التي تقضي بها محكمة أو مجلس، أما إرادة عدم الانتفاع فإن لها سببا تراه كل عين في الصورة التي تشهد بها حالة مصر العلمية والتجارية والصناعية والاجتماعية والأدبية؛ فإن لهذه الصورة لسانا ينطق فصيحا بشرح قيمة الانتفاع في ثلث قرن كامل.
وقد لا نعدم معترضا يقول: إن هذا الكلام نظري، أو أثر حالة محدودة جاءت في الزمن الأخير اضطرارا أو خطأ بغير قصد. إذن نرجع إلى الحقائق في حينها البعيد والقريب.
استقبلت مصر أياما قضى بها الزمن منذ سنة 1882، ولم تكد تجتاز حوادث تلك السنة والسنتين قبلها حتى بسطت يدها للعمل، ورفعت صوتها بالحجة، وما كانت يدها المبسوطة في معاهد المدن بأسبق حركة منها في حقول الريف، ولا كان صوتها المرفوع في قصور العواصم بأعلى منه في أكواخ القرى، وكم بين هذا الزمن الذي نحن فيه الآن وبين الوقت الذي وقعت فيه حادثة «الجيش» يوم استعرضه سمو الخديو عباس في الحدود؟ لقد كان ذلك الوقت في أول عهدنا بما قضي به علينا، فليسألوا الحق: لماذا جر كبراء المصريين مركبة الخديو عباس يومئذ؟ ولماذا أغدق عليه البريد والبرق رسائل الشكر من أرجاء القرى وأعماق الريف؟ أما جواب الحق فهو أن وطنية الفلاح العريقة أرته موطن الشكر من الوجوب فأعرب عن شكره برسائله، وأن وطنية المتحضرين الراسخة أرتهم موطن الحمد من اللزوم، فجروا مركبة أميرهم الشاب.
كان الفلاح يخرج من داره إلى حقله وفي يده حبل ماشيته، فيلذ له أن يقف وتقف الماشية وراءه، إذا اتفق أن رأى قارئا من أبناء القرية يطوي صحيفة في يده، وما كان يقف ليسأله ما بها من الأخبار لأول مرة، بل ليسأله: أية الصحف هي أمن الصحف الوطنية؟ فإذا علم أنها ضالته استحلف صاحبه أن يقرأ ليسمعه آية الإخلاص لمصر، غير قانع بالسؤال عن أخبارها، وإذ ذاك يتهافت الفلاحون فيقف قارءوهم موقف المعلم، ولكنه لا يلقي درسا، بل يتذاكر وإياهم سورة الوطنية المشتركة وآية الإخلاص للوطن.
يتناول وصف الفلاحة أعيان البلاد ووجهاءها وعمدها، أولئك الذين يشتركون في صحف السوء بما يشبه الأمر المقضي به، غير أن مكاتب البريد في أرجاء القطر تعلم كيف كانوا يرفضون هذه الصحف كلما وقع حادث يهيج شعور الوطنية، بينما كانت تلك الصحف لا تخجل أن تؤلمهم بقحة، وتجرح شعورهم بجرأة.
وفي الحادثة المحزنة التي حملت وزرها سنة 1906، تجلت وطنية الفلاح المصري مشوبة بالكمد، ممزوجة بالدمع الذي جرى مجرى الدم المراق، فكانت القرى كالمرجل تغلي بنار الوطنية، وكان ضوء هذه النار يسطع في الصحف جمعاء، وكان بريقها يلمع على أسلاك البرق، وضوء هذه الوطنية هو الذي نفذ إلى أقطار الغرب كافة فبدد ما نسجت يد التضليل، واستقامت به الحقيقة التي حرفت عن موضعها .
ولم تكد شمس الوطنية تتوارى بحجابها بين جوانح الفلاح المصري، حتى أشرقت يوم النكبة بفقد المغفور له مصطفى كامل، ولعل المأتم الذي أقامته الأمة كلها حزنا عليه أنطق دليل على أن المصري الفلاح وغير الفلاح لا يرضى غير مصره، ولا يحب سوى أمته.
Page inconnue