L'Égypte au début du XIXème siècle 1801-1811 (Première Partie)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
ثم لم تمض أيام قلائل حتى وصل القاهرة رسول من القسطنطينية، يحمل فرمانين من الباب العالي: أحدهما - بتاريخ 2 سبتمبر 1803 - معنون باسم محمد علي وأحمد بك وعمر بك وسائر الرؤساء الألبانيين «الأرنئود» بالقاهرة، والآخر - بتاريخ 5 سبتمبر - معنون باسم علي باشا الجزائرلي والي مصر، مع توجيه الكلام إليه وإلى إبراهيم بك حاكم القاهرة ومساعده عثمان بك البرديسي وإلى القضاة ورؤساء الإنكشارية ومضمونه صدور العفو عن البكوات والصفح عما سبق من فعالهم، وعدول الباب العالي عن إرسال الحملات التي كان يعتزم إرسالها ضدهم، وتعيين إبراهيم بك شيخا للبلد كما كان في السابق وجعله مسئولا عن حكومة القاهرة وعن تنفيذ الترتيب الذي اشتمل عليه الفرمان للأوضاع الجديدة وهي لا تخرج عما سبق ذكره، على أن يرسل الباب العالي مديري الجمارك من القسطنطينية إلى الإسكندرية ورشيد ودمياط وبولاق ومصر العتيقة والسويس والقصير.
وعلى هذه الصورة اعترف الباب العالي بحكومة البكوات، على أساس أن يحتفظ الباب العالي بالقسم الأعظم من إيرادات البلاد لنفسه ويترك للبكوات تدبير الوسائل التي تمكنهم من سد حاجة حكومتهم بأية وسيلة كانت؛ أي المضي في مصادرة أموال الأهلين واستنزاف مواردهم، وكان ذلك هو الحل الذي ارتآه الباب العالي لإنهاء مسألة البكوات، وبادر «دراموند» ثم «برون» بإبلاغ حكومتيهما عنه بمجرد وقوفهما عليه في الظروف التي سبق ذكرها عند الحديث عن مساعي الإنجليز والفرنسيين لصالح البكوات في القسطنطينية.
غير أن صدور عفو السلطان العثماني عن البكوات المماليك بهذه الشروط غير المعقولة؛ أي حرمانهم في الحقيقة من إيرادات البلاد التي يسيطرون عليها فعلا، سواء كانت هذه الإيرادات جمركية أو من ريع الأرض التي يمتلكونها، زد على ذلك تعزيز سلطان باشا القاهرة في هذه الأوضاع الجديدة - لم يكن له في نظر البكوات سوى تفسير واحد هو أن الباب العالي لا يزال يتعمد غشهم وخديعتهم، وأنه لم يصدر عفوه عنهم إلا لفشله في إخضاعهم بالقوة، وأنه إنما يريد - بفضل حرمانهم من الموارد التي تكفل لهم العيش والبقاء - أن يخضعهم لسلطانه تحت ستار الرغبة في حسم خلافاته معهم وإدخال الطمأنينة الكاذبة إلى نفوسهم في ظل هذا الصلح الغادر الذي يعرضه عليهم.
وقد علق «مسيت» على ما سماه «بالمعاهدة» التي غرضها إخطار البكوات بعفو السلطان عنهم، وإعلانهم باستمرار حكومتهم بشروط معينة، فقال في كتابه إلى حكومته في 18 نوفمبر: «من الواضح أن الباب العالي قد شعر بعجزه عن امتلاك هذه البلاد وإن كان لا يزال برغم ذلك مصمما على عدم التسليم بها كلية وتركها دفعة واحدة في أيدي البكوات، فإنه عندما كان البكوات يمتلكون البلاد بأسرها ويشددون الحصار على العثمانيين في الأماكن المحصنة التي بقيت في أيديهم، عرض الباب العالي عليهم مديرية أسوان فحسب، وعندما أصبح البكوات أسياد القاهرة ودمياط ورشيد اقترحت الحكومة العثمانية إعطاءهم الصعيد، فلما رفض البكوات هذا العرض وافق الأتراك أخيرا على طلبهم، ولكنهم وضعوا قيودا لتعطيل سلطانهم والحد من سلطتهم»، مما ينهض دليلا على مبلغ ممانعة الديوان العثماني في هذه التنازلات التي تنتزع منه انتزاعا، وكان رأي «مسيت» أن البكوات لن يقبلوا هذه «المعاهدة».
ولم يقبل البكوات هذه «المعاهدة» فعلا، وزادهم تشككا في نوايا الباب العالي، ما جاء في ذلك الفرمان الموجه لمحمد علي ورؤساء الأرنئود، يطلب منهم مغادرة البلاد والعودة إلى أوطانهم، فقد أفرغ هذا الفرمان في العبارات التالية: «لقد تحملنا - أي الباب العالي - في فتح مصر للمرة الثانية وانتزاعها من قبضة الفرنسيين تضحيات كثيرة، ومع ذلك فإنه ما إن نجحنا في استرجاعها حتى عمد بعض الأفراد من ذوي النوايا السيئة إلى إخضاعها مرة أخرى لسلطان المماليك وسيطرتهم. وليس مقصدنا من هذا القول نسبة ما وقع من خطأ إليكم - أي رؤساء الأرنئود وجندهم - وعلى كل حال فقد أسدل الستار على الماضي وتناسيناه، وصفحنا عن كل ما ارتكب من ذنوب؛ رحمة منا وشفقة بالمذنبين الخاطئين، ونحن ندعوكم لذلك لمغادرة مصر والعودة مع جنودكم الأرنئود إلى أوطانكم، فهل يا ترى ترفضون العودة إلى أسركم التي تمد أيديها لكم متوسلة تطلب رجوعكم إليها؟ إن الماضي قد صار نسيا منسيا، ولكم أن تثقوا بذلك، فما عاد يذكر إنسان شيئا مما وقع أيام خسرو باشا، ولا شك لدينا في أنكم سوف تفيدون من رحمتنا وتطيعون أوامرنا التي يتحتم عليكم أن تخضعوا لها.»
وعلى ذلك، فقد كان معنى خروج محمد علي من مصر إذا هو استجاب لنداء الباب العالي، حرمان البكوات من القوة التي لم يخامر البرديسي على وجه الخصوص - وهو صاحب الكلمة العليا بينهم؛ أي شك في أنها تؤيدهم كل التأييد، ولا غنى عن مؤازرتها لهم في الخلاص من الباشا العثماني والاستيلاء على الإسكندرية؛ ذلك أن البرديسي وإبراهيم كانا قد قررا البطش بعلي باشا الجزائرلي، ورفض «المعاهدة» التي بعثت بها القسطنطينية على نحو ما تنبأ به الوكيل الإنجليزي، فلم يصدع محمد علي أو غيره من رؤساء الأرنئود بما أمروا به، وانتظر البكوات بفارغ الصبر ما قد تسفر عنه خطوتهم الأخيرة مع علي باشا، ولم يفت «مسيت» إدراك نواياهم الصحيحة أو غرضهم من جذب الجزائرلي إلى القاهرة، فقد علم؛ أي مسيت من أحاديثه مع البرديسي وإبراهيم أنهما يشكان في قبول الجزائرلي لدعوتهما إلا إذا سلما إليه رهائن؛ ضمانا لسلامته، ولكنهما لن يرسلا له أية رهائن إذا طلب ذلك فعلا، كما أظهرا له أنهما يعتزمان الكتابة إلى القسطنطينية لإرسال باشا آخر للقاهرة غير علي الجزائرلي، الأمر الذي جعل «مسيت» يجزم باستحالة رضا البكوات به، وهو الذي أثيرت حرب شعواء ضده، وبأن البكوات لا يبغون سوى كسب الوقت حتى يتدبروا أمرهم بسرعة، بسبب حروجة مركزهم لحاجتهم الملحة إلى المال لدفع مرتبات الجند وبخاصة؛ لأن هؤلاء ما زالوا متمردين عليهم، وقد يتصدع اتحادهم مع الأرنئود في أي وقت، وعلى ذلك فلم يكن هناك مناص في هذه الظروف من أن يقوم البكوات بعمل حاسم وسريع ضد الجزائرلي حتى يستطيعوا التفرغ لمناجزة الأرنئود إذا تحطمت محالفتهم معهم وانشق هؤلاء عليهم، واعتمد البكوات على ما عرضه عليهم «مسيت » من إرسال حكومته النجدات إليهم في إرغام الأرنئود حينئذ على مبارحة البلاد بعد إلحاق الهزيمة بهم.
وكان على ضوء ما وقف عليه «مسيت» من معلومات واستخلصه من نتائج؛ أن وجد من الواجب عليه أن يوضح لحكومته «أغراض البكوات ونواياهم الخفية حتى لا يبدو أن هناك تضارب في مسلكهم» من دعوتهم الجزائرلي للحضور إلى القاهرة، فقال في رسالته السالفة الذكر في 18 نوفمبر «إن امتلاك الإسكندرية هو غرض البكوات الرئيسي في الوقت الحاضر، ثم اتخاذ الحيطة في الوقت نفسه ضد المؤامرات والمكائد التي يعلمون أن علي باشا سوف يدبرها ويحيك خيوطها إذا سمح له بالدخول إلى القاهرة، ولتحقيق هذا الغرض المزدوج دعوه للحضور في صحبة عدد قليل من الجند بدعوى عجز القاهرة عن إعالة عدد كبير منهم وتموينهم، فإذا استجاب علي باشا لهذه الرغبة وحضر بقليل من الجند قبض البكوات عليه وعلى جماعته وأرسلوهم إلى القسطنطينية عن طريق يافا. وينتهز المماليك والأرنئود فرصة شعور حامية الإسكندرية بالطمأنينة بعد خروج علي باشا إلى القاهرة وإغفالها الحيطة والحذر، فيهاجمونها ويستولون على الإسكندرية، وأما إذا فكر علي باشا في المجيء إلى القاهر مع كل قواته - وتبلغ هذه حوالي الألفين - فسوف يعامله البكوات كعدو؛ على أساس أنه ما كان يجب عليه أن يحضر بهذه الأعداد الكبيرة بعد أن أوضحوا له أن القاهرة في حالة من الفقر تجعلها عاجزة عن تموينهم، وأنه ما كان ليحضر على رأس جيش في هذه الظروف إلا إذا كانت له نوايا سيئة ومريبة، والبكوات يرجون كسب الوقت على أمل أن تصلهم النجدات التي طلبوها من الحكومة الإنجليزية في الوقت المناسب، فتساعدهم على طرد الأرنئود.»
وفي أوائل ديسمبر وصل الخبر من رضوان كتخدا إبراهيم بك أنه وصل الإسكندرية وقابل علي الجزائرلي الذي «وعد بالحضور إلى مصر؛ أي القاهرة، وأنه يأمر بتشهيل أدوات الحج ولوازمه»، وكما كان البكوات يريدون من توجيه دعوتهم لعلي باشا الكيد له، والتخلص منه بطرده من البلاد وإبعاده إلى القسطنطينية، فقد كان علي باشا - وهو رجل مكائد ودسائس بطبعه - يريد هو الآخر الكيد لهم بتقويض عروش حكومتهم في القاهرة، ويرجو أن يتسنى له - بفضل ذلك - دعم أركان باشويته؛ ولذلك فقد بادر بإرسال فرمان العفو السلطاني إلى البكوات على نحو ما سبق ذكره، ثم لم يتردد في إجابة الدعوة التي وجهها له البكوات على يد رضوان كتخدا إبراهيم بك، وقد شرح «دروفتي» سياسة علي باشا أو بالأحرى الأسباب التي دعته إلى قبول هذه الدعوة، فقال في رسالته إلى الجنرال «برون» في القسطنطينية في 18 ديسمبر ما معناه: إن علي باشا كان يعلم بالنزاع القائم في القاهرة بين الأرنئود والمماليك، وإن الأولين يشعرون بازدياد قوتهم منذ قيامهم بثورتهم ضد ممثل الباب العالي الشرعي في البلاد، تلك الثورة التي كانت في صالح البكوات، والتي مكنتهم من الحكم في القاهرة، وإن البكوات يدركون أنهم في ثورة صريحة على الباب العالي، وإنهم لذلك سوف يقبلون كل تسوية تساعد على تصحيح وضعهم، لا سيما وقد صدر الآن عفو الباب العالي عنهم، واعتقد علي باشا أن الأرنئود لم يعتادوا الحياة في القطر المصري بالدرجة التي تجعلهم يتخلون عن كل أمل في العودة إلى أوطانهم وبخاصة بعد أن عفا السلطان عنهم، وأصدر أمره الأخير بخروجهم من مصر والرجوع إلى أسرهم.
وكان من رأي علي باشا أنهم لن يدعوا فرصة هذا العفو العام تمر دون الاستفادة منها، وفي وسعه لذلك أن يفيد من هذه الظروف جميعها، أضف إلى هذا أن البكوات لم يدفعوا لهم مرتباتهم المتأخرة عن ستة شهور بتمامها، ولا سبيل إلى دفع هذه المرتبات إلا إذا أمعن البكوات في إرهاق البلاد في وقت لا تكفي فيه مواردها لسد نفقات إدارتهم وحاجاتها اليومية، بينما صارت الفوضى تعم كل فروع هذه الإدارة المدنية والعسكرية على السواء، وانعدمت تلك الروح المعنوية التي أمدتهم بالقوة دائما، وتضعضع كيان حكومتهم بسبب كبر سن إبراهيم بك الذي صار لا يحمل من الزعامة سوى اسمها، وفضلا عن ذلك، فقد اعتمد علي باشا في نجاح أغراضه على مهارته في الدس والوقيعة؛ لبذر بذور التفرقة بين الألبانيين وبين المماليك من جهة، وبين البكوات بعضهم وبعض من جهة أخرى، فخيل إليه أن في استطاعته جذب محمد علي وسائر رؤساء الأرنئود سواء في القاهرة أو في رشيد، وقد تقدم كيف كشف محمد علي دسائسه معه لعثمان البرديسي، كما كان من المنتظر أن تفشل مساعيه مع رؤساء الأرنئود في رشيد، وكما خيل إليه أن في وسعه أيضا جذب عثمان بك حسن وحمله على تأييده، فكان لذلك كله أن قرر علي الجزائرلي الخروج إلى القاهرة، فغادر الإسكندرية في طريقه إليها في 26 ديسمبر 1803.
ومع أن البكوات كانوا قد رسموا له خط السير الذي يجب عليه اتباعه، وحددوا له عدد الجند الذين سمحوا له باصطحابهم معه في سيره، فكان عليه أن يأخذ طريق دمنهور والطرانة إلى القاهرة، وأن لا يزيد عدد مرافقيه على الألف، فقد خالف علي باشا اتفاقه مع البكوات، وخرج في قوة من 2500 من المشاة و500 من الفرسان، ثم إنه بدلا من أن يقصد دمنهور لم يلبث - بعد خروجه من الإسكندرية وتظاهره بالسير إلى دمنهور - أن تحول فجأة بمجرد وصوله إلى إدكو يريد الزحف على رشيد، وبادر يحيى بك حاكمها، وعمر بك الأرنئودي رئيس حاميتها بالخروج منها لمقابلته، فأدركاه وهو لا يزال بإدكو، فأكد لهما علي باشا أنه لن يقترب من رشيد، فعادا أدراجهما، ولكن حدث في المساء نفسه (27 ديسمبر) أن قبض على جنديين من الأتراك يحملان رسالة من علي باشا إلى عمر بك يدعوه فيها لمناصرته والانشقاق على المماليك، وخرجت الحامية لمقابلته، ولكنه لم يجرؤ على الالتحام في معركة معهم، وفضل استئناف السير إلى القاهرة، وسار بمحاذاة شاطئ النهر الأيسر وانتشر جنوده في القرى والدساكر ينهبون ويرتكبون مع الأهلين فظائع شديدة، ثم انتقل بجنده إلى الجانب الآخر من النهر بدعوى عدم وجود مؤن أو أقوات في الضفة اليسرى، فصار بجيشه في قلب الدلتا، واستمر الأهلون يقاسون شدائد عظيمة على أيدي جنده حتى وصل إلى منوف .
Page inconnue