L'Égypte au début du XIXème siècle 1801-1811 (Première Partie)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
ترجمان «كافان» و«ستراتون» البكوات، ورفض البكوات رفضا قاطعا الذهاب إلى القسطنطينية أو غيرها، وعبثا صار «كافان» يحاول إقناعهم بخطأ معارضتهم للباب العالي، وأخيرا أعلنوا أنه إذا لم يمنحهم الباب العالي حق الإقامة في الصعيد، فلا يسعهم سوى شكر الضباط البريطانيين الذين أولوهم حمايتهم، ثم مغادرة الجيزة والانسحاب إلى مكان آخر، وطلب البكوات أن يعطوا الصعيد ابتداء من اثني عشر أو أربعة عشر فرسخا من القاهرة، ورفض الصدر الأعظم، وعندئذ قرر البكوات الرحيل فورا، وكان بعد لأي وعناء أن توسط «كافان» و«ستراتون» لحملهم على البقاء خمسة أيام أخرى، فقبلوا على شريطة ضمان سلامتهم، ووعد الصدر بذلك، ونصح «كافان» البكوات باجتناب أي عمل سريع من شأنه إثارة الحرب الأهلية، فوعد البكوات بالتشاور فيما بينهم وإبلاغه قرارهم في اليوم التالي، ولكن البكوات رحلوا في مساء اليوم نفسه 24 يناير متجهين صوب الصعيد، وبعث إبراهيم بك وعثمان البرديسي «الذي تزعم بيت مراد بعد مقتل عثمان الطنبورجي في مكيدة أكتوبر المعروفة» بخطاب إلى الجنرال «ستيوارت» في 25 يناير يعللان فيه سبب رحيلهما بقولهما: «إنه لا فائدة ترجى من بقاء البكوات بينما بلغهم من الصدر الأعظم بناء على أوامر حكومته أن لا يعطوا أرضا في مصر، وأنهم إنما قرروا الرحيل حتى يطمئنوا على أنفسهم»، ثم استطرد إبراهيم والبرديسي يذكران الإنجليز بوعودهم فقالا: «ولقد وعدنا ملك بريطانيا العظمى بالحماية والأمن على أرواحنا وأموالنا وأسرنا، ومع ذلك فإن شيئا من هذه الوعود لم ينفذ، ولا تزال أسرنا وأملاكنا في أيدي الأتراك»، ثم صارا يرجوان أن يطلع اللورد «كافان» على حالتهم «وهم الذين يطلبون دائما حماية الجيش البريطاني، ويوصونه خيرا بأسرهم التي تركوها في القاهرة في حمايته»، ثم قال إبراهيم والبرديسي «إن البكوات حتى يبرهنوا على استعدادهم لقبول أي شيء، فهم يرضون بمديرية جرجا التي دافعوا عنها ضد الفرنسيين»، وحاول «ستيوارت» - دون جدوى - إقناعهم بالنزول من الصعيد والعودة، ولكن هؤلاء أجابوا في 27 يناير بأنهم قرروا البقاء به حتى يتسنى «لأولئك الذين وضع البكوات أنفسهم تحت حمايتهم؛ أي الإنجليز تقرير مكان ثابت ومحدد لإقامتهم في مصر.»
وأما الصدر الأعظم فقد اعتزم مطاردتهم، وطلب من «كافان» إمداده بقوات إنجليزية لهذه الغاية، ورفض «كافان» بدعوى عدم وجود تعليمات لديه تمكنه من ذلك، وكتب الريس أفندي في 26 يناير إلى «كافان» يشكو من أن المماليك عند إقامتهم مع الجنرال ستيوارت في الجيزة صاروا يشيعون في كتب مدونة أن إنجلترا قد تعهدت بإرجاعهم إلى حالهم الأولى، ويحذرون رؤساء القرى والعزب المجاورة من إطاعة ضباط الباب العالي؛ لأن مصر «دائما تحت سلطانهم، وإذا عارضوهم فسوف يقتصون وينتقمون منهم»، وطلب الريس أفندي من «كافان» أن يصدر تصريحا كتابيا ورسميا بأن إنجلترا صديقة حميمة وحليفة مخلصة للباب العالي ولا تسمح بأي ضرر يلحق بمصالح الحكومة العثمانية، وأنه بدلا من حماية البكوات، بل وبعيدا كل البعد من ذلك؛ فإن حكومة إنجلترا لا يسعها إلا إظهار استنكارها كل الاستنكار لمسلك البكوات الذين ظهروا عصاة ثائرين ، ولكن «كافان» امتنع عن إصدار هذا التصريح؛ لأن معناه - كما قال في جوابه على رسالة الريس أفندي في 28 يناير: «التدخل في شئون مصر الداخلية، الأمر الذي يتنافى مع التعليمات المعطاة له»، ولكن «كافان» أعلن في الوقت نفسه، أنه لا يتردد عن التصريح بأن غرضه لم يكن أبدا ولن يكون تشجيع أو تأييد البكوات والمماليك بصورة ما أو أي طبقة أخرى من الأفراد عند اتخاذهم مسلكا معاديا لسلطة سلطانهم الشرعي إمبراطور الأتراك والحليف المخلص القديم للملك البريطاني.
ولم تفد شيئا هذه التصريحات بطبيعة الحال، واستمر البكوات في سيرهم إلى الصعيد؛ حيث كان الألفي رابضا به وعبثا حاول طاهر باشا رئيس الأرنئود إقناع البكوات بالعودة، وإطاعة الصدر الأعظم الذي يعدهم بالصفح ويؤمنهم على أشخاصهم وأملاكهم وأسراتهم باسم حكومته وباسم عظماء الجيش العثماني بأسرهم، ولكن هؤلاء أجابوه بأن الإنجليز - ولو أنهم أصدقاء للباب العالي - قد تحملوا مشقات عظيمة من أجل فكاكهم من الأسر، وبالرغم من الجهود التي بذلوها حتى يحصلوا على حق الإقامة في مصر فقد ذهبت هذه الجهود جميعها سدى، فكيف يطلب العثمانيون بعد هذا كله أن يثق البكوات فيهم وفي وعودهم؟ وكتب إبراهيم بك إلى ستيوارت في 29 يناير أن الغرض من محاولة طاهر باشا نصب الفخاخ لهم لحرمانهم من حماية الجيش البريطاني، وقد أقسم له البكوات: «لو أن الصدر الأعظم عرض عليهم مصر بأسرها من غير حماية الإنجليز كضمان لهم ما نزلوا الصعيد.»
فكان انسحاب البكوات بهذه الصورة مؤذنا ببداية الحرب الأهلية؛ لأنهم عندما غادروا الجيزة كانوا حوالي الألفين، بينما كان لدى الألفي في الصعيد حوالي الخمسمائة، ولم ينشق على إخوانه سوى واحد منهم فقط هو «قاسم بك» الذي طلب الصفح من الصدر، واستعد طاهر باشا للزحف عليهم بجيش يتراوح بين الأربعة آلاف والخمسة آلاف، ويعتمد على أسطول مدفعية نهرية.
وهكذا فشلت مهمة «ستراتون» ووقع ما كان يخشاه الإنجليز من نشوب «الحرب الأهلية» وعدم استقرار الحكومة وتعرض مصر للغزو الأجنبي نتيجة لذلك، إذا أخلاها الإنجليز، ولم يبق على موعد عقد الصلح العام سوى شهور قليلة.
وغادر «ستراتون» الإسكندرية في 15 فبراير سنة 1802 قاصدا القسطنطينية، فوصلها في 18 مارس، وفي آخر مارس كتب إلجين إلى «هوكسبري»، يعلل في الحقيقة الأسباب التي نجم عنها فشل «ستراتون» في مهمته - كما رآها - ويذكر النتائج المترتبة على هذا الفشل، فقال: إن مبعث الارتباك الذي شعر به عند إصدار تعليماته إلى ستراتون «أنه كان يجهل جهلا تاما أسباب النزاع أو تطوراته؛ لأنه لم ير مطلقا خطاب السير جون هتشنسون لعثمان بك الطنبورجي والذي يرتكز عليه الموضوع كله ...» ثم علق على مسألة الارتباطات التي ارتطمت بصخرتها - في نظره - كل المحاولات التي بذلت من أجل الوصول إلى تسوية بين المماليك والباب العالي، فقال: «إن الأتراك يدركون تمام الإدراك أن مطالب البكوات إنما هي الظفر بالسيادة على مصر، وأن جميع المنازعات التي وقعت في الماضي بين الأتراك والمماليك انتهت جميعها بفوز المماليك وخسارة الأتراك خسارة جسيمة، وفضلا عن ذلك فإن البكوات في أثناء المؤتمرات التي عقدها «ستراتون» رفضوا - في الوقت الذي طالبوا فيه بالصعيد - أن يتركوا بيوتهم في القاهرة يريدون أن يوحوا بذلك أنه سوف تجيء سريعا الفرصة لاستخدامها.» وهكذا بدأت الحرب الأهلية فعلا؛ لأن الجنود العثمانيين في القاهرة قد غادروها جميعهم مع أسطول من سفن المدفعية، لمطاردة المماليك، وذلك بعد عشرة أيام من مغادرة ستراتون القاهرة.
ولا جدال في أن «إلجين» منذ أن أصدر تعليماته إلى ستراتون، وعلى نحو ما يتضح من رسالته هذه الأخيرة، كان قد صار يؤيد وجهة النظر التركية، أضف إلى هذا أنه لم يطلع الباب العالي على آراء حكومته بصدد مسألة البكوات؛ لأنه كان يبني آمالا كبيرة على نجاح ستراتون في مهمته ويرجو أن لا يجد نفسه في حاجة إلى إطلاع الباب العالي عليها إذا نجح ستراتون، أما وقد فشل هذا في مهمته، فقد ترك «إلجين» لهذا السياسي الهادئ إخراجه من هذا المأزق، فترك له شئون السفارة وأبحر في 29 مارس سنة 1802 إلى أثينا ينشد الراحة.
وأما سياسة حكومته فلم يطرأ عليها أي تبدل، بل استمرت تبغي الوصول إلى تسوية بين البكوات والباب العالي، لا على أساس إخراج البكوات من مصر، بل على أساس الارتباطات التي أعطاها لهم هتشنسون، وذلك لإنشاء الحكومة المستقرة التي تستطيع دفع الغزو الفرنسي عن البلاد إذا تجدد - هدف الحكومة الإنجليزية دائما - وكانت الحكومة الإنجليزية لا ترى أي تناقض بين تحقيق هذه الرغبة، وبين إرجاع مصر إلى تركيا، بل ارتبط الأمران في نظرها أحدهما بالآخر، وصح عزمها على الوصول إلى هذه التسوية بين المماليك وتركيا عندما وصلت أنباء بمكيدة القبطان باشا والصدر الأعظم إلى لندن، فقد بادر هوكسبري بالكتابة إلى إلجين في 27 يناير سنة 1802 يبحث عن الأثر الذي أحدثته هذه المكيدة في الدوائر المسئولة بلندن، ورأى لزاما عليه أن يفسر بصورة أوضح التعليمات التي أصدرها إلى «إلجين» في 19 مايو، وفي 28 يوليو سنة 1801 لإظهار تمسك حكومته بالمبدأ الذي اشتملت عليه تعليمات «19 مايو» وهو إرجاع مقاطعة مصر إلى الباب العالي، وعدم التدخل في شئونها، اللهم إلا فيما يتعلق بوضع قوة بريطانية على شاطئها حتى يحين موعد عقد السلام العام؛ وذلك للدفاع عنها ضد أي غزو فرنسي جديد، كما أن غرض حكومته للسبب نفسه هو إبطال مساعي الفرنسيين الذين يحاولون إضعاف البلاد بإشاعة التفرقة والانقسام بين أحزابها وجماعاتها حتى تعجز عن الدفاع عن نفسها، وقد استطرد هوكسبري بعد ذلك يقول: «إنه عند إصدار هذه التعليمات لم يكن غرض الحكومة الإنجليزية أن تملى هذه الخطة إملاء على الحكومة العثمانية، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن «هتشنسون» قد تدخل من غير ضرورة في شئون مصر الداخلية، ولو أن الظاهر قطعا من الآراء التي أبداها أن الفضل لدرجة كبيرة في نجاح الأتراك والبريطانيين في طرد الفرنسيين منسوب لتعاون البكوات معهم، وكان في هذه الظروف إذن أن صار تشجيع المماليك للانضواء تحت الراية البريطانية وأعطيت الحماية لهم، وهم لوثوقهم في كلمتنا قد أقبلوا على مساعدتنا، وكل ما فعله «هتشنسون» كان حماية أرواحهم وأملاكهم من اعتداءات الأتراك، وفي وسع كل إنسان أن يدرك مبلغ وقع هذه المكيدة في نفس «هتشنسون»، ولا شك في أن الحكومة الفرنسية سوف تفيد من هذا الظرف لاسترجاع نفوذها لدى الباب العالي، وسوف يقدمون هذا دليلا لتأييد ما يقولونه من أن البكوات قد استندوا في ثورتهم على النفوذ الإنجليزي، الذي حركهم عليها، وأن الفرنسيين لم يحتلوا مصر إلا لضمان المصالح العثمانية ضد المماليك.» وقال «هوكسبري»: إن على اللورد إلجين أن يبذل قصارى جهده لمحو آثار مثل هذه الأقوال من ذهن الباب العالي.
ثم كان في 16 فبراير سنة 1802 أن بعث جورج الثالث برده على كتاب السلطان سليم الذي بعث به إليه في 23 نوفمبر سنة 1801 بعد حادث المكيدة، يرجوه إصدار أوامره إلى قواده وسائر العسكريين البريطانيين في مصر؛ حتى يكفوا عن مناصرة المماليك، ولا يصروا على بقائهم في مصر فأكد «جورج الثالث» في كتابه حينذاك «أنه لم يجل في خاطره بتاتا التدخل في شئون مصر الداخلية، إلا فيما يتعلق بتنفيذ التعهدات التي يكون قد حصل الارتباط فيها باسمه، ولكن عزمه هو أن تترك هذه البلاد؛ أي مصر تحت تصرف «السلطان سليم» إطلاقا في كل أمر من أمورها عدا ما ذكره.»
وكان معنى هذا أن الحكومة الإنجليزية - مع ارتباطها بإرجاع مصر إلى تركيا - لا تزال متمسكة بضرورة تسوية مسألة المماليك على أساس إبقائهم في مصر وعدم إخراجهم منها، على خلاف ما يريد الباب العالي، واستتبع ذلك تجديد الوساطة مرة أخرى لإنهاء الخلافات بين الباب العالي والمماليك.
Page inconnue