358

L'Égypte au début du XIXème siècle 1801-1811 (Première Partie)

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Genres

وأما ذلك الرعب والفزع الذي قيل إنه حطم شجاعة الأهلين، فإن أحدا لا يمكنه التسليم بحدوثه، فقد كان للأهلين من الشجاعة ما جعلهم يشقون عصا الطاعة على حكومة محمد علي وهي في أوجها، عندما أثقلتهم الضرائب (مع ضرورتها لتوفير المال)، وأرهقهم التجنيد (مع ضرورته لتعزيز الجيش)، وكان المال والجيش الدعامتين اللتين قام عليهما نظام محمد علي من أجل تحديد وضع البلاد السياسي بالنسبة للباب العالي وبالنسبة للدول الأوروبية، فوقعت سلسلة من الاضطرابات وكان بعضها خطيرا حقا، نذكر منها ما حدث بالقاهرة ذاتها في مارس 1822، وهي الاضطرابات التي اعتقد الباشا أن للسيد عمر مكرم يدا فيها فنفاه إلى طنطا، ثم في منوف في مايو 1823، ثم في منفلوط في مارس 1838، ثم في أسيوط في فبراير ومارس 1839.

وقد قضى الباشا على كل هذه الاضطرابات بسهولة؛ لأنه لم يكن هناك أية زعامة شعبية لا أيام المناداة بولاية محمد علي في سنة 1805 ولا بعدها، ولم يكن السبب في ذلك أن محمد علي قد قضى عليها عامدا كما يذهب أصحاب هذا الرأي، بل للأسباب التي سبق ذكرها عند الكلام عن مسألة إقصاء المشايخ، ولأن أحدا من الأهلين ما كان يهدف إطلاقا إلى مشاركة محمد علي في تدبير شئون الحكم، وذلك في عصر كان لا يزال فيه الشرق يخضع لسلطان المستبد الطاغية أو لسلطان المستبد المستنير، وقد كان محمد علي من الطراز الثاني قطعا، وفي عصر كان فيه الغرب لا يزال يمر في مراحل تجاربه الدستورية الأولى.

وعلى كل الأحوال فالثابت أن البكوات المماليك قد نكثوا بالعهد دائما، وأنهم ظلوا يتآمرون ضد حكومة محمد علي سواء مع الوكلاء الإنجليز أو مع سليمان باشا عدو محمد علي، ويتآمرون كذلك لاغتياله والفتك به، وفعل ذلك أيضا المستأمنون منهم، والثابت أن محمد علي كان يريد حقا وصدقا الاتفاق معهم، وبذل قصارى جهده لتحقيق هذه الغاية حتى أعجزته الحيلة معهم، والثابت أن الفتك بالمماليك لم يكن نتيجة خطة مدبرة أو مرسومة من سنوات عدة سابقة، فقد رأينا أن هذه الفكرة لم تنبت في ذهنه إلا في فبراير أو في يناير 1811 على الأكثر.

وقد كتب محمد علي نفسه إلى الباب العالي في 9 صفر 1722 (الموافق 4 مارس 1811) - أي بعد واقعة المذبحة بثلاثة أيام فحسب - يذكر للباب العالي ما حدث ويرسل إلى مقر سياسة السلطنة العثمانية رءوس المماليك المقطوعة، ويبلغ الباب العالي كذلك خروج ولده طوسون أحمد باشا بالجيش إلى الحجاز، ويجيب على الخط الشريف الصادر إليه بشأن سليمان باشا والي الشام.

في هذه الرسالة قال محمد علي:

إن المصلحة (المأمورية) الخيرية الحجازية كانت قد أحيلت إليه منذ أربع أو خمس سنوات، وقد بذل قصارى جهده للتهيؤ لهذه المهمة وإنجاز ما يلزم من استعدادات لها، ولكن أشقياء المماليك هم الذين حالوا دون حركته وسفره في السنين المذكورة بممانعتهم ومقاومتهم، وكان محمد علي قد أكرم واحترم كل واحد من هؤلاء فوق ما يستحقه من تكريم واحترام، وذلك لمصالحتهم ومداراتهم؛ حيث إنهم كانوا فرسانا مدربين، إذا انحازوا إليه استطاعوا جميعا الخدمة متفقين لإنهاء مصلحة الحرمين الشريفين، وصفوة القول أنه لم يقع أي تقصير منه في جذب قلوبهم واستمالتهم وتأمين إخلاصهم في الخضوع له صورة ومعنى، وقد كتب محمد علي مفصلا إلى الباب العالي عدة مرات في الماضي، يذكر كيف أنهم أبرزوا خصالهم الفرعونية المتركزة في طباعهم وفطرتهم الأصلية، بالرغم من مساعيه في الصلح معهم، ثم كيف هرب منهم مئات عراة مشتتين ناقمين إلى بلاد السودان وهم يقولون: «ليكن ما يكون»، قانطين يائسين من أرواحهم وحياتهم عندما زحف الجيش عليهم ونالوا جزاءهم العادل على خياناتهم السابقة بما حل بهم من هزائم في تلك المعارك التي خاضها جيشه ضدهم، ثم كيف أن من عجزوا عن الفرار واللحاق بهؤلاء قد جاءوا مستأمنين يطلبون الأمان، وكيف استقر هؤلاء في خدمته، وقام هو بالواجب في حقهم وأوفاهم ما يستحقونه، ثم عامل من ألقى القبض عليهم أحياء في أثناء المحاربة واستسلموا من تلقاء أنفسهم بالرفق الزائد حتى يدخل الطمأنينة إلى نفوسهم، ثم صبر محمد علي طويلا يحاول استمالة من كان بالسودان من المماليك الفارين حتى يحضروا إلى مصر وحتى يجمعهم بها بحكمة، ولكنه عندما اقتنع بأن هؤلاء الهاربين يفضلون الهلاك جوعا وعطشا في مأزقهم الحرج الذين هم فيه على الانجذاب إلى خيراته المصطنعة ولا يقعون في الفخ الذي نصبه لهم، فقد تذرع بحجة الموكب الذي أعده بمناسبة إخراج جيش ولده طوسون أحمد باشا إلى بركة الحاج، فجلب جميع من في خدمته ظاهرا حسب الضرورة من البكوات الذين لقنوا آراءهم من زملائهم والبالغ عددهم أربعا وعشرين أميرا، وجميع الكشاف وأعوانهم المعبر عنهم بغلمان الداخل، وأتباع هؤلاء الأمراء أو البكوات الذين كانوا قد جاءوا القاهرة أخيرا وأدخلهم جميعا القلعة وأغلق أبوابها، فقتل عقب ذلك الأشقياء المذكورون بأجمعهم دون أن ينجو واحد منهم، وانتقلوا إلى دار الفناء والعدم، وقد ترك رءوسهم المقطوعة وأجسامهم المنجوسة معرضة ليشهدها أولئك الذين قد يطمعون في التدخل في ميدان السياسة في مصر، وأجاز ثلاثة أيام لقطع رءوس البكوات والمماليك الآخرين، ثم ها هو ذا يبعث بهذه الرءوس عبرة وعظة إلى مقر السلطنة، وبهذه الصورة تم الخلاص والانتهاء من أمر المماليك ولله الحمد، ودفع غوائلهم والتحرر من تكاليفهم.

ثم انتقل محمد علي من ذلك إلى الكلام عن تجهيز السفن اللازمة لنقل جنده من السويس، ثم استطرد بعد ذلك للكلام عن مسألة سليمان باشا والرد على ما نسبه الباب العالي إليه من أنه يتخذ من هذه المسألة ذريعة لتأجيل خروج جيشه إلى الحجاز، فقال: «ولم يكن مغزى شكواه من سليمان باشا ومطالبته بعزله من ولاية الشام التحاشي من المشار إليه أو الحسد، بل إن حضرة المذكور يتظاهر بالطيبة والتوكل على الله في المكان الذي ينام فيه، بينما هو يعمل على إيقاظ الفتن والشرور، لا سيما وأن محمد علي قد صادر الرسائل التي بعث بها كتخداه سليمان باشا بإذنه إلى حشرات المماليك الذين نجوا من القتل، وهي مكاتبات شبيهة بتلك التي أرسلها محمد علي إلى كتخداه محمد نجيب أفندي بالباب العالي، ومع ذلك يقول الباب العالي إن هذه الرسائل لا تنم عن شيء اللهم إلا إظهار الصداقة والإخلاص والود المتبادل بين سليمان باشا والمماليك ولا يستنتج من ذلك حكم! لا شك في أن الباب العالي صادق فيما ذهب إليه، ولكن العبارات المدونة في هذه الرسائل الأخيرة بعد ذكر الود والصداقة والإخلاص تقول بطريق الإضمار والمعاني المستترة ما نصه: «والشأن يكون معلوما لكم أي للبكوات من أمر المرسل سابقا»، مما يستدل منه على مدلولات أخرى خفية، ولو فرض أن ذلك لا يستتبع حكما ولا ينطوي على تعليمات، ألا يكون إظهار الإخلاص بإرسال كتب ورسائل خاصة إلى ولاية السودان لجماعة هم خائنون للسلطان، ومن المسلم بخيانتهم وغدرهم عند العالم أجمع، معناه أن كمال المحبة ليس سوى إسداء المعونة لهم، وعدا ذلك فإن أقرب ما يلاحظه المرء أن حامل هذه الرسائل لا بد أن يكون مزودا كذلك بتقارير خفية لتبليغها إلى البكوات، وعلى كل الأحوال فسواء دافع الباب العالي عن سليمان باشا أو عزا التقصير إلى محمد علي، فها هو ذا؛ أي محمد علي، قد قام متوكلا على الله بإخراج جيشه إلى بركة الحاج، فأوفى بذلك عهده ووعده، وسوف يثبت - إن شاء الله - عند توجه الجيش قريبا إذا كان صادقا حقا أو غير صادق فيما يعد ويفعل.»

ذلك إذا كان تفسير محمد علي نفسه للعوامل التي أدت إلى مذبحة القلعة، وهي عوامل تتلخص في أمرين: نكث المماليك لعهودهم معه، وتآمرهم مع أعدائه على سلامة ملكه أو باشويته. (13) خاتمة المطاف بالمماليك

وأما النتيجة المباشرة لمذبحة القلعة فهي أن أقاليم مصر الوسطى والصعيد قد دخلت الآن في حوزة محمد علي نهائيا.

فقد تبقى من المماليك، بعد مذبحة القلعة، والفتك بهم في الأقاليم حوالي الخمسمائة أو الستمائة فحسب، اجتمعوا حول إبراهيم بك وعثمان بك حسن في أعالي الصعيد، ومع أن هؤلاء ظلوا مثابرين على مناوأتهم للباشا ورجاله الذين تسلموا الحكم في الصعيد، فقد سهل على الباشا إخماد حركتهم تماما وتشتيت ما بقي من فلولهم، ثم إرغامهم في النهاية على التشرد إلى بلاد السودان، وكان مما ساعد على تشريدهم أن الاختلافات ظلت قائمة بينهم ، فلم يستطيعوا حزم أمرهم على شيء، فهناك فئة لا تزال لديها بقية من شجاعة، تبغي النزوح إلى أرض الحجاز والانضمام إلى الوهابيين، والاشتراك معهم في قتال محمد علي في ميدان غير الذي انهزموا فيه، وهناك إبراهيم بك وعثمان بك حسن، وهما شيخان فانيان، ولا قدرة لهما على احتمال مشاق السفر والقتال، ويبغيان البقاء إلى جوار النيل، ويؤثران الانسحاب إذا لزم الأمر إلى بلاد النوبة في السودان، ويتذرعان بأن أسبابا دينية تمنعهما، ويجب أن تمنع سائر البكوات والمماليك من الانضمام إلى الوهابيين، وهناك فريق ثالث لا يرضى بهذا الرأي أو ذاك، ويؤثر التسليم والخضوع لسلطان السيد الجديد، محمد علي، لا يزال يحدوهم الأمل في أن الباشا في هذه المرة، وبالرغم من الدماء التي أريقت، سوف يقبل توبتهم ويصفح عنهم، فلا حاجة للذهاب إلى الحجاز، ولا حاجة للذهاب إلى النوبة، وتغلب رأي هؤلاء بعض الوقت على رأي سائر زملائهم، فأوفد بكوات الصعيد مندوبا، أحد كشافهم، إلى القاهرة لمقابلة الباشا وطلب العفو والصفح عنهم، وأن يعطيهم جهة يتعيشون منها، وقد وصل هذا فعلا ثاني يوم المذبحة (2 مارس)، ولكن الباشا وعده برد الجواب في غير الوقت، فأهمله، ثم انقطعت أخباره، وكتب الشيخ الجبرتي: «وما أدري ما تم له.»

Page inconnue