L'Égypte au début du XIXème siècle 1801-1811 (Première Partie)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
إنجلترا وسياستها الإيجابية في مصر
تمهيد
اختلفت الأغراض التي هدفت السياسة الإنجليزية لتحقيقها بالنسبة لهذه البلاد عن أغراض السياسة الفرنسية، وكان اختلافا جوهريا مبعثه حاجة الحكومة الإنجليزية للاطمئنان إلى أن مصر سوف تستطيع - بعد انتهاء الحرب مع فرنسا وخروج الجيش البريطاني منها - الدفاع عن أرضها ومنع الفرنسيين من تجديد غزوهم عليها، بينما كان غرض فرنسا منذ أن أبرمت مقدمات الصلح مع تركيا أن تستأنف صلتها بمصر حتى تدعم علاقاتها التجارية معها وتبني فيها من النفوذ ما يصرف هذه البلاد عن مؤازرة الإنجليز إذا اضطرتهم ظروف الحرب والسياسة في نضالهم مع فرنسا إلى النزول مرة أخرى في مصر بعد جلائهم عنها؛ ولذلك فإنه بينما اهتم الفرنسيون - كما شاهدنا - بعد صلحهم مع الأتراك، ثم بعد عقد معاهدة أميان بأن تجلو القوات البريطانية سريعا عن مصر، تباطأ الإنجليز في خروجهم وأطالوا مكثهم بها بعد الصلح العام سنة بتمامها.
وكان سبب ذلك أنهم أرادوا للوصول إلى غايتهم التي ذكرناها: العمل لإنشاء حكومة مستقرة موطدة تتسلم زمام الأمور في مصر، يكون في قدرتها الذود عنها ودفع أي اعتداء قد يقع عليها من ناحية الفرنسيين خصوصا، ثم الحيلولة دون وقوع البلاد فريسة للفوضى السياسية فتصبح عاجزة عن الدفاع عن نفسها.
وبينما لم يستطع الفرنسيون أن يكونوا أصحاب سياسة إيجابية؛ لأنهم جعلوا المسألة المصرية في المرتبة الثانوية أو التالية لسياستهم وجهودهم الحربية التي ارتكزت على كسب التفوق في القارة الأوروبية، والانتصار الحاسم على إنجلترا قبل أي عدو آخر من أعدائها، كان في مقدور الإنجليز أن يختطوا لأنفسهم سياسة إيجابية واضحة نحو مصر؛ لأن منع الفرنسيين من الاستيلاء عليها مرة ثانية، يضمن لهم استمرار تفوق أسطولهم في مياه البحر الأبيض، ويبطل مشروعات القنصل الأول والإمبراطور في الشرق، ويحفظ لهم أملاكهم في الهند، وقد ترتب على هذه الحقيقة أن صارت سياستهم نحو تركيا ومصر - والأخيرة من أملاك الإمبراطورية العثمانية - تسلك طريقا مرسوما هو إقناع الأولى بالمحالفة معها، كما حدث في 5 يناير 1799؛ وذلك لإخراج الفرنسيين من مصر بعد أن احتلوها في حملة بونابرت المعروفة، أو استمالتها إلى عدم الانضمام إلى فرنسا وانشقاقها على الإنجليز أنفسهم، كما حدث خصوصا بعد استئناف الحرب بين إنجلترا وفرنسا في مايو 1803، حتى إذا انحازت تركيا إلى جانب فرنسا، ثم ساءت العلاقات بينها وبين روسيا فقامت الحرب بينهما في ديسمبر 1806، وانفصمت العلاقات بين إنجلترا حليفة روسيا وبين تركيا، بدأت الأولى عملياتها العسكرية بإرسال حملة إلى مياه الدردنيل والبسفور، وأخرى إلى مصر في عام 1807، وهي «حملة فريزر» المعروفة.
فقد اقتضت سياسة الإنجليز الإيجابية - منذ أن نزل جيش «أبر كرومبي» في مصر في مارس 1801 لطرد الفرنسيين منها بمعاونة العثمانيين بقيادة الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا والقبطان حسين باشا؛ لتأمين الأغراض التي ذكرناها - محاولة تحقيق الاتفاق بين الباب العالي وبين المماليك، وهم القوة التي اعتقد العسكريون - ثم السياسيون - الإنجليز أن في استطاعتها الدفاع عن البلاد، وكان غرض الإنجليز من ذلك حسم الخلافات بين العثمانيين وبينهم؛ لأنهم رأوا أن هذه الخلافات إذا استمرت، فإنها لا تلبث أن تنشر الفوضى في مصر، وتحول دون إقامة الحكومة القوية التي وجب إنشاؤها لضمان الاستقرار في مصر، والقدرة على الدفاع عنها، وكان ارتباط الإنجليز في معاهدة إميان في 25 مارس سنة 1802 بإخلاء البلاد وتسليمها للأتراك من الأسباب التي زادتهم اقتناعا بإنشاء هذه الحكومة الموطدة والمستقرة بها، وقامت جهودهم في التوفيق بين الباب العالي والمماليك في هذه المرحلة على أساس إعطاء المماليك بعض أقاليم الصعيد مع الاحتفاظ بسيادة الباب العالي، على أن تكون للعثمانيين السلطة الفعلية في القاهرة وسائر القطر، ولكن هذه الجهود باءت بالفشل.
ثم لم يلبث أن ازداد قلق الإنجليز وانزعاجهم عندما استؤنفت الحرب بينهم وبين الفرنسيين في مايو 1803 - كما قدمنا - وشهدوا في مصر حربا أهلية أثارها التنازع على السلطة بين الأتراك والأرنئود والمماليك، الذي استمر أربع سنوات من 1803 إلى 1807، وأشاع الفوضى السياسية في البلاد، ولم يقنعهم استلام محمد علي لشئون الحكم بأن قوة جديدة قد ظهرت في هذا الميدان السياسي المضطرب منذ 1805 في وسعها إذا أتيحت لها الفرصة أن تنهي هذه الفوضى السياسية، وتؤمن البلاد ضد أي اعتداء أجنبي عليها؛ لأن الباب العالي كان يناوئ «محمد علي»، ولأن المماليك كانوا يحاربونه، بينما اعتقد الوكلاء الإنجليز في مصر أنه «محمد علي» يميل إلى الجانب الفرنسي، وأن المماليك بالرغم من انحياز فريق منهم إليهم لا يترددون في مناصرة الفرنسيين إذا هم جاءوا إلى البلاد مرة ثانية، وكان نابليون لا يزال يمني النفس بتحقيق مشروعه الشرقي العظيم والخطر يتهدد الإنجليز لذلك من ناحية هذه المشروعات إذا نزل بمصر في أثناء نضالهم الذي هو نضال الحياة أو الموت معه.
وكان لهذه الاعتبارات إذن أن صار الإنجليز في مرحلة سياستهم الإيجابية الثابتة منذ 1804؛ يعملون لتمكين المماليك من الاستيلاء على السلطة الفعلية في البلاد بأسرها سواء رضي الباب العالي بذلك أو لم يرض، وفوت عليهم غرضهم انقسام المماليك على أنفسهم، والصراع الذي نشب بين وكلائهم والوكلاء الفرنسيين في مصر - ولا نقول الحكومة الفرنسية - من أجل الاستئثار بالنفوذ الأعلى في مصر، ووجود تلك القوة التي أشرنا إليها في شخص محمد علي الذي كان له من الدهاء ما جعله يفيد في تثبيت ولايته سنة بعد أخرى من كل تلك العوامل التي نشرت الفوضى السياسية في البلاد، وهي الفوضى التي كان الإنجليز كذلك برغم أنوفهم، وعلى غير ما يريدون أو يتوقعون من عواملها بسبب سياستهم الإيجابية.
ولكنه لما كانت إنجلترا تحرص دائما على تأمين مصر من غزو الفرنسيين لها، ولم يكن في نطاق سياستها احتلال مصر وامتلاكها، فقد قررت - على الأقل - أن تمنع منافستها القديمة فرنسا من الظفر بالنفوذ الأعلى في البلاد ودعم مصالحها التجارية والسياسية بها، وانحصرت جهود الوكلاء الإنجليز وساستها وقوادها البريين والبحريين في تحقيق هذه الغاية، حتى إذا يئست إنجلترا من ذلك بين عامي 1804 و1806 خصوصا، واعتقدت أن مصر لن تستطيع وحدها وبوسائلها الدفاع عن نفسها ضد الغزو الفرنسي الذي توقعته فقد بادرت بإرسال حملة فريزر في عام 1807، ولم تكن هذه سوى حملة وقائية أو حملة مانعة، ولم يكن غرض الحكومة الإنجليزية منها احتلال مصر وامتلاكها.
وهذه السياسة الإنجليزية الإيجابية مرت - كما شاهدنا - في أثناء تطورها في مراحل عدة، وخضع تطورها لتفاعل هذه السياسة الإيجابية ذاتها مع العوامل الأخرى التي تضافرت وإياها على إشاعة الفوضى في البلاد، ثم مهدت في الوقت نفسه لظهور محمد علي، واتخذت في مرحلتها الأولى شكل الوساطة بين الباب العالي والمماليك من أجل الوصول إلى اتفاق بينهما يكفل إقامة الحكومة الموطدة المستقرة.
Page inconnue